أحدث المقالات

بناء العلاقة مع الأقلّيات الدينية

د. السيد محمد الثقفي(*)

 

 

مقدمة

برز بعد الثورة الفرنسية ـ فترة حاكمية العسكر، أو العسكرتارية ـ مصطلح الأقليّة مقابل الأكثرية، والتي يُبنى عليها النظام الديمقراطي، حيث يعطي هذا النظام الأولويّة في المجتمع على أساس الأكثرية.

وفي النتيجة تعتبر الأقليّة العرقية أو الثقافية في المجتمع مواطنين، لكنّهم على كلّ حال أقلّية.

ولقد تشكّل في إيران ـ بعد ثورة المشروطة، وفي مجال سياسة الدولة ـ أيضاً نظام ديمقراطي مبني على أساس الفلسفة السياسية الليبرالية. وتغلّبت الديمقراطيّة على النظام الاستبدادي، وأوجدت نظاماً برلمانيّاً مبنيّاً على أساس انتخاب الشعب لممثّليه في البرلمان.

وهنا استطاعت الأقلّيات الدينية والموحّدون، كاليهودية، والمسيحية، والمجوسية، أن تُعلن عن وجودها من خلال انتخاب ممثِّلين لها في البرلمان؛ ليشاركوا بقيّة إخوانهم البرلمانيين المنتخبين في تعيين مستقبل البلاد.

وفي الإسلام يطلق مصطلح «أهل الكتاب» بصورة عامّة على كلّ المذاهب من الأديان الموحّدة. وأشار إلى ذلك القرآن الكريم في آيات متعدّدة ذكرت الأقلّية.

وأمّا المعاملة والتصرّف مع أهل الكتاب، والاعتراف بهم رسميّاً، واحترام الحقوق المدنيّة والوطنيّة لأتباع الديانات؛ فقد كانت من البحوث المهمّة منذ إشراقة الفكر الجديد في المجال الثقافي والحقوقي في الشريعة الإسلامية.

يمكن دراسة وبحث حقوق ومعاملة الأقلّيات من أهل الكتاب من ناحيتين:

1ـ من ناحية الثقافة، والنظرة العالميّة الشاملة، بمعنى كيف كانت نظرة وحاكمية نبي الإسلام‘ إلى أهل الكتاب؟ وكيف قيّم الثقافة الدينية لغير المسلمين؟

2ـ من ناحية الحقوق المدنيّة والوطنيّة، بمعنى ما هي حقوق أتباع المذاهب غير الإسلامية في الشريعة الإسلامية؟ وكيف يمكن التعايش معهم بصورة عادلة في مجتمع إسلامي؟ وكيف يكون التصرّف معهم؟

ولدى كاتب هذه المقالة النيّة في بحث هذه المسألة بحثاً دقيقاً، ومن الناحيتين. لكن قبل الدخول في البحث ينبغي الإشارة إلى تصرّفات المذاهب غير الإسلاميّة فيما بينها، وتصرّفاتها مع المذاهب الأخرى بصورة إجماليّة؛ ليكون البحث ـ تقريباً ـ تحت عنوان: تطبيق الأديان.

 

المسامحة أو العناد؟

إن المسألة الأصلية هي: كيف كان تعاطي أيّ فكر مع الأفكار الأخرى؟ هل أن أي دين يحصر طرق معرفة الله وهداية البشرية به، أو يأخذ بعين الاعتبار المقولة القائلة: الطرق إلى الله بعدد أنفاس الخلائق؟ وبعبارة أخرى: هل أن أصل وأسلوب التعددية مقبول عند المذاهب أم لا؟

بمطالعة إجمالية للفكر اليهودي والمسيحي والإسلامي تتبيّن الإجابة عن التساؤلات المطروحة، وموقف كلّ واحد من هذه الأديان، ويتّضح تسامح أو عدم تسامح هذه المذاهب بعضها مع البعض الآخر ومع الأديان الأخرى.

 

الفكر اليهودي

لقد كان موقف الدين اليهودي ـ تقريباً، بل تحقيقاً ـ قبال بقيّة الأديان سلبياً؛ لأن الفكر اليهودي يحصر دين التوحيد به فقط، ويعتبر بقيّة المذاهب، وأحياناً الأنبياء، مشركين، وعبادتهم باطلة ومجوّفة، وبلا ثمرة وفائدة.

جاء في التوراة: «أنا الربّ، وأن أخرجكم من تحت أثقال المصريين، وأنقذكم من عبوديّتهم، وأخلصكم بذراعٍ ممدودة، وبأحكام عظيمة، وأتخذكم لي شعباً، وأكون لكم إلهاً»([1]).

كانت رسالة أنبياء بني إسرائيل في الأساس الدعوة إلى التوحيد، وعبادة آلهة أخرى، كخشبة مقطوعة من بستان، قال إرميا النبي: «واسمعوا الكلمة التي تكلّم بها الربّ عليكم يا بني إسرائيل، هكذا قال الرب: لا تتعلموا طريق الأمم، ومن آيات السماوات لا ترتعبوا؛ لأن الأمم ترتعب منها؛ لأن فرائض الأمم باطلة؛ لأنها شجرة يقطعونها من الوعر، صنعةُ يدي نجّارٍ بالقدوم، بالفضّة والذهب يُزيّنونها، وبالمسامير والمطارق يشدِّدونها، فلا تتحرّك، هي كاللّعين في مقثأة فلا تتكلّم»([2]).

وأمّا في مزامير داوود فتعرف الآلهة الأخرى، كالشياطين أو الأرواح الشريرة: «لم يستأصلوا الأمم الذين قال لهم الربّ عنهم، بل اختلطوا بالأمم، وتعلّموا أعمالهم، وعبدوا أصنامهم، فصارت لهم شركاء، وذبحوا بنيّهم وبناتهم للأوثان، وأهرقوا دماً زكيّاً، دم بنيّهم وبناتهم الذين ذبحوهم لأصنام كنعان، وتدنّست الأرض بالدماء، وتنجّسوا بأعمالهم، وزنوا بأفعالهم»([3]).

