أحدث المقالات

تحليل الأصول الاجتهادية لفتاوى السيد الخامنئي

ـ القسم الثاني ـ

 

د. الشيخ محمد رحماني(*)

ترجمة: الشيخ كاظم خلف العزاوي

الدليل الثاني: تغيير الخلقة الإلهية

من جملة الأدلة على حرمة قطع عضو غير رئيس من شخص حيّ هو تغيير الخلقة والهيئة التي خلقها الله سبحانه في البشر. وقد ذكر في القرآن الكريم أن مثل هذا العمل ممّا يبغضه الشارع ويرغب به الشيطان: ﴿وَلأُضِلَّنَّهُمْ وَلأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الأَنْعَامِ وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللّهِ وَمَن يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيّاً مِّن دُونِ اللّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَاناً مُّبِيناً (النساء: 119).

 عبرت الآية عن أن تغيير خلقة الله مطلب للشيطان، وبما أنه مطلب ورغبة للشيطان فإنه مورد نهي ومبغوض لدى الشارع. وبناءً على ذلك فإن تغيير خلقة وهيئة المخلوق الإلهي يعتبر مبغوضاً ومورد نهي من الشارع، وفي النتيجة يصبح حراماً.

نقد وتحقيق

الاستدلال بهذه الآية غير تامّ؛ وذلك أنه ليس المقصود من تغيير الشيطان للخلقة تغيير الشكل والهيئة الظاهرية، بل المقصود تغيير الفطرة التي هي أساس وجوهر البشر؛ حيث إنه إذا كان المقصود تغيير الشكل والهيئة الظاهرية يجب أن نقول: أي تغيير وتبديل في المخلوقات الإلهية يكون حراماً، فهل هناك مَنْ يتقبَّل كون التغيير والتبديل في الطبيعة، كالغابات، أو معالجة البشر بحيث يغيِّر الشكل و… حراماً؟!

والشاهد على هذا المدَّعى ما عبَّر عنه كثيرٌ من المفسِّرين الشيعة والسنّة، ومن جملتهم: العلامة الطباطبائي، حيث كتب يقول: وليس بعيداً أن يكون المراد بتغيير خلق الله الخروج عن حكم الفطرة وترك الدين الحنيف، قال تعالى: ﴿فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ([1]).

وكتب وهبة الزحيلي في ذيل هذه الآية يقول: قال بعض المفسِّرين: تغيير الخلقة عبارة عن تغيير دين الله؛ لذلك يقول الله: ﴿فَأَقِمْ﴾. وكذلك جاء في الرواية الصحيحة: كلّ إنسان يولد على فطرة التوحيد، إلا أن أبواه يهوِّدانه أو ينصِّرانه أو يمجِّسانه([2]).

وقد صرّح كثيرٌ من المفسِّرين الآخرين بهذا المعنى. إذاً تغيير الخلقة التي يريد أن يغيرها وأمر بتغييرها الشيطان هي تغيير الدين والفطرة التي خلق الله سبحانه عليها الإنسان، لا تغيير الشكل الظاهري للبشر.

و بناءً على ذلك فإن الدليل الثاني الذي أقيم على حرمة قطع العضو الذي يوجب هلاك الإنسان وموته ليس له دلالة على ذلك.

الدليل الثالث: حرمة هتك وإهانة المؤمن

 لبعض الآيات والروايات دلالة على كرامة الإنسان واحترامه في حال حياته، وبعد مماته، وقطع عضو من بدنه يعتبر مستوجباً لهتكه وعدم احترامه. والروايات المتعلقة بهذا المدَّعى كثيرة، ومن جملتها:

1ـ قال أبو عبد الله×: «أبى الله بالمؤمن إلا أن يظنّ خيراً، وكسرك عظامه حياً وميتاً سواء» ([3]).

2ـ عن أبي عبد الله×، في رجل قطع رأس الميت، قال: «عليه الدية؛ لأن حرمته ميتاً كحرمته وهو حيّ«([4]).

 هاتان الروايتان وأمثالهما من الروايات قد وردت في أبواب متعددة في الفقه، وعلى الخصوص أبواب دية الأعضاء، وتدل على أن المسلمين يجب أن يكون لهم احترام، ويكونوا موضع تكريم، وهذا الاحترام يثبت لهم حتى بعد الممات أيضاً.

 في الفقه الإسلامي هناك أحكام خاصة تتحدث عن احترام المسلمين، ومن جملتها: عدم احترامه يعتبر حراماً، من الناحية التكليفية؛ ومن الناحية الوضعية إذا كان يصاحبه قطع عضو يجب دفع دية.

 وهاتان الروايتان تامتان ومعتبرتان من ناحية السند. وبالإضافة إليهما هناك أحاديث تدل على أنّه لا يحقّ للمسلمين أن يقوموا بأعمال تعود عليهم بالذلة والتحقير، كما أنّه لا يحقّ للآخرين أن يلحقوا بهم ذلك. ومن جملة هذه الأحاديث:

1ـ عن المعلى بن خنيس، عن أبي عبد الله×، قال: «قال رسول الله|: قال الله عزّ وجلّ: إني لحرب لمن استذلّ عبدي المؤمن»([5]).

2ـ عن أبي عبد الله× قال: «إن الله تبارك وتعالى فوَّض إلى المؤمن كلّ شيء إلا إذلال نفسه» ([6]).

3ـ قال أبو عبد الله×: «إن الله عزّ وجلّ فوَّض إلى المؤمن أموره كلّها، ولم يفوِّض إليه أن يذل نفسه»([7]).

 يستفاد من تلك الروايات حرمة عدم احترام المؤمن وهتك حرمته، وقطع عضو من أعضائه يسبب هتك حرمته، فتكون النتيجة أنه حرام. أما من حيث السند فإنها مستفيضة المعنى، بالإضافة إلى أنه لا يوجد فيه أي إشكال.

نقد وتحقيق

تدلّ هذه الروايات على احترام وكرامة الإنسان، وحرمة هتك كرامته. ولكن الإشكال يكمن في صغرى الاستدلال، لذلك فإن بتر عضو من بدنٍ بملء إرادة ورضا صاحبه؛ وبقصدٍ وغرضٍ عقلائي، وربما من أجل نجاة حياة مؤمن آخر، لا يستوجب هتكه وعدم احترامه، أو على أقل تقدير يكون أمراً مريباً.

 والشاهد على هذا المدعى العقلاء والمتدينون الذين رأوا أن ذلك ليس هدراً لعزة وكرامة الإنسان، بل من الجائز أن يعتبر هذا بالنسبة إليهم تضحية وإيثاراً يقدمهما للآخرين.

 وهذا المدعى لا يصدق فقط على الإنسان الحي، بل يشمل كذلك الإنسان الذي يوصي أنه بعد مماته إذا كان عضو من أعضاء بدنه فيه نجاة لمؤمن آخر فلا إشكال في بتره وزراعته في بدن ذلك المؤمن. طبعاً سوف يأتي بعد ذلك هل أن الشارع أجاز مثل هذه الوصية أم لا؟

 ومن ناحية أخرى بالإمكان القول: إن لهذه الروايات صبغة أخلاقية تحاول أن تظهرها، حيث إن للمؤمن عزة وكرامة، ويجب عليه أن يبتعد عن الأعمال غير الأخلاقية، ومن جملتها: الذنوب التي تضعف من شخصيته.

