أحدث المقالات

   تمهيد

قبل أن نشرع في قراءة التجربة الكلامية للعلامة السيد محمد حسين فضل الله من الضروري الاعتراف بوجود درجة من الغموض العام ـ وليس بالضرورة الشخصي ـ فيما يخص فهم آراء ومواقف وتوجهات هذه التجربة، والسبب في ذلك يعود إلى حداثة ظهور التجربة ظهوراً واضحاً جداً أولاً، ودخول هذه التجربة ثانياً في دوامات الجدل والخلاف الحاد، وتداخل الجانبين السياسي والثقافي في هذه التجربة ثالثاً، ووفقاً لذلك تتسم قراءة هذه التجربة كتجربة الدكتور عبد الكريم سروش في إيران ـ مع فارق ـ وهما تجربتان معاصرتان، تتسمان بدرجة من الغموض العام، بيد أن التشابه الحاصل بين التجربتين هو في درجة تدخل اصحاب التجربة انفسهم في تكوين هذا الغموض، بمعنى أن هاتين التجربتين لا تتمتعان في حد ذاتهما على الصعيد العلني بوضوح كبير في هذه المرحلة على الأقل، وعدم الوضوح هذا يمكن إرجاعه إلى سببين هما:
1 – وجود درجة معينة من اللغة الأدبية في الخطاب الثقافي والكلامي لهاتين التجربتين، فعلى خط تجربة الدكتور سروش نلاحظ مدى استخدامه نفسه الكثير جداً من التعابير الأدبية والجمالية الفارسية، بل ونلاحظ مدى حضور الأدباء والشعراء الايرانيين الكبار في داخل الخطاب الكلامي والفلسفي للدكتور، وكنموذج بارز على هذا الموضوع حضور اشعار المثنوي لجلال الدين الرومي حضوراً كبيراً وبارزاً في دراسته حول التعددية الدينية([2])، وهو ما عابه عليه خصومه وناقدوه في هذه النظرية([3]).
أما على خط تجربة السيد فضل الله فمع كونه شخصاً من الشعراء ولديه بعض دواوين الشعر([4])، وهو أمرٌ ليس بمعيبٍ في حد ذاته أبداً، إلا أن الخطاب الجماهيري الذي طبع تجربته فرض على هذه التجربة درجةً من الابتعاد عن اللغة العلمية الواضحة والشفافة فرضاً منطقياً، وهو ما أدى ـ إلى جانب ان هذا التواصل الجماهيري يتطلب اختزال الأفكار أو انتقاءها أو الاختصار أو التبعيض ـ إلى نوعٍٍ من الغموض في خطاب هذه التجربة.
ومن هنا يلاحظ أن الخطاب العلمي، لا أقل في عصرنا الراهن ـ يتطلب مخاطبين من نوع خاص، وهذا شيءٌ مغاير لما سيأتي معنا من جمهرة علم الكلام، لاننا هنا نتكلم عن الخطاب في مرحلة الابداع والتخصصية لا في اطار الاحتكار والنخبوية، وسوف يتضح معنا لاحقاً الفرق بين هذين الأمرين، فهناك واقع لا مفرّ منه، وهو أن طبيعة المخاطَب تفرض نوعاً خاصاً من الخطاب على المخاطِِب نفسه.
2 – التوتر والتشنّج الذي أحاط كلتا التجربتين لاسباب عديدة، فهذا التوتّر أدّى ويؤدي إلى ظهور اتجاهات افراطية وتفريطية من كافة الاطراف، ويغلّب الشخصيات الحادة على الشخصيات المعتدلة، ويمنح الاولى موقع الصدارة والتمايز فيما يلقي باللائمة على الثانية، ويتهمها بالجبن والتخاذل والحياد اللامبرر وأمثال هذه التعابير.
والأهم من كل ذلك هو طفو القراءات الاسقاطية على السطح نتيجة تسييس الصراع (بالمعنى العام للكلمة) أو تحزيبه وتأطيره، ومن ثم القيام بعمليات فرز وفصل منظّمين، وعندما تطفو القراءات الاسقاطية للآخر فإن هذا يعني طبيعةً غياب الآخر في القراءة وحلول الموقف منه محلّ ذلك، وهو ما سيؤدي إلى امتزاج ما لدى الآخر بما لدى القارىء، ومن هنا بالذات تبدأ عملية الغموض، بين نفي الآخر وإثبات الاول والعكس و…
إذن مهما كانت الاسباب ـ ولا يعنينا تحديدها بالدقة ـ فإن الغموض الذي يتحمّل مسؤوليته ـ في تقدير الكاتب ـ كل من أصحاب وأنصار التجربة ومعارضيها وناقديها معاً… ان هذا الغموض موجودٌ لا محالة مما يصعّب من إمكانية قراءة التجربتين، وهذا هو الفارق بين قراءة التجربة في زمانها، وبين قرائتها بعد طيها مراحلها كاملة.
لكن هذا الغموض يبدأ بالانحسار حينما نخرج من دائرة المفردات الكلامية (أو غيرها) إلى دائرة المنهج، يمكن لصاحب مشروع ان يخفي أو يثير الضباب والدخان حول مفردة كلامية يراها، بيد أنه غير قادر على اخفاء المنهج غالباً، ويمكن لخصوم اتجاه ان يثيروا الدخان حول فكرةٍ ما بيد أنهم لن يتمكنوا من إثارتها ـ امام القارىء العلمي المحايد ـ على مستوى المنهج والاسلوب المعرفي، ولذلك فإن درجة الغموض في هذه الدراسة هنا ستكون ـ تلقائياً ـ أقل نسبياً منها لدى معالجة المفردات التي دار فيها جدل واسع على صعيد التجربتين المتقدمتين من أمثال مفردات تكامل المعرفة الدينية، والعصمة، والرجعة، والتعددية الدينية، وعلم المعصوم، والولاية التكوينية، واحياء الدين، والدين والايديولوجيا، وفهم النص الديني و…
وعلى أية حال سوف نحاول دراسة أبرز التميّزات المنهجية لتجربة العلامة السيد محمد حسين فضل الله ضمن النقاط التالية:
 
