أحدث المقالات
مدخل لعرض الموضوع

لا يشكّ المرء ـ وهو يتأمّل الآيات والروايات ـ بتساوي الجوهر الإنساني عند المرأة والرجل، وأنّ «الجنس» لم يكن له أيّ أثر في تشريع الأحكام، ما خلا بعض الحالات، وذلك استجابةً لدواعي النظام الحقوقي الإسلامي وتوزيع الحقوق والمسؤوليات، وبناءً على الظروف الخاصّة التي ليس اختلاف الجنس من ضمنها؛ حيث جاءت أحكام الرجل والمرأة متباينةً في بعض النصوص التي تُعطي الذكر مثل حظّ الأنثيين؛ وفي ضوء هذه المعالم يمكن القول بجرأة: إنّ الإسلام سبق الغرب وسائر المدارس الفلسفية التي ترفع شعار نبذ التمييز بين الرجل والمرأة في الحقلين: الاجتماعي والحقوقي، ومع ذلك فالتباين والتمييز مقولتان منفصلتان، ولا يمكن النظر إلى أيّ تباين على أنّه تمييز، وهنا يبرز سؤال رئيس ومهم ألا وهو: إذاً لماذا دية المرأة على النصف من دية الرجل؟ هل للجنس دورٌ في تحديد مقدار هذه الدية؟ وما أدلّة هذا الحكم؟ هل اهتمّت النصوص الفقهية بالرأي المعارض لمشهور الفتاوى؟

هذه الأسئلة وغيرها تبحث عن إجابات مناسبة تكون بمستوى الأهمية التي تحظى بها، وهي بالتأكيد هواجس في مخيال كلّ باحث في مجال الحقوق الإسلامية، تحضّه على خوض غمارها ونفض الغبار الذي تراكم عليها، وإجلاء الغموض عن مفهومها.

والذي نفترضه في هذه الدراسة أنّ العدل هو الأساس الذي انبنت عليه الأحكام الإسلامية، وأنّ منابع استنباط الفقهاء معتبرة وموثوقة مثل القرآن والسنّة المطهرة، مضافاً إلى ذلك، وكما قيل سابقاً، فإنّ النصوص القرآنية تنادي صراحةً بعدم التمييز بين الرجل والمرأة، وإذا كان الأمر كذلك؛ فما هي الأسباب التي كانت وراء فتوى مشهور الفقهاء التي أوحت بالتمييز؟

يبدو أنّ الأسباب التي أنتجت هذه الفتوى تمثلها مكانة المرأة في المجتمع آنذاك، والأعراف والتقاليد الاجتماعية التي كانت سائدة، بالإضافة إلى ذهنية الفقيه وطبيعة العوامل المؤثرة فيها من قبيل مكانته في المحافل العلمية وكذلك حكومة عصره، وقد بلغت شهرة هذه الفتوى في بعض المراحل التاريخية حدّاً جعلت الفقيه يقفز على مقتضيات زمانه في سبيل المحافظة على إرث أسلافه، دون أدنى تأمّل أو تمحيص في الروايات المخالفة برغم قلّتها، لكنّ هذا لا يمنع انفتاح الطريق أمام الباحث والقانوني على الدوام، ليعيد قراءة الآراء والنظريات المطروحة من جديد ويتجاوز التحدّيات التي تعترضه دون الخروج عن الإطار العام لأصول الفقه الإسلامي، كما لا يعني هذا خلوّ الساحة من محاولات التجديد، فلطالما شهدت الساحة الفقهية وفي مناسبات مختلفة صولات جسورة لفقهاء عظام أحاطوا بوقائع عصرهم وظروفه، وآلوا على أنفسهم أن يحافظوا على شعلة الفقه النابض وهّاجةً تنير درب الطامحين، منطلقين من إيمانهم بضرورة إرساء قواعد فقهٍ قوي قادر على مواجهة تحديات العصر، وليس أدلّ على ذلك الرجوع عن حكم تجارة الدم والشطرنج والموسيقى و..

الدية في التحليل اللغوي والتفكيك الاصطلاحي

في ضوء تحليل كلمات اللغويين والفقهاء والقانونيين([1]) يظهر أنّ الدية هي المال الذي يعيّنه الشرع والقانون بإزاء الجناية التي ترتكب ضدّ النفس، أمّا الأرش فهو يرادف الحكومة، ويعني المال الذي يعيّنه القاضي بمعرفة خبير. وقد أطلق قانون العقوبات الإسلامي مصطلح الأرش على المال الذي يتصالح عليه الجاني والمجني عليه، وأحياناً على مقدار من المال يعيّنه الحاكم.