الدليل الرابع: حرمة المثلة

 نهت الروايات عن المثلة بشخص المسلم نهياً قاطعاً، واعتبرت قطع عضو من أعضاء البدن، وعلى الخصوص إذا كان هذا القطع يطال أكثر من عضو، نوعاً من المثلة في شخص الإنسان المسلم. والروايات على حرمة المثلة كثيرة، ومن جملتها:

1ـ رواية معاوية بن عمار، عن أبي عبد الله×، قال: «كان رسول الله| إذا أراد أن يبعث سرية دعاهم، فأجلسهم بين يديه، ثم يقول: سيروا باسم الله، وبالله، وفي سبيل الله، وعلى ملة رسول الله|…، لا تمثِّلوا…«([8]).

2ـ وفي وصية أمير المؤمنين× إلى الإمامين الحسن والحسين’ بعد أن تلقى ضربته التي استشهد بها: «انظروا إذا أنا متُّ من ضربته هذه فاضربوه ضربةً بضربة، ولا تمثِّلوا بالرجل؛ فإني سمعت رسول الله| يقول: إياكم والمثلة ولو بالكلب العقور»([9]).

سند الرواية الأولى ليس عليه أي إشكال، والرواية الثانية (وصية الإمام×) قد جاءت في كتاب معتبر.

ولتقريب دلالة هذا النوع من الاستدلال نقول: إن التمثيل غير جائز ولو بغير الإنسان، كالكلب، فما بالك إذا كان إنساناً مسلماً معتقداً بالله تعالى. وبناء على هذا فإن المثلة حرام، وبتر الأعضاء من المثلة، وفي هذه الحالة سوف تكون حراماً أيضاً.

نقد وتحقيق

إن الروايات تدل على حرمة المثلة، وهي بالنسبة إلى المسلمين الأبرياء غير قابلة للإنكار. ولكن البحث يدور حول المصداق، لذلك:

أولاً: بالإمكان القول: قطع عضو من جسم الإنسان ـ وإن كان عدة أعضاء ـ لا يُعتبر مثلة؛ لأن المثلة إنما هي تقطيع الأعضاء قطعاً صغيرة. يقول ابن الأثير: إنه نهى عن المثلة…. إذا قطعت أطرافه وشوِّهت به([10]).

وعلى هذا فإن قطع عضو واحد أو عدة أعضاء لا يصدق عليه مثلة.

ثانياً: على فرض صدق المثلة فإنه بالإمكان القول: تطلق المثلة في الوقت الذي يتم قطع عضو أو أكثر بواسطة عدوّ، أو الإجبار بالقوة على القبول، ولكن إنْ تم ذلك عن طريق الإيثار، مع الرضا من صاحب العضو، فإنه لا يكون مصداقاً للمثلة.

 وبناءً على هذا إذا كان قطع العضو يتم عن رضا واختيار، ويكون عن طريق حافز عقلائي وإيثار، فبدون أدنى شك أو مناقشة لا يصدق عليه مثلة.

إذاً الدليل الرابع لا يدلّ على حرمة قطع عضو إنسان سالم.

الدليل الخامس: قطع العضو أحد مصاديق الظلم

 الدليل الآخر الذي يمكن إقامته على حرمة قطع عضو غير رئيس من بدن إنسان حيّ وسالم هو أن مثل هذا العمل يعتبر ظلماً، والظلمُ طبق أحكام الآيات والروايات والعقل حرامٌ. وبناءً على ذلك فإن مثل هذا العمل سوف يكون حراماً. والآيات والروايات التي تحدثت عن هذا الموضوع كثيرة جداً، وليس هناك من حاجة لاستعراضها.

نقد وتحقيق

بلا شك أن الظلم حرامٌ، سواء كان هذا الظلم يقع على الآخرين أم يوقعه الإنسان على نفسه، ولكن قطع عضو من بدن إنسان برضاه، أو بقصد الإيثار والإحسان، ومع وجود غرض عقلائي، ليس مصداقاً للظلم كي يقال عنه: إنه حرام.

خلاصة

إلى هنا تمّ ذكر خمسة أدلة على حرمة قطع أعضاء غير رئيسة من بدن إنسان حيّ سالم. وجميع تلك الأدلة تمّ بحثها ونقدها، ولم تثبت دلالة أيٍّ منها بصورة مطلقة؛ لأن بعض تلك الأدلة قد أشكل عليها من ناحية الصغرى والكبرى، والبعض الآخر من ناحية الصغرى.

قطع عضو الميت الدماغي

 الشخص الذي قد أصيب بموت دماغي، ويعيش حياة نباتية ـ أي كالنبات، ليس به أيّ حراك، وإنما يتنفس فقط بواسطة الأجهزة التي تديم حياته ـ، هل تنطبق عليه أحكام الأحياء أم أحكام الأموات؟ وهذا البحث له نتائج فقهية كثيرة.

 ومع ملاحظة الأدلة والقواعد بالإمكان القول: إن الموت الدماغي يقع في ثلاث صور، ويجب دراسة كلّ واحدة على حدة:

أـ توقف الدماغ عن العمل، ولكن القلب ما زال ينبض نبضاً طبيعياً، ويعيش صاحبه حياة نباتية. وفي هذه الصورة يقول الأطباء: إن هذا الشخص يعتبر ميتاً من الناحية الطبية، إلا أنه من الناحية الشرعية يعتبر حياً، وتنطبق عليه جميـع الأحـكام، مثل: الملكيـة، والزوجيـة، والطهارة. وفصلُ القلب عنه ـ طبق هذه الأدلة التي أوردناها بالنسبة إلى الإنسان الحيّ ـ حرامٌ.

ب ـ توقف الدماغ عن العمل، ولكن القلب يعمل بمساعدة جهاز خاصّ للتنفُّس يعمل على إطالة الحياة لذلك الشخص، ولكن مع هذا لا يوجد له أيّ أمل في الرجوع إلى الحياة الطبيعية.

وحكم هذه الصورة مثل الصورة التي قبلها، وقطع العضو الموجب لوفاة الإنسان، أو الإسراع في ذلك، يعتبر حراماً، إلا أن يتوقف على هذا العمل نجاة حياة محترمة. في هذه الصورة من الجائز أن يقال، من باب التزاحم: إنه يجوز قطع عضو رئيس من ذلك الإنسان، وذلك أن نكون على علم بأن الذي يموت دماغياً سوف يموت قريباً، سواء قطع منه ذلك العضو الرئيس أو لم يقطع، ومن ناحية أخرى فإنه بقطع عضوه الرئيس سوف تحفظ حياة شخص محترم آخر. إذاً الأدلة التي أقيمت على حفظ النفس لها دلالة على جواز قطع العضو الرئيس، ومن ناحية أخرى بما أن قطع العضو يسرع في موت ذلك الإنسان فلا يجوز في هذه الحالة. وبناء على المسألة الداخلة في باب التزاحم؛ ولأن هناك علم بالموت الحتمي لصاحب الموت الدماغي، فمن الممكن أن يكون القطع جائزاً. وبهذا الوصف يشكل القبول بوجهة النظر هذه.