1 – النخبوية والجماهيرية في علم الكلام، أو حرية العقل الفردي.
تواجه علم الكلام المعاصر مشكلة جادّة وحقيقية تتمثل في موقفه من العقل العام والعقل النخبوي من جهة، وفي تحديده النخبوية الكلامية من جهةٍ أخرى، فالموقف المعتزلي المعروف كان يقضي بضرورة تحصيل كلّ فردٍ يقينه الخاص القائم على الأدلة والوسائل التي يقتنع بها([5])، كما أن الموقف الشيعي من هذه القضية كان يقضي ـ هو الآخر ـ برفض التقليد منطلقاً في المسائل العقائدية ما دام التقليد لا ينتج قناعة ذاتية([6])، وهذا الموقفان يستبطنان التأكيد على الاعتراف بالعقل العام ـ أي عقول الأفراد ـ كحاكم محترمٍ معترفٍ به في القضايا العقائدية دون وجود أي مانع يحول دون ترشيد هذا العقل أو ذاك أو وضع مقارنات ومفاضلات بينهما.
لكن المشكلة التي واجهت علم الكلام المعاصر (والكلام القديم بدرجة أخرى وبشكلٍ آخر) انطلقت من طبيعة المواقف العامة المعارضة للنخبويين الكلاميين من رجال الدين، فبرزت ظاهرتان هامتان في المجتمع الإسلامي:
أ ـ الظاهرة الأولى: وقد تمثلت في ظهور تيارٍ منفصلٍ عن المؤسسة الدينية أخذ بممارسة نوعٍ من التخصصية في المعارف الدينية، وتخرّج ابناؤه من المعاهد الدينية الجامعية أو انفصلوا عن مؤسسة رجال الدين بعد ان انتموا اليها أو كانوا يدورون في فلك هذه المؤسسة ورجالاتها لكنهم أبدوا فيما بعد معارضةً لتوجهاتها، وقد سعى هذا التيار الى تشكيل نوع من النخبة المتدينة (وغير المتدينة) أخذت بممارسة البحث والدراسة في موضوعات دينية فلسفية وكلامية وغيرها، وقد برز من بين هؤلاء الدكتور نصر حامد ابو زيد، والدكتور حسن حنفي، والدكتور علي شريعتي، وعلي عبد الرازق، والدكتور عبدالكريم سروش، والاستاذ أحمد الكاتب، والدكتور رضوان السيد، والدكتور محمد شحرور، والسيد تقي زاده وغيرهم، ولظهور هذا التيار اسبابه ومبرراته الداخلية والخارجية التي لا تهمّنا فعلاً هنا.
هذه الظاهرة هزّت أركان علم الكلام بوضعه السائد وتركت تأثيراً كبيراً جداً حتى على الاوساط الداخلية لمؤسسة رجال الدين، أو لنقل لمؤسسة الكلام الرسمية، والشيء الذي كان يحصل هو أن الآليات والادوات والانماط الفكرية التي كان يستخدمها هذا التيار الجديد اختلفت اختلافاً كبيراً أحياناً ومتوسطاً أحياناً أخرى عن النمط المدرسي المتداول، وقد اتهم هذا النمط الجديد من قبل المدرسيين بأنه نمطٌ غير دقيق ومتسرّع وسطحي ومتأثر بالغرب وغير تحقيقي، وقد أثارت هذه النقطة بالذات اشكالية الاعتراف بالعقل غير النخبوي بالمعنى الخاص للنخبوية لدى مؤسسة الكلام الرسمي، وتمّ تدريجياً سحب المشروعية من هذه الفئة الجديدة، وانطلقت مقولات تنفي الأحقّية لهذه النخبة الجديدة في البت في قضايا الدين، لأن النخبوية والتخصصية بنظر المدرسيين هي نخبوية تتطلب مساراً خاصاً من التفكير والتطوّر مقيداً ضمن آليات كلاسيكية جرى تداولها سلفاً.
ب ـ الظاهرة الثانية: لقد أدّى تطور الانسان المسلم والعربي عقلياً ومعرفياً إلى بروز تساؤلات جديدة عنده، وقد انطلقت هذه التساؤلات من فضاء ثقافي تأثر احياناً بالغرب والعلوم الحديثة، وكانت البنية المنطقية والمرجعية الفكرية لهذا النوع من التساؤلات مختلفة في الشكل والجوهر احياناً كثيرة عن بنية ومرجعية التفكير المدرسي التي اتخذتها مؤسسة الكلام الرسمي، فعلى سبيل المثال يُعد العثور على نصٍّ دينيٍّ صحيح السند أو نصين كذلك يحكيان عن فكرةٍ عقائديةٍٍ ما فاصلاً منطقياً للنزاع العقائدي (أو على الأقل لبعض الموضوعات العقائدية كالموضوعات الفرعية)، فلو قدّم أحد الاطراف هذا النص وأكّده من الناحيتين السندية والدلالية لأدى ذلك إلى تدعيم موقفه اكثر امام خصمه، ولتراجع الخصم خطوةً الى الوراء، لأن النص الديني ولو غير اليقيني يمثل مرجعيةً يمكن الأيلولة اليها للتحاكم، فهذه الآلية المنطقية هي آلية اقناعية قوية لدى الكلام الرسمي، والذي حصل هو أن المتكلم الكلاسيكي تصوّر ان هذا النوع من المرجعيات يفترض ان يشكل حاسماً للخلافات العقائدية أو غيرها كما اعتاد هو في الكلام أو كما درج عليه في العلوم الفقهية، لان الجوّ الثقافي العام الذي عاشه هذا المتكلم قد فرض نوعاً من السلطة لهذا النوع من المرجعيات، ومن هنا بدأت ازمة تخاطب تبدو في الأفق، لان عقول الافراد التي نزعت نحو عقلانية محدثة غربية قد فقدت الثقة لسبب أو لآخر (لا نريد الآن تقييمه) بهذا النوع من المرجعيات، وهو ما أدى الى فقدان المتكلم الرسمي موقعيته وحضوره ومرجعيته او جزءاً كبيراً منها في الوسط الكلامي العام، وتطوّر الوضع الى ان بدأت النخب الجديدة التي تكلمنا عنها بالحلول محل النخب الكلاسيكية، وحيث كانت النخب الجديدة نفسها موضع شك وعدم ثقةٍ معرفيةٍ (وأحياناً أخلاقية) من جانب النخب الكلاسيكية فبطريقٍ أولى كانت الافراد المنضوية في فلك هذه النخب موضع شكٍّ كبيرٍ لدى الكلام الرسمي.
ومن هنا بدأت أزمة الثقة تظهر بين علم الكلام وبين العقل الآخر، فواجه علم الكلام اشكالية منح الشرعية لعقول الافراد بمن فيهم النخبويون الجدد، فالصيغة التي كان يحملها هذا العلم ترفض التقليد والظن والاتباع في علم الكلام، أي انها تعتبر اليقين الكلامي يقيناً شخصياً لا رسمياً، وليس الحال كالفقه وفروع الدين يكفي فيها يقين الرسميين والعلماء، لكن علم الكلام من جهةٍ أخرى شعر بالقلق من تنامي التفكير الآخر غير المستساغ له فرفضه عملياً، ومن ثم رفض شرعية الفكر الآخر وأخذ ينفذ فيه التفكير القائل بأن العقائديات لابد هي الاخرى ان يرجع فيها الى رجال الدين لا تماماً كالفقه، وانما بمعنى انه من غير الصحيح البتّ في الاعتقاديات دون الرجوع الى هذه الطائفة من الناس، وهو ما ترك تأثيرٍاً على قضية أخرى سنأتي قريباً على ذكرها، إن شاء الله تعالى.
وقد بدأت بذور خطوة الاعتراف بالعقل الفردي في الاعتقاديات عند الشهيد محمد باقر الصدر، وبدرجة اكبر على مستوى علم أصول الفقه، فقد قام الصدر بتأليف كتاب "المعالم الجديدة للأصول" كمعبّر عن قناعته بضرورة فك الطوق عن هذا العلم في نطاق آلية التفكير الاصولية عند الشيعة([7])، وكانت هذه بداية اشراكٍ للشرائح المثقفة الاُخرى في هذا العلم بدرجةٍ من الدرجات.
والعلامة الطباطبائي بالرغم من أنه ـ كالشيخ محمد رضا المظفر في عقائد الإمامية وكاشف الغطاء في أصل الشيعة وأصولها ـ كان من السبّاقين لنشر المعرفة العقدية بين الناس عامةً، كما يشهد بذلك مشروعه التبسيطي الديني في علم الكلام وغيره([8])، والذي هدف منه نشر المفاهيم العقدية الإسلامية في الغرب قبل غيره، لكنه لا يمكن تصنيف جهوده بالجماهيرية، لأن هذه الجهود كانت تلقينيةً ولم تكن إشراكاً وإسهاماً للآخر أو دعوةً لهذا الإسهام تماماً كما هو الحال في الرسائل العملية الفقهية، لكنها على أية حال كانت خطوةً جديدةً في مرحلة البدايات التي تخرج علم الكلام من حدوده المحصورة.
لكن العلامة السيد محمد حسين فضل الله مثّل مرحلة متقدّمة على هذا الصعيد، فقد نظّر من جهة لعقائديات غير رسمية، أي انه لم يؤمن في علم الكلام بنوع من الاورثوذكسية الرسمية، وكان أهم إسهام قام به هو تخطي حدود النخبوية في الخطاب العقائدي الى نوع من الجماهيرية، ايماناً منه بحق الفرد ـ النابع من احترام عقله ـ في تقرير مصيره العقائدي، فالسيد فضل الله لم يخاطب في علم الكلام طبقات خاصة او معينة، وانما خاطب عامّة الناس من خلال طبيعة الوسائل التي استخدمها ـ وما يزال ـ وهي وسائل اتصال عامة وعالمية كالفضائيات والراديو والتلفزيون والانترنت والمنبر والخطابة…