آراء الفقهاء وموقف القانون حول مقدار دية المرأة والرجل

يتّفق جمهور الفقهاء ـ عدا نزر يسير منهم ـ على أنّ دية المرأة على النصف من دية الرجل، وهو اتفاق يستند إلى الحديث والدليل العقلي؛ فبالنسبة للأول، هناك حديث مرفوع عن الرسول الأعظم، يقول فيه بانتصاف دية المرأة للرجل، ونقلت عن الإمام علي % رواية موقوفة بأنّ دية المرأة في النفس وأقلّ منها هي النصف، علاوة على روايات كثيرة نقلاً عن عمر والإمام علي وعثمان وابن عباس وابن عمر وزيد بن ثابت، تؤكّد على إجماع الصحابة على هذه المسألة.

أمّا عن الدليل العقلي، فهو أنّ حظّ المرأة في الإرث والشهادة هو النصف، وكذلك في الدية، وفي هذا يقول ابن علية وأبو بكر الأصم ـ وهما من الذين يرفضان القياس ـ : دية المرأة نفسها دية الرجل؛ لأنّه في حديث لعمرو بن حزم قال الرسول الكريم 2: «إنّ في النفس المؤمنة مائة من الإبل»([2])، وأيضاً عن عمرو بن حزم عن رسول الله 2 في كتاب له إلى أهل اليمن ذكر فيه الواجبات والمستحبات ومقادير الديات، يقول فيه: «إنّ من اعتبط مؤمناً قتلاً عن بيّنة فإنّه قود، إلاّ أن يرضى أولياء المقتول، وإنّ في النفس الدية مائة إبل..»([3])، ويذكر ابن قدامة كذلك في المغني أنّ دية المرأة المؤمنة على النصف من دية الرجل، ومن هذا الباب، يتّفق الجميع عدا ابن علية وأبي بكر على هذا القول، وبالتالي فإنّ قولهما ـ من وجهة نظر أهل الاتفاق ـ شاذ ومخالف للإجماع والسنّة([4]).

ويكتب الشيخ النجفي في جواهر الكلام: «لا خلاف ولا إشكال ـ نصّاً وفتوى ـ في أنّ دية المرأة الحرّة المسلمة، صغيرةً كانت أو كبيرة، عاقلةً أو مجنونة، سليمة الأعضاء أو غير سليمتها، على النصف من جميع الأجناس المذكورة في العمد وشبهه والخطأ، بل الإجماع بقسميه عليه، بل المحكيّ منهما مستفيض أو متواتر كالنصوص، بل هو كذلك من المسلمين كافّة، عدا ما نقل عن ابن علية وأبي بكر الأصم من أنّ دية المرأة تكافئ دية الرجل.. إذاً الإجماع السابق هو على التنصيف، والذين نقلوا إجماع الأمة، لم يشيروا إلى رأي هذين، لذا، فإنّ دية المرأة هي خمسين من الإبل أو خمسمائة دينار وهكذا في موارد أخرى. وكذلك الأمر في الجراحات والأعضاء؛ فإنّ دية المرأة تقع على النصف من دية الرجل، ما لم تتجاوز ثلث دية الرجل، بمعنى إذا كانت دية القتل أقل من الثلث تساوت ديتهما»([5]).

وتقول المادة 297 من قانون العقوبات الإسلامي الإيراني ما يلي: تندرج دية قتل المسلم ضمن ستّ حالات يخيّر القاتل بواحدة منها، ولا يجوز التلفيق بينها، وهذه الحالات هي: الأولى: مائة من الإبل الصحيحة، الثانية: وعلى أهل البقر مائتي بقرة، الثالثة: وعلى أهل الشاة ألف شاة، الرابعة: وعلى أهل الحلل مائتي حلّة يمانية، الخامسة: على أهل الذهب ألف دينار 18 حبة، وعلى أهل الورق عشرة آلاف درهم مسكوك بوزن 6/12 حبة.

وجاء في المادة 300: دية قتل المرأة المسلمة في العمد أو في الخطأ على النصف من دية المسلم، وفي المادة 301: تتساوى دية المرأة والرجل حتى الثلث، فإذا بلغته عادت إلى النصف([6]).