 ج ـ الدماغ متوقف عن العمل، والقلب أيضاً لا يبدي أيّ نشاط، ولكن جهاز القلب هو الذي يقوم بإطالة الحياة النباتية لذلك الإنسان، بالصورة التي تنسب إطالة الحياة إلى الجهاز كلّيّاً، لا إلى القلب.

ويمكن أن يقال في هذه الصورة: إنه يوجد شكٌّ في صدق مفهوم الحياة على هذا الإنسان، ومع وجود ذلك الشك لا تجري عليه أحكام الشخص الحيّ.

قد يقال: مع الشكّ في صدق الحياة تستصحب إدامة الحياة، ويكون من جملة آثارها حرمة قطع الأعضاء الرئيسة.

والجواب: منشأ الشك هو الشبهة المفهومية. ولأن الأمور الخارجية واضحة لنا، والإبهام يقع في صدق مفهوم الحياة، ففي مثل هذه الحالة وفي الشبهات المفهومية لا يجري الاستصحاب.

وقد يقال: قد لا يجري الاستصحاب على حياة ذلك الشخص، ولكن يجري استصحاب على الأحكام وآثار الحياة، مثل: الملكية، والزوجية، وحرمة قطع العضو، وفي النتيجة تثبت حرمة قطع العضو الرئيس.

والجواب: أولاً: لا يجري الاستصحاب في الشبهات الحكمية. ثانياً: إذا اعتبرنا الاستصحاب جارياً في الشبهات الحكمية فلا يبعد أن نقول: إن وحدة القضية المشكوكة والمتيقنة غير محرزة؛ وذلك أن المرجع في تشخيص الوحدة هو العرف، والعرف لا يعتبر الإنسان الذي توقف دماغه وقلبه عن العمل، وتستمر حياته النباتية فقط بمساعدة الجهاز، والإنسان الذي قلبه ودماغه أو أحدهما يعمل شخصا واحداً في الحكم.

الحكم الفقهي لقطع عضو الميت

 البحوث المتعلقة بهذا العنوان يتم بحثها في ثلاثة أقسام:

أـ أدلة حرمة قطع أعضاء الموتى

بالإمكان إبراز الأدلة التي تدل على حرمة قطع أعضاء بدن الميت، وهي الدليل الثاني والثالث والرابع من الأدلة المتقدمة لحرمة قطع عضو الحي. وتلك الأدلة قد خضعت للنقد والتحليل، وقلنا: إنه لم يثبت أيُّ واحد منها في مسألة الأحياء، فمن باب أَوْلى أنها سوف لن تثبت في الميت. من هنا يتبين أنه ليس من حاجة إلى إعادتها مرة أخرى. فقط هناك دليل خاص بالنسبة إلى قطع العضو من بدن الميت، وهو أنه سوف يستوجب تأخير الدفن، ويتنافى مع وجوب الإسراع في دفن الميت؛ حيث إن هناك روايات كثيرة تدل على وجوب الإسراع في دفن الميت المسلم، ومن جملتها:

1ـ عن العيص، عن أبي عبد الله، عن أبيه×، قال: «إذا مات الميت فخُذْ في جهازه، وعجِّله»([11]).

و سند هذه الرواية مرفوع.

2ـ عن أبي عبد الله×، قال: «قال رسول الله|: إذا مات الميت أول النهار فلا يقيل إلا في قبره»([12]).

نقد وتحقيق

تشير هذه الروايات إلى السرعة في تجهيز ودفن الميت. ولا إشكال في تأخير الدفن؛ فإن هذه الروايات لا تدل على وجوب التعجيل؛ وذلك:

 أولاً: أسناد الروايات التي تدل على وجوب التعجيل بتجهيز الميت غير تامة.

 ثانياً: لم يستعمل المحدِّثون هذه الروايات إلا في الاستحباب، ومن جملتهم: الشيخ الحر العاملي، الذي عنون باباً في «استحباب تعجيل تجهيز الميت ودفنه، ليلاً مات أو نهاراً، مع عدم اشتباه الموت»([13]). وقد حمل الفقهاء أيضاً هذه الروايات على الاستحباب، ولم يصدروا فتوى بالوجوب. كتب السيد الخوئي في معرض إحصائه للمستحبات بعد الموت يقول: الثامن: التعجيل في دفنه، فلا ينتظرون الليل إن مات في النهار، والنهار إن مات في الليل، إلا إذا شكّ في موته، فينظر حتى التيقن([14]).

وقد يقال: يتنافى قطع العضو من الميت أو الحي مع وجوب الدفن؛ وذلك لأن الاتصال يكون سبباً في دفن عضو الميت.

والجواب: بعد زراعة العضو من الميت لا يعتبر ذلك العضو ميتاً كي يصبح دفنه واجباً. وبعبارة أخرى: إن زراعة العضو يمحو موضوع وجوب الدفن، ويجوز إعدام الموضوع.

 ب ـ مَنْ له حق إعطاء الإذن لقطع أعضاء الميت؟

 بعد إثبات جواز القطع هناك سؤال يطرح نفسه، وهو: بعد الموت مَنْ له الحق في إعطاء الإذن بقطع عضو من بدن الميت؟ لأن هذا بدون أدنى شكّ تصرُّف ببدن الميت، لفقدان القبول من صاحب الحق، وعدم وجود مجوِّز شرعي، كما لو كان هذا التصرُّف ببدن الإنسان الحي.

 1ـ الوصية بقطع العضو

من المسلَّم به أن الإنسان له الحق في أن يطبَّق عليه بعد الموت ما قد كتب في وصيته. وقد أكدت الآيات والروايات على ذلك. ولكن هل بإمكان الإنسان أن يوصي بالتبرع بأحد أعضائه بعد موته؛ في سبيل أن ينجي إنساناً آخر أو يستفاد منه في غرض عقلائي آخر؟

بعد أن ثبت أن الإنسان الحيّ يحقّ له أن يتبرَّع بأحد أعضائه بغرض عقلائي فإن ذلك الحقّ سوف يلازمه في وصيته بعد مماته؛ وذلك أن الإنسان في حال حياته له الحقّ في اتخاذ القرارات، ويجوز له أن يتصرّف كيف يشاء، وبإمكانه أن يكتب وصيته بما يحلو له، إلا في بعض الموارد التي لها دليل خاص، مثل: تنفيذ الوصية التمليكية في الأكثر من الثلث. لذا فإن إطلاق أدلة الوصية تشمل كل عمل باستطاعة الإنسان أن يؤديه في حياته، ومن جملتها: الوصية للاستفادة من بدنه بعد الموت؛ وذلك لنجاة إنسان آخر. عقد الشيخ الحر العاملي باباً بعنوان «باب وجوب الوصية على مَنْ عليه حقٌّ أو له، واستحبابها لغيره»، وقد أورد ثمان روايات تنص على ذلك، ومن جملتها: عن محمد بن مسلم قال: قال أبو جعفر×: «الوصية حقّ، وقد أوصى رسول الله|، فينبغي للمسلم أن يوصي»([15]).

