أحدث المقالات

بقلم: السيد كاظم الحائري

ألقى السيد محمد باقر الصدر سلسلة محاضرات فقهية حول إحياء الأراضي الموات، في عطلة شهر رمضان المبارك، شرع بها من 1 ـ رمضان ـ 1381 هـ (7 ـ 2 ـ 1962م)، معتبراً إياها خميرة الجزء الثاني من كتاب اقتصادنا، وبعد ذلك درّسها مرةً أخرى عام 1971م، وسبق أن نشرنا في العدد الخامس تلك الدورة، وننشر هنا الدورة الأولى، وقد قرّر هذه الدروس أيضاً سماحة السيد كاظم الحائري، أحد خلّص طلاب السيد الشهيد، وقد قدّم لمجلّة «الاجتهاد والتجديد» ـ مشكوراً ـ هذه الدراسة التي تنشر للمرة الأولى «مركز الأبحاث والدراسات التخصّصية للشهيد الصدر» في مدينة قم الإيرانية. وقد قام الشيخ حيدر حب الله بتحقيق وتصحيح هذه المحاضرات العلمية، عبر تقويم نصّها، واستخراج مصادرها، وعنونة موضوعاتها، كما يراه القارئ هنا، واعدين القارئ نشر سلسلة من بحوث السيد الصدر لم يسبق نشرها من قبل، آسفين لتأخير نشرها الى اليوم، بعد أكثر من عقدين ونصف على استشهاده& (التحرير )

تمهيد

يقع الحديث في مسألة الأراضي الموات في محاور ثلاثة:

الأول: في الأخبار الدالّة على أن مالك الأرض الميتة هو الإمام(ع) .

الثاني: في نسبة تلك الأخبار إلى باقي الأخبار الواردة في الأراضي، هل هناك تعارض بينها أم لا؟ وما هو العلاج على فرض التعارض؟

الثالث: بعد فرض الفراغ عن إثبات كون الأرض الميتة للإمام(ع) ببيان دلالة الأخبار عليه في المحور الأول، وإثبات عدم المعارض لها في المحور الثاني، يقع الكلام في أحكام هذه الملكية التي ثبتت له(ع).

1 ـ السنّة الشريفة وتحديد مالكيّة الإمام (الدولة) للأراضي

المقصود فعلاً الأرض الميتة بالأصالة، أما لو ماتت بعد العمران فهل حكمها كحكم الميتة بالأصالة أم لا؟ هذا ما سنبيّنه في المحور الثالث إن شاء الله تعالى.

وهنا نقول: المشهور بين الأصحاب والمدّعى عليه الإجماع ـ محصّلاً تارة ومنقولاً أخرى([1]) ـ أنّ الأرض الميتة بالأصالة ملكٌ للإمام(ع)، والدليل على ذلك الأخبار، وهي مجموعات ثلاث:

المجموعة الأولى: ما دلّ على المدّعى بصريح عنوان الأرض الميتة الواقع في عبارات الفقهاء، وهي المرسلة التي فيها قوله(ع) >والموات كلّها هي له<([2]). وتقريب الاستدلال بها أنّها وإن كانت ضعيفة من حيث السند لكنها منجبرة بعمل الأصحاب، ودلالتها واضحة.

إلا أنّ سيدنا الأستاذ (الخوئي) مدّ ظلّه اعتبر أنّ دعوى الانجبار موقوفة على القول بأنّ ميزان حجية الخبر كون نفس الرواية بحيث يحصل الوثوق النوعي بها، فيمكن دعوى أنّ عمل الأصحاب بالرواية يورث الوثوق النوعي بها، ممّا يوجب دخولها تحت دليل الاعتبار تكويناً. أما على ما أثبتناه في علم الأصول من أنّ ميزان حجية الخبر كون الراوي بحيث يحصل منه الوثوق النوعي لا كون الرواية كذلك؛ فلا مجال لدعوى جابرية عمل الأصحاب هنا؛ لأنّ عملهم غير موجب لحصول الاطمئنان لنا بعد ما رأينا في كثير من الموارد من أنّهم استنبطوا شيئاً وجزمنا ببطلانه؛ فلعلّ ما نحن فيه من هذا النوع أيضاً؛ كأن يكونوا استنبطوا صدق الحديث ببعض القرائن التي لو ظفرنا بها لما كانت تامّةً عندنا.

أقول: بعد فرض ثبوت كون عمل الأصحاب واستنادهم للحديث جابراً له، إمّا بدعوى كون الميزان في الحجية هو الوثوق النوعي بالرواية نفسها أو بدعوى أنّ عملهم بها يوجب الاطمئنان الشخصي، دون أن يُقاس ذلك باستنباطاتهم في فهم دلالة لفظ الأحاديث؛ فإنّه لا فرق بيننا وبينهم في فهم دلالة الألفاظ؛ فمع مخالفة فهمهم لفهمنا لا عبرة بفهمهم لنا، وهذا بخلاف قرائن الصدور التي كان الأقدمون قريبين منها ونحن بعيدون عنها؛ فإذا اشتهر بينهم صحّة خبر ـ باصطلاح المتقدّمين ـ ربما يحصل الوثوق الشخصي بذلك والاطمئنان بعدم اشتباههم في ذلك؛ لكون القرائن بين أيديهم، كما أنّ من يكون بعيداً عن فهم دلالة لفظ الأحاديث ربما يحصل له الاطمئنان بفهم المشهور بالنسبة لدلالة لفظ الأحاديث، وبالجملة لو فرضنا كون عمل الأصحاب واستنادهم جابراً للسند، نقول: إنّ الكلام في ما نحن فيه يقع في الصغرى؛ لأنّ الدليل غير منحصر في الرواية السابقة؛ فلعلّ استناد المشهور كان إلى باقي الروايات دونها، مع أنّ أصل تصديق الكبرى مشكلٌ لما أشار إليه السيد الأستاذ مد ظله، والذي يهوّن الخطب في الكبرى أنّ حصول الاطمئنان الشخصي وعدمه أمرٌ وجداني؛ فربما يحصل لشخصٍ ولا يحصل لآخر.

المجموعة الثانية: ما دلّ على المدّعى بعنوان الأرض الخربة؛ وذلك مثل:

أ ـ موثقة محمد بن مسلم، وفيها قوله(ع): «وما كان من أرض خربة أو بطون أودية فهذا كلّه من الفي..<([3]).

ب ـ خبر محمد بن مسلم الآخر، عن أبي جعفر(ع): >.. وما كان من أرض خربة أو بطون أودية فهو كلّه من الفيء، فهذا لله ولرسوله، فما كان لله فهو لرسوله يضعه حيث شاء، وهو للإمام بعد الرسول.. <([4]).

ج ـ موثقة سماعة، وفيها: >كلّ أرض خربة أو شيء يكون للملوك فهو خالص للإمام..<([5]).

د ـ موثقة إسحاق، وفيها: >وما كان من الأرض بخربة لم يوجف عليه بخيل ولا ركاب، وكل أرض لا ربّ لها، والمعادن منها، ومن مات وليس له مولى فما له من الأنفال<([6]).

هـ ـ صحيح حفص أو حسنه وفيه: >وكل أرض خربة وبطون الأودية فهو لرسول الله، وهو للإمام بعده يضعه حيث يشاء<([7]).

وتقريب الاستدلال بهذه المجموعة، أنّ معنى كون الأرض خربة ليس صيرورتها خراباً بعد العمران، بل الخراب ـ على ما في كلمات أرباب اللغة([8])، وهو المتفاهم منه في عرفنا ـ هو ما يقابل العمران مطلقاً؛ فتدلّ الأخبار على أنّ الأرض الميتة بالأصالة للإمام(ع).

المجموعة الثالثة: ما دلّ على المدّعى بعنوان: كلّ أرض لا ربّ لها، وهي ما مضى من موثقة إسحاق، وخبر العياشي وفيه: >وكل أرض لا ربّ لها، وكل أرض باد أهلها فهو لنا<([9]).

وتقريب الاستدلال بهذه الجملة أنّ موضوع الحكم مركّب من جزئين: الأول عنوان الأرض، والثاني أن لا يكون لها ربّ، أما الأول فحاصلٌ بالوجدان وأما الثاني فثابت باستصحاب عدم جعل مالك لها غير الإمام(ع) في الشرع، بعد فرض عدم دلالة روايةٍ أخرى على ثبوت مالكٍ لها غيره، وبعد إحراز أحد الجزئين بالوجدان وإثبات الآخر بالأصل يتمّ الموضوع المستصحب.

وثمّة فرقٌ فنّي بين المجموعة الثالثة والمجموعتين الأوليين، وهو أنّه لو كان مدرك المدّعى هو المجموعة الثالثة وفرض ورود دليل على ثبوت مالك للأرض الميتة ـ غير الإمام(ع) ـ يصير ذلك حاكماً عليها رافعاً لموضوعها، بخلاف ما لو كان المدرك هو المجموعتين الأوليين، فإنه لو فرض حينئذ ورود دليل كذلك يقع التعارض، ولابدّ من الرجوع إلى قوانين باب التعارض؛ من هنا ظهر أنّ لتنقيح الكلام في المحور الأول تأثيراً على الكلام في المحور الثاني.

إن قلت: لو ورد دليلٌ على ثبوت مالكٍ للأرض الميتة غير الإمام(ع)، فإنّه يصير حاكماً على المجموعتين الأوليين أيضاً؛ لأنه وإن لم يذكر فيهما قيد عدم الربّ لها، لكنهما مقيّدان بصحيح حمّاد أو حسنه عن بعض أصحابنا عن العبد الصالح(ع) وفيه: >.. والأنفال كلّ أرض خربة باد أهلها.. وكل أرض ميتة لا رب لها..<([10]) ووجه التقييد ـ مع أنّهما بحسب الظاهر مثبتان ـ دعوى ثبوت المفهوم لقوله(ع): كلّ أرض ميتة لا ربّ لها، وذلك بأحد تقريبين:

الأول: دعوى مفهوم الحصر، على أساس أنه وارد في مقام تحديد الأنفال، فهذا نظير قوله: >الكرّ.. ألف ومئتا رطل<([11])، فكلّ ما لم يذكر في هذا الحدّ يكون مقتضى المفهوم خروجه عن الأنفال.