 

المسيحية

وأمّا في المسيحية فيؤكّد سان پول على أنّه يجب أن تبقى عقائد المسيحية دائماً محفوظة، وأن لا تختلط بتعاليم وعقائد اليونانيين المبهمة.

«بل إن ما يذبحه الأمم فإنما يذبحونه للشياطين، لا الله، فلست أريد أن تكونوا أنتم شركاء الشياطين»([4]).

وأمّا من الناحية الكلامية فعبادة غير الله هي من عدم المعرفة بالخالق. ويحتمل أن بقيّة الأديان ـ غير المسيحية ـ من جهلها تعبد لوگوس Logos، وتتقرّب به إلى الله.

«فوقف بولس في وسط أرويس باغوس وقال: أيها الرجال الأثينيون، أراكم من كلّ وجهٍ كأنّكم متديّنون كثيراً؛ لأنّي بينما كنت أجتاز وأنظر إلى معبوداتكم وجدت أيضاً مذبحاً مكتوباً عليه: لإلهٍ مجهول، فالذي تتّقونه وأنتم تجهلونه هذا أنا أنادي لكم به»([5]).

ومع أنه يُرى في هذه العبارة نوع من التسامح واحتمال الهداية للربّ لبقيّة المذاهب، لكن المسيحيّة تدافع عن عقائدها بصورة مستميتة، وتُخطّئ بقيّة الأديان والمذاهب، وتعتبرها مذاهب وأديان شيطانية.

ظهر مبدأ عدم التسامح في القرن الثاني، الذي كان يُعرف بعصر الجدل Apology، حيث كان الجدال الكلامي والنقاش في أشدّه بين قساوسة الكنيسة وبقيّة الأديان والمذاهب.

بدأ عصر الجدل الكلامي في القرن الثاني الميلادي. وأخذت المسيحية تدافع عن عقائدها مقابل المخالفين لها، حيث كانوا يجيبون عن اعتراضات المخالفين بأدلّة منطقيّة.

وأمّا العرفاء والعرفانيون فقد كانوا في بداياتهم من إحدى الفِرَق المسيحية. لكن؛ وبسبب البحث الكلامي والجدال، تحوّلوا إلى الفلسفة، وشيئاً فشيئاً أوجدوا بحوثاً فلسفية جديدة. فأحد المفسّرين والمنظّرين الذي هو كلمنت إسكندراني (155 ـ 220م) يقول ـ ما ترجمته ـ: «لا يوجد للحقيقة سوى نهر واحد، لكن الروافد التي تصبّ في ذلك النهر كثيرة».

كان كلمنت إسكندراني، أحد الفلاسفة اليونانيين، المؤمنين بعقائد إفلاطون، يقول: «إن الفلسفة التصويرية هي من الحقيقة، وهي هدية إلهيّة لليونانيين». لكنه يصل إلى نتيجة يقول فيها: «إن الفلاسفة كالأطفال، إلا أن يؤمنوا بعيسى المسيح ونوره، فعندما يؤمنوا يتبدّلوا إلى رجال بالغين»([6]).

 

القرون الوسطى

تعرف هذه القرون بعصر المناظرات الأصولية Doctrinal Debate. فبعد انتشار الإسلام ـ الخصم المعاند للمسيحية ـ، وانشغال قبائل شمال وجنوب ألمانيا في النزاعات، عكفت المسيحية ـ وبصورة أصوليّة ـ على دراسة بقيّة المذاهب. وفي هذه الفترة أخذت المسيحية تبشّر بأن بقيّة المذاهب هي مذاهب شيطانية، ومن وضع الملائكة الخاسرة. وفي خضّم هذه الأجواء أمر الپاپ گريگوري الكبير كلّ مبلّغي ومبشّري أعضاء مذهب conterbury قائلاً: «تُمحى كلّ الأصنام، وتطهّر كلّ المعابد بالماء المقدّس، وإذا كانت هذه المعابد محكمة فيجب أن تُطهّر من عبادة الشيطان، ويجب أن يهدوا هذه العبادة للربّ الحقيقي»([7]).

إنّ قصر النظر وعدم التسامح بالنسبة إلى دراسة وتقييم بقيّة الثقافات والمذاهب صعبة جدّاً، ولا تتلاءم مع الفكر المسيحي الذي ينادي بخلاص ونجاة الإنسان.

شروق الإسلام

عندما أشرقت شمس الإسلام لم يكن حينذاك سوى عبادة الأصنام، التي تدلّ على دناءة وسخافة وانحطاط عبّاد تلك الأصنام. فقد أعلن بأن جميع الأديان والمذاهب حرّة، ولا يوجد أي مانع، من إجبار أو إكراه، أمام أهل أي دين سماوي في البقاء على دينهم. ولم تكن فرصة لأهل الذمّة قبل ذلك الوقت، فجاءتهم الفرصة مؤاتية في ظلّ الإسلام، أن يناظروا ويناقشوا من أجل ترجيح دين على آخر.

فأخذت تُعقد في ظلّ الإسلام المجالس من قبل الخلفاء والأمراء لكبار رجالات الأديان المختلفة؛ للمناقشة، وبدون تقيّة وخوف. وكان الغرض من تلك المناقشات تغليب دين على آخر. فكانت المجالس تضمّ علماء وكبار الأديان المختلفة؛ ليناقشوا علماء الكلام الإسلامي. ومن جملة هذه المجالس التي يمكن الإشارة إليها المجلس الذي كان يعقده المأمون بحضور الإمام علي بن موسى الرضا× للنقاش مع بقية علماء الأديان([8]).

كان لهذا الأسلوب العقلائي التأثير المباشر في انفتاح ثقافة المجتمع الإسلامي، والتعريف بالفكر المحمّدي الأصيل، فلقد أخذ المجتمع الإسلامي بالانفتاح على بقيّة أتباع الديانات الأخرى الموحّدة، والتي لها نبيّ، ويبحثون عن الحقيقة، ويسلكون طريق الشريعة؛ وأخذ المسلمون بالاعتراف بأن في ثقافة الديانات والمذاهب الأخرى الموحّدة نوع من الهداية، والنورانيّة موجودة لديهم، ويطلقون على هؤلاء مصطلح «أهل الكتاب».