وكما نلاحظ، فإنّ قانون العقوبات الإسلامي الإيراني لا يتقاطع مع رأي مشهور الفقهاء؛ وذلك لتبنّيه أحكام الفقه الإمامي.

وعلى غرار فقهاء أهل السنّة، فإنّ بين فقهاء الإمامية من يقول بالمساواة بين دية الرجل والمرأة، في جميع الحالات السابقة، من قتل النفس إلى الجراحات، وعلى رأس هؤلاء الشيخ المقدّس الأردبيلي في كتاب مجمع الفائدة والبرهان، حيث لا يعتبر أدلّة التنصيف قويّةً بما فيه الكفاية ليُعمل بها، ومن المعاصرين الشيخ يوسف الصانعي الذي يضيف إلى ذلك المساواة في القصاص أيضاً([7]). وفي موضع آخر يقول: باعتقادي أنّ دية الخطأ وشبه العمد للمرأة مساوية للرجل، قضاءً لإطلاق أدلّة الدية وعدم وجود دليل يفيد التقييد([8]).

هذا، ويجتمع معظم فقهاء اهل السنّة على أنّ دية المرأة تساوي دية الرجل إلى الثلث، وإذا تجاوزت الثلث عادت إلى النصف، بينما يقول بعض الأحناف بالتنصيف في جميع الأحوال، أمّا مالك وأحمد بن حنبل فقد التزما الرأي المشهور، وبالنسبة للفقه الشافعي، فهو يقول بانتصاف دية المرأة مطلقاً([9]).

نصوص الدية في الكتاب والسنّة، وقفة عامّة

1 ـ الدليل القرآني

لم ينصّ القرآن الكريم على مسألة الدية إلاّ في آية واحدة، وهي: >وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ< (النساء: 92).

وقد نزلت الآية الكريمة في رجل قتل مسلماً ظنّاً منه أنّه كافر، فأمره الرسول الكريم 2 بدفع الدية إلى أهله عملاً بالآية. والملاحظ أنّ ذكر الدية هو لبيان أصل التشريع، لكنّها ذكرت بصورة مطلقة وفي صيغة النكرة، وقد سكتت الآية عن مقدار الدية وحجمها كما لم تتعرّض لتساويها أو عدمه في النفس والأعضاء عند الرجل والمرأة، تاركةً للسنّة الشريفة مسؤولية تبيين تفاصيلها، وفي الحقيقة إنّ (من) تشمل في معناها الجنسين، وكذلك لفظ المؤمن، وهو وإن كان مذكراً إلاّ أنّه من باب التغليب الذي يحمل على الذكر والأنثى، اللهم إلا إذا اقترن بقرينة خاصّة بتشريع الحكم للمرأة أو للرجل.

من هنا، فصيغة الإطلاق التي تتحدّث بها الآية وشمولها للجنسين، لا تدع حجّةً لأنصار عدم المساواة([10]). وقد ركّز هؤلاء على الروايات والإجماع وفي بعض الأحيان وجوه الاستحسان والقياس؛ ليؤكدوا على صحّة مدّعاهم، وسنقف عند تلك الأدلة بصورة مستقلة، متعرّضين لها بالنقاش والتحليل.

2 ـ الدليل الحديثي

ذكر الشيخ الحرّ العاملي في بداية كتاب الديات من «وسائل الشيعة» أربع عشرة رواية في الدية، نذكر منها خبر عبد الرحمن بن الحجاج، قال: سمعت ابن أبي ليلى يقول: «كانت الدية في الجاهلية مائةً من الإبل، فأقرّها رسول الله 2، ثم إنه فرض على أهل البقر مائتي بقرة، وفرض على أهل الشاة ألف شاة ثنية، وعلى أهل الذهب ألف دينار، وعلى أهل الورق عشرة آلاف درهم، وعلى أهل اليمن الحلل، مائتي حلّة».

والجدير بالذكر أنّ من بين الروايات الأربع عشرة روايةً واحدة يمكن أن يستفاد منها اختلاف الدية بين الرجل والمرأة، وهي خبر أبي بصير، قال: «دية الرجل مائة من الإبل، فإن لم يكن فمن البقر بقيمة ذلك، فإن لم يكن فألف كبش، هذا في العمد، وفي الخطأ مثل العمد ألف شاة مخلّطة»([11]).