الثاني: دعوى مفهوم الوصف، لا بمعنى دلالته على عموم النفي عند انتفاء الوصف المجمع على بطلانه عند المحقّقين المتأخرين، بل بمعنى دلالته على نفي العموم عند انتفاء الوصف، حتى لا يسقط الوصف عن كونه دخيلاً في الموضوع في عالم الثبوت، على ما هو مقتضى أصالة التطابق بين عالم الثبوت والإثبات، وهذا تقريب بنى عليه السيد الأستاذ الخوئي دام ظله في علم الأصول؛ فقال بمفهوم الوصف بهذا المقدار([12])، تماماً كما في مفهوم الشرط([13])، وإن حقّقنا هناك بطلان ذلك.

وبالجملة، بعد فرض ثبوت المفهوم لهذا الحديث بأحد التقريبين المتقدّمين، يصير مقيّداً للأخبار المطلقة، ويكون الثابت من الأخبار ـ من حيث المجموع ـ أنّ الأرض الميتة التي لا ربّ لها للإمام(ع)؛ فإذا ثبت بدليل وجود ربّ غير الإمام لأرض ميتة كان حاكماً عليها.

قلت: لا يكون دليل وجود ربّ غير الإمام(ع) لأرضٍ ميتة حاكماً على الطائفتين الأوليين، حتى على ثبوت المفهوم لحديث حمّاد؛ لأنّ إطلاق تلك المجموعتين دليلٌ على وجود القيد. وتوضيح ذلك يحتاج إلى ذكر مقدّمة وهي أنه إذا شككنا في شيء أنّه هل خرج عن تحت العموم أو الإطلاق أم لا؟ فهذا الشك تارةً يكون ناشئاً عن احتمال وجود مُخرِج لحصّة موجودة عن تحت العموم أو الإطلاق، كما لو شككنا في خروج العالم الفاسق عن قوله: أكرم العلماء، وأخرى يكون ناشئاً عن احتمال كون هذه الحصّة التي خرجت عن تحت العموم أو الإطلاق قطعاً، كما لو علمنا بخروج العالم الفاسق وشككنا في فسق زيد العالم المفروض عدم إمكان نفي فسقه بالأصل.

أمّا في القسم الأول، فلا إشكال في التمسّك بالعام أو المطلق، وهو المراد من قولهم: إذا شككنا في التخصيص أو التقييد فالأصل عدم التخصيص أو التقييد.

وأما في القسم الثاني، فالتحقيق هو التفصيل بين القيد الذي يكون العبد ـ بما هو عبد ـ والمولى بما هو مولى متساويين في إحراز وجوده الخارجي وعدمه، والقيد الذي يكون للمولى بما هو مولى مزية في إحراز وجوده وعدمه على العبد بما هو عبد.

ففي الأول لا يصحّ التمسّك بالعام؛ لأنّ الشبهة المصداقية عند العبد شبهة مصداقية عند المولى أيضاً بما هو مولى، ولو لم تكن كذلك عنده بما هو علاّم الغيوب؛ إذلم يُلحظ في خطاباته العرفية كونه علاّم الغيوب، ولذا لو سأل السائل الإمامَ(ع): إني شككت بين الثلاث والأربع فماذا أصنع؟ فأجاب(ع) بأنّ صلاتك صحيحة، لم نقل إنّ ذلك لعلّه من جهة علمه(ع) بأنّه في الواقع أتى بالأربع، بل استفدنا من ذلك حكماً لكلّ من شك في ذلك؛ فإنّه في مقام التخاطب العرفي يفرض كأحد الناس، والحاصل: إنّه في هذا الفرض يصحّ التمسّك بالعام فضلاً عن المطلق.

وفي الثاني، أعني فرض وجود المزيّة للمولى لفهم تحقّق القيد في الخارج وعدمه، فلو صدر كلامٌ عام من المولى كان ذلك دليلاً على تحقّق القيد ـ مثلاً ـ لو قال: أكرم كلّ جيراني، مع أنه لا يريد إكرام عدوّه ـ وهو أعلم بعدوّه من غيره ـ علمنا من ذلك أنّه ليس في جيرانه عدوٌّ له؛ فإنّه إذا ضمّ ما أفاده المولى من وجوب إكرام كلّ جيرانه إلى عدم وجوب إكرام عدوّه، أنتج ـ من الشكل الثاني ـ أنه ليس أحد من جيرانه عدواً له.

ولا يخفى عليك أنّ هذا إنّما يتمّ بالنسبة إلى العام دون المطلق؛ ذلك أنّ الحكم إلى الأفراد في العام كان يفهم من اللفظ الموضوع للعموم، أما في المطلق فلا يفهم ذلك من اللفظ الموضوع له وإنما يستفاد سريانه إلى الأفراد من ناحية أنّ مقتضى تطابق عالم الثبوت والإثبات كون تمام الموضوع ما ذكره من عنوان المطلق، ومجرّد علم المولى بمساواة أفراد المقيّد للمطلق لا يوجب إعفاءه من ذكر القيد، وبعد فرض العلم بأنّه ليس تمام الموضوع، بل يكون عنوان عدم كونه عدواً جزءَ الموضوع قد قصرت يدنا عن نكتة فهم سريان الحكم إلى جميع الأفراد، وهذا قانون قد نقّحناه في علم الأصول([14])، وهو نافع في موارد كثيرة من الفقه، منها ما نحن فيه.

وحاصل هذا القانون أنه إن كان الشك في أصل التخصيص أو التقييد صحّ التمسّك بالعام والمطلق مطلقاً، وإن كان الشك في مصداق المخصّص أو المقيّد، فإن كان المولى مساوياً للعبد في إحراز وجود القيد وعدمه، لم يصحّ التمسك بشيء منهما، وإلا صحّ في العام دون المطلق، فما هو المشهور من عدم جواز الرجوع إلى العام في الشبهة المصداقية ليس بصحيح على الإطلاق.

إذا عرفت هذه المقدّمة نقول: إنّ المجموعتين الأوليين دلّتا ـ بالعموم ـ على أنّ كلّ أرض ميتة للإمام(ع)، وقد ثبت أنّ ذلك مقيّد بقيدٍ؛ فنفس هذا العموم دليلٌ على وجود القيد، وقد حقّقنا في علم الأصول أنّ مصبّ العام لا يحتاج إلى الإطلاق بالنسبة إلى الحال الذي يكون خروجه مساوقاً لخروج الفرد حتى يرد علينا ما عرفته من الإشكال بالنسبة إلى المطلق، وعلى هذا فلو ورد دليلٌ على وجود ربّ غير الإمام(ع) للأرض الميتة حصل التعارض ووجب تطبيق قوانينه.

2 ـ هل هناك معارض لأخبار مالكيّة الإمام في السنّة الشريفة؟

القدر المتيقن من مالكية الإمام(ع) للأرض الميتة والذي ليس فيه شبهة التعارض أصلاً، هو الأرض الميتة التي لا استيلاء لأحد عليها، وهنا موارد ثلاثة تقع فيها شبهة المعارضة بين الأخبار في هذا المجال:

الأول: الأرض الميتة التي كانت تحت استيلاء الكفّار ففتحت عنوةً.

الثاني: الأرض الميتة التي كانت تحت استيلائهم فأسلموا عليها طوعاً.

الثالث: الأرض الميتة التي كانت تحت يد الكفار المصالح عليها معهم.

ونتيجة ذلك أنّ الكلام سيقع في موارد ثلاثة:

أ ـ الأرض الميتة المفتوحة عنوةً

أورد شبهةَ التعارض في هذه الأرض السيد الطباطبائي صاحب الرياض؛ فذهب إلى أنّ العمدة في المقام قيام الإجماع على كونها ملكاً له×، ولولاه لأمكن الخدش في ذلك بتعارض الأخبار الدالّة على مالكيته(ع) للأرض الميتة والأخبار الدالّة على كون الأرض المفتوحة عنوةً للمسلمين.. بالعموم من وجه، ومادّة الاجتماع الأرض الميتة المفتوحة عنوةً فتتساقط المجموعتان بالتعارض([15]).

وقال المحقق النجفي في كتاب الجهاد ما مضمونه: إنّ دعوى وقوع التعارض بين أخبار مالكية الإمام(ع) للأرض الميتة وأخبار الأرض المفتوحة عنوةً مدفوعةٌ، برجحان الأولى على الثانية، ولو باعتضادها بالإجماع ـ منقولاً ومحصّلاً ([16])ـ وأنت ترى أنه لم يأت بالزائد على ما أفاده صاحب الرياض. نعم قال في كتاب إحياء الموات ما لفظه: «بلا خلاف أجده فيه [يعني في مالكية الإمام(ع) للأرض الميتة حال الفتح] بل يمكن تحصيل الإجماع عليه فضلاً عن محكيه مستفيضاً أو متواتراً مضافاً إلى النصوص التي أشرنا إليها آنفاً ومرّ كثير منها في كتاب الخمس ومنه يعلم أنها ليست من الغنيمة لأنها قد كانت مالاً للإمام قبل الفتح..»([17]).

وقوله: ومنه يعلم،مجمل ولعلّه في مقام دفع شبهة التعارض، بتقريب أنّ ما يملكه المسلمون من الكفار بالفتح الذي دل عليه هو أخبار الغنيمة، وهي ثابتة وغير ثابتة؛ فغير الثابتة للمجاهدين، والثابتة ـ كالأرض وما بنى عليها وما غرس فيها ـ لجميع المسلمين، لا بما هو فتح مطلقاً، بل بعنوان الغنيمة والأرض الميتة كانت ملكاً للإمام قبل الفتح، ولا يعقل أن يكون ملك الغير غنيمة من الكفار مثلاً لو كان الكفار غصبوا دار زيد بن أرقم المسلم ثم استولى المسلمون على أراضيهم بالفتح، وفيها دار زيد، فمن الواضح أنّ الدار لا تحسب من الغنيمة، بل لابدّ من ردّها إلى زيد، وكذلك الكلام في ملك الإمام(ع).