لقد رفض السيد فضل الله بشدّة حجب علم الكلام عن الجماهير، لانه اعتبر أن هذا العلم هو بالدرجة الاولى علم جماهيري وليس علماً نخبوياً، بل إن نخبويته ما هي سوى نتاج تاريخي للتضخمات الكمّية فيه، وهي تضخمات سنرى ان السيد فضل الله لا يؤمن بأكثرها انطلاقاً من رفضه للفكر الفلسفي وتأثيراته في تأويل النص أيضاً.
ويلعب البعد الاجتماعي والحركي لعلم الكلام عند السيد فضل الله دوراً مهماً على صعيد جمهرة علم الكلام وإخراجه من ابراجه العاجية وأسواره العالية ونزعته الفوقية ولونه الداكن…، تماماً كما هي النزعة العلم اجتماعية التي قرأ فيها الدكتور علي شريعتي الدين عموماً، وكما هو منحاه العملاني في هذه القراءة([9]).
لكن الشيء الذي يمكن ان يمنحنا معرفةً جديدةً حول هذه النقطة عند العلامة فضل الله هي طبيعة الخطاب العام الذي امتاز به واشتهر مما اشرنا له في مطلع هذه الدراسة، فهذا النوع من الخطاب ترك اثراً بالغاً في عقل السيد فضل الله نفسه، فطريقة السؤال والجواب الشفاهيين بين عالم وجاهل ـ لا جلسة حوار بين علماء ـ لا يمكنها عادةً ان تنتج خطاباً نخبوياً، وهذه الطريقة التي أحاطت الكثير من نتاجات فضل الله([10]) صاغت بصورة طبيعية ومتوقعة منظومته الكلامية، فعندما يريد السيد فضل الله ان يقرأ مسألةً عقائديةً فإن قراءته لها (أي تلك القراءة التي تصلنا) ستكون بالطبع متناغمة وطبيعة وسائل الاتصال الثقافي التي يستخدمها لنقل فكره، وتغلب الطابع الخطابي (أي الخطاب لا الخطابة) على حركيات السيد فضل الله صاغ عنده كلاماً يتصل بالخطاب الاسلامي العام، وهو ما ادى الى انحسار النخبوية في تفكيره ككل ومنه التفكير الكلامي.
لا يراد هنا الانقاص من شأن النتاج الكلامي لفضل الله بقدر ما يراد التأكيد على ان هذا النتاج هو نتاج تواصل مع الجماهير، ومن الطبيعي ان تنحسر في هذه الاجواء فرص النخبوية، ويتسم الموقف العام بنوع من الجماهيرية وعقول الأفراد.
ومن هنا نستطيع أن نرى بوضوح وبصورة منطقية النتيجة التي ارتآها السيد فضل الله في موضوع عقل النخبة او عقل الفرد.
بل لو تجاهلنا هذه المرحلة من تفسير السياق الذي تولّدت فيه هذه الفكرة لوجدنا أن ان هذا الموضوع يواجه اشكالية اساسية يقع فيها علم الكلام المعاصر، وهذه الاشكالية تكمن في ان علم الكلام المعاصر لم يعد على الحال التي كان عليها في بدايات ظهوره على غرار ما هو الحاصل على صعيد كافة العلوم الاسلامية، ذلك ان علمية المعارف الدينية تعدّ ظاهرةً متأخرةً عن القيم والمعارف الدينية نفسها من الناحية الزمنية ومن ناحية طبيعة الاشياء، فالأصول الاعتقادية التي جاء بها الاسلام على سبيل المثال كالتوحيد والنبوة والآخرة و… تختزن بعداً خبرياً، أي انها في الحقيقة مجموعة من القضايا في نهاية مطافها، لكن مجرّد وجود مجموعة قضايا معينة لا يعني وجود علم يتعلق بهذه القضايا، لان مرحلة ظهور العلم تستدعي بروز مجموعة عناصر تاريخية ومنطقية تحوّل هذه القضايا من تبعثرها الى انضمامها المنطقي وترتيبها الذهني، وهذا معناه ان العقيدة الاسلامية سوف تنفصل بهذا التصوّر عن علم العقيدة الاسلامية، لان علم العقيدة يتخذ من القضايا والموضوعات العقائدية موضوعاً واساساً لعمله وفق اقتضاء الموضوعية لها في هذا العلم، فلا يمكن افتراض وحدة بين العقيدة والعلم المختص بها، وهذا الأمر يسمح لنا بالاطلالة على العقيدة وعلمها إطلالة تاريخية، وهذا معناه ان العقيدة الدينية كانت موجودةً في الصدر الاول والمرحلة النبوية دون ان يكون هناك وجود لعلم مختص بها يحتوي خصائص العلم كفرعٍٍ معرفيٍّ حتى لو فرض وجود بذور لهذا العلم تشتمل تساؤلات صدرت عن الصحابة فيما يخص الصفات الالهية كما ورد في بعض الحوادث التاريخية زمن حياة الرسول (ص)، فمرحلة عقيدية العقيدة أسبق ـ وبالتالي ـ مختلفة عن مرحلة علميتها.
والذي حصل هو أن النسق النبوي (إن صح التعبير) للحديث عن العقيدة كان من الطبيعي ان يختلف عن النسق المتأخر الذي اعقب ظهور علم العقيدة، ونظراً لتعاطي العلماء والباحثين مع الموضوعات العقائدية في الفترة المتأخرة تعاطياً علمياً ادى ذلك إلى بروز طبيعي ومترقب لنوعٍ من النخبوية في التفكير الكلامي، فنخبوبة هذا التفكير هي نتيجة طبيعة لعلمية العقيدة (وربما هناك اسباب اخرى دخيلة ايضاً)، أي انني عندما اتصل بالعقائديات بواسطة شبكة علمية مفاهيمية فمن الطبيعي ان تكون قراءتي لها علمية ونخبوية، لان هذه الشبكة هي نتاج تراكمات معرفية لا يطلع عليها كلّ الناس.
وهذا ما يجرّنا إلى تحليل منهج العلامة فضل الله في التعاطي مع العقائديات من هذه الزاوية، فهذا المنهج يتجاوز عملياً المرحلة التاريخية لعلم الكلام والتي كوّنته كعلم من العلوم، وبالتالي العودة بهذا العلم الى المنطق النبوي الذي كان يعيشه في مراحله الأولية، لان خطاب الجماهير لن يخرج عادةً عن احد شكلين:
أ ـ تنازل عن الصيغة العلمية للفكرة ومن ثمّ جمهـرتها بتحويلها الى قضية مفرّغة من نسق علمي (بمعنى العلم لا بمعنى انها غير علمية).
ب ـ ابتكار صياغات علمية غير نخبوية.
أي بين طريقتين في التفكير، طريقة تتنازل عن المهمة العلمية التخصّصية، وأخرى تحاول ان ترفع الجماهير الى مستوى المعرفة العلمية.
وبعبارة اوضح هاتان طريقتان يجب على علم الكلام ان يحدد موقفه منهما، هل هو علم تخصصي كباقي العلوم الطبيعية كالفيزياء والكيمياء والرياضيات أم انه تناولات ثقافية جماهيرية دون ان يتم تبلوره في كينونه علمية؟ ومن الطبيعي اننا لا نحكي هنا عن صياغات لفظية تبسط فكرة أو تعقّدها بقدر ما نحكي عن نمط تفكير مارسه العلامة فضل الله في نطاق نتاجاته، والسؤال هو اذا اردت ان افكر في قضية كلامية ولنفرضها الولاية التكوينية للمعصوم او موضوعة الرجعة فكيف افكّر؟ هل هناك خارطة مسبقة انطلق في التفكير منها؟ هل اقوم بوضع فرضية ثم اقرأ التجارب الميدانية وأحاول معرفة ما اذا كانت هذه التجارب تعزز هذه الفرضية أو لا، على طريقة العلوم الطبيعية؟ هل اتعامل في غرفتي وعلى مكتبي وبيدي القلم والاوراق والكتب او أي وسائل اتصال متطورة … هل اتعامل بطريقة منظمة مضبوطة محكمة صارمة محددة سلفاً كما يفعل الكيميائي في مختبره، لان أي خطأ قد يحدث كارثة احياناً ام أنني اخرج من هذا الاطار المتحكم القاسي واطلق الافكار في ذهني ثم اميل الى واحدة منها؟ افترض فكرة سليمة وأجد لها بعض المؤيّدات ايجاداً عفوياً ثم اميل وارجح دون استنفار للمحتملات او استقصاء للفروض؟ هل اجالس مجموعة من الاصدقاء ونتبادل الرأي في فكرةٍ واخرج بنتيجةٍ ما، أم أمرّ بمعاناة فكرية واستنـزاف للجهود في المتابعة والملاحقة والتقصّي؟ هاتان هما الطريقتان.
والسؤال ما هو موقف العلامة فضل الله في نتاجاته من هاتين الطريقتين؟ (نؤكد على اننا نحاكم السيد فضل الله كنتاج ولا نُعني بما يمارسه شخصياً في تفكيره).
والجواب هو ان قراءة نتاج فضل الله وملاحظة جماهيرية تعاطيه مع الافكار ترجح أنه يتبع الطريقة الثانية، فنحن لا نملك على مستوى نتاجه الكلامي الا مقداراً ضئيلاً جداً من النماذج التي تؤكد المنهج الاول، ومن هنا قلنا بان السيد فضل الله من الطبيعي ان يتخذ موقفاً ايجابياً من جمهرة علم الكلام واخراجه من اسوار التخصصية العالية.
ويمكن لتوضيح الفكرة التي نحن بصددها القيام بتطبيق مقارن ما بين السيد فضل الله والشهيد محمد باقر الصدر، سواء على مستوى موضوع وجود الله تعالى، أو على مستوى قضايا الإمامة (والداخل الشيعي) مما خاض فيه السيد الصدر نفسه، فإن أبسط نظرة تعطي القارئ إحساساً بوجود فرق في المنهج والآليات وتجعله يرجح تخصصية منهج السيد الصدر على تخصصية مفترضة عند السيد فضل الله.
وحتى الشهيد مرتضى مطهّري الذي غلبت الخطابة وأساليب المحاضرة على نتاجاته التي جُمعت فيما بعد كان يمتاز بمنطق (وخطاب) علمي تخصصي أكثر من السيد فضل الله.
 