وربما قال أنصار عدم المساواة بأنّ التعبير بـ «دية الرجل» يثبت مدّعاهم في اختصاص هذا المقدار للدية بالرجال، وعدم شموله للنساء، فيما الأمر ليس كذلك، وذلك:

أولاً: لا دلالة لمفردة «رجل» على الاختصاص، ذلك أنّ ما كان من قبيلها يكثر استعماله لبيان الأحكام العامة والمشتركة، وهو أمر شائع ومتداول في الآيات والروايات.

ثانياً: إنَّ هذه الرواية غير معتبرة؛ ذلك أنّ أبا بصير مشترك بين الثقة والضعيف، ولا توجد قرينة في البين تساعد على تحديده هنا، كما أنَّ إبراهيم، وأبا جعفر، الواردين قبل علي بن أبي حمزة، كلاهما ضعيف.

ثالثاً: إنَّ الترتيب المذكور بين موارد الدية يتنافى مع جملة من الروايات الأخرى، كما أنَّ الفقهاء أنفسهم أعرضوا عن مضمون هذه الرواية; وعليه، فمفادها مرفوض عند الفقهاء.

والخلاصة: إنّ هذا الحديث لا يعدّ دليلاً على تقييد الإطلاق والشمول في آية الدية، والروايات المتّصلة بها، وبذلك يثبت المطلوب، وهو تساوي دية الرجل والمرأة.

إضافةً إلى الروايات المتقدّمة الدالّة على تساوي الدية بين الرجل والمرأة والمسلم والكافر، يمكن التمسّك ببعض الآيات والروايات التي تؤكّد مفهوم مساواة الناس في الشخصية والإمكانات، وسائر السمات والخصائص الإنسانية، فكلّها شواهد دالّة هنا على ما نريد؛ لقد اعتبر القرآن الكريم البشر جميعاً أولاد آدم وحواء، ولم يضع أيّ فرق بينهم، قال تعالى: >يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا< (الحجرات: 13). وقال الرسول الأكرم 2: «أيّها الناس، إنّ ربّكم واحد، وإنّ أباكم واحد، كلّكم لآدم وآدم من تراب، إنّ أكرمكم عند الله أتقاكم، وليس لعربي على أعجمي فضل إلاّ بالتقوى»([12])،وقال 2 أيضاً: «الناس سواء كأسنان المشط»([13])، وفي موضع آخر قال 2: «فالناس اليوم كلّهم أبيضهم وأسودهم وقرشيّهم وعربيّهم وأعجميهم من آدم، وأنّ آدم % خلقه الله من طين، وأنّ أحبّ الناس إلى الله عزّ وجلّ يوم القيامة أطوعهم له وأتقاهم»([14]).

في ضوء الروايات التي تقدّم ذكرها والدالّة على أصل الدية ومقدارها، وإذا ما أضفنا إليها الآيات والروايات العامة، نستنتج تساوي الدية بين الرجل والمرأة، مستندين إلى إطلاق الأدلّة وعدم اختصاصها. ونذهب الآن لمناقشة الرأي المشهور عند الفقهاء في مسألة الدية والأدلّة المعروضة، ونتعرّض لها بالنقد والتحليل.

نظريّة عدم التساوي في الدية بين الرجل والمرأة، الأدلّة والمناقشات

إذا ما تأمّلنا رأي مشهور الفقهاء سنجد مستند رأيهم أدلّةً ثلاثة: أحدها النصوص الروائية، وثانيها الإجماع، وثالثها الوجوه الاستحسانية والعقلية وأحياناً القياس.

 

1 ـ دليل الروايات

أ ـ المجموعة الأولى: النصوص المباشرة

1 ـ خبر ابن مسكان، عن أبي عبدالله % قال: «دية الجنين خمسة أجزاء: خمسٌ للنطفة عشرون ديناراً، وللعلقة خمسان، أربعون ديناراً، وللمضغة ثلاثة أخماس ستون ديناراً، وللعظم أربعة أخماس ثمانون ديناراً، وإذا تمّ الجنين كانت له مائة دينار، فإذا أنشىء فيه الروح فديته ألف دينار، أو عشرة آلاف درهم إن كان ذكراً، وإن كان أنثى فخمسمائة دينار، وإن قتلت المرأة وهي حبلى فلم يُدر ذكراً كان ولدها أم أنثى، فدية الولد نصف دية الذكر ونصف دية الأنثى، وديتها كاملة خمسمائة دينار»([15])

2 ـ خبر عبدالله بن مسكان، عن أبي عبدالله % ـ في حديث ـ قال: «دية المرأة نصف دية الرجل»([16]).