وقد أضاف السيد الخوئي إلى ذلك جواباً آخر عن شبهة التعارض، وهو أنه لو قبلنا أخبار مالكية المسلمين لا يبقى مورد لأخبار مالكية الإمام(ع) للأرض الميتة، فإنّ جميع الأراضي كانت بيد الكفار ثم أخذت منهم بعد ذلك([18]).

وفيه ما لا يخفى؛ إذ ليست كلّ أرض ميتة بيد المسلمين ـ بعد أخذ ما أخذ من الكفار ـ معنونةً بعنوان أرض الخراج؛ حتى لا يبقى مورد لأخبار مالكية الإمام(ع)، بل تبقى موارد عديدة، منها الأرض المأخوذة منهم بالصلح، ومنها ما أسلم عليه أهلها طوعاً، ومنها ما أخذت منهم بالقتال الذي لم يكن بإذن الإمام(ع)، ومنها الأرض الميتة التي ظهرت ابتداءً في يد المسلمين، كجزيرة.

وعلى أية حال، فهذا إنما يتم لو كانت العبرة بخصوص صدق عنوان الغنيمة، لكنّ بعض أخبار الفتح مطلق وناطق بأنّ ما أخذ بالسيف فهو ملك للمسلمين، وهذا كما ترى مطلق يشمل الأرض الميتة أيضاً، فإنّ صدق الفتح من الكفار إنما يتوقف على استيلاء الكفار المفروض تحقّقه، لا على ملكيتهم المفروض خلافها، نعم لو كان بيدهم أرض مغصوبة كانت لمالكها الأول للنصّ، ولم يصدق الغصب بالنسبة إلى هذه الأرض الميتة التي للإمام(ع).

ولمزيد بيان لأخبار ملكيّة المسلمين للمأخوذ بالسيف مطلقاً ولو لم يكن بملك، نقول: إنّ تلك الأخبار على قسمين:

القسم الأوّل: ما دلّ بنفسه على ذلك دون ضمّ حديث آخر:

أ ـ كحديث أبي الربيع الشامي: >لا تشتر من أرض السواد شيئاً إلا من كانت له ذمة فإنما هو فيء للمسلمين<([19]).

ب ـ وصحيح محمد الحلبي: «سئل أبو عبد الله(ع) عن السواد ما منزلته؟ فقال: هو لجميع المسلمين لمن هو اليوم ولمن لم يدخل في الإسلام بعد اليوم، ولمن لم يخلق بعد»([20]).

القسم الثاني: ما دلّ على أنّ مطلق الأرض المأخوذة بالسيف من الخراج، كقوله في حديثي البزنطي: «ما أخذ بالسيف فذلك إلى الإمام يقبله بالذي يرى<([21])، حيث يُضم إلى ما دلّ على أنّ أرض الخراج للمسلمين، كقوله: >إنما أرض الخراج للمسلمين<([22])، وقوله عندما سئل: كيف ترى في شراء أرض الخراج؟ قال: >ومن يبيع ذلك؟! هي أرض المسلمين<([23])؛ فبالضمّ إلى هذه الأخبار يثبت المطلوب.

وبالجملة فهذا الجواب ليس بجواب، كما أنّ الجواب عن الخدش في مالكية الإمام(ع) لها بالإجماع ليس جواباً فنيّاً، بل ليس صحيحاً، فليس في البين إلا دعوى انصراف دليل الفتح إلى ما كان ملكاً لهم قبل الفتح؛ فإن ادّعي ذلك فعهدتها على مدّعيها، وإلا فنقول في مقام دفع الشبهة: إنّ الجواب الفنّي الصحيح عن هذه الشبهة وجوه أربعة:

الوجه الأول: إنّ ما دلّ على أنّ كل أرض ميتة أو كل أرض خربة للإمام(ع) أو لأربابها، إنما دلّ على ذلك بالعموم، بخلاف ما دلّ على مالكية المسلمين لها، مثل قوله: ما أخذ بالسيف ملكٌ للمسلمين، فإنه بالإطلاق، والعام مقدّم على المطلق؛ إمّا لحكومته عليه؛ لكون دلالة العام بالأداة ودلالة المطلق بالمقدّمات المانع عن تحققها وجودُ العام، كما ذكره الشيخ الأعظم الأنصاري (1281 هـ) في الرسائل([24])، وإمّا لأظهريته؛ فإنّ قولنا: أكرم كلّ عالم، أظهر ـ في شمول جميع الأفراد ـ من قولنا: أكرم العالم، كما لا يخفى.

الوجه الثاني: إنه بعد فرض التكافؤ والتساقط بالتعارض، إنما يعارض دليل ملكية المسلمين للأرض المجموعتين الأوليين المتقدّمتين، ولا يعارض المجموعة الثالثة؛ لحكومته عليها، وقد مضى بيان ذلك في المحور الأول، وبعد تساقط الحاكم مع معارضه، تصل النوبة إلى المحكوم، وهو الطائفة الثالثة، وهي كافية لإثبات المطلوب بالتقريب السابق.

لكنّ هذا الجواب غير صحيح إلا على فرض خاصّ كما سيظهر إن شاء الله.

الوجه الثالث: بعد فرض التعارض مع جميع الطوائف والتساقط، تصل النوبة إلى العام الفوقاني، وهو ما دلّ على أنّ الأرض كلّها للإمام×، كصحيح أبي خالد الكابلي عن أبي جعفر(ع)، قال: >وجدنا في كتاب علي(ع) أنّ الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين، أنا وأهل بيتي الذين أورثنا الأرض ونحن المتقون، والأرض كلّها لنا؛ فمن أحيى أرضاً من المسلمين فليعمرها وليؤدّ خراجها إلى الإمام من أهل بيتي، وله ما أكل منها..<([25]).

وحمل هذا الخبر على إرادة المالكية بمعنى آخر غير المالكية الشرعية من الوجه العرفاني والولائي([26])، خلافُ الظاهر، خصوصاً مع ما فيه من تفريع إعطاء الأجرة، وهذا ثابت على كلّ أحد إلا الشيعة؛ لأخبار التحليل، وبالجملة: ظاهر الحديث كونه(ع) مالكاً بالملكية الشرعية لمطلق الأرض، إلا ما خرج بالتخصيص لو ثبت التخصيص، ومهما دار الأمر بين التخصيص وتأويل آخر في العام أخذ بالأول كما حقّقناه في علم الأصول، ولا يلزم هنا تخصيص الأكثر؛ كيف والأراضي كلّها موات إلا ما شذّ، وبالجملة بعد الرجوع إلى عموم العام يثبت أيضاً مقالة المشهور من كون الأرض الميتة المفتوحة عنوةً ملكاً للإمام(ع).

الوجه الرابع: سلّمنا التعارض مع جميع الطوائف والتساقط، وعدم وجود عامّ نرجع إليه، لكن نقول: تصل النوبة حينئذٍ إلى الأصل العملي، وهو هنا الاستصحاب؛ فإنّ الأرض الميتة قبل الفتح كانت للإمام(ع)، فنستصحب ذلك بعد الفتح؛ للشك وفرض عدم وجود دليل اجتهادي.

والمتحصّل من جميع ما ذكرنا أنّ فتوى المشهور صحيحة لوجوه أربعة، ولكلّ واحد من هذه الوجوه خصوصية بالنظر إلى المورد، من حيث فرض وقوع الفتح قبل تشريع الأنفال، وبعبارة أخرى: قبل نزول سورة الأنفال، ووقع المعارضة بعده وفرض وقوع الفتح بعد تشريع الأنفال، فبهذا اللحاظ يكون لكلّ واحد من تلك الوجوه خصوصية ليست للوجوه الأخرى.

أ ـ فخصوصية الوجه الثالث، أنه يتأتّى في كلا الفرضين بلا إشكال، أي أنه لا فرق بين فرض الفتح قبل تشريع الأنفال وفرضه بعده.

ب ـ وخصوصية الوجه الرابع، أنه مختصّ بالفرض الثاني بلا شبهة؛ إذ لم تثبت ملكية الإمام قبل الفتح في الفرض الأول، لا بدليل الأنفال؛ لتأخره، ولا بالعموم الفوقاني؛ لفرض التنزل عن الوجه الثالث، حتى تصل النوبة إلى الوجه الرابع، وإذا لم تكن ملكيّته قبل الفتح ثابتةً فكيف تُستصحب؟!

ج ـ وخصوصية الوجه الثاني، أنه يتأتّى في الفرض الثاني إن قلنا بعدم كفاية عدم الربّ لها حين تشريع الأنفال في تحقق عنوان: كلّ أرض لا ربّ لها، وإلا فالموضوع متحقّق؛ فتدخل المجموعة الثالثة أيضاً طرفاً في المعارضة. أمّا في الفرض الأول ـ أعنى وقوع الفتح قبل تشريع الأنفال ـ فإن فرض تشريع حكم الأرض المفتوحة عنوةً لهذا الفتح قبل تشريع الأنفال، فالوجه الثاني لا يتأتّى حينئذٍ؛ لأنّ الربّ غير الإمام ـ وهو المسلمون ـ كان ثابتاً للأرض بعد الفتح قبل تشريع الأنفال بلا إشكال، وفعلاً أيضاً ثابت بحكم الاستصحاب، فلا يتأتى قوله: كلّ أرض لا ربّ لها فهي للإمام؛ لانتفاء الموضوع، سواء قلنا: إنّ المراد من قوله: لا ربّ لها، عدم الربّ فعلاً أم حين تشريع الأنفال أم حدوثاً وبقاءً من زمان التشريع إلى الزمان الفعلي، أو حدوثاً فقط من زمان التشريع إلى الزمان الفعلي وأما إن فرض عدم تشريع حكم الأرض المفتوحة عنوةً الفتح قبل تشريع الأنفال فالوجه الثاني يتأتى بناءً على الاحتمال الأول والثالث، دون الثاني والرابع؛ لأنّ موضوع المجموعة الرابعة حينئذٍ ـ وهو عدم الرب حدوثاً أو حين التشريع ـ ثابت؛ فتقع طرفاً للمعارضة.

