أحدث المقالات
{لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} [الأحزاب/21].
 نلتقي في هذه الأيَّام بذكرى ولادة رسول الإنسانيَّة، الرَّسول محمد بن عبد اللهصلى الله عليه وسلم، الّذي أُرسِلَ رحمةً للعالمين، في ظلِّ اختلاف الرّوايات بين من يرى أنَّ ولادته كانت في الثَّاني عشر من شهر ربيع الأوَّل، وهذا مشهور علماء السنَّة، وهناك من علماء الشّيعة من يرى ذلك، وبين من يعتبر أنَّ الولادة كانت في السَّابع عشر من ربيع الأوَّل من العام خمسمائة وسبعين ميلاديَّة، وهو المشهور عند علماء الشّيعة. ونحن هنا، لا نريد لهذا الاختلاف أن يكون سبباً نزيد به حساسيّاتنا ونؤكِّد فيه انقسامنا، فرسول اللهصلى الله عليه وسلم الّذي هو قاعدة اجتماعنا، لا ينبغي أن تكون ذكراه سبباً لتفرّقنا، وهو الّذي ينبغي أن نتذكّره في كلّ زمن، ولنحرص على أن تكون الفترة الفاصلة بين الثّاني عشر من ربيع الأوّل والسّابع عشر منه، مناسبة نعمّق فيها وحدتنا الإسلاميّة، كما دعا إلى ذلك الإمام الخمينيّ(رض)، عندما اعتبر هذه الفترة أسبوعاً للوحدة الإسلاميّة.
 إنَّ إحياء ذكرى ولادة رسول اللهصلى الله عليه وسلم ليس مناسبةً لتذكّر رسول الله، وهو الّذي نتذكَّره في كلّ أوانٍ وكلّ صلاة، وعند كلّ صوم وحجّ وزيارة، وعند قراءة القرآن، وهو الحاضر معنا في كلِّ تفاصيل حياتنا. فولادة رسول اللهصلى الله عليه وسلم بالنّسبة إلينا هو انبعاثٌ لهذا النّور الّذي أضاء طريق الحياة، بعد ظلام الجهل والتخلّف والعصبيّات: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِّمَّا كُنتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ قَدْ جَاءَكُم مِّنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ} [المائدة/15].
 هو اليوم الّذي استعادت فيه البشريّة حيويّتها وتألّقها لتطرق أبواب الحضارة: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَجِيبُواْ لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ} [الأنفال/24].
 هو اليوم الّذي خرج فيه إلى الحياة الهادي والبشير والنَّذير، وهو من أعاد البسمة والفرح إلى قلوب الفقراء والأيتام والمساكين، ومن وقف مع المعذّبين والمضطهدين والمستضعفين…
 هو من ملأ الحياة خيراً وعلماً وعدلاً وإنسانيّةً وقوّةً وعنفواناً، ومن أمر النّاس بالمعروف ونهاهم عن المنكر، وأحلّ لهم الطيّبات وحرّم عليهم الخبائث، ووضع عنهم الأغلال الّتي كانت عليهم، هو من حمل إرث كلّ الرّسالات وتمّم مكارم الأخلاق، هو رسول الله وخاتم النبيّين، الّذي قال فيه الشّاعر أحمد شوقي:
 ولد الهدى فالكائنات ضياء
 وفم الــزَّمان تــبـسّمٌ وثـنـاء
 
 في رعاية الله
 منذ أن ولد رسول اللهصلى الله عليه وسلم، أحاطه الله برعايته، فقد تعهّده بالتّربية والرِّعاية ليكون نبيّاً ورائداً وقائداً وفاتحاً، ليس فتح بلدان، وإنَّما فتح قلوب وعقول، ليغدو بعد كلِّ ذلك أنموذجاً وقدوةً وأسوةً لكلِّ النَّاس، بحيث يرى فيه النَّاس حركة الرِّسالة الّتي جاء يدعو إليها، فهو لا يأمر بمعروفٍ إلا ويكون السَّابق إلى تطبيقه، ولا ينهى عن منكرٍ ويجيء بمثله… فمع رسول الله، ما كان النَّاس بحاجةٍ إلى أن يقرأوا القرآن الكريم، أو يدرسوا الأحاديث، حتَّى يتعرَّفوا إلى إيمانهم ونوعيَّة سلوكهم ومواقفهم، بل كانوا يكتفون بأن يتابعوا حركة رسول الله. ولذلك، نحن نعتبر أنَّ السنّة الّتي نتّبعها ليست كلام رسول الله فقط، بل هي أيضاً فعله وتقريره، وإلى ذلك، قال لنا الله تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} [الأحزاب/21].
 