3 ـ خبر الحلبي وأبي عبيدة، عن أبي عبدالله % قال: سُئل عن رجل قتل امرأةً خطأ، وهي على رأس الولد تمخض، قال: «عليه الدية خمسة آلاف درهم، وعليه للذي في بطنها غرّة وصيف أو وصيفة أو أربعون ديناراً»([17]).

لكن يمكن نقد روايات هذه المجموعة؛ وذلك أنّ الرواية الأولى، وإن كانت تامةً من ناحية الدلالة، ولا خدشة فيها على هذا المستوى، إلاِّ أنَّها تواجه معضلةً على مستوى السند، فمن جهة يُسند هذا الحديث إلى محمد بن عيسى عن يونس، وقد عدّ محمد بن الحسن بن الوليد رواياته ـ عندما ينفرد بنقلها ـ ضعيفة ومردودة([18])، من جهة أخرى، ثمة خلاف وتردّد في وثاقة محمد بن عيسى بن عبيد، ذلك أن الشيخ الطوسي وابن طاووس وغيرهما ضعّفوه فيما وثقه النجاشي([19])، فالأقوى ترك العمل بهذه الرواية بعد تعارض الجرح والتعديل.

أمّا الرواية الثانية، فرغم أنَّ ظهورها ليس بتلك المثابة التي كان عليها ظهور الرواية الأولى، ذلك أنّها مرتبطة بدية الجنين وحكمه، ويتمّ تعميمها بعد إلغاء الخصوصية، إلاَّ أن العرف يقبل ظهورها، أما سندها، فهو على غرار سند الرواية الأولى، يعاني من مشاكل، ذلك أنَّ «محمد بن عيسى بن عبيد عن يونس» قد جاء فيه أيضاً، ومن ثم ترد عليه الملاحظات النقدية التي أسلفنا ذكرها عند الحديث عن سند الرواية الأولى، يضاف إلى ذلك، ثمة احتمال في وجود إرسال في سندها، ذلك أنَّ محمد بن عيسى قد روى عن يونس أو غيره ممَّن لا نعرف اسمه.

وأمّا الرواية الثالثة، فتعاني مشكلتين من جهتين: إحداهما: أنَّ جواب
الإمام % كان يدور حول سؤال متعلّق بحالة خاصة لا تقبل التعميم، أي عندما يكون هناك امرأة حامل تُقتل عندما تهمّ بوضع حملها، وعليه فهناك احتمال أن تكون القضية شخصيةً اتَّفق وقوعها في الخارج فبيّن الإمام حكمها، ومن الواضح أنَّه لا يمكن بتاتاً الاستدلال برواية على أساس قضايا شخصية وجزئية، وحتى لو لم تكن القضية شخصيةً، فهي تختصّ بمورد السؤال، ومن ثم فلا يمكن تعميمها لجميع حالات دية النساء. وثانيتهما: أنّ دية الجنين الذي اكتملت خلقته هي دية الإنسان الكامل، وما لم يبلغ الجنين هذا الحدّ تكون ديته مائة دينار وأقلّ أيضاً، وعليه، فالتخيير بين رجل عبد أو امرأة وأربعين ديناراً في دية الجنين مخالف لفتوى الأصحاب، بل هو ممَّا أعرضوا عنه، ومع سقوط حجيّة هذا القسم في الحديث، تسقط ـ من ثمّ ـ حجية القسم الآخر منه، ذلك أنّهما ليسا حكمين مستقلّين حتى يمكن القول بتبعيض الحجية فيهما.

ب ـ المجموعة الثانية: نصوص القصاص من الرجل في قتل المرأة

وتتضمّن روايات هذه المجموعة أنه لو اقتُصّ من الرجل الحرِّ مقابل المرأة الحرّة فقُتل، لزم دفع نصف ديته لأوليائه، ومعنى هذا الكلام أنَّ دية المرأة نصف دية الرجل، وإلاَّ فلا وجه للحكم بلزوم دفع نصف الدية لأوليائه، ويصل عدد المعتبر من هذه الروايات إلى حوالي عشر أحاديث، من نماذجها خبر عبدالله بن سنان قال: سمعت أبا عبدالله % يقول في رجل قتل امرأته متعمداً، قال: «إن شاء أهلها أن يقتلوه قتلوه ويؤدوا إلى أهله نصف الدية، وإن شاؤوا أخذوا نصف الدية خمسة آلاف درهم»([20]).