د ـ أمّا خصوصية الأول، فيمكن الاستشكال في تأتّيها في الفرض الثاني، وهو حصول الفتح بعد تشريع الأنفال؛ لأنه لو فرضنا الأخذ بإطلاق دليل ملكية المسلمين للأرض المفتوحة عنوةً لم يلزم طرح العموم الأفرادي لدليل الأنفال؛ لأنها كانت ملكاً للإمام بعنوان الأنفال قبل الفتح بلا إشكال، فلم يخرج الفرد عن تحت العموم، نعم يلزم طرح الإطلاق الأحوالي لدليل الأنفال، أعني قوله: كل أرض ميتة أو خربة أو لا ربّ لها للإمام×؛ فإنّه صار ذلك مختصّاً بما قبل الفتح؛ فالتعارض في الحقيقة بين الإطلاقين، لا بين إطلاق وعموم حتى يقدّم العموم على الإطلاق، نعم لو كان الفتح قبل تشريع الأنفال لزم من الأخذ بإطلاق دليل ملكية المسلمين للمفتوحة عنوةً إخراج الفرد عن دليل الأنفال؛ إذ يلزم عدم كونها ملكاً للإمام بعنوان الأنفال ولو آناً ما، وهذا وجه فنّي لا بأس به.

لكن مع ذلك التحقيق تأتّي الوجه الأول في كلا الفرضين؛ فإنّه لا يعقل أن يقال: إنّ الفتح لو كان قبل تشريع هذه الملكية للإمام× كانت الأرض الميتة المفتوحة ملكاً له بعد تشريعها، لكن لو كان الفتح بعد تشريع ملكيته فكونه بعد تشريع ملكيته مانعٌ عن نفس هذه الملكية، لا أقول: إنّ فيه محذوراً عقلياً، بل أقول: إنّه بعد ورود الدليل العام على ملكية الإمام لما فتح قبل تشريع تلك الملكية بذلك اللسان المخصوص، يفهم العرف من ذلك اللسان ثبوت ذلك في الفتح بعد تشريعها أيضاً بحيث يكون تقييد ذلك في نظر العرف مساوقاً لتخصيص ذاك العام، فافهم ذلك فإنه وجه دقيق لطيف.

 

أدلّة النظريّة المخالفة للمشهور، وقفات نقدية

بقي الكلام في ما يمكن الاستدلال به على خلاف المشهور، وهو أمور:

الدليل الأوّل: قوله تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى} (الأنفال:41)، فإنّ هذه الآية الشريفة بما أنّها في مقام التحديد تنفي بمفهوم الحصر مالكية الإمام× للأزيد من الخمس، وتمامية دلالتها على خلاف قول المشهور مبنيّة على تسليم مقدّمتين:

المقدّمة الأولى: صدق الغنيمة على ما يؤخذ منهم بالقتال ولو لم يكن ملكاً لهم.

المقدّمة الثانية: دعوى أنّ الآية الشريفة واردة في مقام بيان مطلق ما للإمام من المال المغتنم، أمّا إذا قلنا: إنها إنما تكون في مقام بيان ما للإمام من المال المغتنم بعنوان أنه مغتنم، فلا ينافي ذلك كون شيء منه ملكاً له من أول الأمر بعنوان آخر.

وبالجملة إذا أنكرنا إحدى المقدّمتين فالدليل غير تام من أصله، وإذا سلّمناهما وصلت النوبة إلى الجواب بأحد الوجوه الأربعة الماضية، فنقول:

1 ـ إذا بنينا في علم الأصول أنّ الخبر الواحد المعارض للكتاب بالعموم من وجه ليس بحجّة، فلا يتمّ شيء من الوجوه الماضية عدا الوجه الأول الرافع لأصل التعارض بتقديم العام لحكومته على المطلق على مذهب الشيخ الأعظم أو لأظهريته على مذهبنا، فهذا جمع عرفي، وأما باقي الوجوه فمبنية على فرض التعارض، وفرض التعارض مساوق لفرض عدم الحجية؛ لأنّ المفروض عدم حجية الخبر الواحد المعارض للكتاب بالعموم من وجه؛ فيصير ذلك من باب تعارض الحجّة واللاحجة، ومعلوم أنّ اللازم هو الأخذ بالحجّة دون اللاحجة.

2 ـ أمّا إذا بنينا في علم الأصول على أنّ الخبر الواحد ينهض معارضاً للكتاب بالعموم من وجه أو ادّعينا أن ما نحن فيه من الأخبار ممّا يبلغ الخمسة أو الستة موجبٌ للقطع بالصدور فيكون داخلاً في التواتر، فكما يصح الجواب بالوجه الأول كذلك يصحّ بالوجه الثاني والرابع على تفصيلٍ مضى ذكره، أمّا الجواب بالوجه الثالث فلا يصحّ هنا؛ لأنّ النسبة بين صحيح الكابلي الحاكم بكون الأرض للإمام(ع) والآية الشريفة الواردة في مطلق الغنيمة ـ خصوصاً الأرض ـ هي العموم من وجه؛ فليس لدينا عامّ فوقاني نرجع إليه، وهذا بخلاف ما لو كان المعارض حديث ملكية المسلمين للأرض المفتوحة عنوةً، فإنّه أخصّ من صحيح الكابلي مطلقاً؛ لأخذ عنوان الأرض فيه.

الدليل الثاني: قوله تعالى: {وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكَابٍ وَلَكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (الحشر: 6).

فإنّ كلمة (ما) فيها نافية بقرينة قوله: ولا ركاب، وبقرينة الاستدراك بلكنّ، والآية وردت في رفع استيحاشهم واستبعادهم كون جميع ذلك له’، فقالت ـ في مقام التقريب ـ إنّكم ما أوجفتهم بخيل ولا ركاب، فلا حقّ لكم فيه، وفيها نوع دلالة على أنّ ما أوجفتم عليه بخيل وركاب لا ينبغي للرسول ووصيّه أخذه، وإطلاق هذا الكلام يشمل ما لو كانت الأرض ميتةً.

ويناقش بمنع ثبوت هذا الإطلاق؛ لعدم ثبوت كون الآية في مقام البيان من هذه الجهة، وبعد تسليم إطلاقها تكون كالآية السابقة، وتقدّم أخبار المدّعى عليها لكون دلالتها بالعموم ودلالة الآية بالإطلاق. واعلم أنّ الفيء قسمٌ من الأنفال وهو الأرض التي لم يوجف عليها بخيلٍ ولا ركاب.

الدليل الثالث: رواية أبي بصير، عن أبي جعفر×: «كل شيء قوتل عليه على شهادة أن لا إله إلا الله وأنّ محمداً رسول الله فإنّ لنا خمسه..< ([27]).

فإنّ هذا الحديث مفاده مفاد ما مضى من الآية الشريفة الأولى، ويدلّ أيضاً ـ بمفهوم الحصر ـ على عدم كون الزائد على الخمس للإمام(ع)، ومزيّته على الآية الشريفة من وجهين:

أحدهما: إنّ الاستدلال بالآية كان موقوفاً على دعوى شمول عنوان الغنيمة لكلّ ما كان تحت يدهم وإن لم يكن ملكاً لهم، لكنّ الاستدلال بهذا الحديث لا يحتاج إلى هذه المقدّمة؛ لعدم أخذ عنوان الغنيمة فيه، نعم يحتاج إلى المقدّمة الأخرى، وهي تسليم كونه في مقام بيان مطلق ما للإمام مما قوتل عليه، لا في مقام بيان خصوص ما لَه منه بهذا العنوان.

ثانيهما: إنّ دلالة الآية الشريفة كانت بالإطلاق، ودلالة هذا الحديث بالعموم، فالجواب الأول من تلك الأجوبة لا يتأتّى هنا؛ فإنّ تمّت دلالة الحديث بأن سلّمنا تلك المقدمة، فلابدّ أن يجاب عنه بالأجوبة الأخرى دون الجواب الأول، والذي يهوّن الخطب أن راوي هذا الحديث عن أبي بصير هو علي بن أبي حمزة البطائني، وهو ضعيف على الأقوى([28])، فالرواية ساقطة عن درجة الاعتبار من أصلها.

الدليل الرابع: ما مضى من حديث إسحاق: سألت أبا عبدالله(ع) عن الأنفال؟ فقال: >هي القرى التي قد خربت وانجلى أهلها، فهي لله وللرسول، وما كان للملوك فهو للإمام، وما كان من الأرض بخربة لم يوجف عليه بخيل ولا ركاب..<([29]).

فهذا الحديث يدلّ ـ بمفهوم الحصر والوصف ـ على أنّ الأرض الخربة إذا لم تتصف بعنوان (لم يوجف عليها بخيل ولا ركاب) لم تكن للإمام(ع)، فالأرض الموات المفتوحة عنوةً ليست له(ع)، وهذا أخصّ من العمومات الماضية فتخصّص به.

والاستدلال بهذا الحديث مبنيّ على تسليم ثبوت المفهوم له، والتحقيق أنّه مع تسليمه لا يقاوم هذا الحديث ـ أيضاً ـ ما مضى من العمومات، فلابدّ من رفع اليد عن مفهومه؛ لأنه لا يمكن تخصيص تلك العمومات به وإن كان أخصّ منها؛ وذلك لأنّ الأرض الخربة في صحيحة حفص أو حسنته قد ذكرت في قبال ما لم يوجف عليه بخيل ولا ركاب، فقد جاء في هذه الصحيحة قال: >الأنفال ما لم يوجف عليه بخيل ولا ركاب أو قوم صالحوا أو قوم أعطوا بأيديهم وكلّ أرض خربة..< ([30]).

ولو فرضنا تخصيصها بهذا الحديث لزم كون ما ذكر في قبال عنوان (ما لم يوجف عليه بخيل ولا ركاب) هو عنوان (كل أرض خربة لم يوجف عليها بخيل ولا ركاب)، وهذا أخصّ من الأول، ويكون من قبيل عطف الخاص على العام، فيلزم من ذلك أن لا يكون لعنوان الخراب مدخلٌ في الحكم، مع أنّ ظاهره العرفي دخالته فيه، وهو يقدّم على المفهوم؛ لأنه ظهور عرفي والمفهوم ظهور إطلاقي.