 هذه الرواية تتحدث بإطلاق عن جميع أعمال الخير، ما عدا بعض الموارد التي قام فيها دليل على الخلاف. وحيث إنه يجوز قطع عضو إنسان حيّ فإنه بعد الموت يجوز أيضاً، ويشتمل إطلاق هذه الرواية على الوصايا الشرعية بعد الموت، وسبق أن تمّ إثبات جواز قطع الأعضاء في الجملة.

وقد يقال: إنّ الوصية بقطع العضو بعد الموت تعتبر باطلة؛ لأن العمل بهذه الوصية يعتبر هتكاً لحرمة الميت، وبدن الميت له حرمة كحرمة بدن الإنسان الحي، ويعدّ هتكه حراماً.

والجواب: لا شك أن بدن الميت له نفس حرمة بدن الحي، ولا يجوز هتك حرمته. وهناك كثير من الروايات الدالّة على هذا المدَّعى([16]). ولكن الاحترام والهتك من العناوين العرفية، والإنسان الذي يوصي بتبرُّعه ـ في سبيل عمل خيري ـ بعضو من أعضائه بعد مماته لإنسان مسلم هل يعد عمله هذا هتكاً لاحترامه أم أنه يعتبر عزةً وافتخاراً، حيث تبرَّع بعضو منه في سبيل إنقاذ إنسان من الموت؟

 قيل: إن هناك فرقاً بين قطع عضو من بدن إنسان حيّ وقطع عضو من بدن ميت، وعليه لا يجوز قطع أعضاء بدن الإنسان الحيّ التي تتسبب في هلاكه، ولكن بالإمكان قطع كلّ عضو من أعضاء الميت، حتى الأعضاء الرئيسة. لذلك فإن قطع الأعضاء الرئيسة من بدن الإنسان الحي يصدق عليه عنوان الإلقاء في التهلكة، ولكن هذا العنوان لا يصدق على الميت. وإذا وجد شكٌّ في إطلاق الأدلة اللفظية للوصية بالنسبة إلى ما بعد الموت تصل النوبة إلى الأصل العملي.

وفي هذه الحالة لنا أن نقول: نستصحب جواز قطع الأعضاء بعد الموت؛ وذلك أنه عندما يكون الإنسان حيّاً يجوز قطع عضو من أعضائه، ونشكّ بعد الموت هل يجوز ذلك؟ فنجري عليه استصحاب الجواز.

وقد يقال: يوجد هنا اختلافٌ في المستصحَب، حيث إن بدن الإنسان الحيّ وبدن الميت شيئان مختلفان.

 الجواب: مع أن الحيّ والميت شيئان مختلفان فإن عدم الروح في البدن يسمح بطريق أولى لأن يحكم بجواز قطع الأعضاء، وعلى الأقل فإن هاتين الحالتين متساويتان في الحكم؛ لأننا نقطع أن البدن الحيّ ليس من مقوِّمات الحكم بجواز القطع.

 يعتبر بعض الفقهاء مثل هذه الوصية نافذة. وقد كتب السيد الخوئي، في جواب عن سؤال: هل بإمكان الإنسان أن يوصي بتبرُّعه بعد وفاته بعضو من بدنه، ويضعه تحت تصرف المستشفيات أو أحد الأشخاص الذين هم في حاجة إليه؟: الوصية المذكورة صحيحة، ويجب إنفاذها، كما هو مذكورٌ في مستحدثات المسائل، والله أعلم([17]).

وقد يقال: الإشكال الآخر الذي يمكن أن يَرِدَ على إنفاذ الوصية هو أن هناك منافاة بين جواز القطع ووجوب تعجيل دفن الميت.

وقد مرّ الجواب عن هذا الإشكال في بحث أدلة قطع أعضاء الميت.

2ـ إجازة الولي الشرعي

يمكن أن يقال: إن إجازة قطع أعضاء الميت تتمّ بأخذ موافقة وليّه الشرعي؛ لأن جميع المسائل الشخصية بعد الموت تنتقل إلى ولي الأمر، ما عدا بعض الموارد التي قد أوصى بها، ومن جملتها: التبرُّع بأعضاء بدنه. ومع أن مثل هذا العمل فيه صلاح ونفع الميت إلا أن للوليّ الحق في أن يجيز ذلك.

 نقد وتحقيق

إن أصل هذا الأمر، الذي هو انتقال بعض الأمور المرتبطة بالميت إلى عهدة وليه الشرعي بعد الموت، ليس محلاًّ للشك، مثل: زمان ومكان مراسم الدفن، والكفن، وتعيين إمام الجماعة، وحقّ العفو أو القصاص أو أخذ الدية إنْ كان الميت مقتولاً، وأمثال ذلك، ممّا نصت عليه الروايات، أما في غير هذه الموارد، والذي له دليل، مثل: مورد البحث، يتمّ العمل بذاك الدليل إذا كان خاصاً، ويدلّ على إطلاق وعموم  امتلاكه ذلك الحق، وإذا لم يوجد دليلٌ لا يُثبِت الأصل العملي مثل هذا الحق. فمنذ أنْ كان حيّاً ليس لأحد أن يتصرف في عضو من أعضائه بدون موافقته، ويستصحب نفس الحكم بعد مماته. نعم، إذا كانت هناك مصلحة ففي هذه الحالة؛ من باب التزاحم، ورعاية جانب الواجب الأهم، يتم قطع أعضاء الميت بموافقة وليّه، وإنْ كان لم يوصِ. والشاهد على ذلك الروايات التي تحدثت عن شقّ بطن المرأة الميتة الحامل بطفل حيّ، وبالعكس([18]).

3ـ موافقة الولي الفقيه

الإجازة الأخرى التي يتم على إثرها قطع أعضاء الميت هي موافقة الولي الفقيه؛ لأن الولي الفقيه لديه تفويض من قبل الشارع للبتّ في أمور أهمّ من المسألة المبحوثة، بالنسبة إلى أرواح وأموال الناس، وسوف يكون من باب أَوْلى تفويضه بالموافقة على قطع عضو من أعضاء الميت في حالة وجود مصلحة تقتضي ذلك.

نقد وتحقيق

في حال لم يكن للميت وليٌّ، ولكن المصلحة تقتضي نجاة حياة إنسان من الموت بقطع عضو من أعضاء ذلك الميت، فلا شك في ثبوت مثل هذا الحقّ للولي الفقيه. وكذلك إذا كان للميت وليٌّ يجهل أهمية زراعة الأعضاء فلا يستبعد القول: إنه من باب التزاحم ومراعاة المصلحة الأهم يجوز أخذ موافقة الولي الفقيه في قطع العضو.