يمكن دراسة علاقة الثقافة الدينية مع الحقوق المدنيّة للأقلّيات الدينية، وتحديدها بثلاث زوايا:

1ـ التقييم الثقافي.

2ـ تعامل نبي الإسلام‘ مع أتباع الديانات الأخرى.

3ـ الحقوق المدنيّة والدينية لأتباع الديانات.

 

1ـ التقييم الثقافي للأديان الأخرى

في تقييم إجمالي كلّي يقيّم القرآن الكريم الثقافة الدينية لأهل الكتاب ـ اليهود والنصارى ـ من خلال مرحلتين:

 

الأولى: مرحلة التقييم الواقعي

وهي التي تأخذ بعين الاعتبار أصل رسالة الأنبياء وكتبهم التبشيرية.

وفي هذه المرحلة، من وجهة نظر القرآن الكريم، فإن كتابي اليهود والنصارى كان فيهما نور الهداية، حيث أنزلهما الباري تعالى لهداية بني إسرائيل، وأنزل بشارته ورحمته في هذين الكتابين، أو آيات في مجموع الكتاب المقدّس أنزلها لليهود والنصارى، كما قال تعالى: ﴿إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ﴾ (المائدة: 44).

ومن أجل حفظ أصالة التوراة أخذ علماء اليهود ـ الربّانيون والأحبار ـ بتعليم المقرّبين وبقيّة الناس التعاليم اليهودية. وبعد انقضاء عصر النبيّ موسى×، ومن أجل تكميل تعاليم التوراة، بُعث عيسى×، وبإرشاداته وهدايته لجميع أمم بني إسرائيل وموعظتهم بشّر بالإنجيل وبلّغه. قال تعالى: ﴿وَقَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِم بِعَيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَآتَيْنَاهُ الإِنجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ وَمُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لِّلْمُتَّقِينَ﴾ (المائدة: 46).

في هذه الآية تأييد من المسيح× لموسى× وكتابه التوراة، وبشارة بإنجيل عيسى×، اللذان أبلغت فيهما الهداية النورانية، وأكملت تعاليم التوراة.

ويشير القرآن الكريم في مكان آخر إلى هداية هذين الكتابين، وأنهما في خط مستقيم من الهداية الإلهية التي بدأت منذ بداية الخلق، وتؤيدهما، وكان موسى وعيسى× يشيران إلى الدين الإسلامي، ويعلمان بأنه سيأتي الإسلام، ويكمل بقية الإرشادات التي جاءا بها. قال تعالى: ﴿وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الكِتَابَ بِالحَقِّ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الكِتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ فَاحْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ عَمَّا جَاءكَ مِنَ الحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً وَلَوْ شَاء اللهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِن لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَآ آتَاكُم فَاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ إِلَى الله مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ﴾ (المائدة: 48).

واللطيف أن القرآن الكريم يُشير إلى تعدد المذاهب والثقافات والديانات والشرائع، وكأنه قبول بالتعدّدية. فمصطلح «المنهاج» يعني بأن النهج: الطريق الواضح، ونهج الأمر وأنهج: وضح، ومنهج الطريق ومنهاجه([9]).

لكن القرآن الكريم يقيم الكتابين ـ التوراة والإنجيل ـ، ويشير إلى بعض الانحرافات التي أُدخلت إليهما، ويشير إلى جانب الهيمنة لهما.

 

الثانية: مرحلة نقد الكتاب المقدّس

يعكف القرآن الكريم في هذه المرحلة إلى تصحيح عقائد اليهود والنصارى على شكل «نقد للكتاب المقدّس». وقد جرت على هذا المنوال اليوم جميع المحافل العلميّة ومفكري الغرب. وهذا الفرع في نفسه علمي مستقلّ، ويعرف في الجامعات بعلم معرفة الأديان Science of Religion، أو تطبيق الأديان Comparative Religion. وأكثر هذه الانتقادات في القرآن في سور: البقرة، وآل عمران، والمائدة.

قال تعالى: ﴿قُلْ يَا أَهْلَ الكِتَابِ لَا تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الحَقِّ وَلَا تَتَّبِعُواْ أَهْوَاء قَوْمٍ قَدْ ضَلُّواْ مِن قَبْلُ وَأَضَلُّواْ كَثِيراً وَضَلُّواْ عَن سَوَاء السَّبِيلِ﴾ (المائدة: 77).

إن الانتقادات التي وجّهها القرآن الكريم للعهدين ـ القديم والجديد ـ هي في الحقيقة مطالعة تطبيقية للمذاهب بنظرة علميّة. ولها أهمّية واعتبار كبيرين. فلذلك عندما يشير القرآن الكريم إلى محاججة أهل الكتاب ومناظرتهم فإنه يؤكد على أصل الرسالة التبليغية للأنبياء، ويؤيّدها ويؤكد عليها. قال تعالى: ﴿وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الكِتَابِ إِلا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلاّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنزِلَ إِلَيْنَا وَأُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ﴾ (الكهف: 46). فالقرآن الكريم يؤكّد في خطابه لأهل الكتاب وبقيّة المذاهب التوحيدية الأخرى على أنّ في العمل بالتقوى الصادقة وبما بُلِّغ إليهم، والسير في الطريق الصحيح، وجعل الفضيلة نصب أعينهم، وكذلك الصلاح، نجاتهم وخلاصهم، وثوابه جزيل عند الله تعالى، حيث يقول سبحانه: ﴿وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾ (البقرة: 62).

فمن ناحية النظرة الواسعة للقرآن الكريم ـ والذي يُعتبر منبع القيم ـ كان أهل الكتاب والأقلّيات الدينية من الناحية الثقافية الدينية في الأساس من أهداف دعوة الأنبياء والرسل، وكانت تمتاز بالهداية ونور الوحي في ثقافتها. وهذه النقطة أساسيّة جدّاً في علاقة الإسلام مع بقيّة الأديان.