 التمثّل بالرّسول صلى الله عليه وسلم
 في ذكرى ولادة رسول اللهصلى الله عليه وسلم، نحن مدعوّون إلى الدّخول إلى تفاصيل حياة رسول الله كي نتمثَّله ونتعلّم منه ونهتدي به، أن نتخيّله في صدقه وأمانته، وهو الصّادق الأمين قبل أن يبعث نبيّاً ورسولاً، وبعد أن بعث، لنكون الصّادقين الأمناء حتّى لو كان كلّ العالم من حولنا يمتهن الكذب والخيانة، أن نتمثّله في ثباته، وهو الّذي لم يهتزّ ولم يتراجع رغم التحدّيات الّتي واجهها، والضّغوط الّتي تعرَّض لها، والإغراءات الّتي عرضت عليه، وأن نقول كما قال: «والله يا عمّ، لو وضعوا الشَّمس في يميني، والقمر في يساري، على أن أترك هذا الأمر، ما تركته حتَّى يُظهره الله أو أهلك دونه».
 أن نتمثَّله وهو لا يسمح للخرافة ولغير الحقيقة أن تدخل إلى الفكر الّذي حمله والرّسالة الّتي قدّمها، لم يطوّع رسالته لحساب شخصه، ولذلك عندما كسفت الشّمس في يوم ومات ولده إبراهيم، وراح البعض يتحدَّث بأنّ الشَّمس إنّما كسفت لأجل ولده، وقف في المسجد ليقول: «إنَّ الشَّمس والقمر آيتان، فلا ينبغي أن تنكسفا لواحدٍ من خلقه».
 أن نتمثَّله في عبادته لله، وهو الّذي عبد الله حتَّى تورَّمت قدماه، حتى نزلت عليه الآية: {طه مَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى} [طه 1-2].
 أن نتمثَّله في سعة صدره وعلوِّ أخلاقه، وهو الّذي اتَّسع قلبه لأعدائه كما وسع لأصحابه، وها هو في إحدى معاركه يقول له أحد أصحابه: لو لعنتهم يا رسول الله ودعاؤك يستجاب، فيجيب: «إنّما بعثت رحمةً مهداةً ولم أبعث لعّاناً». وراح يقول: «اللّهمّ اهدِ قومي فإنَّهم لا يعلمون».
 أن نتمثّله وهو يقابل الإساءة بالإحسان، وأيّ إساءة كانت أعظم من إساءات قريش الّتي عذّبته وعذّبت أصحابه وتآمرت لقتله، ورغم ذلك، حين فتح مكّة قال لهم: «اذهبوا فأنتم الطّلقاء»…
 أن نتمثّله وهو يقف في نهاية حياته ليقدّم تقريره إلى النّاس ليقدّم حسابه قائلاً لهم :» إنّكم لا تمسكون عليّ بشيء، إنّي لم أحلّ إلا ما أحلّ الله، ولم أحرّم إلا ما حرّم الله».
 
 أخلاق رساليّة
 نحن بحاجةٍ إلى أن نتعلَّم أخلاق رسول اللهصلى الله عليه وسلم، فرسول الله لم يقطِّب وجهه في وجه أحد، لم يقل أفّ لخادم قطّ، وما رفض دعوة عبد أو فقير. كان يجالس الفقراء ويؤاكل المساكين بيده. لم يقهر يتيماً، ولم يردَّ سائلاً. كان يسأل عن أصحابه، فإن كان أحدهم غائباً دعا له، وإن كان شاهداً زاره، وإن كان مريضاً عاده… وكانصلى الله عليه وسلم إذا لقيه الرّجل فصافحه، لم ينزع يده من يده حتّى يكون الرّجل هو الّذي ينزعها. وكان حسن الإصغاء إلى محدّثه، ولا يكتفي بالاستماع إلى محدّثه، بل يلتفت إليه بجسمه تعبيراً عن الاهتمام به، كما كانصلى الله عليه وسلم أكثر النّاس تبسّماً، وكان لا يقوم ولا يجلس إلا على ذكر الله، وكان لا يجلس إليه أحد إلا خفّف في صلاته وقال له :ألك حاجة؟» وكان عندما يجلس، يجلس حيث ينتهي به المجلس، وكان أكثر ما يجلس وهو مستقبل القبلة.
 وكانصلى الله عليه وسلم يكرم من يدخل إليه، لا يفرّق في ذلك بين فقيرٍ وغنيّ، بل كان حرصه على تبجيل الفقراء أكثر من حرصه على تبجيل الأغنياء، حتّى ربما بسط للفقير ثوبه، ويؤثر الدّاخل عليه بالوسادة الّتي تحته، وكان في الرّخاء والغضب لا يقول إلا حقّاً. وكان إذا دخل منزله، جزّأ دخوله ثلاثة أجزاء؛ جزءاً لله، وجزءاً لأهله، وجزءاً لنفسه، ثم جزّأ جزءه بينه وبين النّاس..
 لم يعش رسول الله في برج عاجيّ، كان كما قال أصحابه عنه: «كان فينا كأحدنا»، لم يكن يميّز نفسه عنهم، فقد جالسهم، وعانى معهم، وهاجر وجاهد معهم، وشاركهم في أفراحهم وأحزانهم وآلامهم وحتّى فقرهم، وكان في مقدّمهم، كان الكلّ يرون فيه كمال القائد وكمال المعلّم، وكمال الجار، وكمال الزّوج، وكمال المقاتل، وكمال المحبّ، وكمال الرّحيم، ولهذا حصل على الشّهادة والوسام من الله، وهو أعلى وسام: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [لقلم/4].
 