 أما في غير هذه الحالة فيجب مراعاة مباني ولاية الفقيه وحدود سلطته. ولا شكّ أنّ هناك بعض المباني، ومن جملتها: مباني الإمام الخميني في ولاية الفقيه، تثبت له هذا الحق، وعلى ضوء بعض المباني الأخرى، مثل: الذي يعتبر حدود سلطة ولي الفقيه في مجال الأمور الحسبية فقط، لا يثبت هذا الحقّ.

 وقد بُحِث هذا الموضوع في مبحث ولاية الفقيه.

 ج ـ دية قطع أعضاء الميت

 من جملة البحوث المطروحة في حكم زراعة الأعضاء دية قطع أعضاء الميت. إن لقطع عضو من الميت عدة صور، ولكلّ واحدة منها حكمها الخاص بها:

الأولى: يتم قبول هذا العمل طبق وصية الميت، وعند الوصية يكون القصد منه دون مقابل.

وفي هذه الصورة تسقط الدية؛ إذ كما أن للإنسان سلطة على أمواله فإن له سلطنة على أعضاء بدنه أيضاً، ومن لوازم هذه السلطة صحة إجازة الإيثار على النفس، والهدية المقدمة برضا النفس، في الوقت الذي لم ينهَ الشارع عن ذلك.

الثانية: يتم قبول هذا العمل طبق وصية الميت، ولكن عندما كتبت الوصية لم يكن القصد منها أن تكون بالمجّان ومن دون مقابل.

وفي هذه الصورة يكون إطلاق أدلة ثبوت الدية والأرش عامّاً. ومن جملتها الرواية التالية: عن إسحاق بن عمار، عن أبي عبد الله×، قال: قلتُ: ميت قطع رأسه؟ قال: عليه الدية. قلتُ: فمَنْ يأخذ الدية؟ قال: الإمام؛ هذا لله، وإن قطعت يمينه أو أي شيء من جوارحه فعليه الأرش للإمام([19]).

وسند الرواية تامٌّ، بالإضافة إلى أن الصدوق ذكرها بسند صحيح.

أما من ناحية الدلالة فلا نستبعد القول: إن إطلاقها يشمل صورة الشخص الذي يوصي بالتبرُّع بأعضائه، ولكن ليس دون مقابل وبالمجان.

 وقد يقال: الوصية تنمّ عن الرضا، ومع الرضا تسقط الدية.

والجواب: الرضا يرفع الحرمة التكليفية، أما الحكم الوضعي، الذي هو ثبوت الدية، فباقٍ. وبالإضافة إلى هذا فإن مقتضى إطلاقات الأدلة هي احترام الميت المسلم، وثبوت الدية والأرش له.

ويمكن القول: لا تثبت الدية في هذه الصورة، لذلك فالرواية منصرفةٌ إلى تصوير الظلم والتعدي، والدية تعتبر عقاباً للظالم، ولكن إذا كان نفس الميت قد أوصى بالتبرُّع بأعضائه فلا يعدّ هذا تعدّياً وظلماً حتى تجب الدية.

الثالثة: قطع أعضاء الميت من باب ضرورة تستوجب ذلك، ومصلحة أهم تقتضيه. وفي هذه الصورة أيضاً تثبت الدية؛ إذ مع الضرورة ينتفي الحكم التكليفي فقط، ولكن يبقى الحكم الوضعي، كما لو اضطر الإنسان؛ لحفظ حياته، إلى أن يأكل من مال الغير (ثمر شجر أو طعام آخر)([20])، فإن الاضطرار ينفي الحرمة، ولكن الضمان لا ينتفي، بل يبقى في ذمّته.

الرابعة:  قطع أعضاء الميت بإجازة من الولي الفقيه.

وتثبت الدية في هذه الصورة أيضاً؛ لأن مقتضى إطلاق أدلة احترام الميت المسلم هو ثبوت الدية.

الخامسة: قطع الأعضاء بدون وصية، ولا تعيين مصلحة وضرورة لذلك الأمر، ولا حتى حكم حاكم. وفي هذه الحالة تثبت الدية بالقدر المتيقَّن من ثبوتها، وصريح الروايات، ومن جملتها: رواية إسحاق بن عمار التي تدل على ثبوت الدية.

 وجه مصرف الدية

 بعد أن اتَّضح حكم قطع أعضاء بدن الميت، وثبتت الدية في أربع صور من الصور الخمس السابقة، يطرح هذا السؤال: هل تصل الدية إلى الورثة أم لا؟

 متعلَّق الإرث مالي، بحيث يثبت للوارث بمجرد وفاة المورِّث. وبعبارة أخرى: ما ترك الميت، أما الدية موضوع البحث فإنها تظهر بعد الموت، ولا يملكها الميت. ومن هنا فإن المال المستوفى من الدية يأخذه الإمام أو الحاكم، ويصرفه في وجه من وجوه الخير.

 وتوجد روايات على هذا المدَّعى، ومن جملتها: رواية إسحاق بن عمار التي سبق ذكرها، حيث جاء في هذه الرواية أن هذا المال يرجع إلى الإمام، وهو لله، وهذه كناية عن أنه يُصرَف في سبيل الله.

وهناك رواية أخرى، وهي صحيحة الحسين بن خالد عن أبي الحسن الكاظم× أنه قال: فلما مثل به بعد موته صارت ديته بتلك المثلة له، لا لغيره، يحجّ بها عنه، ويفعل بها أبواب الخير والبرّ، من صدقة وغيرها([21]).

خلاصة

 1ـ الأدلة التي تدل على حرمة قطع أعضاء بدن الميت أربعة، وهناك ثلاثة أدلة مشتركة مع مبحث قطع أعضاء بدن الحيّ، ودليل واحد فقط خاصّ بقطع عضوٍ من بدن الميت. وقد ثبت أن ليس هناك لأيٍّ من الأدلة الأربعة دلالة على الحرمة.

 2ـ هناك عدّة طرق لقطع أعضاء بدن الميت، وهي: وصية صاحب العضو في حياته، إجازة الولي الشرعي، إجازة الولي الفقيه.

وقد أصبح واضحاً أنه ما عدا الطريق الأول هناك طريقان يمكن الإشكال عليهما، غير أنه يشكل الطريق الثالث وفق بعض المباني المبحوثة في ولاية الفقيه، لا مطلقاً.

 3ـ الوجوه التي تصرف فيها الدية هي الأمور الخيرية لصاحب العضو، يصاحبها موافقة الحاكم الشرعي.

المحور الثاني: حكم أخذ العوض

 بعد أن تم بحث حكم قطع أعضاء بدن الإنسان (الحي، والميت دماغياً، والميت) يطرح على طاولة البحث هذا الموضوع، وهو: هل أن العضو المقطوع قابلٌ لأن يُباع ويُشترى؟ وهل يجوز أخذ الأموال مقابله؟

ومن أجل الجواب عن مثل هذه الأسئلة يستوفى موضوع البحث في مقامين:

1ـ أخذ العوض من غير طريق البيع

لا شكّ أنه يجوز أخذ العوض بغضّ النظر عن عنوان البيع والشراء؛ وذلك أن العوض يمكن أخذه بطرق مختلفة، ومن جملتها:

أـ يمكن أخذ العوض بعنوان رفع اليد عن الحق؛ لأن صاحب العضو أولى وأحقّ من الآخرين.