علم الكلام وإشكالية الخطاب النخبوي
لكن اذا تجاوزنا السيد فضل الله كيف يمكن لعلم الكلام ان يوفق بين حاجات التخصص وضرورات الجمهرة؟ وهل سبق له ان وفق في التوفيق؟ ونعني بكلمة "وفّق" ان علم الكلام نجح في الحفاظ على دقة الجانب التخصصي فيه كعلم من العلوم المنضبطة في محددات ومصادرات ومنهج، وفي نفس الوقت استطاع اشباع حاجات الجماهير دون ان يسقط في أتون عمليات تسطيح المعرفة او تنصيفها وتربيعها، كما ودون ان يقتصر دوره مع الجماهير على النشر والتبليغ القائمين على سياسة التلقين.
والعنصر المميّز لعلم الكلام عن اغلب العلوم الدينية وغيرها هو أن المعادلة في علم الكلام تقع بين العقل الفردي والحقيقة العقائدية، أي أن هذا العلم يعتمد على قيام كل فرد بالتوصل بطريقته الى القناعة بمجموعة معتقدات يلتزم بها، وبالتالي فعلم الكلام يتميز عن الفيزياء والكيمياء، لان عامة الناس (نقصد غير المتخصصين) لا تعبر في هذين العلمين عن قوّة مساهمة في صنع معرفة كيميائية او فيزيائية، وبالتالي فمن يمارس عملية الفعل والصنع انما هم العلماء الطبيعيون المتخصّصون في هاتين المادتين المعرفيتين، واذا كان ثمة مساهمة لعامة الناس فهي لا تعدو ارشاد او اعانة الباحث الطبيعي في بحثه على طريقة الشورى غير الملزمة لولي الامر في الفكر السياسي الاسلامي، بل الأمر كذلك على صعيد علمٍ كعلم اصول الفقه أو علم الحديث والرجال، فهذه العلوم وفق ما تنبني هي عليه من قضايا ومعطيات لا يساهم عقل عامة الافراد في صنع شيء اساسي فيها الا في دائرة اعانة المتخصّص في عملية الصنع والابداع، بل الامر يتعدّى ذلك حتى الى علم كعلم الفقه وفقاً للنظرية المعروفة القائلة بالتقليد ورجوع الناس الى الفقيه لمعرفة احكام دينهم، فالناس لا يقومون ـ في هذا العلم ـ بلعب دور المساهم في صنعه بهذا المعنى للمساهمة، والمساهم الجوهري هم المختصون بهذا العلم القادرون على البت في قضاياه، فيما دور الناس هو الاستماع والإنصات والتقيّد بما يقوله الخبراء.
ولا نقصد من ذلك الحديث عن فردانية في الفكر والعقل الفقهي أو الاصولي او الحديثي او … بل نحن نؤمن ونؤكد على العقل الجمعي في مثل هذه الامور، بمعنى ان مسارات حركة هذه العلوم تعتمد على حركة جمعية متكاملة متظافرة تشكل المكوّن الكلي لها.
لكن كما قلنا علم الكلام مختلف عن هذا الوضع او على الاقل هو يقول لنا انني علم مختلف، ذلك انه علم عقدي يهدف الى ان تقتنع الناس بقضايا العقيدة ـ أي عقيدة ـ وهو لا يكتفي بمجرد الاذعان العملي من طرف عامة الناس لمتخصّصي هذا العلم عندما يتكلم عن اقتناع الناس بعقائدياتهم، بل يصر على وصول الانسان ـ كل انسان ـ الى حالة استقرار نفسي بالقضية العقدية التي ينتمي او يريد ان ينتمي اليها، بقطع النظر عن الطرق التي توصله الى هذا الاستقرار، فحتى لو كان تقليده واتباعه لمذهب ديني معين يوجب قناعته بعقائديات هذا المذهب فهذا يكفي، لا لأن التقليد جائز في العقائديات بل لانه تحوّل من مضمون مستقل ذا ناحية موضوعية الى مجرد طريق ووسيلة وجسر للوصول الى القناعة، وعملية التجسير هذه تخرج التقليد عن لعب دور مستقل.
حسناً، اذا كان الامر كذلك فإن علم الكلام غير قادر ذاتياً على ايجاد نوع من النخبوية التي تفرض تجاهل شرائح المجتمع الاخرى، أي ان علم الكلام ليس بمقدوره ان يرفض او يعنّف أي محاولة تفكير كلامي من طرف أي شخص كان لا لسبب اخلاقي بل لسبب معرفي ارتكز هذا العلم عليه، وهذا معناه ان جمهرة علم الكلام ـ كما ارتآه السيد فضل الله ـ هي النتيجة الصحيحة والمنطقية للرؤية المعرفية لهذا العلم نفسه، بالتالي فليس من الصحيح التشكيك او سلب المشروعية عن تفكير أي شخص كان على هذا الصعيد، لا بل المطلوب حينئذ تفعيل دور هذه الجمهرة ونشر طرائق تفكير هذا العلم ـ لا انجازاته فحسب ـ في اوساط المجتمع بكل طبقاته وشرائحه، ومعنى هذا انه من الضروري الاعتراف بحرية التفكير على هذا الصعيد ما دام تفكيراً ومعرفة وجهداً علمياً.
لكن المشكلة التي تبرز ـ وقد تقدمت ووقع فيها الى حد ما نفس السيد فضل الله ـ هي انه كيف نحافظ على الناحية العلمية في هذا العلم؟ أي كيف نمنحه الجودة والدقة والتخصصية والتطوّر العامودي دون تشكيل نخب متخصصة يفرض تشكيلها عقلاً نخبوياً بالمعنى السلبي للكلمة أي ذاك العقل الاحتكاري؟ وكيف ينبغي لهذه النخب ان تمارس دورها؟ وهل من المنطقي افتراض المساواة بين النخب وجهود عامّة الناس على صعيد هذا العلم؟
في الحقيقة هذا الأمر لا يمثل مشكلةً كبيرةً، فبمقدور علم الكلام ان يمارس دور الجهد العلمي الناضج بتشكيل نخب متخصصة تفكر بعقل تخصصي، لكن من دون ان يمارس عملياً نوعاً من اقصاء الفكر الآخر إيماناً منه برؤيته المعرفية وليس فقط الحقوقية والأخلاقية (لأن كلامنا هنا معرفي وليس حقوقي أو أخلاقي)، فبدل ان يقوم هذا العلم ـ كما يحاوله الكثير من العلماء اليوم ـ باحتكار الفكر لصالح جماعة يعترف معرفياً ـ ومن ثم اخلاقياً وحقوقياً ـ بحقّ أي فئةٍ اخرى مهما كانت متدنية المستوى بالتفكير والتوصل الى نتائج، وهذا معناه في العمق التخلي عن احتكار الحقيقة من جهة والايمان بجمعية التفكير العقدي من جهةٍ اخرى، دون ان يعني كل هذا رفع اليد عن المعتقد الصحيح لدى أي إنسان، والتعددية المعرفية (بالمعنى الإيجابي للكلمة الذي لا يتورّط في النسبية الواقعية او النسبية المعرفية) يمكنها هنا ان تساهم في تجويد اداء علم الكلام على هذا الصعيد.
وفي النتيجة ومع تقدير المنحى الذي نحاه السيد فضل الله في جمهرة علم الكلام بالمعنى الذي قصدناه، غير اننا نلاحظ عليه نوعاً من الافراط على هذا الصعيد تجلّى في غياب الخطاب الأكاديمي المستقرِئ وحلول محاولات غالباً ما كانت منقوصة بالنسبة للقارئ أو المخاطب العلمي.
نعم تبقى مسألة اللغة الكلامية وهل هي لغة نخبوية او جماهيرية؟ وهو أمرٌ آخر لا علاقة له فعلاً بالنقطة المثارة هنا.
 
