أحدث المقالات

نشر المفكر والباحث فهمي جدعان كتاباً بعنوان "خارج السرب: بحث في النسوية الإسلامية الرافضة وإغراءات الحرية"، ووقف فيه على أعمال مفكرات يمثلن وجهاً بارزاً محدثاً من وجوه فهم الإسلام ويشي عملهن بنحو خطير من أنحاء التطوّر الذي لحق بالإسلام المعاصر.
وقد ارتأى جدعان أن النظر في مشكل "النسوية الإسلامية الرافضة" يفرض قولاً في "النسوية الإسلامية" بإطلاق، وخصوصاً ما سمّاه "النسوية الإسلامية التأويلية"، والتي تبين عن نفسها في أعمال ثلاث مفكرات هن: أمينة ودود، وأسماء برلاس، ورفعت حسن.
وفي التجربة الإسلامية التاريخية، ما ألمحت إليه فاطمة المرنيسي في أمر الحركة النسوية الثورية التي قادتها في المدينة في عهد مبكر من تاريخ الإسلام ثلاث نساء هن: أم سلمة وعائشة وسكينة بنت الحسين، وكذلك النسوة السبعون اللائي أطفن بآل محمد ليلاً يشتكين أزواجهن لأنهم يضربونهن. وكل ذلك يظل في حدود تجليات النفس المسلمة المتطلعة إلى مطلق العدالة المتعلقة بتوجيهات الوحي.
ويستحضر جدعان الأساس القاعدي الذي تقوم عليه النظرة الإسلامية الاتباعية التقليدية، وفق ما نطقت به "النصوص" الدينية المركزية الماثلة على وجه التحديد في القرآن وفي السنّة والأخبار. وذلك لأن "تمثّل" وضع المرأة وتشكيل "الصورة" التي يحيل عليها جميع الناظرين في "مشكل المرأة المسلمة" في العصر الحديث، وفي عصرنا الراهن، يرتدان كلاهما إلى النظرة المشتقة من هذا "المجموع الفقهي النسائي" الذي تنطوي عليه هذه "النصوص". وفي مقدمة هذا "المجموع" تشخص آية "القوامة" وأحاديث "الطاعة"، التي يستند إليها "العقل الاتباعي" في إنكار مبدأ المساواة بين الجنسين، وفي تقديم مبدأ طاعة المرأة للرجل، وفي تسويغ "ضرب المرأة" والحق في "تأديبها".
ويرى جدعان أنه منذ مطالع القرن التاسع عشر إلى أيامنا هذه، اتخذت مسألة "النص" الديني الخاص بالمرأة صيغاً متباينة وصوراً متفاوتة، ظلت في حدود ما أطلقت عليه الأدبيات الفكرية المعاصرة مصطلح "الإصلاحية الإسلامية". ويخلص إلى أن ما ذهبت إليه هذه الإصلاحية الحديثة والمعاصرة في شأن المرأة، لا يدرك المعنى الدقيق للنسوية، إذ هو لا يخرج عن فهم متفاوت الاستنارة للنصوص، ولا يحاول البتة أن "يخرق" هذه النصوص أو يتجاوزها أو يستبدل بها غيرها على سبيل الرفض أو تعديل الفهم. قصارى همّه أن يسوّغ أو أن يبرز أحكام الإسلام "المُشكِلة" على الضمير الحديث والحساسية الحديثة، فيبذل وسعه من أجل أن يجعل أحكام الدين قريبة منهما، أو موافقة لهما. ومنطلقه الأول في ما يصنع "المجموع الفقهي النسائي" التقليدي.
إلا أن اللافت للانتباه خلال العقود الأخيرة هو تبلوّر حركة "نسوية إسلامية"، لمجموعة من المفكرات والأكاديميات واللواتي يمثلن وجها من وجوه "الإسلام المعولم" بحسب توصيف أوليفييه روا، والتي سرعان ما شهدت تبلوّر تيارين رئيسيين ضمنها من ناحية المنهج والتصوّرات والرؤى. ففي أعمال التيار الأول، تشكلت حركة "النسوية الإسلامية" الحقيقة، التي تجعل الإسلام نفسه منطلقاً ومرجعية أولية لها، وتوجّه عملها وفق منهج "إعادة القراءة" للنصوص الدينية وللتاريخ الإسلامي.
أما التيار الآخر من هذه التجربة، فقد وجد في فضاءات الحرية الغربية مجالاً واسعاً للتعبير عن مواقف لفتيات مسلمات، ذوات نزعات نسوية "رافضة" لجملة "التراث الثقافي" الذي نشأن عليه، وجاعلة من أعمالهن الأدبية أو الفكرية، تجسيداً لنزعة يمكن تسميتها بـ"النسوية الإسلامية الغاضبة".
يذهب بعض المهتمين بالفكر "النسوي" إلى أن مصطلح "النسوية الإسلامية" اجترحته الباحثة الأميركية العربية الأصل مارغو بدران عام 1999، كمقابل لمصطلح "النسوية الغربية". لكن جدعان يؤكد أن المصطلح يرجع إلى مطالع التسعينات في إيران، مع مقالات الصحيفة النسائية "زنان" (نساء) التي أسستها في طهران عام 1992 شهلا شركت، وشاركت فيها كاتبات الصحيفة. وقبلهن استخدمت المصطلح كاتبات تركيات هن ياسمين أرات، فريدة أكار، ونيلو فرغول.