2ـ معاملة نبيّ الإسلام لأتباع الديانات الأخرى

يجب الإذعان برعاية واحترام الحقوق المدنيّة والوطنيّة لكل أتباع الديانات التوحيدية من أهل الكتاب، من اليهود والنصارى والمجوس.

ولقد طبّقها نبيّ الإسلام‘ عمليّاً، حيث كانت له لقاءات ومقابلات مباشرة مع مجموعتين، هما: اليهود؛ والنصارى. فكانت أكثر لقاءاته‘ معهما قد تمّت بعد أن تشكّلت الدولة في المدينة المنوّرة؛ إذ عندما هاجر رسول الله‘ إلى المدينة كان نصف سكّان المدينة من اليهود، وهم: بني قريظة، وبني المصطلق، وبني قينقاع.

عندما يذكر المؤرّخون تاريخ يثرب يشيرون إلى هجرة اليهود إلى يثرب بسبب الحوادث السياسية التي كانت سائدة آنذاك، فاستقرّوا في هذه البقعة، وهيمنوا على ثرواتها الطبيعية والتجارة. وهاتان الخصلتان من خصال اليهود.

فكانت أكثر المناطق الشرقية للمدينة في تلك الأيام بيد اليهود، وكانوا يسكنونها مع عوائلهم([10]).

وقد أقدم رسول الله‘، ومنذ الأيام الأولى لدخوله المدينة، على تشكيل حكومة فيدرالية؛ لتوفير الأمان لهذه المدينة. وبعد أن دوّن القانون الأساسي ـ والذي يُعتبر أوّل قانون مدوّن، والمعروف بـ «الصحيفة» ـ اعترف‘ باليهود بصورة رسميّة، واعتبرهم شعباً مستقلاًّ، ومنحهم الحقوق المدنيّة في 24 مادّة([11]).

وبإقرار جميع الحقوقيين فإن الوثيقة التي دوّنها رسول الله‘ بعنوان «الصحيفة» بين المسلمين واليهود تُعتبر من أفضل المتون الحقوقيّة، وقانوناً أساسياً في ذلك الوقت، بل هي أفضل من قانون روما الأساسي([12]).

لكن اليهود الخبثاء لم يعملوا ولم يلتزموا بهذه الوثيقة، فقد أخذوا يتآمرون على نبيّ الإسلام وعلى الإسلام. ومن جملة مؤامراتهم وضع خطّة لقتل النبي‘ بالتعاون مع قريش، وشنّوا الحروب ضد المسلمين. فأقدم رسول الله‘ على إخراجهم من المدينة والحجاز ـ بعد أن استشار المسلمين ـ، وطهّر المدينة والحجاز من براثن اليهود، وأوجد الدين الواحد والدولة الواحدة.

 

اللقاءات مع النصارى

إن آثار النصارى في جزيرة العرب أقل من آثار اليهود. وبحسب أقوال المؤرّخين النصارى فإن النصارى هاجروا ولجأوا إلى هذه البقعة من الأرض في القرن الخامس الميلادي؛ بسبب الحرب التي وقعت بين دولة الحبشة التي كانت تعتنق الدين النصراني وبين يهود اليمن، فكانوا يسعون إلى إخراج اليمن من سيطرة دولة الحبشة، وتكوين دولة يهودية لهم، وتغليب الفكر اليهودي على الفكر النصراني. فلجأت مجموعة من النصارى؛ بسبب التأثير السياسي ومضايقة دولة الحبشة آنذاك، ومن أجل النجاة بأرواحهم من القتل، إلى أرض «أم القرى» مكّة. فأكثر نصارى نجران هم من نسل تلك المجموعة المهاجرة إلى أم القرى([13]).

يذكر ابن واضح في تاريخ اليعقوبي أن مجموعة من أعراب مكة كانوا نصارى، وفي العصر الجاهلي كانوا يعرفون الدين المسيحي  بالدين الحنيف، وكانوا يتبعونه، ولديهم علم بتعاليم الكتاب المقدّس.

ويقول: وأمّا من تنصّر من أحياء العرب فقوم من قريش من بني أسد بن عبد العزّى، منهم: عثمان بن الحويرث بن أسد بن عبد العزّى، وورقة بن نوفل بن أسد، ومن بني تميم: بنو امرئ القيس بن زيد مناة، ومن ربيعة: بنو تغلب، ومن اليمن: طيء، ومذحج…، وغيرهم([14]).

وعند مطالعة سيرة حياة سلمان الفارسي في السيرة النبوية لابن هشام يتبين أن النصرانية كان لها نفوذ في بعض نقاط أرض الحجاز، وكان لسلمان لقاءات مع بعض رجال دين النصرانية. فبعد أن ودع سلمان إيران «جي أصفهان» اعتنق الفكر النصراني، فكانت له رعاية من رهبان وأساقفة النصرانية. ولقد أشار عليه آخر أساقفة النصرانية في عمورية ـ آناطولي ـ أن يذهب إلى الحجاز، ويلتقي آخر الأنبياء الذي بُعث في تلك الأرض. وكان سلمان في انتظار ظهور النبي الجديد؛ ليتأكّد من بعض علامات النبوّة منه([15]).

وكان ورقة بن نوفل يقرأ الإنجيل بلغته العبرانية، ويترجمه إلى اللغة العربية، وكان في الجاهلية على دين النصرانية([16]).

هذه كلّها تبيّن أن النصرانية كانت موجودة بين العرب أثناء بعثة رسول الله‘.

وأما لقاءاته‘ مع النصرانية فلم تكن كثيرة. ويمكن أن تكون عدّة لقاءات قليلة، ومنها:

أـ تبادل رسائل المحبّة والصداقة بينه وبين ملك الحبشة

عندما أراد المسلمون الهجرة إلى الحبشة أخذ رسول الله‘ يذكر الأوصاف والخصال الحميدة لملك الحبشة، حيث قال‘: «لو خرجتم إلى الحبشة؛ فإنّ فيها ملكاً لا يُظلم عنده أحد، وهي أرض صدق»([17]).