2 ـ الجرأة المعرفية وكسر حاجز الرتابة
في تاريخ كل علم ـ حسب الظاهر ـ مراحل طفرة وقفزة وانطلاق يزدهر فيها هذا العلم، كما هناك في المقابل حقبات رتابة وضمور وكساد تشل فيها حركته، ولهذا الامر اسباب كثيرة سياسية ومالية واجتماعية وتربوية…
واذا جاز ان نقرأ علم الكلام من هذه الزاوية وجدنا ان بذور نهضة جديدة وانطلاقة متجددة لهذا العلم كانت مع الافغاني وعبده واللاهوري والطهطاوي وغيرهم وصولاً في التنامي التصاعدي للصدر والمطهري وحنفي وغيرهم…، لكن المشكلة في الثورة العلمية داخل النطاق الديني هي مشكلة نفسية إيمانية قبل ان تكون مشكلة معرفية علمية، فالحس الديني بطبعه حسٌّ مرهفٌ ازاء قضاياه، وهو لذلك يتوجّس من أي تبدلات قد تطرأ ربما تضر ـ ولو على المدى البعيد ـ بقضايا الدين والتدين، وهو من هنا بالذات قد يقال انه بطيء الحركة معرفياً، لا بمعنى انه كسل مستقيل بل بمعنى ان طبيعة التفاعلات الذاتية فيه تعدّ تفاعلات مؤطرة ومحددة، ومن هنا حصلت انفجارات وثورات علمية دينية عندما فرض الآخر ذاته وفكره على الدين فاضطر لرفع مشكلة أو درء خطر أدّيا به الى إعادة انتاج في نهاية المطاف.
لا يمكننا ـ اذا كنا واقعيين ـ أن نلوم هذه الظاهرة، لان علمية الدين ـ كما اشرنا فيما يخص علم الكلام ـ لا تقف لوحدها في الميدان، بل هناك الى جانب هذه العلمية احاسيس ومشاعر ويوميات واجتماعيات وسلوكيات و… فليس من المنطقي محاكمة علم ديني كعلم الكلام كما نحاكم علم الطب أو الفيزياء الحديثة أو علوم المعلوماتية، ولا نقصد أنه ليس لهذه العلوم تأثيرات ميدانية، بل نعتقد أنه ليس معها (لا مؤدّاها) عوامل غير علمية بهذه القوّة والفعالية.
ومن هنا من الضروري ـ اذا لم نكن نريد الاعتراف بمجموعة العوامل غير العلمية هذه… ـ من الضروري أن نقدرها دون ان نمارس بحقها نوعاً من السخرية والاستهزاء أو الاحتقار أو التغاضي…
لكن مشكلة هذه القضية تكمن عندما تتضخم العوامل والظروف غير العلمية لتتجاوز حجمها الطبيعي فتعيق الزاوية العلمية وتشل حركتها وتقف سداً منيعاً دون ممارسة نوع من الازدهار والتطوّر([11]).
والشيء الجوهري على الصعيد الديني ـ وخصوصاً على صعيد علم الكلام ـ هو أن الظاهرة الدينية ككل تتصل بشكل كبير بالظاهرة التاريخية، لا يمكننا فصل الدين عن التاريخ، واذا ما فعلنا فإن الدين سيفرّغ من مضمونه، لنأخذ مثالاً بسيطاً الشهادة الثانية لمحمد بانه رسول الله، اليست تختزن وضعاً تاريخياً؟ أليس محمداً (ص) كيان تاريخي يعود إلى أربعة عشر قرناً؟ هل يمكننا أن نتشهد الشهادة هذه دون ان نتبلّل بالمياه التاريخية؟ وهكذا الحال في صلب المسيح وقيامته في الديانة المسيحية…
من الغني عن التعريف ان التاريخ جزء لا يتجزء من العقل والتفكير الديني عموماً وهذا امرٌ لايبدو ان ثمة من يناقش فيه.
هذا الحضور التاريخي في الدين يفرض على أي متدين ـ بالمعنى العام للكلمة ـ ان يديم النظر إلى الوراء زمنياً، والذي يحصل هو توسعة المتديّن من حجم التاريخ ونطاقه، لانه ما دامت القيم والاصول تاريخية، أي انها في الماضي اذن فكل ماضٍ ديني من الممكن ان يختزن الاصول والقيم، وهذا معناه توسعة العقل الديني لنطاق التاريخ ليبدأ من حدود التجربة النبوية في الاسلام فيمتد إلى الصحابة ثم التابعين أو من تجربة الأئمة (ع) إلى تجربة الفقهاء والعلماء المتقدمين، فيتسع نطاق التاريخ ويُخلع عليه باجمعه لباس القداسة والقيمة، وهنا تبدأ المشكلة أو الاشكالية، تتراكم صور القداسة والقيمة يوماً بعد يوم لتحوّل هذا التاريخ ـ بمعناه الجديد ـ إلى خط أحمر فيصبح محظور التجاوز أو أحياناً محظور النقاش.
وفي هذا الجو يصبح من الصعب جداً على علم الكلام ـ وأي علم ديني آخر ـ أن ينهض ويقود ويصنع ويمارس فعلاً وانتاجاً جديدين، لان أي جهد فكري سوف يكون عرضةً للقضاء عليه في المهد اذا ما تجاوز هذه الخطوط الحمراء المصطنعة، ومن هنا تظهر حاجة ماسّة للقيام بخطوةٍ ما تخترق هذه الخطوط والحواجز لتكون مقدّمة لاطلاق الحرية للعقل في التفكير والإنتاج، ولا يبدو أن ثمة من قام بذلك على صعيد علم الكلام الشيعي المعاصر بقدر ما فعله العلاّمة السيد محمد حسين الطباطبائي، وأخيراً السيد محمد حسين فضل الله عملياً، فقد كسر (فضل الله) هذا الحاجز النفسي والمعرفي، وأكد من الناحية النظرية ـ ومراراً ـ بأن الماضوية لا تمنح صاحبها أية قداسة أو فوقانية([12])، ولم تقتصر القضية عند السيد فضل الله على هذا الأمر ـ أي البعد النظري في المواقف ـ بل تعدّته إلى ترجمة عملية فقد قام بنفسه باختراق هذا النوع من الحواجز دون ان يأبه بشيء في بعض الأحيان([13]).
وحتى لو فشل السيد فضل الله في دفع الجسد العلمي الديني العام في اتجاه المزيد من تقدير العقل الحالي، لكن الظروف الثقافية العالمية وعولمة الثقافة سوف تصبّ ـ على المدى البعيد ـ في صالحه أو صالح هذا النوع من المشاريع، لان درجة الوعي العام بدأت بالاختلاف ربما وصولاً إلى حالة من الافراط، وهذا ما يعني ان المؤسسة الدينية سوف تُمنى بعزلة قاهرة إذا لم تعترف بهذا الواقع أو تواكبه حتى لو خسرت بعض القضايا والمواقع.
ولم يقتصر السيد فضل الله على الجانب الكلامي في مشروع الحدّ من تأثيرات هذا النوع من الخطوط الحمراء، بل يبدو أنه كان إطار عاماً يحكم طريقة تفكيره، وهذا معناه ان عملية التغيير لم تنطلق في هذه التجربة (تجربة السيد فضل الله) من منطلق كلامي، وانما من منطلق معرفي عام، فعلى صعيد علمي الفقه والاصول كان الامر كذلك، فنقد العلامة فضل الله للولاية التكوينية، والرجعة، وعلم المعصوم، واستبدال ذلك ببشرية النبي أو الإمام كان يقابله على الصعيد الفقهي والأصولي حكمه بتوسعة الحق الجنسي للزوجة، وجواز استمناء المرأة، واللعب بآلات القمار بلا مقامرة، واستماع الغناء غير المثير، ورفض نظرية تقليد الحي، والأعلم، وعدم تخصيص العام بمخصص بعيد زمناً، ورفض كل الآلية العقلية الفلسفية في علم الأصول وغير ذلك مما أشرنا له في الهامش، وهذا يعني أن الصورة لم تكن مجزّأة وهي نقطة ايجابية أخرى يمكننا أن نضيفها هنا، لأن التجزئة في مثل هذه القضايا لا تنتج عادةً سوى جُزُر من المشاريع لا تلبث فيما بعد أن تزول، فخدمة علوم اخرى من الضروري أن نعرف بأنها تساهم في خدمة علم الكلام، وهذا الفصل بين العلوم انما هو مرحلة ولا يعني انه فصل واقعي نهائي إلا بمقدار معين، وهذا هو ما نحتاجه فعلاً، أي تعميم الخطوة حينما تكون قابلة للتعميم، لان هناك عناصر مشتركة بين كافة العلوم الدينية لا يمكن القيام بإصلاح جزئي لها في دائرة علم واحد، لان هذا الاصلاح الجزئي ما يلبث أن يتلاشى امام ضغط الواقع الموجود في العلوم الاخرى التي لا تنفصل عن هذا العلم، أي ان المطلوب نوعٌ من الراديكالية والثوروية العقلانية في هذا الخصوص وعلى هذا الصعيد بالذات، وهو ما يمكن القول بان تجربة السيد فضل الله قد حققته بدرجةٍ معينةٍ.
وانما نقول بدرجة معينة لأن الوضع السياسي والاجتماعي اجبر السيد فضل الله على التراجع أو على اقل تقدير المراوحة، وفي ظن كاتب هذه السطور ان السيد فضل الله كان يهدف الى خطوات اكبر من هذه وأكثر ايغالاً في العمق لكنه لم يستطع بفعل مجموعة مؤثرات خارجية لا تعنينا.
 