وبما أن العضو لا يعدّ مالاً فإنه من أجل رفع اليد عن الحق يمكن أخذ العوض.

 ب ـ يمكن أخذ العوض قبل القطع مقابل القيام بقطع العضو، فيما لو كان غير مالكٍ لذلك العضو.

 ج ـ يمكن أخذ المال قبل قطع العضو من أجل مقدمات القطع، كالذهاب إلى المستشفى، والمقدّمات الأخرى، التي تتقدم على عملية القطع.

 د ـ يمكن أن يقال: إن بإمكان صاحب العضو أن يصالح في الوقت الذي يبادل فيه العضو بالمال.

وقد يقال: إنّ الطرق التي سبق ذكرها تجيز الاستفادة من العضو الذي قد تم فصله عن البدن، ولكن بما أن ذلك العضو مصداق للميتة، ولا يجوز الانتفاع منها، فإن أيَّ مبلغ يؤخذ مقابله ـ وبأيّ عنوان كان ـ يعدّ أكلاً للمال بالباطل وحراماً.

والجواب: يمكن عرض عدة أجوبة عن هذا الإشكال، ومن جملتها:

 أولاً: أخذ الأموال في بعض الطرق السابقة ـ وعلى سبيل المثال: الطريق الثاني والثالث ـ ليس له علاقة بجواز وعدم جواز الانتفاع من الميتة. لذلك يحقّ لصاحب العضو أن يأخذ مالاً مقابل رفع الموانع من أمام القيام بالقطع، أو الذهاب إلى المستشفى، ومقدمات العملية الجراحية التي سيتم إجراؤها.

 ثانياً: ثبت في مبحث الانتفاع من الميتة جواز هذا العمل([22]).

وبما أننا نحتاج هذا الموضوع هنا فلا بدّ أن يبحث، ولو بإجمال، فنقول:

إن أهمّ دليل على الحرمة هو الروايات. وهذه الروايات كثيرة. وعلى سبيل المثال: نذكر موثَّقة سماعة ـ التي هي صحيحة من جهة السند والدلالة ـ: سألته عن جلود السباع، أينتفع بها؟ فقال: إذا رميتَ وسمَّيتَ فانتفع بجلده، وأما الميتة فلا([23]).

 وهذه الرواية صريحةٌ في حرمة الانتفاع من الميتة.

وسندها موثَّق؛ لوجود سماعة فيه.

والروايات الأخرى تدلّ كذلك على هذا المدَّعى، مع أنه ليس لها هذا الحدّ من الاعتبار من ناحية السند والدلالة([24]).

 وفي مقابل هذه الروايات هناك مجموعة تدلّ على جواز الانتفاع من الميتة، ونكتفي بذكر موثَّقة البزنطي: سألته عن الرجل تكون له الغنم، يقطع من إلياتها وهي أحياء، أيصلح له أن ينتفع بما قطع؟ قال: نعم، يذيبها، ويسرج بها، ولا يأكلها، ولا يبيعها([25]).

وتدلّ هذه الرواية دلالة واضحة على جواز الانتفاع من الميتة. والرواية من جهة السند موثَّقة.

ومن المؤكَّد أن هاتين المجموعتين من الروايات متعارضتان، ويجب أن يتّم علاج ذلك التعارض. اجتاز الفقهاء جميعاً تلك الطرق المختلفة، ومن جملتها:

1ـ الروايات المجوِّزة مختصة بالأجزاء الميتة التي ليس بها حياة، والروايات المانعة مختصة بالأجزاء التي تحلها الحياة.

2ـ يقول المحقق الإيرواني: الروايات المانعة محمولة على أنه في حالة مماسّة البدن للميتة يصبح ملوَّثاً([26]).

3ـ قال الإمام الخميني&، بعد أن قرَّر هاتين المجموعتين من الروايات: الإنصاف أنه لا يوجد تعارض بين هاتين المجموعتين من الروايات؛ لأنه لا يوجد للروايات المجوِّزة حكومة على الروايات المانعة. إذاً حمل الروايات المجوِّزة على التقية فرع لأن يكون هناك تعارض([27]).

4ـ تصرح الروايات بجواز الانتفاع في غير الموارد التي يشترط فيها التذكية، لكن الروايات المانعة ظاهرة في الحرمة. من هذه الناحية فإن الروايات المانعة مقيَّدة بالروايات المجوِّزة، والروايات المانعة محمولة على الموارد التي يشترط فيها التذكية، أو تحمل على الكراهة([28]).

والحقّ أن الجمع الأول والثاني خلاف الظاهر؛ إذ بما أن الأجزاء لا تحلّ بها الروح فليست مصداقاً للميتة، وإنما هي خارجة تخصُّصاً، وبذلك لا يكون تلويث البدن بممارسة الميتة حراماً كي نحمل الروايات عليه. ومن هنا فإن الجمع الأخير باقٍ، على أن أيَّ واحد منها يكون صحيحاً يثبت المدَّعى موضع النقاش، وهو جواز الانتفاع من الميتة.

 وفي النهاية إذا لم تكتمل الأدلة اللفظية في جواز أخذ العوض مقابل التبرع بالأعضاء تصل النوبة إلى الأصل العملي، ومقتضى الأصل هو الإباحة، واستصحاب عدم الحرمة في أخذ العوض.

 2ـ أخذ العوض عن طريق البيع

 هل يجوز بيع عضوٍ قد تمّ قطعه؟

 في هذا المقطع عدة مواضيع يجب توضيحها، ويقال: إن هذا البحث يطرح في صورة جواز الانتفاع من الميتة فقط:

أـ هل يلزم كون المبيع مالاً في تحقُّق عنوان البيع أم أن الملكية تكفي فيه؟

 ب ـ إذا كانت المالية لازمة في تحقق البيع فهل أن العضو المقطوع يعدّ مالاً بنظر العرف أم لا؟

 ج ـ على فرض عدم صدق البيع فهل يصدق عليه عنوان التجارة أم لا؟

 د ـ هل تشمل أدلة حرمة بيع الميتة هذا المورد أم لا؟

 البحث المفصَّل لكل واحد من هذه المواضيع خارجٌ عن طبيعة المقالة. ومن هذه الناحية يمكن الإشارة إليها بصورة إجمالية، مع أن هناك اختلافاً بين أعضاء البدن الميت والبدن الحي، ولكن كي لا يطول الحديث فيها نكتفي بعرض المشتركات:

 أولاً: هناك وجهات نظر في مسألة ملكية الإنسان لأعضائه: يعتقد البعض أن الإنسان ليس مالكاً تكويناً لأعضاء بدنه وبالذات، لأنه لم يكنْ خالقاً لها، ولكن بما أنه العلة القريبة لبقائها على قيد الحياة فإن له ملكية تشبه الملكية التكوينية، وهذه الملكية تكون منشأً أيضاً لملكيته الاعتبارية. ومن هنا يصدق عليه عنوان البيع قبل القطع أو بعده.