وبعد انتصار المسلمين هنّأ النجاشي رسول الله‘، وأرسل إليه الهدايا وتمنياته بالسلامة لرسول الله‘.

وبحسب رواية وأقوال المفسّرين فإن قوله تعالى: ﴿لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ اليَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُواْ وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَّوَدَّةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ قَالُوَاْ إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَاناً وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ﴾ (المائدة: 82) قد طرح مسألة كيفيّة التفاهم والتصرّف الإنساني والإسلامي مع النصارى. وهي الخطوة الإيجابية الأولى بين الإسلام والنصرانيّة. فلقد أوجدت هذه الآية حالة من التبادل الثقافي والمذهبي بينهما. وهو ما طبّقه النجاشي ملك الحبشة مع المسلمين المهاجرين إلى الحبشة.

 

ب ـ حوار النبي مع نصارى نجران (المباهلة)

في قصة المباهلة حاجج رسول الله رؤساء النصرانية الذين كانوا يدّعون أن المسيح هو الله، فخرج مع عليّ وفاطمة والحسن والحسين^ لمباهلتهم، بعد أن برهن لهم بالحجج القاطعة والدامغة سخافة ادعاءاتهم، لكنهم أبَوْا التصديق. وقد شكلت هذه المحاججة إحدى نقاط النقد للكتاب المقدّس. وينتقد القرآن الكريم عدداً من ادعاءات المسيحية، التي يحاولون إثباتها بدلائل واهية وغير واضحة. قاوموا رسول الله إلى آخر لحظات النقاش، ولكنهم انسحبوا، ولم يباهلوا، وقبلوا بالجزية والمصالحة.

وهذه الحادثة هي إحدى المناسبات الكثيرة التي أثبتت طهارة وصدق محمد وآل محمد^ بوضوح جلي. وتعد هذه الحادثة إحدى أكبر فضائل أهل البيت. ويشهد لهم بذلك التاريخ([18]).

تبين الأسناد والوثائق السياسية لصدر الإسلام أن رسول الله كان رحيماً، عادلاً، منصفاً، وخصوصاً مع النصارى، وكان يتصرّف معهم دائماً بالعدل والحق.

ولقد حُرم اليهود من هذا التصرف العظيم لرسول الله؛ وذلك بسبب خلف وعودهم، ومؤامراتهم، وحروبهم مع المسلمين.

لقد دلّت المعاهدة التي وقعها رسول الله مع نصارى نجران ـ في 150 فقرة ـ على الاعتراف بالحقوق المدنيّة لهم، والاعتراف بهم رسميّاً، وجعلهم من رعايا دولته، والمتحدين معه، وأعضاء في المجتمع الإسلامي الكبير. وهذا جزء من تلك المعاهدة وقوانينها: «ولذلك يجب علي رعايتهم وحفظهم من كل مكروه، ولا يصل ذلك إليهم حتى يصل إليّ وأصحابي الذابين عن بيضة الإسلام معي، وأن أعزل عنهم الأذى في المدن التي يحميها أهل الجهاد من الغارة أو الخراج…، وليس عليهم إجبار ولا إكراه على شيء من ذلك، ولا تغيير أسقف عن أسقفية. ولا يجبر أحد ممن كان على ملّة النصرانية كرهاً على الإسلام. ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن، ويخفض لهم جناح الرحمة، ويكف عنهم أذى المكروه، حيث كانوا، وأين كانوا من البلاد. وإن أجرم أحد من النصارى، أو جنى جناية، فعلى المسلمين نصره والمنع والذب عنه، ولا يرفضوا، ولا يخذلوا، ولا يتركوا هملاً؛ لأني أعطيتهم عهد الله على أن لهم ما للمسلمين، وعليهم ما على المسلمين. وعلى المسلمين ما عليهم بالعهد الذي استوجبوا حق الذمام والذب عن الحرمة، واستوجبوا أن يذب عنهم كل مكروه، حتى يكونوا للمسلمين شركاء في ما لهم وفي ما عليهم»([19]).

وإضافة لهذه الوثيقة هناك أسناد أخرى تبين أن رسول الله والخلفاء كانوا يتعاملون مع النصارى بمنتهى الرحمة والرأفة والعدل، ولا يميزون في الحقوق الوطنية بينهم وبين المسلمين.

 

3ـ المساواة في الحقوق المدنيّة والدينيّة

لا يستثنى المواطنون في الدول الإسلاميّة جميعاً، ومن مختلف الأديان، من:

1ـ المساواة أمام القانون في الحقوق والمسؤوليات، من مبدأ ﴿إِنَّمَا المُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ﴾ (الحجرات: 10). وكلٌّ حسب اعتقاده.

2ـ الأشخاص غير المسلمين، والذين لهم شروط خاصة بهم، حسب المعاهدة التي وقعوها مع المسلمين، يتحدون مع المسلمين في أمة واحدة.

هذا النوع من التابعية، النابع من المعاهدة الموقعة بين المسلمين وغيرهم، يُطلق عليه في مصطلح الفقهاء «أهل الذمة»، وهو يعني أولئك الذين وقعوا المعاهدة مع المسلمين، وتعهدوا بتطبيق فقراتها.

إن باستطاعة كل من اليهود والنصارى والمجوس الاشتراك في مثل هذه المعاهدات مع المسلمين. وبعد توقيع المعاهدة يصبحون أعضاء في المجتمع الإسلامي، ويتساوون في الحقوق أمام القانون، ولهم مزايا بقيّة المواطنين.

ومن النماذج الأخرى لمثل هذه المعاهدات المشتركة: توقيع رسول الله معاهدة مع اليهود في أوّل يوم من هجرته إلى المدينة. وبتوقيعه لمثل تلك المعاهدة استطاع أن يوحّد القبائل المختلفة في المدينة، ويكوّن أمة واحدة، عُرفت بالأنصار والمهاجرين والأعراب، وهم يهود المدينة.