دور التاريخ في الفكر الكلامي
لكن في المقابل يحقّ لنا إثارة التساؤل حول مدى صحة النزعة المفرطة في التنكرّ للماضي بما فيه ذاك الماضي الذي استجد عقب التجربة الأم وهي التجربة النبوية (المقدار المتفق عليه بين المسلمين)، وحصيلة تساؤلنا هل من الخطأ على مستوى علم التاريخ ان نقرأ حقبةً تاريخيةً ما ثم نفصلها عن كل الحقبات والظروف التي احاطت بها واعقبتها؟ هل يستطيع مؤرّخٌ أن يتناول حادثة اجتماعية كبرى ليقرأها ويتعرّف عليها بيد أنه يحصر مصادره في وثائق تعود الى نفس الحقبة والظروف؟ ألا يحق للمؤرخ الفاحص ان يستوحي من تداعيات هذه الظاهرة الاجتماعية في المراحل اللاحقة؟ الا تقوم علوم الحفريات بقراءة التاريخ من واقع حالي ولكن ضمن قوانين علمية محدّدة؟ لماذا كل هذا الحصر لقراءة التاريخ في حدود الجغرافيا الضيقة له؟ الا نستكشف ـ كعلماء اجتماع ونفس ـ من سلوكيات جماعة انماط تفكير قادتها في بعض الأحيان؟ اليس في ذلك توسعة ورحابة للقراءة ووسائل البحث؟…
اذا اردنا أن نكون منصفين يجب علينا ان نقرأ التبريرات التي يضعها التيار الآخر لتمسكه بهذا التاريخ العريض والموسّع، ولنكون واقعيين سنجد في كثير من الاحيان اجوبة غير واضحة المعالم علمياً بيد ان بعض الاجوبة تستدعي نوعاً من التوقف، فما طرحه السيد الشهيد محمد باقر الصدر في دراساته الأصولية فيما يخص نظريتي السيرة المتشرعية والسيرة العقلائية عبر عن تفسير متقدّم وعلمي للتمسك بدائرة تاريخية أوسع، وهكذا ما طرحه على صعيد الاجماع والشهرة بقطع النظر عن المصداق الميداني المتوفّر للصيغة النظرية التي قدّمها([14])، وهذا معناه انه ينبغي أن تكون هناك موازنة في نظرتنا للتاريخ الديني، فهناك تاريخ يحوي القيمة نفسها وهناك تاريخ يكشف لنا عن تلك القيمة، وهذا هو الفارق ما بين التاريخ النبوي والتاريخ الصحابي او التابعي على الصعيد السنّي وما بين تاريخ الائمة (ع) وتاريخ متشرعة وفقهاء الغيبة الصغرى على الصعيد الشيعي، فالتاريخ الذي يحمل القيمة والمضمون هو التاريخ الاول، أما التاريخ الثاني فهو تاريخ لا قيمة له من حيث ذاته وانما تكمن قيمته في انه يساعدنا على تكشف التاريخ الأوّل.
ولعل هذا الأمر كان مركوزاً في وعي العلماء والمتكلمين والفقهاء إلى ان صاغه بدقة كبار علماء أصول الفقه المتأخرون لا سيما الشهيد محمد باقر الصدر وآخرون، بيد أن المشكلة في ان ما يعتقد به نظرياً لم يكن ليتم الأخذ به عملياً ولو لغفوة، فالعالم الديني أو الفقيه كان يقرّر في الصورة النظرية نوعاً من التميّز في النطاق التاريخي أحياناً لكنه ـ وتحت تأثير عوامل مختلفة ـ كان يخضع للتاريخ بنحو شبه إطلاقي.
والذي يبدو لدى تحليل موقف السيد فضل الله هو أنه كان يهدف إلى تجاوز هذا النوع من الازدواجية الميدانية، ولم يكن ليقرر نظرياً حصر الامتداد المعرفي بالتاريخ النبوي مثلاً، والذي يشهد لنا على ذلك أنه آمن على مستوى مواقفه الاصولية بفكرة جبر الخبر الضعيف بعمل مشهور المتقدمين ووهن الخبر الصحيح بإعراضهم، وهذا معناه أنه ما يزال يتحرّك ضمن الدائرة بدرجةٍ من الدرجات نظراً لكون هذين المبنيين يستبطنان الاعتراف بكاشفية الحقبات التاريخية الاخرى عن الحقيقة الدينية.
اذن فالخطوة التي قام بها السيد فضل الله كانت في دعوته نظرياً وطرحه وشفافيته وبتكرارٍ متواصل وممارسته عملياً إلى حد كبير فكرة اسقاط القداسة عن كل التاريخ واعادة نشر هذه القداسة والقيمة في المساحات المحددة لها([15]).
وليس ثمة شك جوهري ـ بنظر الكاتب ـ في ان نفوذ هذا النمط من التفكير في علم الكلام سوف يعيد انهاضه، إذ سوف يتلاشى تدريجياً اكثر من عامل نفسي واجتماعي كان له دور في إعاقة فتح باب الحوار والجدل حول موضوعات كثيرة، ومن المؤكد على ما يبدو ان إعادة فتح باب الجدل الداخلي ـ لا الجدل بين اكثر من طرف ـ سيكون له اكبر الاثر في تطوير وتنمية علم الكلام دون ان ننئى به عن العديد من السلبيات سيما في المراحل الانتقالية الاولى التي تستدعي عيوباً اعتيادية مترقبة.
 
3 – منهج قراءة النصوص الكلامية
عندما نريد الحديث عن منهج قراءة النص الكلامي فقد يبدو الأمر غير واضح في البداية، فقراءة النص هي في نهاية المطاف قراءة نص، قد لا يكون هناك ميزة لمضمونه عند الحديث عنه كنص، فسواءٌ كان نصاً دينياً فلسفياً أو كلامياً أو فقهياً او اخلاقياً فإن منهج قراءته يبقى واحداً خاضعاً لطبيعة التعامل مع نص، فتارة نتكلم عن التعامل مع الفكرة التي يحكي عنها النص واخرى نريد ان نقرأ النص نفسه، ومن الممكن ان تكون قراءتنا للفكرة متفاوتة تبعاً لتفاوت الفكرة من حيث طبيعة انتمائها الى فرع علمي معين، اما حينما يكون الحديث عن نص فإن آليات الفهم يفترض ان تكون واحدة.
هذا ما قد يجري تصوّره في البداية، لكن الواقع التاريخي لم يكن على هذا المنوال، فإذا اردنا قراءة نص تاريخي فإن المؤرخ يستخدم آلية في قراءته لهذا النص تختلف عما يقوم به الفيلسوف عندما يقرأ نصاً دينياً فلسفياً، والسبب في ذلك هو ان الفيلسوف مثلاً حينما يقرأ النص الديني الذي يعنيه يفترض في لاوعيه ـ على أقل تقدير ـ ان مخزوناته المعرفية تفترض ان المصدر الديني مطلع عليها، أي هو يرى بأن صاحب النص يمارس في تفكيره شيئاً شبيهاً بما يمارسه هو أو بما توصل اليه هو، وهذا شيء طبيعي ناتج اولاً عن افتراض العصمة والعلم في المصدر الديني كالله تعالى، وثانياً عن ايمان الفيلسوف بما توصل هو اليه فلسفياً مما يستدعي منه لدى الجمع بين هذين الأمرين ان يفترض ان صاحب النص يفكر او يقرأ بنفس الطريقة التي يمارسها هو.
فالفيلسوف مثلاً دقيق التعبير بعيد اللوازم، وهذا يعني انه سيرى في صاحب النص شخصيةً من هذا القبيل، أي انه سيراه دقيقاً جداً في تعبيره، لا مجال عنده للمسامحات العرفية أو للصياغات الفنية والادبية اللفظية، ومن هنا فهو يتعامل معه تعامله مع أي نص فلسفي حقيقي، فمثلاً لن يوافق الفيلسوف هنا على القول بأن صاحب النص كان يريد الأعم الأغلب، لان مقولة الأعم الأغلب مقولةٌ لا يفهمها الفيلسوف في وعيه الفلسفي، أي انه لا يمارسها ولا يحياها في يومياته الفلسفية، فالقواعد العقلية قواعد غير قابلة للتخصيص، فكيف يمكن ان يجري الحديث مثلاً عن أعم أغلب؟! هذا مجرد مثال وهناك الكثير من الامثلة على ذلك (مع التركيز أننا نتكلم عن الحالة الغالبة عادةً)، اما الفقيه فهو لا يعيش مثل هذا النحو، فهو يتقبل فكرة الاعم الاغلب كما يتقبل فكرة التخصيص والتقييد و… وعالم الاخلاق أو الواعظ يتقبل بسهولة أحياناً تجاوز المحتوى الحقيقي الواقعي ليفترض هدفاً اخلاقياً أو وعظياً كان يسعى له صاحب النص من استخدامه سلسلة كلمات ربما لا تطابق الواقع كما حصل مع الاتجاهات الرومنطيقية في تفسير الإنجيل على الصعيد المسيحي وهكذا…
ومن هنا نلاحظ على المستوى التاريخي نوعاً من تنوع التعاطي مع النص وليس فقط نوعاً من اختلاف النتائج في تفسيره، فالفيلسوف يقرأ النصّ بشكل متمايز عن الفقيه وهكذا…
لكن هذا لا يعني عدم وجود قواسم مشتركة في نمط الفهم والتعاطي، فنحن نتحدّث عن حالات كثيرة ولا نتحدث عن احكام كلية وشاملة، والغرض مما قدمناه هو تأكد ان التجربة التاريخية الاسلامية في قراءة النص كانت تتنوع تنوّعاً ملحوظاً، فكل واحدٍ كان يقرأ بطريقته، (بعيداً عن وجهة النظر الصائبة فيما يخص طبيعة قراءة النص، فلعلنا نصل الى ما يوافق الجميع لنرى بأن النص الديني الفلسفي هو نص يختلف في طبيعته عن النص الحقوقي الديني، أي ان مضمون النص له نوعٌ من السلطوية على طبيعة الخطاب نفسه وهذا امر آخر لا علاقة لنا به فعلاً).
 