يضاف إلى ذلك أنه لا تصحّ دعوى وجود مفهوم لهذا الحديث إلا من باب الحصر والوصف:

أ ـ أمّا مفهومه الحصري، فليس أخص من العمومات حتى تخصّص به، فإنّ مفهومه المستفاد من الحصر ليس عدم أنفاليّة خصوص الأرض الخربة التي لم تتصف بتلك الصفة، أي بصفة أخذها من الكفار دون أن يوجف عليها بخيل ولا ركاب، وإنّما كلّ ما لم يذكر في هذا الحديث الوارد في مقام الحصر فهو ليس من الأنفال، سواء كان ذلك الأرض الخربة غير المتصفة بتلك الصفة وغيرها، وتلك العمومات تشمل الأرض الخربة المتصفة بتلك الصفة وغير المتصفة بها، فيتعارضان بالعموم من وجه في الأرض الخربة غير المتصفة بتلك الصفة؛ فنرجع حينئذ إلى أحد الأجوبة الأربعة الماضية.

ب ـ وأما مفهومه الوصفي، فغير مسلّم عندنا، وذلك:

أولاً: لما حقّقناه في علم الأصول من عدم ثبوت مفهوم للوصف([31]).

ثانياً: وحتى لو سلّمنا بمفهوم الوصف، ففي خصوص ما نحن فيه لا مفهوم له، وذلك أنّ من يقول بمفهوم الوصف إنّما يقول به من باب أنّ ظاهر ذكر الوصف لموضوع الحكم دخالته دخلاً ضمنياً فيه، ومقتضى أصالة التطابق بين عالم الثبوت والإثبات كون الأمر كذلك في عالم الإثبات أيضاً؛ فتثبت دخالة الوصف في الحكم فينتفي بانتفائه. وهذا التقريب كما ترى لا يجري فيما لو فرض أنّ ما أخذ بحسب الظاهر موضوعاً ثبت من الخارج عدم موضوعيّته، فلو قال مثلاً: أكرم العالم العادل، وفرضنا أنه ثبت من الخارج أنّ ذكر العالم كان من باب أحد الأفراد، والعادل يجب إكرامه وإن لم يكن عالماً، فالعادل بنفسه موضوعٌ، لا أنه وصفٌ للموضوع حتى يكون ذا مفهوم؛ فإنّ المولى كأنّه قال: أكرم العادل، ومعلوم أنه لو قال: أكرم العادل لم يكن له مفهوم، وبعبارة أخرى نقول: بعد أن ثبت أنّ العالم ليس موضوعاً للحكم في عالم الإثبات مع أنه موضوع له في عالم الثبوت فقد ثبت مخالفة عالم الثبوت لعالم الإثبات؛ فلا يصحّ أن يُرجع إلى أصالة تطابق عالم الإثبات والثبوت، ويقال: إنّ مقتضى عالم الثبوت أنّ العالِم ليس تمام الموضوع بل للموضوع جزء آخر وهو العادل فكذا الأمر في عالم الإثبات.

ثم إنّي أظن أنه قد وقع غلط في نسخة حديث إسحق.

وكيف كان، فقد ظهر من جميع ما ذكرنا بما لا مزيد عليه أنّ الحق هو ما ذهب إليه المشهور من أنّ الأرض الخربة للإمام(ع) وإن كانت مفتوحةً عنوة.

هل هناك تناقض فتوائي في كلمات مشهور الفقهاء؟!

وقع إشكال في الجمع بين فتويين صادرتين من المشهور: إحداهما أنّ الأرض الخربة للإمام×، وثانيتهما أنّ الأرض المفتوحة العامرة حال الفتح ملكٌ للمسلمين، دون أن يفصّلوا في ذلك بين كونها عامرةً حين تشريع الأنفال أو لا؛ فمقتضى الإطلاق أنها للمسلمين حتى لو كانت خربةً حين تشريع الأنفال، مع أنهم لا يقولون بتملّك الكافر لها بالتعمير، فهي باقية في ملك الإمام؛ فيشكل القول بصيرورتها ملكاً للمسلمين.

قال صاحب الجواهر في كتاب الخمس ما لفظه: >وإطلاق الأصحاب والأخبار ملكية عامر الأرض المفتوحة عنوةً للمسلمين يُراد به ما أحياه الكفار من الموات قبل [بعد] أن جعل الله الأنفال لنبيّه’، وإلا فهو له أيضاً وإن كان معموراً وقت الفتح..<([32]).

لكنه ناقض هذا الكلام في كتاب إحياء الموات؛ فجعل وضوح بطلان هذا التفصيل دليلاً على صحّة تملك الكفار للأرض الميتة بالتعميم؛ فإنه قال ـ بعد إثبات صحّة تملّكهم لها به، وبيان أنّه لا محذور فيه مع إذن الإمام ـ : >كلّ ذلك، مضافاً إلى ما يمكن القطع به من ملك المسلمين ما يفتحونه عنوةً في أيدي الكفار وإن كان قد ملكوه بالإحياء، ولو أن إحياءهم فاسد لعدم الإذن لوجب أن يكون على ملك الإمام، ولا أظنّ أحداً يلتزم به<([33]).

أقول: لابدّ ـ للفرار عن الإشكال ـ من الالتزام بأحد أمور لا يلتزم بها المشهور:

الأول: دعوى أنّ الأرض الخربة التي تكون للإمام مخصوصة بما إذا لم تكن تحت استيلاء الكفار، وهذا خلاف إطلاقات الأخبار وكلام الأصحاب.

الثاني: ما التزم به صاحب الجواهر في كتاب الخمس من التفصيل، وهو أيضاً خلاف إطلاقات الأخبار وكلام الأصحاب.

الثالث: أن لا يشترط في ما يؤخذ بالفتح أن يكون ملكاً شرعياً للكفار قبله، وتسليم أنّ المسلمين يغتنمون من إمامهم ماله بأخذهم له من الكفار بالفتح، وهذا أيضاً لا يلتزم به الأصحاب.

الرابع: أن يكون إحياء الكفار للموات كإحياء المسلمين له، فيملكونه بذلك فينتقل إلى المسلمين بالفتح، كما التزم به صاحب الجواهر في كتاب إحياء الموات، وإن كان خلاف المشهور.

والحق أنّ إحياء الكفار كإحياء المسلمين، لكنهم لا يملكونها بالإحياء كما أن المسلمين أيضاً لا يملكون به، بل يحصل لهم حقّ فيها بذلك، كما سنبيّنه إن شاء الله. فبالفتح يقومون مقام الكفار في طرف الإضافة لذلك الحقّ.

بل يقال: إنّ دفع الإشكال عن إطلاق قولهم الأرض المفتوحة عنوة العامرة حين الفتح للمسلمين أي إثبات كونها لهم، ولو كانت خربة حين تشريع الأنفال، يكون بوجوه:

الأول: وهو مبني على أن ما يكون للمسلمين بالفتح يكون من باب الغنيمة وأنّ الغنيمة تختصّ بما كان للكفار شرعاً، وحينئذٍ معنى صيرورته للمسلمين هو صيرورته لهم على النحو الذي كان للكفار، إن حقاً فحق وإن ملكاً فملك، وإحياء الكفار كإحياء المسلمين يوجب الحقّية؛ فتكون بعد الفتح للمسلمين.

لكنّ المبنى باطل فإنّ ما ورد من أنّ ما أخذ بالسيف للمسلمين وأنّ أرض السواد للمسلمين مطلقٌ غير مختصّ بما كان للكفار.

الثاني: وهو مبنيّ على الالتزام بما مرّ من الإطلاق، وحينئذٍ فظاهر ما دلّ على أنّ ما أخذ بالفتح فهو للمسلمين هو الملكية، لا كونه لهم كما كان للكفار، إن حقاً فحق وإن ملكاً فملك، وحينئذٍ تقع المعارضة بين ما دلّ على مالكية المسلمين ما فتحوه وملكية الإمام للأرض الخربة بالعموم من الوجه، ومادة الاجتماع الأرض الخربة المفتوحة عنوةً الداخلة تحت الإطلاق الأفرادي لدليل مالكية المسلمين ما فتحوه، والإطلاق الأزماني لدليل أن للإمام الأرض الخربة، بناء على ما سيجيء.

ودليل ملكية المسلمين موافق لقوله تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى} بناء على دلالتها بمفهوم الحصر على أنّ الزائد من الخمس ليس للرسول والإمام(ع)؛ فإن قلنا: إنّ الخبر الواحد المعارض للكتاب ـ ولو بالعموم من وجه ـ غير حجة في نفسه، فدليل ملكية الإمام لها ساقط من رأس، وإلا قدّم دليل ملكية المسلمين عليه؛ لأوّل المرجحات وهو موافقة الكتاب.

لكن قد مضى منع دلالة الآية الشريفة على ذلك.

الثالث: إنّ ما دل على ملكية المسلمين والإمام لها ساقطان بالتعارض؛ فنرجع إلى ما دلّ على ثبوت الاختصاص للمسلمين بها، وهو لا يدلّ على الملكية حتى يسقط بالتعارض، بل هو ذو لسان يناسب الحق أيضاً، وهو صحيح حمّاد بن عيسى أو حسنه عن بعض أصحابه عن العبد الصالح×، وفيه: >والأرضون التي أخذت عنوةً بخيل أو ركاب، فهي موقوفة متروكة في يدي من يعمرها..<([34]).

لكنّ هذا الحديث ساقط بالإرسال.

الرابع: وهو الوجه الصحيح وهو أنّ اللام في مثل قوله: ما أخذ بالسيف فهو للمسلمين، وقوله: كل أرض خربة للإمام(ع)، وقولك: المال لزيد، هي للاختصاص، وما يقال من أنّها للملكية غلط، نعم إطلاق الاختصاص يقتضي الملكية، فإنّ اختصاص مال لشخص بقول مطلق هو مملوكيته له، ففي الحقيقة يكون التعارض بين إطلاق قوله: للمسلمين، وإطلاق قوله: للإمام المقتضيين للملكية، فيتساقط الإطلاق، وأما أصل اختصاص المسلمين بها فلا ينافي ولا يعارض اختصاص الإمام بها، فمن الممكن أن تكون الأرض ملكاً للإمام(ع) وللمسلمين حقّ اختصاص بها، فلا بأس بإثبات حقّ الاختصاص للمسلمين بنفس أخبار الفتح، كما لا بأس بإثبات مالكية الإمام أيضاً لهذه الأرض ـ بعد تساقط الإطلاقين ـ بالعموم الفوقاني الدال على أنّ كل أرض للإمام(ع).