وقد جاء في هذه المعاهدة تصريح بأنّ المتّحدين يشكّلون أمة واحدة ومتميزة، فاليهود باقون على عقائدهم، وكذلك المسلمون، واذا اختلفوا فيما بينهم فيجب عليهم الرجوع إلى الله والرسول([20]).

إن المعاهدات التي تعقد بين غير المسلمين والدولة الإسلامية تعقد على أساس ﴿أَوْفُواْ بِالعُقُودِ﴾ (المائدة: 1)، ويكون الأمان والمصونية من أساسياتها. فمن حيث إن المعاهدات تمثّل ذمة في عنق الدولة الإسلامية بالحفاظ والدفاع عن المتعاهدين معها، وهي بالتالي توسع وتزيد العدل والإنصاف والتعاون فيما بينهم، يتمتّع غير المسلمين في هذه المعاهدات بكل الحقوق الوطنية والامتيازات، كما يتمتع بها أي مواطن آخر.

إن إمعان النظر في تاريخ صدر الإسلام يجعلنا نرى بوضوح أنّ رسول اللهوالخلفاء راعَوْا حقوق أتباع الديانات السماوية على أفضل وجه. فالمسلمون يدفعون للدولة الضرائب، والمساعدات الماليّة؛ المتمثّلة بالخمس والزكاة والصدقات، مقابل الأمان في ظلّ الدولة الإسلامية، وغير المسلمين يدفعون الجزية ـ وهي نوع من التعهد المالي ـ مقابل أمنهم، وحرّية اعتقاد دينهم، وحقوقهم المدنيّة.

تُعرف الحقوق الإسلامية بعنوان أحد الأصول. وفي المقابل تحافظ الدولة على المال، والشأن، والعرض، وحرّية الأديان، أعمّ من المسلمين وغيرهم. فبالرغم من أن هناك تفاوتاً بسيطاً وجزئياً في الحقوق بين المسلمين وغير المسلمين، إلا أنه في أمور كثيرة تكون حقوق غير المسلمين أفضل من حقوق المسلمين. ومن الحقوق والامتيازات لغير المسلمين:

1ـ يُعْفَون من دفع ما زاد عن دخلهم السنوي، ويدفعون الجزية فقط، وعلى حدّ الاستطاعة.

2ـ يُعْفَون من الخدمة في صفوف الجيش، في حين أنّ المسلمين مشمولون بالخدمة.

3ـ لديهم ـ تقريباً ـ حكمٌ ذاتيٌّ خاصّ بهم.

4ـ تحل دعاواهم القضائية عن طريق أساقفتهم، وحسب تعاليمهم الدينية.

5ـ أموالهم وأرواحهم ـ كالمسلمين ـ مصونة من قبل الدولة الإسلامية.

6ـ تشمل الضرائب المالية (الجزية) الرجال فقط، ولا تشمل النساء والأطفال.

7ـ العميان والذين يأخذون الصدقة ومعفَوْن من دفع الجزية.

8ـ رهبان الصوامع وكبار السن الذين لا يستطيعون العمل معفون من دفع الجزية.

9ـ حسب وصيّة رسول الله فإن غير المسلمين لا يستطيعون الإقامة في مكة والمدينة، ولا يوجد غير هذا المورد يحدّد سكنهم في أية بقعة من بقاع الدولة الإسلامية.

10ـ لا يُسمح بدخول غير المسلمين إلى مكة والمدينة؛ لأن مكة قبلة للمسلمين. ولذلك لا مكان فيها لغيرهم.

11ـ حسب رأي الماوردي الشافعي، وأبو يعلى الفراء الحنفي: باستطاعة غير المسلمين تسلّم أي موقع من المواقع الرسميّة للدولة، حتى أن بإمكانهم أن يتولّوا منصب وزير، وغيره([21]).

وقد كان ذلك أيام الدولة الفاطمية في مصر، ودولة آل بويه في إيران أيضاً. فإنّ أهل الكتاب: اليهود، والنصارى، والمجوس، تسنّموا مناصب في تلك الحكومات، ووصلوا إلى مناصب عالية([22]).

12ـ في الرسالة الفقهية الحنبلية المسماة «البحر الرائق» تصريح بأنه يجب أن تحترم قبور غير المسلمين كما تحترم قبور المسلمين. فكما تحترم أموالهم وأرواحهم تحترم أجسادهم بعد مماتهم أيضاً([23]).

13ـ أفتى أبو حنيفة والشافعي بأنه لو أراد غير المسلم تعلّم القرآن لا يمكن منعه من ذلك.

14ـ في أيام الخلفاء الراشدين كان غير المسلمين مؤمّنون اجتماعياً من بيت مال المسلمين.

15ـ ينقل المقريزي واقعة مهمّة وقعت أثناء حرب خيبر، وهي: إن رسول الله‘ أمر أن تُجمع كلّ نسخ التوراة التي غنمها المسلمون وتعطى لليهود([24]).

 

هل الجزية نوعٌ من الرشوة؟

صوَّر أكثر المستشرقين المغرضين الجزية بأنها رشوة يأخذها المسلمون في فتوحاتهم من غير المسلمين، ويقولون: إنها نوع من التسلّط المالي الاستثماري لصالح الحكومة وأعمالها.

وكتب العلامة شبلي النعماني ـ أحد علماء الهند المسلمين ـ رسالةً في الجزية. ويذكر خلاصتها محمد رشيد رضا في تفسير «المنار»، الجزء العاشر. وهو يثبت أن العرب تعلّموا قوانين وتعاليم وشكل الجزية من السلطة في إيران آنذاك، لأن «الجزية» تعريب لكلمة «گزين» الفارسية، وتعني الأموال، وهي ما يدفعه غير المسلم للحكومة الإسلامية مقابل التأمين على ماله وروحه؛ لكي يعيش في ظلّ الدولة كمواطن.