علم الكلام وعرفية قراءة النص
الشيء الذي نهدفه هنا هو ان علم الكلام ـ عبر غالب حالاته ومراحله التاريخية ـ لم يكن ليتعهّد بنمط عرفي لفهم النص، أي ان المتكلمين لم يكونوا ليتعاطوا مع النص الديني الكلامي كما كان يفعل الفقيه مثلاً والذي غلبت عليه أو حكمته عرفية الفهم بعيداً عن انه نجح في هذه العرفية تطبيقاً أو لم ينجح، فالفقيه عندما كان يدخل ساحة قراءة النص الفقهي كانت تحكمه اسس ومفاهيم عرفية النص، وقد نظّر لها الفقيه كأصولي في مباحث الالفاظ وحجية الظهور ومارسها في علم الفقه كفقيه، لكن الامر لم يكن بهذه الدرجة بالنسبة للمتكلم فلم يلاحق المتكلمَ شبحُ عرفية النص والفهم العرفي، وانما كان يخضع كثيراً لنمط استنتاجاته الخارجة عن النص، وكان على ضوء ذلك يشعر بأنّه يملك سلطةً على هذا النص لا ان النص يملك سلطة عليه، والسبب في ذلك هو ان الفقيه في مصادراته القبلية كان يفترض عدم حقٍّ له في أي تشريع، وان العقل مجمّد ازاء عمليات التقنين والتشريع الا في دوائر محددة كحكم العقلي العملي والتي ظهرت الى السطح بشكل لافت جداً بعد تطوّر علم الاصول في زمن الوحيد البهباني ومن بعده، فالفقيه بافراغ حمولاته حال ورود النص يسمح لنفسه بتقبل أي نمط تشريعي حتى لو رآه مخالفاً لقناعاته الذاتية، لا سيما الفقيه الشيعي الذي يرفض القياس والاستحسان والظنون المطلقة وخصوصاً الاخباري والمحدّث، وهذا الامر يسمح للفقيه بمنح النص مزيداً من السلطة لان المفترض انه خسر كل اوراقه امام هذا النص الديني، لكن الحال ليس كذلك بالنسبة للمتكلم ـ بل والفيلسوف بطريق اوضح ـ فطبيعة المنهج العقلي الذي يتبعه علماء الكلام والفلسفة تتطلب تجهيز البنى التحتية تجهيزاً عقلياً قاطعاً، وهذا يعني ان المتكلم والفيلسوف يدخلان الحوار مع النص محملين بكمٍّ أكبر من المفاهيم التي كان يحملها الفقيه في حقيبته وجعبته، والمفاهيم العقلية القاطعة المحتملة هنا تعطي المتكلم نوعاً من السلطة التي يمكنه بها مضاهاة سلطة النص أحياناً، ومن هنا مارس ويمارس المتكلم والفيلسوف التأويل (بأحد معاني الكلمة) مع النص اكثر مما يمارسه الفقيه، ذلك ان التأويل هنا علاج لأزمة التصادم التي وقعت مع النص هنا او هناك، وتوازن القوى بين المتكلم والنص يسمح له اكثر من الفقيه بممارسة التأويل في قراءته، فإذاً المنهج العرفي في فهم النص كان اقوى حضوراً في الفقه منه في الكلام والفلسفة.
ولا نقصد بالمنهج العرفي ان المتكلم كان يطوّع النص او انه لم يكن صادقاً معه، بل نقصد ان طبيعة التعاطي العرفي مع النص تختلف عن طبيعة التعاطي الكلامي والفلسفي، فحجم اللوازم والخفايا والماورائيات والغيبوية والرمزية و… في المنهج العرفي اقل منه في المنهج الكلامي والكلامي منه في الفلسفي والاخير اقل منه في العرفاني و…
في ظنّ الكاتب هذه هي تجربة علم الكلام تاريخياً مع عدم نفي تجارب مبعثرة قد تختلف وتتخلف.
اما علم الكلام المعاصر فقد وقع في اشكالية صعبة في تعاطيه مع هذا الموضوع في اطار وضعه التاريخي، فمن جهةٍ كان المنهج الكلامي الكلاسيكي اكثر ضرورةً للمتكلم المعاصر، لان هذا المتكلم بدأ يواجه ازمة علاقة بين العلم والدين بل بين التطوّر الغربي والنص الديني فكان الطريق الانسب له هو مواصلة المنهج الكلاسيكي، فهو المنهج الذي كان يمكنه ان يمنحه الوسيلة لإفراغ المشكلة وتبديد شبح الصراع مع الواقع العلمي الحديث.
لكن ومن جهةٍ اخرى كان الطابع الدفاعي الذي وشم علم الكلام المعاصر يفرض عليه رد فعل دفاعي من نوع الرفض فكان المتكلم يصر احياناً اخرى على طابع الأصالة مما يدفعه الى التمسّك بالنص بطريقة عرفية ـ وربما أحياناً حرفية ـ تأكيداً للذات واحساساً بها.
فتجربة الشيخ محمد رشيد رضا وكذلك الشيخ محمد عبده كانت تميل الى الجانب الاول، فيما تجربة العلامة الطباطبائي إلى حدّ معين والشهيد مطهري مع ميلها لهذا الاتجاه فيما يتعلّق بالفلسفة العقلية كانت تميل الى الاتجاه الثاني فيما يخص السياق المحيط بعلم الكلام المعاصر، وهو السياق الماركسي والغربي.
وبالرغم من أن تجارب السيد محمد باقر الصدر والدكتور عبدالكريم سروش والشيخ محمد مجتهد الشبستري لم تتعاط كثيراً مع النص على الصعيد الكلامي، لكن تجربة العلامة الطباطبائي والسيد فضل الله كانت على درجة ونسبة عالية من هذا التعاطي، فشخصية العلامة الطباطبائي القرآنية ـ كما أسفرها تفسير الميزان ـ واهتماماته المميزة بالنص الديني الفلسفي أي النصوص القرآنية والروائية الفلسفية تركت اثراً بالغاً جداً في إقحامه النص كجزء من مقوّمات العمل الاجتهادي الكلامي بالرغم من النزعة العقلية الحاسمة التي كان يتمتع بها، أي أنه كان يُعنى بالنص الكلامي وإن كان يرى الصدارة وحق التقدّم للأحكام العقلية والفلسفية، وقد أثرت هذه الشخصية في بعض تلامذته أبرزهم ـ في حدود اطلاعي ـ الشيخ عبدالله الجوادي الآملي الذي مارس احضاراً واسعاً للنص ـ سيما القرآن ونهج البلاغة ـ في نشاطاته الفكرية التي منها ومن أهمها الفلسفة وعلم الكلام.
اما السيد فضل الله فكان حضور النص عنده مميزاً ايضاً ـ (سواء قبل النص الفلاني أو رفضه، فإن حديثنا عن اصل حضور النص في الممارسات الكلامية بقطع النظر عن التقييم له)، وقد كان للشخصية القرآنية التي اتسم بها، وللنزعة الفقهية التي انتمى اليها، وللخطاب التبليغي الذي مارسه دورٌ مميزٌ على هذا الصعيد.
لكن النقطة الاساسية فيما يخص السيد فضل الله تمثلت في دعوته وممارسته الفهم العرفي للنص الكلامي، ونقصد بهذه النقطة انه عندما كان يقرأ النص الكلامي كان يحاول ـ نجح في التطبيق أو لم ينجح ـ ان يتعاطى بروح عرفية مع النص كما هو الحال لدى الفقيه، وفي الحقيقة هناك امران:
الاول: إن تجربة السيد فضل الله كانت تتعامل مع النص من حيث مبدأ الاعتراف به او رفضه نفس التعامل الكلاسيكي، فكما طرح واطاح الفلاسفة والمتكلمون بالعديد من نصوص السنة نتيجة خلفيات معرفية مارس السيد فضل الله هذا الامر أيضاً، فعندما نقرأ موقفه من فكرة الرجعة التي توجد نصوص عليها كان السيد فضل الله ينطلق في اتخاذه الموقف منها من خلفية علمية ذاتية أي بعيدة عن النص، فقد كان يتساءل عن مبرر هذه المسألة؟ هل هو معاقبة الظالمين وهو ما سيحصل يوم القيامة او في مجرد التشفّي وهو ما يحصل ايضاً هناك؟ وانطلاقاً من نفي فهم هذه الفكرة يرفض السيد فضل الله الفكرة نفسها([16])، وهكذا عندما يتحدث عن الولاية التكوينية([17]).
وهذا الوضع يكشف عن ان تجربة السيد فضل الله لا تختلف كثيراً عن سابقاتها في خصوص هذه النقطة، والفارق الأساسي انما هو في تبدّل المفردات فقط، فبينما يرفض الطرف الآخر بعض النصوص التي تنافي العصمة او نحوها يرفض السيد فضل الله نصوص الرجعة ونحوها، فالقضية تنبع من طبيعة المفردات والا فالمنهج واحد على ما يبدو.
الثاني: اذا وافق السيد فضل الله على نص ولم يقم بطرحه جانباً فهنا يبدأ بالتمايز عن الآخرين ليكون عرفياً في تفسيره، فالسيد فضل الله يرفض ـ مكرراً رفضه هذا ـ مختلف انواع التفسير الرمزي والباطني والصوفي والتأويلي([18])… ويصر على أن الباطن القرآن او عمق القرآن انما يكون من خلال طبيعة المعنى لا من خلال إرادة هذا المعنى من اللفظ.
والسيد فضل الله يصدر في هذه المقولة عن موقف من قضية بطون القرآن وامثالها، فمع أنه كان يرفض مقولة ان للقرآن ظاهراً وباطناً لكنه بعد ذلك التزم بهذه المقولة ليعيد انتاج تفسيرها على ضوء مبانيه في علم التفسير([19])، فهو يرى بأن البطن القرآني انما هو عبارة عن استيحاءات تتجاوز ظاهر اللفظ دون ان تمارس قطيعةً معه، أي ان نقطة البداية في البطن القرآني انما هي اللفظ نفسه، وهذه النقطة حتى لو جرى تجاوزها فلا يمكن الغاؤها لان العربية والبلاغية القرآنية تتعرض ـ وفق رأي السيد فضل الله ـ لخلل وخدشة حينما نعمد الى تجاوزها ممارسين نوعاً من القطيعة معها على الطريقة الفلسفية ونحوها بنظره، وعليه فالسيد فضل الله يرفض بشدة فصل الباطن القرآني عن الظاهر مهما بلغت درجة العمق في هذا الباطن، وهو بالتالي يرفض بعض التفسيرات التي اطلقها بعض العلماء لدى تفسيره قضية الباطن القرآني حيث ذهب هذا البعض الى ان الباطن انما يتصل بالمتكلم لا بالكلام، والسبب في التعبير بباطن القرآن عنه حينئذٍ هو التقارن الذين يحصل بين الكلام القرآني لحظة صدوره من متكلمه وبين المعنى الباطني الموجود في ذهن المتكلم دون ان يقوم هذا التقارن على علاقة ربط بين اللفظ القرآني ونفس المعنى الباطني([20])، فهذا التفسير لفكرة بطون القرآن يحدث درجة من القطيعة ويحاول شكلياً ان يبقى على مبرر للربط بين كلمتي الباطن والقرآن.
وانطلاقاً من هذه القاعدة النظرية التي يراها فضل الله، وليست بقاعدة جديدة على الفكر الاسلامي فقد مال اليها الكثير من العلماء كان من ابرزهم في الفترة المتأخرة العلامة الشيخ محمد جواد مغنية الذي تميز بنهج شديد العرفية في فهم النص سيما الكلامي، وكتابه "تفسير الكاشف" شاهد على درجة هذه العرفية، وحتى السيد عبدالاعلى السبزواري الذي كان متحفظاً جداً ازاء توسعات المنهج الفلسفي في مباحث الالفاظ في علم اصول الفقه التي تعبر عن منهج فهم النص في الفكر الاسلامي المدرسي لم تكن لديه هذه الدرجة من العرفية في تفسيره (مواهب الرحمن)([21]).
انطلاقاً من هذه القاعدة برز العرفي لدى السيد فضل الله في موضوع عصمة الانبياء كمثال، فقد سجل السيد فضل الله ملاحظات على ادلة عصمة الانبياء الواردة في كتب الكلام الاسلامي الشيعي، ورأى انه لا بد من إعادة النظر فيها انطلاقاً من طبيعة تحديات المرحلة([22])، وبالرغم من انه قدّم دليلاً على مبدأ العصمة رأى فيه انه الدليل الابرز القادر على اثبات العصمة بشموليتها([23])، وبالرغم من انه لم يبد ممانعة فيما يخص قضية جبرية العصمة انطلاقاً من مبدأ الفضل والاستحقاق في العطاء الإلهي والذي كانت المناقشات حادة فيه في تاريخ الكلام الإسلامي([24])… بالرغم من كل ذلك تعامل بدرجة عرفية واضحة مع تفسير الآيات القرآنية الواردة فيما يخص خطأ او ذنوب الانبياء (ع)، والذي يطالع نتاج السيد فضل الله التفسيري على هذا الصعيد([25])، لا يمكنه من ناحية منهجية ان يوافق على مبدأ العصمة عنده بالشكل المرعي الاجراء لدى مشهور الشيعة، وهو ما صرّح هو به على صعيد علم الامام([26]) الذي بتقليص الاطلاقية فيه يفسح المجال لاحداث ثغرات في نظرية العصمة.
وبعيداً عن الموقف الواقعي للسيد فضل الله حول العصمة، لكن الشيء الذي يلاحظ في قراءته التفسيرية لنصوص الانبياء القرآنية هو أنه كان يحاول (وفي ظني كان يتحفّظ قلقاً في نفس الوقت) ان يطلق يد العرفية في فهم هذه النصوص، والتي تعد من اكثر النصوص حساسيةً لدى الشيعة من الناحية العقائدية، واذا افترضنا ان السيد فضل الله كان مقتنعاً واقعاً بالمفهوم الشيعي للإمامة على نطاق المواصفات فهذا يدلّل على تذبذب وقلق واضطراب منهجي عنده، لاننا اذا قرأنا منهج تعاطيه مع نصوص الانبياء (لا مفردات التعاطي) فلا يمكننا ان نوافق على البرهان الذي قدّمه لعصمة الانبياء اذا اراد من هذا البرهان أن يمتد للانبياء جميعاً سيما وان السيد فضل الله يؤكد على غرابة ظاهرة الاصرار القرآني على بيان عيوب او نواقص او… في الانبياء الى حد ورود نصوص قرآنية كثيرة وليس نصاً أو نصين عابرين([27]).
ان تجربة التعاطي مع نصوص الانبياء ـ التي يرى البعض ان فضل الله تفرّد بها([28]) فيما يصرّ البعض الآخر على ان لها نماذج سابقة في الفكر الشيعي([29]) ليحاول منحها الشرعية التاريخية المتسمة بالقداسة ـ هذه التجربة تبين لنا من الناحية المنهجية ـ مهما كان موقفنا منها ومن مدى نجاحها ـ مدى طفو الخطاب العرفي والفهم العرفي للنص الكلامي الديني عند فضل الله، وهو ما يجعلنا نصنفه ـ في الاطار المنهجي ـ بأنه أحد القلائل من المتكلمين الشيعة المعاصرين الذين اعتمدوا هذا النمط من فهم النص الكلامي، وفي تقدير وظن الكاتب فإن السيد فضل الله يملك مقداراً اكبر من التطبيقات العرفية التي لم يفصح عنها او افصح عنها بطريقة غير شفافة لأسباب لا تعنينا فعلاً.
ونتيجة ما نريد تأكيده هنا هو ان السيد فضل الله مثّل مرحلة متقدمة من التعاطي العرفي مع النص الكلامي واعادة فهمه على غرار الفهم الفقهي للنصوص الفقهية الدينية في القرآن والسنة الشريفة، وهذا الباب لو تسنّى له ان ينفتح فإنه سوف يحدث تغيرات عديدة في بنية الجسم الكلامي سيما الشيعي، وسيعيد إحضار النصوص بشكل مختلف عما كان الحال عليه لدى بعض المتكلمين الآخرين.
ولا نعني بالموافقة على المنحى العرفي في فهم النص الديني الكلامي عند السيد فضل الله اعترافاً بكافة النتائج المنبثقة عن استخدام هذا المنهج، فقد اختلف الفقهاء فيما بينهم ـ بالرغم من توافقهم وتفاخرهم باستخدام المنهج العرفي ـ في فهم النص القانوني، وهذا شيء طبيعي، فالموافقة على التوجه العرفي للسيد فضل الله في فهم النص الكلامي لا تعني بالضرورة الموافقة على النتائج التي خرج منها في قراءته هذه للنص نفسه.
كما لا تعني هذه الموافقة تجاهلاً للجدل التاريخي والمعاصر حول أصالة العقلانية وأصالة النصيّة، حيث تلعب هذه الفكرة ـ الجدل دوراً في تحديد الموقف من المنهج العرفي لقراءة النص الكلامي، ولذا يطالب أي متكلم، بل أي مفكر وباحث ديني، بتحديد موقف حيال هذه البنية التحتية للمعرفة الدينية ككل.
 