لكن يمكن مناقشة هذه الروايات بأمور أبرزها:

أولاً: لا حجية لهذه الروايات في مدلولها المطابقي، ذلك أنّها مخالفة للقرآن أولاً، بدليل أنّ القول بعدم تساوي الدية إثبات الظلم لله >وَمَا رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ< (فصلت: 46)، وهناك آيات تشير إلى تساوي الجنسين في الجوهر الإنساني. كما أنّ القول المذكور مخالف للروايات ـ ثانياً ـ وهي التي تبيّن تساوي الرجل والمرأة في القصاص، مثل صحيحة ابن مريم الأنصاري عن أبي جعفر % قال: في امرأة قتلت رجلاً، قال؟ «تُقتل ويؤدّي وليّها بقية المال»([21]). كما أنّ التميز لا ينسجم ـ ثالثاً ـ مع القواعد العقلائية المسلّمة والأحكام العقلية اليقينية؛ ذلك أن العقل يعدّ الظلم من الله قبيحاً، وصدوره عنه تعالى محالاً، ومن الواضح أن التمييز في الدية والقصاص مصداق بارز وظلم شاخص كما يقول الشيخ صانعي، وإذا ما كان هناك دليلٌ ما لا حجيّة له في مدلوله المطابقي، فلا حجية له بالتأكيد في مدلوله الالتزامي.

ثانياً: إنَّ الاستدلال بالروايات الدالّة على لزوم الدية في قتل العمد لإجرائها في موارد القتل الخطأ وحالاته، إنما يتسنّى عندما نعمد إلى إلغاء خصوصية القتل العمدي، بأن يقال: إنه لا تفاوت بين القتل العمدي وقتل الخطأ، إلاَّ أنَّ إلغاء الخصوصية هنا أمرٌ صعب وعسير، ذلك أنَّه من الممكن أن يكون الحكم بتنصيف الدية في القتل العمد بلحاظ أنّ أولياء الدم مختارون بين القصاص وأخذ الدية، أما في قتل الخطأ، وهو القتل الذي لا يجوز فيه القصاص بل ينحصر السبيل فيه بأخذ الدية، فلا يمكن الحكم بالتنصيف.

ج ـ المجموعة الثالثة: نصوص ديات الأعضاء

وتدلّ هذه الروايات على تساوي دية قطع أعضاء المرأة مع الرجل إلى أن يبلغ الأمر ثلث الدية، وعندما يبلغ الثلث تنقلب دية المرأة إلى النصف من دية الرجل، وإضافةً إلى الثلث تشمل هذه الروايات دية النفس أيضاً، وعليه فلابدّ من التنصيف. وهنا ننقل روايتين:

الرواية الأولى: صحيحة أبان بن تغلب قال: قلت لأبي عبدالله %: ما تقول في رجل قطع إصبعاً من أصابع المرأة كم فيها؟ قال: «عشرة من الإبل»، قلت: قطع اثنتين؟ قال: «عشرون»، قلت: قطع ثلاثاً؟ قال: «ثلاثون»، قلت: قطع أربعاً؟ قال: «عشرون»، قلت: سبحان الله! يقطع ثلاثاً فيكون عليه ثلاثون، ويقطع أربعاً فيكون عليه عشرون؟! إنّ هذا كان يبلغنا ونحن بالعراق فنبرأ ممّن قاله، ونقول: الذي جاء به شيطان، فقال: «مهلاً يا أبان! هذا حكم رسول الله 2، إن المرأة تعاقل الرجل ثلث الدية، فإذا بلغت الثلث رجعت إلى النصف، يا أبان! إنك أخذتني بالقياس، والسنّة إذا قيست محق الدين»([22]).

وتناقش بوجود شيء في عبد الرحمن بن الحجاج([23])، كما أنّ أباناً شخصية مرموقة في العلم فهل يمكن لمقرّب مثله أن يتكلم بهذه الطريقة مع الإمام؟!([24])، كما أنّ جواب الإمام يدلّ على جهل أبان بحرمة القياس وهو أمرٌ بعيد جداً، إضافةً إلى أنّ نهج الأئمة هو الإقناع لا التعاطي بهذه الطريقة، ومضمون الرواية مرويّ أيضاً في أحاديث أهل السنّة، في حوار بين ربيعة وسعيد بن المسيّب، ومع هذا كلّه، يمكن أن تكون رواية أبان قد صدرت عن الإمام على نحو التقية.