بعد سنوات على ظهور مصطلح "النسوية الإسلامية"، وفي أول مؤتمر دولي حول الاتجاه النسائي الإسلامي في برشلونة في تشرين الأول 2005، قدمت أبحاث عديدة تناولت الاتجاهات النسوية الإسلامية دعت إلى المساواة التامة بين الجنسين. وكانت كلمة السر الكبرى في ذلك المؤتمر هي: "ليس الإسلام هو الذي يضطهد النساء، وإنما القراءة الذكورية له هي التي تفعل ذلك. وفي أيلول 2006 عقدت لجنة الإسلام والعلمانية في منظمة الاونيسكو مؤتمراً دولياً في باريس حول "النسوية الإسلامية"، شارك فيه حشد كبير من الناشطات والباحثات في المسألة النسوية.
وبرغم إقرار جدعان بأن مؤتمري برشلونة (2005) وباريس (2006) هما اللذان ساهما على نحو صارخ في تجسّد "النسوية الإسلامية" تياراً، وفي إشاعته في الأوساط والمحافل العربية والإسلامية، فإنه يرى أن جهوداً بارزة مرموقة قد مهدت له، منها كتابات فاطمة المرنيسي، وطارق رمضان، وأمينة ودود، وأسماء برلاس، ورفعت حسن، ومارغو بدران. وهي كتابات نزعت إلى إبراز "نسوية إسلامية" قائمة على "التأويل" وإعادة قراءة النصوص والواقع التاريخي، من دون أن تخرج أصحابها أو صاحباتها من حدود الدين والإيمان. وقد برز خلال العقود الأخيرة، حشد كبير من الباحثات اللواتي أخذن يناقشن أوضاع المرأة ونضالها في وجه النظام الأبوي ولكن من مرجعية إسلامية.
وتمثل فاطمة المرنيسي، عالمة الاجتماع المغربية، أول من أبرز "نسوية إسلامية" قائمة على التأويل وإعادة قراءة النصوص والواقع التاريخي. وجاءت أطروحاتها الأساسية في كتاب أكاديمي تميز بجرأة المعالجة وبأصالة المنهج، هو كتاب "الحريم السياسي: النبي والإسلام"، حيث حاولت البحث عن المسوغات والأسباب التي أدت إلى استبعاد النساء من المجال العام والسياسي، لكن جوهره يتمثل في الاعتقاد بأنه قد تم تاريخياً تشويه وتحريف رسالة النبي وإخراجها عن السياق الأصلي الذي جاءت فيه، وذلك من أجل تعزيز "الأفضلية للذكورية" من قبل العلماء والفقهاء.
أما بالنسبة للكاتبة الأفرو أميركية أمينة ودود فهي أبرز من دفع بإعادة القراءة والتأويل للنصوص الدينية إلى أبعد مدى تم تحقيقه حتى اليوم. ولكونها تتكلم باسم قراءتها لـ"النص" الديني الإسلامي، فإنها لا ترى أنه يتعين على المسلمات أن يمررن بالعلمانية، لكي يفرضن حقهن الرئيسي في المساواة. بل تقترح بدل ذلك "جهاداً" مضاداً للتمييز بين الجنسين، من خلال إعادة تأويل "التراث الديني الإسلامي"، وذلك بفهم النص فهماً حقيقياً، بدل التقوقع في المعاني الظاهرية أو الجزئية للنص. ولا يجهل أحد الصدمة التي أحدثتها في العالم بأسره حين أقدمت على إمامة الرجال والنساء في الصلاة في أيار 2005 في نيويورك وثم في أوكسفورد. لكن قلة تعلم أن هذه الواقعة لم تكن الأولى في التاريخ الإسلامي، إذ أن بعض فرق الخوارج أجاز إمامة المرأة وخلافتها، كالشبيبية.
الوجه النسوي التأويلي المرموق الآخر، هو أسماء برلاس الباكستانية الأصل. وكتابها "المؤمنات في الإسلام" بالانجليزية في مقدمة الأعمال التأويلية الإسلامية في عصرنا، حيث تقوم فيه بقراءة للقرآن تدلل فيها على المساواة المطلقة بين الرجل والمرأة.
ويدرك المشهد النسوي التأويلي الإسلامي قدراً أعظم من الاكتمال والثراء، مع المفكرة الباكستانية رفعت حسن، أستاذة الدراسات الدينية والإنسانيات في جامعة لويسفيل في ولاية كنتاكي. والسؤال الذي طرحته يتمحور حول السبب الذي أدى إلى اعتقاد المسلمين بأن المرأة أدنى مكانة من الرجل. وهي تعزوه إلى الاعتقاد، الذي يرى أن أول مخلوقات الله من البشر هو آدم، وأن حواء خلقت بعد ذلك، من ضلعه، وأن حواء كانت العامل الأول في "خطيئة الرجل" وفي طرده من الجنة. وهي تؤكد أن هذا القول لا أثر له في القرآن، وإنما جاءنا من سفر التكوين. وتدافع حسن عن تفسير غير متصلّب للقرآن، وتؤكد أنه طالما أن القرآن هو كلام الله، فإن الكلام يمكن أن يكون ذا معان عدة. لذا ينبغي أن تكون مقاربة النص القرآني وفقاً للمنهج التأويلي (الهرمينوطيقي)، أي فحص ما عنته كلماته في الوقت الذي نزل فيه.
Facebook
Twitter
Telegram
Print
Email

اترك تعليقاً