 
 
*     *     *

 

 

الهوامش:
 
 
* –نشر هذا المقال في مجلة الوعي المعاصر، العدد 10 ـ 11، شتاء عام 2003م.
 
 
[2] – أنظر "صراطهاى مستقيم سخنى در بلور اليسم ديني مثبت ومنفي" الدكتور عبدالكريم سروش، نشر مؤسسة فرهنك صراط، ايران، الطبعة الثانية، 1998م، الصفحات 9 و10 و13 و14 و15 و16 و17 و18 و22 و23 و24 و25 و26 و29 و30 و31 و32 و38 و46 فضلاً عن اشعار لحافظ وسعدي انظر ص: 50 و6. وهكذا في دراسته حول تكامل المعرفة الدينية في كتابه "قبض وبسط تئوريك شريعت"، انظر الكتاب نفسه، نشر مؤسسة فرهنكي صراط، إيران، الطبعة الرابعة، 1995م، الصفحات 127، 133، 181، 182، 183، 198، 199، 272، 277، 359 وغيرها الكثير جداً، كما في عشرات الموارد في كتابه "بسط تجربه نبوي"، الطبعة الثانية، 1999م، وعشرات الموارد الأخرى في كتاب "حكمت ومعيشت"، بل حتى كتابه "ايديولوجي شيطاني" اشتمل على هذه الظاهرة أيضاً…
[3] -أنظر علي رضا قائمي نيا، دينداري وصراط مستقيم، مجلة كيان، العدد 38، 1990، ص26 و31. وانظر ايضاً محسن غرويان في "بلوراليزم ديني واستبداد روحانيت" انتشارات يمين، إيران، الطبعة الأولى، 1997م.
[4] -له ديوان "رباعيات في ظلال الاسلام"، وانظر له أيضاً كتاب "حوارات في الأدب والشعر"، المكتب الإعلامي، قم، الطبعة الأولى، 1422هـ، وغيرهما.
[5] -أنظر كنموذج العلامة الحلي في "كشف المراد في شرح تجريد الاعتقاد"، نشر جماعة المدرسين، إيران، الطبعة السادسة، 1416هـ ق، ص 241 ـ 242.
[6] -راجع كمثال الشريف المرتضى في "الذخيرة في علم الكلام"، نشر جماعة المدرسين، إيران، 1411هـ، ص 164 ـ 165 و 167 ـ 185، وانظر رأي السيد محمد حسين فضل الله في كتاب الندوة2: 344 ـ 345، والندوة1: 238.
[7] – أنظر المعالم الجديدة للأصول، مصدر سابق، 3: 7، وراجع "معالم الابداع الأصولي عند الشـهيد الصدر" ، حيدر حب الله، مجلة فقه أهل البيت، العدد: 20، 2001م، ص240 ـ 241.
[8] – ومشروعة هو كتاب "الإسلام الميسّر"، ترجمة جواد علي كسّار، مؤسسة أم القرى، إيران، الطبعة الأولى، 1419هـ ق، ويمكن مراجعة الكتاب في سلسلة دروس من الإسلام، ترجمة وإعداد جمعية المعارف الإسلامية الثقافية، نشر جمعية المعارف، الطبعة الأولى، 1998م، أما الأصل الفارسي فهو كتاب مؤلّف من جزئين تحت عنوان "آموزش عقائد ودستورهاي ديني"، نشر بنياد مستضعفان وجانباز انقلاب اسلامي، إيران، الطبعة الأولى، 1412هـ ق.
[9] – أنظر علي سبيل المثال كتابه "التشيع العلوي والتشيع الصفوي" ترجمة الاستاذ حيدر مجيد، نشر دار الأمير للثقافة والعلوم، بيروت، الطبعة الأولى، 2002م، لا سيما من ص 246 إلى ص 313.
[10] – مما خرج به السيد فضل الله عن هذا الطابع العام على صعيد علم الكلام مقالته المنشورة في العدد التاسع من مجلة الفكر الجديد اللندنية عام 1994م تحت عنوان "مع الشيخ المفيد في تصحيح الاعتقاد"، اما على الصعيد الفكري الآخر فقد امتاز كتابا " الحركة الاسلامية هموم وقضايا " و" خطوات على طريق الاسلام " بهذه السمة ايضاً.
[11] -انظر "التعددية الدينية، نظرة في المذهب البلورالي"، حيدر حب الله، نشر مركز الغدير، بيروت، الطبعة الأولى، 2001م، ص45 ـ 46.
[12] – انظر "مع الشيخ المفيد في تصحيح الاعتقاد" مصدر سابق: 6 ـ 9.
[13] – فعلى صعيد علم الكلام كأمثلة رفض نظرية الولاية التكوينية التي تطبع بشكل ما العقل الشيعي انظر "تفسيره من وحي القرآن"، نشر دار الملاك، بيروت، الطبعة الثانية، 1998م، ج6: 26 ـ 34، وانظر الندوة1: 241 ـ 243، كما رفض فكرة اسلام آباء الانبياء المعروفة في الفكر الشيعي، راجع بهذا الصدد مقالة " مع الشيخ المفيد في تصحيح الاعتقاد " مصدر سابق: 66 ـ 67، وكتابه "المسائل الفقهية"، نشر دار الاعتصام، الطبعة الأولى، 1416هـ ق، ج2: 449 ـ 450، وذهب الى نزول سورة عبس في النبي (ص) وهو أمر أخذ حساسية خاصة عند الشيعة انظر الندوة1: 206 ـ 208، وتفسير من وحي القرآن24: 57 ـ 68، كما حصر علم المعصوم (ع) بدوائر أضيق مما تداولته العقلية الشيعية، انظر بهذا الصدد الندوة1: 257 و 258، وشدّد بشكل لافت على عنصر بشرية الانبياء والائمة (ع) وهو ما أثار معارضيه، راجع بهذا الصدد ما أثاره حول علم المعصوم وولايته التكوينية، وما طرحه حول خيفة إبراهيم في كتاب الندوة1: 245، ورفض البعد المادي في تفسير الصراط المستقيم بأنه ادق من الشعرة وأحد من السيف، وهو ما يعد مرتكزاً ومأنوساً في الذهن العام، راجع بهذا الخصوص "مع الشيخ المفيد في تصحيح الاعتقاد"، مصدر سابق: 52 ـ 53، والندوة1: 275، ودعا الى اغلاق ملف "البداء" معتبراً إياه موضوعاً لفظياً صياغياً، انظر "مع الشيخ المفيد في تصحيح الاعتقاد"، مصدر سابق: 35 ـ 38، وقد أثارت هذه الافكار المعارضين والذين من أبرزهم العلامة السيد جعفر مرتضى العاملي، أنظر "خلفيات كتاب مأساة الزهراء" السيد جعفر مرتضى العاملي، دار السيرة، (الجزء الاول الطبعة الثالثة، قم 1998م، والجزء الثاني الطبعة الاولى، بيروت 1998م) ج1: 49 ـ 225 ـ 226 ـ 227، وج2: 7 ـ 197 وغير ذلك.
أما على الصعيد الفقهي والأصولي فقد ذهب الى جواز الاستمناء للمرأة كما في كتابه "حوارات في الفكر والسياسة والاجتماع"، إعداد وتنسيق نجيب نور الدين، ص 553 ـ 554، وعدم وجوب تقليد الحي كما في المسائل الفقهية1: 12، و 2: 9، لكنه احتاط وجوباً فيما بعد، انظر حول احتياطه هذا الفتاوى الواضحة، نشر دار الملاك، بيروت، الطبعة الثانية، 1998م، ص20، وفقه الشريعة الذي يمثل رسالته العملية، نشر دار الملاك، بيروت، الطبعة الأولى، 1999م، الجزء الأول: 15، م17، وعدم وجوب تقليد الأعلم كما في "فقه الشريعة1: 15، والفتاوى الواضحة: 21، وجواز حلق اللحية للرجال كما في المسائل الفقهية1: 203، وكتاب "دنيا الشباب"، مطبعة الصدر، ايران، الطبعة الثانية، 1997م، ص217 ـ 218، وعدم وجود تحديد زماني بأربعة اشهر لحق الزوجة الجنسي بل يشابه حقها حق الرجل كما في كتابه "دنيا المرأة"، محاورة سهام حمية وإعداد منى بليبل، الطبعة الثانية، 1997م، نشر دار الملاك، بيروت، ص 93 ـ 94، وكتاب النكاح، بقلم الشيخ جعفر الشاخوري البحراني، تقرير درس السيد محمد حسين فضل الله، ج1: 33 ـ 38 و 164 ـ 174، وتحفظ على الشهادة الثالثة لعلي (ع) بالولاية في الأذان والإقامة كما في فقه الشريعة1: 292، وأجاز اللعب بآلات القمار مطلقاً بلا مقامرة كما في المسائل الفقهية1: 193 ـ 194 و 2: 345 ـ 347، ودنيا الشباب: 227 ـ 228، وأجاز الغناء ما لم يصحبه محرّم وفاقاً للفيض الكاشاني كما في المسائل الفقهية1: 196 و 199، وإن كان هناك بعض الغموض في عبائر فتاواه هنا، وحكم بجواز اليانصيب كما في المسائل الفقهية1: 195، ومال الى جواز نظر المرأة الى عورة المرأة مع الحاجة العرفية ولو لم تصل إلى حدّ الضرورة كما في كتاب النكاح، مصدر سابق: 68 ـ 72، ويفهم من دراساته الفقهية تحفظاً من قضية قتل المرتد وتصوّراً خاصاُ لمفهوم الجهاد الابتدائي ومقولة القوة في الإسلام كما في كتاب الجهاد، بقلم السيد علي فضل الله، تقرير درس السيد محمد حسين فضل الله، نشر دار الملاك، بيروت، الطبعة الأولى، 1996م، من ص23 إلى ص124، وانظر له أيضاً كتابه "الإسلام ومنطق القوّة"، مطبعة الصدر، إيران، الطبعة الرابعة، 1998م، سيما الفصل السابع من الكتاب، ص: 193 ـ 213، وحكم بطهارة الخمرة ومطلق المسكرات كما في فقه الشريعة1: 45 و الفتاوى الواضحة: 187، وحكم بطهارة كل إنسان بلا استثناء انظر فقه الشريعة1: 46 و الفتاوى الواضحة: 187 وحوارات في الفكر والسياسة والاجتماع: 549 ـ 550، وغيرها من الموارد ـ كموضوع ثبوت الهلال ـ التي لا داعي لذكرها.
ونلفت النظر الى انه على الصعيد الفقهي كان تميُّز السيد محمد حسين فضل الله في إصداره الفتاوى بمضمون ما آمن به في الكثير من الأحيان.
أما على الصعيد الاصولي فتحفظ من تخصيص العام البعيد زمناً عن الخاص، وأثار رفضاً كبيراً على المنهج العقلي الفلسفي في علم اصول الفقه، راجع بهذا الصدد كتاب "الاجتهاد والحياة، حوار على ورق" إعداد وحوار محمد الحسيني، نشر مركز الغدير للدراسات الإسلامية، قم، الطبعة الثانية، 1997م، نص الحوار مع السيد فضل الله، ص 45 ـ 46، وكتاب النكاح1: 169 و 178 ـ 179، والندوة5: 532، كما ادعى فتح باب معرفة الملاكات في غير العبادات، انظر الاجتهاد والحياة، مصدر سابق: 43 ـ 45.
[14] – راجع بحوث في علم الأصول، بقلم السيد محمود الهاشمي، تقرير درس السيد محمد باقر الصدر، ج4: 233 ـ 248 و 305 ـ 308، ومباحث الأصول، بقلم السيد كاظم الحسيني الحائري، تقرير درس السيد الصدر، ج2: 93 ـ 131 و 281 ـ 331، وانظر دروس في علم الأصول، للسيد محمد باقر الصدر، الحلقة الثانية: 166 ـ 184.
[15] – مما نقد به السيد فضل الله على القداسة وتأليه التراث ما في كتاب النكاح1: 172 ـ 173، و"مع الشيخ المفيد في تصحيح الاعتقاد"، مصدر سابق، ص6 ـ 9، و"الحركة الإسلامية هموم وقضايا"، الفصل المخصّص بعنوان "بطل الخط وخط البطل"، وانظر أيضاً "حوارات في الفكر والسياسة والاجتماع": 478 ـ 482.
[16] – أنظر "مع الشيخ المفيد في تصحيح الاعتقاد"، مصدر سابق: 13 ـ 14.
[17] – أنظر "مع الشيخ المفيد في تصحيح الاعتقاد"، مصدر سابق: 13.
[18] -أنظر "مع الشيخ المفيد في تصحيح الاعتقاد"، مصدر سابق، ص42، وأنظر تفسير "من وحي القرآن"1: 8 ـ 18.
[19] – اما الموقف القديم فانظره في سلسلة مفاهيم إسلامية عامة، وأما الموقف اللاحق فانظره في تفسير "من وحي القرآن"1: 8 ـ 18.
[20] – راجع كفاية الأصول، الآخوند كاظم الخراساني، نشر جماعة المدرسين، قم، ص 55 ـ 56، وانظر مناقشة وتوضيح هذا الرأي عند السيد أبو القاسم الموسوي الخوئي في "محاضرات في أصول الفقه" بقلم محمد اسحاق الفياض، انتشارات امام موسى صدر، إيران، ص213.
[21] – فقد امتازت الدورة الأصولية الكاملة للسيد عبد الأعلى السبزواري بالتغاضي عن التعقيدات التي خاض فيها علم الأصول في مباحث الألفاظ وغيرها، ومن هنا بلغت دورته الكاملة مجلدين فقط، وهي كتاب "تهذيب الأصول".
[22] – "مع الشيخ المفيد في تصحيح الاعتقاد" ، مصدر سابق: 62.
[23] – انظر الندوة 1: 263 ـ 263 و265 ـ 267.
[24] – الندوة 1: 268 ـ 269.
[25] -انظر في تفسير "من وحي القرآن" موارد تفسيره الآيات المتعرّضة لما وقع جدل فيه حول قدحه في العصمة أو عدم قدحه فيها، من قبيل قصة آدم (ع) كما في الجزء الأول من التفسير، وقصة عبس كما في الجزء الرابع والعشرين منه، وقصة يونس (ع) كما في الجزء التاسع عشر منه، وقصة نوح (ع) وموضوع ولده وكذلك قصة يوسف (ع) مع امرأة العزيز كما وردتا في الجزء الثاني عشر من التفسير، وقصة موسى (ع) في قتله القبطي كما في الجزء السابع عشر، وإيمان إبراهيم (ع) في موضوع رؤية الشمس والقمر وقوله "هذا ربي" كما في الجزء التاسع من التفسير نفسه… إلى غيرها من الموضوعات المعروفة في علمي الكلام والتفسير.
[26] – الندوة 1: 257 ـ 258.
[27] – "مع الشيخ المفيد في تصحيح الاعتقاد"، مصدر سابق: 62.
[28] – انظر كنموذج كتاب "الانبياء فوق الشبهات"، محمد محمود مرتضى العاملي، دار السيرة، بيروت، الطبعة الاولى، 2001م، ص27، ولاحظ كتاب "خلفيات كتاب مأساة الزهراء (ع)" للسيد جعفر مرتضى العاملي في مجلدات ثمان، فهو مخصّص لقراءة هذه الظاهرة عند السيد فضل الله.
[29] -"مراجعات في عصمة الانبياء من منظور قرآني"، عبدالسلام زين العابدين، الطبعة الأولى، 2000م، والكتاب هدفه وجوهر فكرته التركيز على هذه الفكرة، وانظر بالخصوص المقدمة سيما ص9 ـ 10.
 
 
*     *     *

 

 

 

Facebook
Twitter
Telegram
Print
Email

اترك تعليقاً