وقد عرفت دلالة الأخبار على أنّ الأرض الخربة للإمام(ع)، ولا إشكال في ذلك في غير موارد شبهة التعارض مع خبر آخر. وقد مضى أنّ موارد شبهة التعارض ثلاثة، وإلى هنا تمّ الكلام في المورد الأول.

ب ـ الأرض الخربة التي أسلم الكفار عليها طوعاً

إنّ ما يمكن جعله معارضاً لأخبار مالكية الإمام(ع)لهذه الأرض هو حديث صفوان بن يحيى وأحمد بن محمد بن أبي نصر، قال: >ذكرنا له الكوفة وما وضع عليها من الخراج وما سار فيها أهل بيته، فقال: من أسلم طوعاً تركت أرضه في يده وأخذ منه العشر، مما سقي بالسماء والأنهار، ونصف العشر بما كان بالرشا فيما عمروه منها وما لم يعمروه منها أخذه الإمام فقبله ممّن يعمره وكان للمسلمين..< ([35]).

إنّ هذا الحديث وإن كان مضمراً، لكنّه لا ضير في إضماره بعد كون الراوي مثل صفوان بن يحيى الذي ظاهر حاله أنه لا يروي عن غير الإمام، فلو كان مقصوده من الضمير غير الإمام مع قرينة كان على الراوي عنه بيان القرينة وإلا كان خائناً؛ فالقرينة منفية بالأصل العقلائي.

وقد روى الشيخ الطوسي مثل هذا الحديث بسند عن أحمد بن محمد بن أبي نصر، عن أبي الحسن الرضا(ع) ([36]) لكن سنده يحتاج إلى تأمل، [بل نقل عنه دام ظله أنه ضعّفه]([37]).

أمّا قوله: وما لم يعمروه منها، فظاهره عدم التعمير رأساً؛ بقرينة نظائره، فإنّ المضارع المنفي بلم ظاهر في النفي رأساً، كقولك: هذا الثوب لم ألبسه، وهذا الكتاب لم أطالعه، لكنّ الأصحاب فهموا من هذه الجملة الأرضَ التي خربت بعد تعميرها، وهو ـ كما ترى ـ خلاف الظاهر.

أمّا قوله: وكان للمسلمين، ففيه احتمالات ثلاثة:

الاحتمال الأول: أنّ ما لم يعمروه من الأرض يكون للمسلمين، وهو الظاهر منه، ويوافقه الاعتبار أيضاً؛ حيث إنّ المناسب لإسلامهم طوعاً جعل أرضهم لهم، غايته جعلت العامرة منها لهم شخصاً والخربة منها لهم نوعاً؛ انطلاقاً من كونها لنوع المسلمين.

الاحتمال الثاني: كون هذه الجملة تفريعاً على قوله: فقبله ممن يعمره؛ بأن يكون معناه: أنّ الإمام(ع) يقبله من جانب المسلمين ممّن يعمره فيحييه فيصير للمسلمين؛ لأنّ من أحيا أرضاً فهي له، وهذا خلاف الظاهر؛ لأنّ التفريع يحتاج إلى مؤنة زائدة.

الاحتمال الثالث: ما يُفهم من الأصحاب من أنّ المراد أنّ تقبيل الإمام(ع) والخراج يكون للمسلمين أي يقبّله من شخص، كي يصرف منفعة ذلك للمسلمين؛ وهذا ـ أيضاً ـ خلاف الظاهر؛ لأنه لم يذكر في السابق كلمة التقبيل، وإنما هي متصيّدة من قوله: فقبله.

واعلم أنهم قالوا بأن هؤلاء الذين أسلموا طوعاً لو خربت أرض عامرة لهم دخلت في ما مضى من قوله: ما لم يعمره منها لكن لم تخرج عن ملكهم فلأجل جمعهم بين القول بعدم خروجها عن ملكهم والقول بالاحتمال الثاني من الجملة الأولى والاحتمال الثالث من الجملة الثانية.. حكموا بأنه لو خربت أرض كانت عامرة في يد من أسلم عليها طوعاً يتقبلها وليّ المسلمين من أحد يزرعها فيعطي مقداراً من الزرع له لحقّ الزراعة ويعطي أجرة المالك، ويصرف الباقي في مصارف المسلمين، جمعاً بين هذا الحديث والأدلة العقلية والنقلية الدالّة على عدم جواز التصرّف في مال الغير. وصحّة هذه الفتوى وعدمها موكولان إلى المحور الثالث.

وأقول هنا: إنّ هذا الحديث معتبر سنداً ومعمولٌ به عند أكثر الأصحاب، لكنهم فهموا منه ما عرفت وأفتوا به، والذي نفهمه منه أنّ ما كان من أرضهم لم يعمر أصلاً فهو ملك للمسلمين، وهو أخص من أخبار مالكية الإمام لكلّ أرض خربة؛ فتخصّص به، ويثبت أنّ هذه الأرض الخربة ملكٌ للمسلمين لا للإمام، ولا وحشة في الإفتاء بهذا سوى وحشة الانفراد، ويحسن الاحتياط. [ثم قال دام ظله: إنّ هذا الحديث ضعيف سنداً]([38]).

الاحتمال الرابع: أن يكون الضمير راجعاً إلى الخراج المذكور في صدر الحديث، لكنه مع ذلك يستظهر منه مالكية المسلمين للأرض الخربة التي أسلم أهلها طوعاً؛ لأنه يفهم عرفاً من الحكم بكون خرجها وأجرتها للمسلمين أنّ نفس الأرض لهم فتتبعها أجرتها.

لكنّ الإنصاف أنّ هذا الاستظهار لا يقاوم أخبار مالكية الإمام(ع) لكلّ أرض خربة، بل يحمل هذا الحديث على أنّ أخذ المسلمين للخراج كان من باب ثبوت حقّ لهم بالنسبة إلى الأرض لا من باب الملكية، هذا بناء على هذا الاحتمال الرابع وإن كان ربما يستبعد من ناحية الفصل الطويل بين الضمير ومرجعه مع إمكان رجوعه إلى القريب.

وبالجملة: إذا استظهر هذا الاحتمال من الحديث أو احتُمل بحيث صار الحديث مجملاً، كان المرجع عموم أخبار مالكية الإمام(ع) للأرض الخربة، لكنّ هذا الاحتمال بعيدٌ؛ لأنّ الخراج المذكور في صدر الحديث ليس مطلقَ الخراج الذي هو المراد من الضمير على فرض رجوعه إليه، بل خصوص خراج الكوفة المفتوحة عنوةً، والتي جاء الجواب عنها في ذيل الحديث من قوله(ع): >وما أخذ بالسيف فذلك إلى الإمام< وحينما يقول(ع): كان للمسلمين، لم يشرع بعدُ في جواب السائل، بل هو ـ وبعد بيان حكم الأرض التي أسلم أهلها طوعاً ـ بيّن حكمه تفصيلاً زائداً على جواب سؤال السائل.

ج ـ الأرض الخربة المتصالح عليها مع الكفار

ذكر صاحب الجواهر أنه إذا كانت الأرض الخربة داخلةً تحت عقد الصلح كانت لمن صولح عليها من الكافر أو المسلم؛ لأنّ فرض الصلح على هذا، ولم تكن للإمام(ع)، نعم إذا لم تكن داخلةً تحت عقد الصلح فهي له([39]).

أقول: التحقيق أنّ دخولها تحت عقد الصلح موجبٌ لبطلان أصل الصلح؛ إذ لم يرد دليل على صحّة هذا الصلح بهذا النحو بالخصوص، وإنما الموجود قانون صحّة مطلق العقود والمعاملات الواقعة بين العقلاء سوى ما خرج بالدليل؛ فيصحّ الصلح مع الكفار إلا ما خرج بالدليل، كفرض ظنّ غلبة المسلمين الذي ورد النص فيه بعدم جواز الصلح معه بل يقاتلون حتى يسلموا أو يعطوا الجزية عن يدٍ وهم صاغرون. وبالجملة: لا دليل على صحّة هذا الصلح سوى القانون الموجود في جميع العقود المقيّدة بعدم وقوعها على خلاف الكتاب والسنّة، ومما يخالف الكتاب والسنّة صلح شخص مع شخص آخر على أن يخرج أموال شخص ثالث عن ملكه، وما نحن فيه من هذا القبيل. نعم لو كان المصالح هو الإمام(ع) صحّ الصلح؛ لأنه المالك، مع أنّه لو لم يكن ملكه لقلنا أيضاً بصحّة صلحه لو صالح؛ فإنّ فعله× حجة ولو كان على خلاف القواعد.

وبالجملة هذا الصلح إنما يصحّ من الإمام لا من المجتهد وأمثاله، نعم ربما يصالح من باب التقية إذا توقف حفظ بيضة الإسلام والمسلمين عليه، لكنّ هذا الصلح ليس صحيحاً في واقعه.