 لإنتاج روح الوحدة
 لتكن مناسبة ولادة رسول اللهصلى الله عليه وسلم فرصةً نستعيد معها حضور رسول الله فينا، أن تجدِّد هذه الذّكرى الحيويَّة فينا، بحيث ندعو كما دعا، ونعبد كما عبد، ونجاهد كما جاهد، ونضحّي كما ضحّى، ونقف في المواقف الصّعبة فلا نتراجع ولا نهزم. أن ندعو إلى العلم والعمل كما دعا، وأن نكون حريصين على الوحدة كما كان حريصاً عليها.
 لقد بيّن الله سبحانه وتعالى صورة رسول الله وأصحابه عندما قال لنا: { مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلا مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الإِنجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ…} [الفتح/29].
 في ذكرى ولادة رسول اللهصلى الله عليه وسلم، نعيد التَّأكيد للمسلمين الّذين يختلفون ويتنازعون ويتحاقدون، وقد يضرب بعضهم رقاب بعض، أنَّ رسول الله يجمعنا، قد نختلف فيمن بعد رسول اللهصلى الله عليه وسلم، ولكنَّنا نتَّفق على أنَّ رسول الله نبيّ، وأنّ القرآن الّذي بلَّغه هو كتابنا، وأنّ سنَّته سنَّتنا، وأنّ القيم الّتي دعا إليها هي الّتي ندعو إليها. تعالوا نؤكّد نقاط اللّقاء الكثيرة الّتي تجمعنا، وعندما نتنازع، لنعد إلى رسول الله، حتّى يحلّ خلافاتنا كما دعانا الله: {فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} [النّساء/59].
 لتكن مناسبة ولادة رسول هي مناسبة تعيد إنتاج روح الوحدة، ولنؤكّد ما كان يدعو إليه الرّسول: {وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنتُمْ عَلَىَ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [آل عمران/103]. وما دعانا إليه في نهاية حياته: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ}. فقد كفر من يقول إنهم أعداء، لأنّه بذلك يقول ما يخالف قول الله: «المسلم على المسلم حرام دمه وماله وعرضه»، «لا ترجعنّ بعدي كفّاراً يضرب بعضكم رقاب بعض».
 
 يوم اليتيم
 في ذكرى ولادة رسول الله اليتيم، لا بدَّ من أن نتَّجه إلى الأيتام، أن نكفكف دموعهم، أن نعيد الفرح إلى قلوبهم أن نبلسم جراحهم، هم أمانة رسول الله عندنا، ولنتذكَّر كلام رسول اللهصلى الله عليه وسلم: «أنا وكافل اليتيم في الجنَّة»..» إنَّ في الجنَّة داراً يقال لها دار الفرح، لا يدخلها إلا من فرّح قلوب المؤمنين».
 أن نعتبر يوم ولادة رسول الله يوم اليتيم العالميّ، كما دعا إلى ذلك سماحة السيِّد(رض)، بحيث نكفل أيتام رسول الله الّذين هم أيتام المؤمنين وأيتام المجتمع، وأن نكون عوناً للفقراء وللمحتاجين ولكلّ ضعاف المجتمع.
 في ذكرى ولادة رسول اللهصلى الله عليه وسلم، نتوجه بكلّ قلوبنا إلى الله، شاكرين نعمته علينا بأن منّ علينا برسوله، فنقول كما قال الإمام زين العابدين(ع): «الحمد لله الّذي منّ علينا بمحمّد نبيّهصلى الله عليه وسلم دون الأمم الماضية، والقرون السّابقة، بقدرته الّتي لا تعجز عن شيء وإن عظم، ولا يفوتها شيء وإن لطف، فحتّم بنا على جميع من ذرأ، وجعلنا شهداء على من جحد، وكثّرنا بمنّه على من قلّ. اللّهمّ فارفعه كما كدح فيك إلى الدّرجة العليا من جنّتك، حتّى لا يساوى في منزلة، ولا يكافأ في مرتبة، ولا يوازيه لديك ملك مقرّب أو نبيّ مرسل…».
 
 
 
Facebook
Twitter
Telegram
Print
Email

اترك تعليقاً