 ثانياً: من الممكن القول: يصدق على أعضاء البدن بعد قطعها عنوان المال؛ لأن الفقهاء، في تعريفهم للمال واختلافه عن الملك، قالوا: إن المال عبارة عن أشياء نادرة يتعامل بها الإنسان لسدّ احتياجات ينتفع بها، وهو ـ بحكم العقل ـ يبذل المال في مقابلها.

 ثالثاً: من الممكن القول: لا يلزم أن يتحقق عنوان المال في عنوان البيع، حيث إن كثيراً من العلماء، في تعريفهم للبيع، لم يشترطوا كون المبيع مالاً.

كتب الآخوند الخراساني يقول: فالصواب تعريفه: تمليك العين بالعوض([29]).

وكتب السيد كاظم اليزدي: والتحقيق أن الأسدّ والأخصر في تعريف البيع أن يقال: إنه تمليك عين بعوض([30]).

وبعد أن أورد المحقق الإيرواني خمسة إشكالات على الشيخ في تعريفه للبيع كتب يقول: تبديل متعلَّق سلطان بمتعلَّق سلطان([31]).

وكتب النائيني يقول، بعد الإشكال على تعريف الشيخ للبيع: هو تبديل عين بعوض([32]).

وكتب السيد الخوئي حول أن المالية ليست شرطاً: ليس لدينا دليلٌ على صدق اعتبار المالية في البيع، بل الملاك في صدق البيع عنوان المعاوضة([33]).

 يستفاد من مجموع هذه التعاريف أن تحقق قوام البيع ليس بالمال، وعلى الخصوص ما صرح به السيد الخوئي من أن المالية ليست شرطاً في صدق عنوان البيع، بل يكفي صدق المعاوضة عليه فقط.

رابعاً: على فرض أن البيع لا يصدق على بيع الأعضاء فإن المعاملة التي يصدق عليها عنوان التجارة تعتبر صحيحة.

 يقول السيد الخوئي في مقام الجواب عن إشكال بطلان بيع بول ما لا يؤكل لحمه: من جملتها: الصفقة المترتِّبة على بول ما لا يؤكل لحمه؛ بمقتضى آية التجارة، صحيحة، وإنْ لم يصدق عليها البيع([34]).

خامساً: من الممكن أن يقال: يكفي في صدق عنوان البيع المالية في نظر المتبايعين، ولا يلزم أن يكون كذلك بنظر جميع العقلاء، حيث قال السيد الخوئي: لو سلَّمنا باعتبار المالية في البيع فيكفي أن يكون المبيع مالاً بنظر المبايعين إذا كان عقلائياً، ولا يجب كونه مالاً في نظر جميع العقلاء([35]).

إذاً يجوز بيع الأعضاء التي تم قطعها في هذه الحالة.

 وقد يقال: هناك إشكالٌ في بيع العضو الذي تم قطعه من عدة جهات: أولاً: النهي عن الميتة وبيعها في الروايات. وثانياً: عدم وجود فائدة مرجوّة، وأخذ المال مقابلها يعتبر أكلاً للمال بالباطل.

 والجواب: من الممكن أن يكون هناك أجوبة مختلفة لهذا الإشكال الأول، حيث اختلف الفقهاء في مسألة بيع الميتة، ويعتقد كثيرٌ من المحققين بجواز بيع الميتة على أن يكون بقصد الانتفاع.

يقول الإمام الخميني& حول البيع والشراء والانتقالات الأخرى المتعلقة بالميتة، وهل أنها جائزة أم لا؟: هناك نظر قويٌّ على الجواز؛ لأنه لا يوجد دليل على الحرمة، إلا رواية دعائم الإسلام، وهي من حيث السند ضعيفة، ولا يوجد لدينا روايات لها دلالة على أن قيمة الميتة سحت([36]).

ثم ذكر بعد ذلك أربع روايات تتضمن أن قيمة الميتة سحت، وقال في مقام الإجابة عنها: ما عدا رواية أخرى هي (صحيحة البزنطي)، المخصَّصة بصحيحة محمد بن عيسى، التي تدلّ على جواز الانتفاع من جلد الميتة وبيعه وشرائه. والظاهر أن العرف مساعد لإلقاء الخصوصية، والجمع بين ما تقدم. وبناءً على هذا فأينما تكون المنفعة حلالاً يكون البيع جائزاً، والمقصود من السحت قيمة الميتة في الموارد التي تتطلب الأكل، ولمثل ذلك تباع. ويؤيد هذا الادعاء رواية السرّاج، التي تدلّ على جواز بيع جلد النمر…([37]).

ويعتقد السيد الخوئي كذلك ـ مثل كثير من الفقهاء ـ بأن بيع الميتة جائز، ويقول في مقام الجمع بين الروايات التي لها دلالة على الحرمة والروايات التي تدل على الجواز: في أية صورة كانت تحمل الروايات إما على المنع أو على التقية؛ لأن فقهاء أهل السنة لا يجوِّزون معاملة الميتة، أو يحملونها على الكراهة؛ وذلك أن الروايات المجوِّزة صريحة في الجواز، إما أنها مانعة للظهور في الحرمة، أو تحمل على البيع بعنوان الحياة([38]).

 أما الجواب من الناحية الثانية فهو واضح؛ لأن بيع الأعضاء المقطوعة له منافع كثيرة، مثل: الزراعة.

نتائج المحور الثاني

 1ـ يمكن لصاحب العضو أخذ العوض من أجل التبرُّع بالعضو: وذلك بعنوان رفع يده عن حقّه وتسلطه على أعضائه، وبعنوان نفس قطع العضو، ومقدمات القطع، ومصالحة التبرُّع بالعضو مقابل أخذ المال.

2ـ هناك روايات متعارضة في جواز وعدم جواز الانتفاع بالميتة. ويعتقد الإمام الخميني أن الروايات الدالّة على جواز الانتفاع حاكمة على الروايات الدالّة على حرمة الانتفاع. ويحمل السيد الخوئي الروايات الدالّة على الحرمة على التقية.

3ـ يجوز بيع العضو الذي قد فصل عن البدن. ومن أجل توضيح هذا المدَّعى تم طرح خمسة تحاليل علمية تبيِّن ذلك.

4ـ إن هناك روايات تدل على حرمة بيع الميتة، ولكن في المقابل يوجد هناك روايات تدل على الجواز. وعلى هذا النحو فالروايات المانعة إما تتخصَّص بالروايات المجوِّزة، أو تحمل على التقية، أو الكراهة.

 

المحور الثالث: زراعة الأعضاء

 بعد أنْ تبيَّن أنّه يجوز قطع أعضاء البدن في بعض الموارد، ولا يوجد إشكال في التبرُّع بها أو بيعها، يطرح هذا السؤال، وهو: هل أن زراعة الأعضاء جائزة أم لا؟

إن المانع من الزراعة أمران: الحكم التكليفي بالحرمة؛ والحكم الوضعي بالنجاسة.