الرواية الثانية: مضمرة سماعة، قال: سألته عن جراحة النساء؟ فقال: «الرجال والنساء في الدية سواء حتى تبلغ الثلث، فإذا جازت الثلث فإنها مثل نصف دية الرجل»([25]).

وهذه الرواية مضمرة، ومتنها يعاني من إشكال، ذلك أنَّه ذكر ـ أولاً ـ نهاية التساوي في الدية بلوغ الثلث، ثم جعلت الغاية العبور عن الثلث وتجاوزه، مع أنَّ المفترض أن يقال: فإذا بلغت الثلث، تماماً كما جاء ذلك في روايات أخرى.

هذا كلّه إضافةً إلى ظاهر الخبرين الأخيرين بدية الأعضاء، فتعميمهما إلى دية النفس غير مقبول، وحكم تنصيف دية عضو المرأة بعد بلوغها ثلث الدية، مخالفٌ للقرآن والسنّة الشريفة كما يقول الصانعي.

2 ـ دليل الإجماع

في معرض نقدنا للاستدلال بالإجماع على نظرية عدم التساوي كما تقدّم الحديث عنه، نرى أنّ بعض العلماء يشكك في وجود إجماع هنا، فيقول: وكأنّه إجماع([26])، والإجماع مقولة سنّية لا قيمة لها عند الشيعة([27])، وحتى لو سلّمنا بوجوده بين فقهاء المسلمين، لكن ثمّة فقهاء في كلا الفريقين قد خرجوا عليه وخالفوه؛ ومع غضّ الطرف فهو إجماع مدركي؛ إذ يبدو أنّه متأثر بهذه الروايات عند وجودها، وحيث لم تكن هذه الروايات منسجمةً مع القرآن والقواعد الدينية العامة، كان الإجماع ـ بالتبع ـ على هذه الحالة أيضاً.

3 ـ الوجوه العقلية والاستحسانية

أ ـ تفاضل قيمة المرأة والرجل: يقول ابن العربي بأنّ الدية في الشريعة الإسلامية تنبني على التفاضل في الاحترام والاعتبار، والتباين والتفاوت في المكانة والمرتبة.. وبما أنّ المرأة أدنى مرتبةً من الرجل، تكون ديتها أقلّ([28]).

ويردّ بأنّ الآيات والروايات دأبت على اعتبار التقوى معيار تفاضل قيمة المرأة والرجل، وأنّ قيمة المرأة مساوية لقيمة الرجل، كما أنّ نساء كثيرات في الأديان المختلفة كان فضلهنّ وقيمتهنّ أكبر ممّا للرجل، وهذه مصاديق غير تامّة وتفتقر إلى الأدلة العقلية.

ب ـ اختلاف الإنتاج الاقتصادي: يقول صاحب تفسير المنار: إنّ الحكمة وراء تنصيف دية المرأة هي أنّ المصلحة التي تذهب بفقدان الرجل، أكبر منها بفقدان المرأة، ولذلك فكما في الإرث، فإنّ ديتها أيضاً نصف دية الرجل([29]).

وفي جوابنا نقول: إنّ اختلاف الإنتاج الاقتصادي لا يمكن تعميمه على جميع المجتمعات والشعوب، وهو بالتالي أمر متغيّر، ومثال على ذلك ما نراه في المجتمعات الزراعية حيث نرى إنتاج المرأة مساوٍ لإنتاج الرجل، بل أحياناً تساهم بإنتاج أكبر، وإذا ما تهيّأت لها نفس الظروف في المجالات الاقتصادية الأخرى، فستسجّل بكل تأكيد حضوراً أكبر، كما هي الحال في بعض الحقول العلمية حيث سجّلت المرأة تفوّقاً واضحاً على الرجل، فلا يمكن لمثل هذه الأدلة العقلية أن تشكّل مستنداً للقول بعدم تساوي دية المرأة والرجل.