3 ـ الأراضي الموات، الأحكام والنتائج

أ ـ من أحيى أرضاً فهي له

أوّل أحكام الأراضي الموات وأهمها قانون من أحيى هذه الأرض فهي له بشرط أن يكون بإذن الإمام(ع)، أما الأول ـ أعني أنّ من أحياها فهي له ـ فلم أجد خلافاً فيه بين علماء المسلمين، وأما الثاني ـ أي اشتراط الإذن ـ فلم أجد فيه خلافاً بين فقهاء الشيعة، وعلى أيّة حال يقع الكلام في نقطتين:

النقطة الأولى: صيرورة الأرض للمحيي بالإحياء

ثمّة طوائف ثلاث من الأخبار في هذا المجال:

الطائفة الأولى: ما دلّ بصريحه على اختصاص المسلمين بها وبإطلاقه على الملكية، وذلك لما أسلفناه من أنّ اللام للاختصاص، ومقتضى إطلاق الاختصاص هو الملكية، ومن هذه الطائفة:

أ ـ صحيح محمد بن مسلم: >سألته عن الشراء من أرض اليهود والنصارى؟ قال: ليس به بأس ـ إلى أن قال ـ: وأيّما قوم أحيوا شيئاً من الأرض أو عملوه فهم أحقّ بها وهي لهم<([40])، فهذا الخبر يدلّ بالإطلاق على الملكية، والشراء المفروض فيه لا يصيّره نصّاً في الملكية؛ لما حقّقناه في مبحث البيع من أنه لا يشترط في البيع الملكية بل يكفي الحقيّة، وإضمار هذه الرواية لا يضرّ بها؛ لأنّ مثل محمد بن مسلم لا يروي عن غير الإمام×.

ب ـ خبر ابن مسلم الآخر: >أيما قوم أحيوا شيئاً من الأرض وعمروها فهم أحقّ بها، وهي لهم<([41]).

ج ـ صحيحة محمد بن مسلم أيضاً، عن أبي جعفر(ع) قال: «قال رسول الله’: من أحيى أرضاً مواتاً فهي له<([42]).

د ـ خبر السكوني: >من غرس شجراً أو حفر وادياً بديّاً لم يسبقه إليه أحد وأحيى أرضاً ميتة فهي له قضاء من الله ورسوله<([43]).

أما صحيح محمد بن مسلم: >أيّما قوم أحيوا شيئاً من الأرض أو عمروها فهم أحقّ بها<([44])، فيدلّ على مطلق الاختصاص لا الملكية، ولم نجعله طائفةً على حدة؛ لعدم اشتماله على نكتة زائدة في البحث.

الطائفة الثانية: ما يكون كالصريح في ملكية المسلمين لها بالإحياء، وهو عدّة روايات:

أ ـ رواية سليمان بن خالد: >سألت أبا عبدالله عن الرجل يأتي الأرض الخربة فيستخرجها ويجري أنهارها ويعمرها ويزرعها، ماذا عليه؟ قال: عليه الصدقة..<([45]).

ووجه كون هذا الحديث كالصريح في ذلك أنه باقتصاره على ذكر الصدقة ـ وهي زكاة ما غرس فيها ممّا فيه الزكاة ـ دلّ على أنه ليس عليه شيء آخر، أعني أجرة الأرض التي تدل عليها الطائفة الثالثة الدالّة على أنهم لا يملكونها بل هي للإمام وعليهم أجرتها، ولا أقول: إنّه دلّ على نفي شيء آخر بمفهوم الحصر فقط بل دلالته على ذلك أقوى من مفهوم الحصر؛ فإنه(ع) لم يكن في مقام بيان وجوب الزكاة، وهي غير مختصّة بما غرس في هذه الأرض، ولم يكن سؤال السائل عن ذلك؛ فقوله(ع): <عليه الصدقة> يكون في مقام إفادة أنه ليس عليه شيء آخر غير الصدقة.

وهذا الحديث وإن كان ضعيفاً سنداً بسليمان بن خالد، لكنّ الشيخ الطوسي روى مثله بسند صحيح عن الحلبي عن أبي عبدالله×، كما أشار إليه الحرّ العاملي في وسائل الشيعة([46])، ومعه فينبغي التعبير بصحيح الحلبي لا برواية سليمان بن خالد حتى يطعن في السند.

ب ـ صحيح معاوية بن وهب، قال: >سمعت أبا عبدالله يقول: أيّما رجل أتى خربةً بائرة فاستخرجها وكرى أنهارها وعمرها، فإنّ عليه فيها الصدقة.. <([47]).

ج ـ حديث عبدالله بن سنان عن أبي عبدالله(ع): >سئل وأنا حاضر عن رجل أحيى أرضاً مواتاً فكرى فيها نهراً وبنى فيها بيوتاً وغرس نخلاً وشجراً؟ فقال: هي له وله أجر بيوتها، وعليه فيها العشر فيما سقت السماء أو سيل وادي أو عين، وعليه فيما سقت الدوالي والغرب نصف العشر<([48]).

وبالجملة: هذه الطائفة كالطائفة الأولى في الدلالة على ملكية المسلمين لها بالإحياء، إلا أنّ دلالة الأولى بالإطلاق أما الثانية فهي كالصريح في ذلك.

الطائفة الثالثة: ما دلّ على عدم مالكيّتهم لها بالإحياء، بل تبقى ملكاً للإمام(ع)، وعليهم أداء الأجرة له، وهي عدّة روايات:

أ ـ صحيح أبي خالد الكابلي، عن أبي جعفر(ع)، قال: >وجدنا في كتاب علي(ع) أنّ الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين، أنا وأهل بيتي الذين أورثنا الأرض ونحن المتقون، والأرض كلّها لنا؛ فمن أحيى أرضاً من المسلمين فليعمرها وليؤدّ خراجها إلى الإمام من أهل بيتي، وله ما أكل منها، فإن تركها وأخربها فأخذها رجلٌ من المسلمين من بعده فعمرها وأحياها فهو أحقّ بها من الذي تركها؛ فليؤدّ خراجها إلى الإمام من أهل بيتي وله ما أكل منها حتى يظهر القائم(ع) من أهل بيتي بالسيف فيحويها ويمنعها ويـخرجهم منها كما حواها رسول الله ومنعها، إلا ما كان في أيدي شيعتنا، فإنه يقاطعهم على ما في أيديهم ويترك الأرض في أيديهم<([49]).

ب ـ صحيح عمر بن يزيد قال: >سمعت رجلاً من أهل الجبل يسأل أبا عبدالله(ع) عن رجل أخذ أرضاً مواتاً تركها أهلها فعمرها وكرى أنهارها وبنى فيها بيوتاً وغرس فيها نخلاً وشجراً؟ قال: فقال أبو عبدالله(ع): كان أمير المؤمنين(ع) يقول: من أحيى أرضاً من المؤمنين فهي له وعليه طسقها يؤدّيه إلى الإمام في حال الهدنة، فإذا ظهر القائم فليوطّن نفسه على أن تؤخذ منه<([50]).

فقوله: أرضاً مواتاً تركها أهلها، وإن كان مختصاً بما خرب بعد العمران، لكن يكفينا شمول إطلاق الجواب لما نحن فيه، كما أنّ قوله: كان أميرالمؤمنين×يقول، لعلّه إشارة إلى ما أشير إليه في صحيح الكابلي من قوله: وجدنا في كتاب علي(ع)، وقوله: من المؤمنين، يعني من المسلمين؛ فإنه كثيراً ما يطلق المؤمنين على المسلمين كما يطلق كثيراً على خصوص الإمامية.

وبالجملة هذه الطائفة الثالثة معارضة للطائفتين الأوليين، والذي يمكن أن يقال في وهنها حتى لا تنهض للمعارضة أمران:

الأمر الأول: لا محصّل لهذه الطائفة؛ ذلك أنه إذا كان المراد من إعطاء الأجرة للإمام(ع) إعطاؤها في زمان الهدنة وعدم ظهور الدولة الحقّة، فهذا منافٍ لما هو المسلّم الجاري عليه السيرة القطعية من عدم إعطائها في ذلك الزمان، وأمّا إذا كان المراد إعطائها بعد قيام الحجّة(ع) فيلزم حملها على بيان حكم زمانٍ بعيد عن الزمان المبتلى به وإهمال حكم هذا الزمان، مع أنه الذي نحتاج إليه، بل هذا الحمل خلاف صريح الصحيحتين.

والجواب منع ما ذكر من السيرة؛ فإنه إن كان المراد سيرة غير الإمامية فلا حجيّة فيها، وإن كان المراد سيرة الإمامية فلعلّ عدم إعطائهم للأجرة كان من ناحية أخبار التحليل، لا من ناحية عدم الوجوب رأساً؛ فما ذكره المحقق النجفي بعد ذكر صحيحة الكابلي من أنه لا محصّل لها([51])، ليس له محصّل.

الأمر الثاني: إعراض الأصحاب عنها.

وفيه أولاً: ما أثبتناه في علم الأصول من عدم موهنيّة إعراضهم([52]).

ثانياً: منع ثبوت عدم عمل جميعهم بها، وإن صرّح المتأخرون بالملكية، نعم الثابت عند المتقدّمين إلى زماننا والمعلوم عند الكلّ عدم وجوب إعطاء الأجرة على الشيعة الإمامية، ولعلّ هذا من ناحية أخبار التحليل.

ثالثاً: لم يثبت ـ على فرض ثبوت عدم عملهم بها ـ أنّ ذلك كان من جهة الإعراض عن السند، بل لعلّه من جهة تقدّم مفاد الطائفتين الأوليين على مفاد هذه الطائفة على ما هو مقتضى بعض الوجوه الفنّية الآتية إن شاء الله.

وبالجملة: الطائفة الثالثة ليست ساقطةً في نفسها عن الحجية؛ فلابدّ من تطبيق قوانين باب التعارض على هذه الأخبار، وليعلم أنّ الطائفة الثالثة إنما تعارض الطائفة الثانية، أما الطائفة الأولى فتقع في الرتبة المتأخرة؛ لأنّ دلالتها بالإطلاق فلو تساقطتا تصل النوبة إليها، ويمكن تطبيق قوانين باب التعارض هنا عبر حلول عدّة:

الحلّ الأول: حمل الطائفة الثالثة على استحباب إعطاء الخراج بقرينة الطائفة الثانية، نظير ما لو ورد: صلّ صلاة الليل، وورد: لا بأس بتركها؛ فيحمل الأمر على الاستحباب.