 أما المانع الأول فغير مقبول؛ لأنه بعد القطع والتسلط عليه من ناحية الطرف الآخر ـ إما بالتبرع أو بالشراء ـ لا توجد أية حرمة من ناحية العلاج، بل وكذلك من الممكن استخدامه في الأمور العقلائية الأخرى، مثل: التزين، وإذا حصل هناك شكّ فإن باستطاعته إجراء أصل البراءة من الحرمة. وهناك أدلة أخرى أيضاً على الجواز، ولكن ذكرها سوف يطيل البحث.

 أما في مسألة الحكم الوضعي للزراعة فيجب أن يقال: لزراعة العضو صورتان؛ فأحياناً يكون العضو داخل البدن نفسه، كالكِلْية وغيرها. وفي هذه الحالة لا ضرورة للبحث؛ وأحياناً يكون العضو خارج البدن، مثل: زراعة اليد أو الرجل. ومع تحقّق الزراعة سوف يكون ذلك العضو جزءاً من بدن الإنسان، ويخرج عن عنوان كونه ميتةً.

 توضيح

في الصورة الثانية، وهي زراعة العضو خارج البدن، توجد حالتان:

أـ بعد تمام زراعة العضو بصورة كاملة، ومرور مدة من الزمان، يعتبر عرفاً جزءاً من البدن الجديد. وبلا شكّ يكون العضو المزروع في هذه الصورة طاهراً، وغير محكوم بأحكام الميتة؛ لعدم صدق موضوع الميتة عليه. وإذا وصلت النوبة إلى الشك يمكن أن يقال: لا تستصحب النجاسة؛ أولاً: لأن وحدة القضية المشكوكة والمتيقَّنة قد انتهت؛ لأن المرجع في تشخيص التعدُّد والوحدة هو العرف، ومن المتيَّقن أن العرف لا يعتبر العضو المزروع بعد مرور مدة من الزمان عليه هو نفسه العضو الذي تم قطعه.

ثانياً: يمكن القول: إن موضوع النجاسة هو العضو المفصول عن حيٍّ أو المفصول عن جسد، ولا يصدق هذا العنوان بعد الزراعة ومرور مدة من الزمان عليها، إلا تسامحاً؛ لأن المشتقّ مجازٌ في الموارد التي ينقضي بها التلبس.

 ثالثاً: أصبحت القضية واضحة للذين لا يعتبرون الاستصحاب جائزاً في الشبهات الحكمية؛ لأن الاستصحاب لا يجري في النجاسات، وعند الشك بين الطهارة والنجاسة يجرى أصل الطهارة.

ب ـ قبل أن يكون هناك ارتباط كامل بين الجسد والعضو المزروع يكون الحكم بالطهارة مشكلاً، إلا إذا قيل: إن العضو الذي تم فصله عن الحيّ أو العضو الذي تم فصله عن الجسد، ولم تتم زراعته بشكل كامل، لا يصدق عليه عنوان الميتة، وخاصة مع ملاحظة أن المشتقّ مجاز في حالة انقضاء التلبس؛ أو نقول: إن الاستصحاب لا يجري في الشبهات الحكمية، وعند الشك بين الطهارة والنجاسة تجري أصالة الطهارة.

الهوامش

_________________________

(*) أستاذ في الحوزة العلمية، وعضو الهيئة العلمية في جامعة طهران، وعضو هيئة تحرير مجلة فقه أهل البيت^.

([1]) تفسير الميزان 5: 78.

([2]) وهبة الزحيلي، تفسير المنير 5 ـ 6: 277.

([3]) وسائل الشيعة 19: 251، باب 25 من أبواب ديات الأعضاء، ح4 .

([4]) المصدر السابق: 248، باب 24، ح4 .

([5]) المصدر السابق 12: 272، باب 147 من أبواب أحكام العشرة، ح8.

([6]) المصدر السابق 16: 157، باب 12 من أبواب الأمر والنهي، ح3.

([7]) المصدر السابق، ح2 .

([8]) المصدر السابق 11: 43، باب 15 من أبواب جهاد العدو، ح2.

([9]) نهج البلاغة: 422، الخطبة 47.

([10]) ابن الأثير، النهاية في غريب الحديث والأثر 4: 492.

([11]) الوسائل 2: 677، باب 47 من أبواب الاحتضار، ح6.

([12]) المصدر السابق: 676.

([13]) المصدر السابق: 673.

([14]) الخوئي، التنقيح 8: 30.

([15]) الوسائل 13: 351، الباب 1 من أبواب كتاب الوصايا؛ المصدر السابق: 673، ح1.

([16]) من جملتها صحيحة عبد الله بن سنان وعبد الله بن مسكان، عن أبي عبدالله×، في رجل قطع رأس الميت؟ قال: عليه الدية؛ لأن حرمته ميتاً كحرمته وهو حي…(وسائل الشيعة 19: 248، باب 24 من ديات الأعضاء، ح4 و6).

([17]) الخوئي، المسائل الشرعية 2: 133، السؤال 12، مؤسسة المنار.

([18]) وسائل الشيعة 2: 674، باب 46 من أبواب الاحتضار، ح6 و8.

([19]) وسائل الشيعة 19: 248، باب 24 من أبواب ديات الأعضاء، ح3.

([20]) إضافة من المترجم.

([21]) وسائل الشيعة 19: 248، ح2.

([22]) طرح الشيخ الأنصاري هذا المبحث في المكاسب المحرمة، وأدلى الفقهاء بشروحاتهم في الحاشية.

([23]) وسائل الشيعة 16: 453، الباب 34 من أبواب الأطعمة المحرمة، ح4.

([24]) على سبيل المثال: راجع: روايات أبي المغيرة: باب 34، ح1؛ رواية الجرجاني 5: باب 33، ح7؛ رواية الوشاء 5: باب 30، ح2؛ رواية علي بن جعفر 5: باب 34، ح6؛ موثقة سماعة 5: باب 34، ح5.

([25]) وسائل الشيعة 16: باب 30 من أبواب الذبائح، ح4.

([26]) حاشية المطالب: 5.

([27]) المكاسب المحرمة 1: 80.

([28]) مصباح الفقاهة 1: 67.

([29]) الخراساني، حاشية المطالب (ضمن محصل المطالب) 1: 35.

([30]) السيد اليزدي، حاشية المكاسب (ضمن محصل الطالب) 1: 36.

([31]) المصدر السابق: 37.

([32]) المصدر السابق: 38.

([33]) مصباح الفقاهة 1: 67 .

([34]) المصدر نفسه.

([35]) المصدر نفسه.

([36]) المكاسب المحرمة 1: 84.

([37]) المصدر نفسه.

([38]) مصباح الفقاهة 1: 121. وفي كتاب (منهاج الصالحين) أفتى السيد الخوئي بعدم الجواز.

Facebook
Twitter
Telegram
Print
Email

اترك تعليقاً