نتيجة البحث

سكت القرآن الكريم عن تعيين مقدار دية الرجل والمرأة، بل جعل الأمر مطلقاً ولم يقل بالتفاوت في ديتهما، مضافاً إلى أنّ الروايات التي جاءت في تحديد مقدار الدية، تبيّن تساويها للرجل والمرأة، باستثناء بعض الروايات التي أشكلنا على سندها ودلالتها، وبرهنّا على مخالفتها للقرآن والسنّة والعقل السليم، علاوة على ردّ دليل الإجماع والعقل، وكذلك دليل القياس بتشبيه الدية بالإرث والشهادة، وخرجنا بهذه النتيجة وهي تساوي دية المرأة والرجل إن في النفس أو في الأعضاء.

 *    *     *

الهوامش



(*) أما الدكتور باقري، فهو أستاذ مشارك في قسم الفقه وأصول الحقوق الإسلامية في کلية الإلهيات بجامعة طهران، وأما الأستاذ أفراكتي، فهو محاضر في جامعة سيستان وبلوشستان، وطالب في مرحلة الدکتوراه لفرع الفقه وأصول الحقوق الإسلامية في کلية الإلهيات بجامعة طهران.



([1]) ابن منظور، لسان العرب 14: 243؛ والنجفي، جواهر الکلام 43: 2؛ وزين الدين الجبعي العاملي، الروضة البهيّة 10: 105؛ والقانون الإيراني، المادة: 125، 294؛ واللنكرودي، معجم المصطلحات الحقوقيّة: 29؛ ووهبة الزحيلي، الفقه الإسلامي وأدلّته 6: 291.

([2]) وهبة الزحيلي، الفقه الإسلامي وأدلّته 6: 310.

([3]) المصدر نفسه: 299.

([4]) ابن قدامة، المغني 7: 797؛ راجع أيضاً: عبد القادر عودة، التشريع الجنائي 1: 669، و2: 797.

([5]) النجفي، جواهر الكلام 43: 32.

([6]) قانون العقوبات الإسلامي في إيران 1: 94، 95، 96.

([7]) انظر مقالتيه حول الدية والقصاص في مجلة الاجتهاد والتجديد، العدد الأوّل؛ ونصوص معاصرة، العدد السادس، ترجمة: حيدر حب الله.

([8]) يوسف الصانعي، رسالة الفتاوى: 515.

([9]) عبد القادر عودة، التشريع الجنائي، مصدر سابق: 669؛ وابن قدامة، المغني 7: 797.

([10]) الطبرسي، مجمع البيان 3 ـ 4: 138؛ ومحمد رشيد رضا، المنار 5: 332.

([11]) العاملي، وسائل الشيعة 29: 197، الباب 1، ح 12.

([12]) الحراني، تحف العقول: 34؛ والمجلسي، بحار الأنوار 74: 350، ح 13.

([13]) الهندي، کنز العمال 9: 38، ح 24882؛ والمجلسي، بحار الأنوار: 215، ح 108.

([14]) المجلسي، بحار الأنوار 22: 348، ح 64.

([15]) العاملي، وسائل الشيعة 29: 229، الباب 21، ح1.

([16]) المصدر نفسه: 205، الباب 5، ح 1.

([17]) المصدر نفسه: 206، الباب 5، ح 3.

([18]) الطوسي، الفهرست: 216.

([19]) رجال الطوسي: 391، 488، والفهرست: 216؛ والمامقاني، تنقيح المقال 3: 167؛ ورجال النجاشي: 333.

([20]) العاملي، وسائل الشيعة 29: 80، الباب 33، ح 1، وانظر أيضاً ح3.

([21]) المصدر نفسه: 85، باب 33، ح 17.

([22]) المصدر نفسه: 352، باب 44، ح1.

([23]) الأردبيلي، مجمع الفائدة والبرهان 4: 470.

([24]) الطوسي، الفهرست: 57؛ والحلي، خلاصة الأقوال: 21؛ والمامقاني، تنقيح المقال 1: 4.

([25]) العاملي، وسائل الشيعة 29: 352، الباب 44، ح 2.

([26]) الأردبيلي، مجمع الفائدة والبرهان 14: 313، 322.

([27]) انظر: الأنصاري، فرائد الأصول 1: 79.

([28]) ابن العربي، أحكام القرآن 1: 478؛ وانظر: ابن قيم الجوزية، أعلام الموقعين 2: 164.

([29]) محمد رشيد رضا، تفسير المنار: 322.

Facebook
Twitter
Telegram
Print
Email

اترك تعليقاً