يثبت التاريخ أنّ المسلمين كانوا يأخذون الجزية من أجل الأمن والحفاظ على أتباع الديانات الأخرى فقط، ولم يكن أخذهم للجزية بعنوان رشوة أو استثمار.

يُخبرنا التاريخ أن أبا عبيدة الجرّاح عندما فتح عاصمة سوريا جاءه كبار أهل الكتاب بالأموال والذهب في أواني، وأعطوها لأبي عبيدة قائد الجيش. وبعد مدّة من الزمن أعلن هرقل إمبراطور روما الحرب على المسلمين، فأمر أبو عبيدة بإحضار كبار اليهود والنصارى ـ وكانوا يتوهّمون أنه يريد منهم جزية أكثر ـ، وأمر أبو عبيدة أن تُردّ لهم أموالهم وذهبهم الذي أعطوه عندما فتح دمشق، وقال لهم: نحن أخذنا منكم الجزية؛ لنعيش سويّة، وبما أن الوضع مهدّد بالحرب، ويحتمل أن لا ننتصر في هذه الحرب، ولا نستطيع أن ندير البلد مع هذا الوضع السائد ونؤمنه، فلذلك نعيد إليكم أموالكم، فقال له أهل الكتاب: إن حكومتك وعدلك أحب إلينا من الظلم الذي نعيشه مع الأعداء، فنحن سنحارب معكم ضد هرقل. وبعد انتصار المسلمين أعاد أهل الكتاب الجزية إلى المسلمين([25]).

إضافة إلى ذلك فإن الفقهاء ـ ومن جملتهم صاحب الشرائع ـ صرَّحوا بأن أحداً من أهل الكتاب المتعاهدين مع المسلمين لو ارتكب قتلاً عن غير عمد فحكمه دفع الدية لأصحاب الدم، وإذا لم يكن لذلك مالٌ فتدفع دية المقتول من بيت مال المسلمين؛ والسبب في ذلك أنّ أهل الكتاب يدفعون الجزية للدولة الإسلامية، فأخطاؤهم تؤمن من بيت مال المسلمين([26]).

 

هل يصاحب إعطاء الجزية ذلّة وإهانة؟

يتصوّر البعض أنّ إعطاء الجزية من قبل أهل الكتاب يجب أن يصاحبه نوع من الذلّة والإهانة لهم؛ لكي نبين وتثبت قدرة وسلطة المسلمين. وقد صادق على هذا المفهوم جمعٌ من الفقهاء، وجوّزوا أن يذلّوا ويسخروا ويهينوا أهل الكتاب أثناء دفعهم للجزية، ويجب عندهم أن يجلس المسلمون وأهل الكتاب واقفون، وأمثال ذلك([27]).

وذكر هذا الأسلوب العلامة الطباطبائي في تفسير «الميزان»، في تفسير قوله تعالى: ﴿حَتَّى يُعْطُواْ الجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ﴾ (التوبة: 29)، وقال: فظاهر الآية أن هذا هو المراد من صغارهم، لا إهانتهم والسخرية بهم من جانب المسلمين أو أولياء الحكومة الدينية؛ فإن هذا مما لا تحتمله السكينة والوقار الإسلامي([28]).

إضافة إلى أن أوامر حكومة الإمام علي× تنافي ذلك. فأمير المؤمنين× كان يأمر بمحبّة غير المسلمين والعدالة معهم، وأمر مالك الأشتر برعاية وحفظ كرامة المواطنين المصريين، ومن جملتهم: الأقباط، فقال×: «وأشعر قلبك الرحمة للرعية، والمحبة لهم، واللطف بهم، فإنهم صنفان: إمّا أخٌ لك في الدين، أو نظير لك في الخلق»([29]).

ولعلّ بعض المفسّرين، في تفسيرهم الآية: ﴿حَتَّى يُعْطُواْ الجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ﴾ (التوبة: 29) يرون أن ﴿صَاغِرُونَ ﴾ بمعنى ذليلون مقهورون، يجرّون إلى الموضع الذي يُقبض منهم فيه بالعنف، حتى يؤدّوها([30]).

في حين أن معنى ﴿يَدٍ﴾ هي قدرة الإمكان. وكلمة «صاغر» مقابل «كابر»، بمعنى خاضع ومتواضع. كما أنّ «كابر» بمعنى الكبير والمتبختر. فيكون معنى الآية هكذا: أهل الكتاب يؤدّون الجزية عند الإمكان والقدرة، وهم يخضعون أمام الحكومة الإسلامية، وليس بالغرور([31]).

وبهذا تحفظ سيادة الإسلام، ولا توجّه الإهانة والسخرية لأهل الذمة.

 

معاملة أتباع الديانات الشرقيّة

مع أنّ هذه المعاملة مع أهل الكتاب بدفع الجزية وردت في القرآن الكريم، لكنّ اللطيف في الأمر أن المسلمين وحكامهم تعاملوا بالتسامح مع أتباع الديانات الأخرى، كالبوذائية، والهندوسية.

قال البلاذري في فتوح البلدان: عندما فتح محمد بن القاسم السند ـ باكستان الحاليّة ـ، وفتح مدينة «رور» إحدى مدن الهند، صالحه أهلها على أن يصون أرواحهم، ولا يُعرضهم للقتل، ولا يتعرّض لمعابدهم الدينية، فتعامل معهم محمد بن القاسم كما يتعامل المسلمون مع أهل الكتاب، وقال: إنّ بوذا الهنود كالكنائس ومعابد اليهود والمجوس، وقرّر عليهم الجزية([32]).

أمّا المعاملة مع أتباع الديانات الشرقية وغير الإبراهيمية فإن جمهور المسلمين وفقهاء الإسلام على أن أصحاب الصحف الإبراهيمية وزبور داوود يدفعون الجزية. وقبل بهذا القول كل من: الشافعي؛ وأبو حنيفة، وأما بقية الكفار فإما أن يقبلوا بالإسلام؛ أو يقتلوا، فهم مخيّرون بذلك([33]).

وفي هذا الخصوص لدينا فقط صاحب تفسير المنار محمد رشيد رضا يقول: إن حكم أتباع المذاهب الشرقية (البوذائية، والهندوسية) من الموارد التي لا نص فيها. ففي هذه الموارد نرجع إلى قول الحاكم الإسلامي والاجتهاد فيها([34])؛ لأنه يحتمل أن هؤلاء كانوا من أهل الكتاب، غايته أن كتابهم بسبب طول الزمان حُرِّف وانتهى. فتعبير محمد رشيد رضا لطيف، وننقله بنصّه، حيث يقول: إنّ النصوص القرآنية تدل على أن الله تعالى بعث الأنبياء للناس؛ ليدعوهم إلى توحيده، ويجتنبوا الطاغوت. فمجموعة من هؤلاء الأنبياء وردت أسماؤهم في القرآن الكريم، وآخرون لم ترِدْ أسماؤهم في القرآن. ومن المعقول جدّاً أنّ الأمم المتمدنة، كالصينيين، والهنود، والفرس، والمصريين، واليونانيين، كانت لهم كتب نزلت لهم من الله بواسطة الوحي، لكن هذه الكتب الدينية؛ وبسبب طول الزمن انتهت، أو اختلطت مع كتب أخرى، ولا يوجد لها أثر اليوم. فما جرى على كتاب اليهود وكيفية تحريفه وانتهائه من المسلَّمات، في حين أن زمانهم يعتبر قريباً. فإذاً مصير كتب الأمم التي كانت تعيش في الأزمنة الغابرة واضح جدّاً([35]).

وإن دلت هذه النصوص على شيء فهي تدلّ على التسامح والإنسانية والتعددية الدينية، التي تميّز بها آخر الأديان وأكملها في التمدّن الإسلامي مع بقية الأمم غير المسلمة.

نعم، يجب أن يكون هكذا؛ لأنه ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ﴾ (الأنبياء: 107).

 

الهوامش

(*) أستاذ علم الاجتماع الديني في الجامعة الإسلامية الإيرانية الحرّة ـ طهران.

([1]) الكتاب المقدّس: 95، سفر الخروج، الإصحاح السادس، الفقرة 6 ـ 7.

([2]) الكتاب المقدّس: 1089 ـ 1090، إرميا، الإصحاح العاشر.

([3]) الكتاب المقدّس: 908، مزامير داوود، المزمور 106، الفقرة 34 ـ 38.

([4]) الكتاب المقدّس: 279، رسالة بولس الرسول الأولى إلى أهل كورنثوس، الإصحاح العاشر، الفقرة 20 ـ 21.

([5]) الكتاب المقدّس: 233، أعمال الرسل، الإصحاح 17، الفقرة 23 ـ 24.

([6]) ERIC. Sharpe: comparative. A.History.p.10.charies.son. Newyork. 1975.

([7]) Ibid, P.11.

([8]) الشيخ محمد حسين كاشف الغطاء، التوضيح في ما هو الإنجيل ومن هو المسيح: 20 ـ 50، طبع دار النشر، 1970.

([9]) الراغب الأصفهاني، مفردات ألفاظ القرآن: 506، مادة «نهج»، طبع مرتضوي، طهران.

([10]) جعفر الخليلي، موسوعة العتبات المقدسة، قسم المدينة المنورة 1: 23 ـ 25، دار التعارف، بغداد، 1390.

([11]) المصدر السابق: 151؛ محمد حميد الله، الوثائق السياسية: 40، دار الإرشاد، بيروت.

([12]) محمد حميد الله، المصدر السابق: 41.

([13]) يوسف حداد، القرآن يدعم النصرانية: 91، بيروت، 1980.

([14]) ابن واضح، تاريخ اليعقوبي 1: 257، دار صادر، بيروت، 1960.

([15]) ابن هشام، السيرة النبوية: 228 ـ 326، مصطفى البابي، القاهرة، 1936.

([16]) صحيح البخاري 1: 18 ـ 19.

([17]) ابن هشام، السيرة النبوية 1: 344.

([18]) الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن 3: 50، طبع آخوندي، طهران.

([19]) محمد حميد الله، الوثائق السياسية: 153 ـ 157.

([20]) الوثائق السياسية: 39؛ ابن هشام، السيرة النبوية: 503.

([21]) محمد حميد الله، حقوق وروابط بين الملل در إسلام 1: 214، ترجمة: الدكتور السيد مصطفى محقق الداماد، دفتر نشر علوم إسلامي، طهران، 1373 (فارسي) .

([22]) توماس آرنولد، تاريخ گسترش إسلام: 49، ترجمة: الدكتور أبو الفضل عزتي، طبع جامعة طهران، 1358؛ كارل بروكلمان، تاريخ الشعوب الإسلامية 3: 204، دار العلم للملايين، بيروت، 1970.

([23]) محمد حميد الله، حقوق وروابط بين الملل: 314.

([24]) المصدر السابق: 215.

([25]) البلاذري، فتوح البلدان 1: 162، مكتبة النهضة المصرية، القاهرة، بي تا؛ توماس آرنولد، تاريخ گسترش إسلام: 47.

([26]) محمد تقي الجعفري، تكاپوي أنديشه ها: 15، دفتر نشر فرهنگ إسلامي، طهران، 1372 (فارسي).

([27]) عباس علي عميد زنجاني، حقوق أقليت ها: 99، دفتر نشر فرهنگ إسلامي، طهران، 1362 (فارسي).

([28]) الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن 9: 252، طبع آخوندي.

([29]) محمد عبده، نهج البلاغة 3: 89.

([30]) الطبرسي، مجمع البيان 5: 22، شركة المعارف الإسلامية، طهران، 1339.

([31]) رشيد رضا، المنار 10: 289؛ الميزان في تفسير القرآن 9: 252؛ عميد زنجاني، حقوق أقليت ها: 104.

([32]) البلاذري، فتوح البلدان: 538.

([33]) المنار 10: 305.

([34]) المصدر السابق: 299.

([35]) المصدر السابق: 288.

 

Facebook
Twitter
Telegram
Print
Email

اترك تعليقاً