وفيه: إنه خلط بين الأحكام التكليفية والوضعيّة، وهذا الجمع إنّما يصحّ في الأحكام التكليفية فيحمل الأمر فيها ـ إذا وردت الرخصة ـ على الاستحباب دون الأحكام الوضعية؛ لأن نكتة صحّة الجمع هناك غير موجودة هنا، وهي أحد أمور ثلاثة:

أ ـ أن نلتزم في باب دلالة الأمر على الوجوب بمبنى المحقق النائيني([53])، وهو أنّ الوجوب حكمٌ عقلي ثابت عند ورورد الأمر من المولى وعدم ورود الترخيص، كما أنّ الاستحباب يثبت عند ورورد الترخيص؛ فنكتة حمل الأمر على الاستحباب عند ورورد الترخيص هو دفعه تكويناً لموضوع الوجوب وإثباته تكويناً لموضوع الاستحباب.

ب ـ أن نلتزم بمبنى المحقق العراقي([54])، وهو أنّ دلالة الأمر على الوجوب على أساس الإطلاق، فالنكتة حينئذٍ هي كون ورود الترخيص رافعاً للإطلاق وحاكماً عليه.

ج ـ أن نلتزم بالمبنى الحقّ من استفادة الوجوب بالوضع؛ وانقسام الطلب إلى الوجوب والاستحباب أمرٌ مركوز في الذهن العرفي وشائع أيضاً، فيكون هناك ظهوران طوليان: أوليّ في الوجوب، وثانوي في الاستحباب، وليس من المركوز هنا جعل ملكية لزومية وأخرى استحبابية، كما هي الحال في الطلب، مما يعدم هذه النكتة هنا.

فقوله في ما نحن فيه: عليه طسقها للإمام، ظاهر في أنه ليس ذلك صِرف حكم تكليفي على المحيى، بل هو حكم وضعيّ وأنّ الإمام مالكٌ للأرض فيستحق الأجرة ممن تصرّف فيها بالإحياء، ولا معنى لحمل ذلك على الاستحباب فإنّ استحقاقه الوضعي وكون الشخص مديوناً ليس على قسمين: واجب ومستحب، إلا أن يرفع اليد في مقام الجمع عن ظهوره في بيان الحكم الوضعي ويحمل على الحكم التكليفي الاستحبابي، لكنّ هذا ليس جمعاً عرفياً، بل هو عين الطرح في نظر العرف.

الحلّ الثاني: الجمع بحمل الطائفة الثانية والثالثة على اختلاف مراتب الحكم، بكون المراد من الطائفة الثالثة بيان الحكم الاقتضائي ومن الطائفة الثانية بيان الحكم الفعلي.

وفيه: إنّ هذا في نظر العرف طرح للطائفة الثالثة، وهي إنّما وردت في مقام بيان حكم فعلي لا في بيان الملاك الذي لا أثر له في الحكم العملي، مع أنا ذكرنا أن في صحيح عمر بن يزيد جواباً لسائل ومعلوم أنّ سؤاله إنما هو عن الحكم الفعلي لا الاقتضائي.

الحلّ الثالث: الجمع بحملها على اختلاف الحاكم؛ بأن يقال: إنّ الحاكم في الطائفة الثالثة هو أمير المؤمنين(ع)، وقد كان مالكاً ومطالباً بالحق، فيما الحاكم في الطائفة الثانية هو أبو عبدالله الصادق(ع)، وقد كان مالكاً وحكم بأنّه لا يطالب بحقه ولا يريده منهم.

وفيه أولاً: إنّ ظاهر كلتا الطائفتين بيان الحكم الذي لا يختلف في زمان هذا الإمام وذاك، بل صريح صحيحتي الطائفة الثالثة ثبوت الحكم إلى زمان الظهور لا اختصاصه بوقت دون وقت.

ثانياً: إنّ حمل الطائفة الثالثة على الحكم المالكي بقرينة تفريع الأمير(ع) الحكم على مالكية الإمام للأرض وإن كان ممكناً، لكنّ حمل الطائفة الثانية على هذا ـ مع عدم وجود هذه القرينة وكون مقتضى ظاهر حال الإمام كون مراده بيان الحكم بما هو شارع لا بما هو مالك ـ غير ممكن.

ثالثاً: إنّ الصادق(ع) قد نقل عن الأمير(ع) في جواب السائل، فكيف يعقل حمله على اختلاف الحاكم؟!

الحلّ الرابع: حملها على اختلاف سنخ الحكم؛ فإنّ ظاهر الطائفة الثالثة هو استحقاق الإمام(ع) الخراج فعلاً، أي كونه مُطالِباً بدون التحليل، والطائفة الثانية صريحة في عدم الاستحقاق الفعلي، أي أنّه لا يجب فعلاً إعطاء الأجرة ولو من باب التحليل؛ فنأخذ بهذا الصريح دون ظاهر الطائفة الثالثة، وتكون الطائفة الثانية بياناً للحكم المالكي بأن تكون بنفسها تحليلاً أو كاشفة عن تحليل سابق، والطائفة الثالثة بيان للحكم الشرعي.

وفيه: إنّ هذا كما يكون طرحاً لظاهر الطائفة الثالثة، كذلك هو طرحٌ لظاهر الطائفة الثانية؛ لأنّ ظاهرها إرادة عدم وجوب إعطاء الأجرة بالعنوان الأولي، وأنه بيان لحكم شرعي إلهي، لا بعنوان التحليل والحكم المالكي.

إلا أن يقال: إنّ الطائفة الثالثة صريحة في الاستحقاق وظاهرة في المطالبة الفعلية، فيما الطائفة الثانية صريحة في نفس المطالبة الفعلية وظاهرة في نفي أصل الاستحقاق؛ فنرفع اليد عن ظاهر كلٍّ بنصّ الآخر.

وفيه: إنه لو كان هناك آية أو رواية تدلّ على أنه لابدّ من حمل الظاهر على النصّ صحّ ذلك، لكن لم يرد دليل على هذه القاعدة الكلية، وإنما نحن والعرف، وهو لا يساعد على رفع اليد عن ظهور كلا الطرفين بهذا التقريب؛ والشاهد على هذا أنه لو ورد: صلّ، وورد: لا تصلّ، عدّا من المتعارضين بلا إشكال، ولو صحّ هذا الجمع لقلنا: إنّ قوله: صلّ، صريح في جواز الفعل وظاهر في الوجوب، وقوله: لا تصلّ، صريح في جواز الترك وظاهر في الحرمة؛ فنرفع اليد عن ظهور كلّ منهما بنصّ الآخر؛ ويثبت الجواز؛ وأنت ترى أنه لا يرضى أحدٌ من العرف بالقول بعدم المعارضة بين <صلّ> و<لا تصلّ> ولو لم يكن هذان الكلامان متعارضين فلا يوجد تعارضٌ في الدنيا.

الحلّ الخامس: بعد تعارض الطائفة الثانية والثالثة تتساقطان؛ فنرجع إلى الطائفة الأولى؛ لأنها لم تكن طرفاً في المعارضة؛ فإنّ نسبة الطائفة الثالثة إليها كنسبة المقيد إلى المطلق، ومعلوم أنه إذا ابتلى المقيد بالمعارض كان المرجع هو المطلق.

وهذا وجه فنّي متين بعد فرض تساقط الطائفتين، لكن سيجيء إن شاء الله إثبات عدم تساقطهما بل تقدّم إحداهما على الأخرى.

الحلّ السادس: وهو حلّ قائم على نظرية انقلاب النسبة؛ ذلك أنّ الطائفة الثالثة تدلّ على لزوم إعطاء الأجرة على المحيي، سواء كان شيعياً أم لا، والطائفة الثانية تدلّ على عدمه، سواء كان شيعياً أم لا، ودليل التحليل الذي سيأتي الحديث عنه يدل على عدم لزومه على الشيعة؛ فيقيد به الطائفة الثالثة؛ فتختصّ بغير الشيعة؛ فتقيد بها الطائفة الثانية؛ فتكون الطائفة الثانية في حقّ الشيعة والطائفة الثالثة في حقّ غيرهم، ويرتفع التعارض، وكبرى انقلاب النسبة ـ على القول به ـ منطبقة على ما نحن فيه؛ فإنّ من موارده تعارض عامّين بالتباين وورود مخصّص لأحدهما، كما لو ورد: أكرم العلماء، وورد: لا تكرم العلماء، وورد: لا تكرم فسّاق العلماء، فيخصّص الأول بالثالث والثاني بالأول.

وفيه: إنّ الطائفة الثانية إنّما تدلّ ـ كما عرفت ـ على الحكم الشرعيّ الإلهي وعدم ثبوت الأجرة رأساً، لا التحليل المالكي، حتى تحمل ـ بقرينة أخبار التحليل ـ على خصوص الشيعة بتخصيص الطائفة الثالثة بها وتخصيص الطائفة الثانية بالثالثة، ويشترط في انقلاب النسبة بين العامّين المتباينين بورود الخاص، كون الخاص موافقاً لأحدهما ومخالفاً للآخر، وأخبار التحليل وإن كانت مخالفة للطائفة الثالثة لكن مفادها ليس موافقاً لمفاد الطائفة الثانية، بل هما مفادان متباينان لا ربط لأحدهما بالآخر، ويؤيد ما ذكرنا من عدم صحّة انقلاب النسبة هنا أنّ بعض الأخبار النافية للخراج بالإطلاق واردٌ في خصوص مورد اليهودي والنصراني، ويؤيده ـ أيضاً ـ ما مضى من قوله: من غرس شجراً أو حفر وادياً بدياً لم يسبقه إليه أحد أو أحيى أرضاً ميتة فهي له قضاء من الله ورسوله، فإنّ قوله: قضاء من الله ورسوله، تصريح ـ كما ترى ـ بالحكم الإلهي دون المالكي، لكنه ضعيف سنداً.

هذا كله مضافاً إلى ما بيّناه في الأصول من بطلان الكبرى انقلاب النسبة([55])، وفاقاً للمحقق الخراساني([56]) وخلافاً للمحقق النائيني([57]).

الحلّ السابع:[ما أفاده الصديق المحترم السيد عبد الغني (الأردبيلي) سلّمه الله]([58])، وهو أنّ النسبة بين الطائفتين هي العموم المطلق؛ فإنّ الطائفة الثالثة واردة في مطلق الإحياء والطائفة الثانية مختصّة بما إذا كرى أنهاراً وغرس أشجاراً؛ فتخصّص الثالثة بالثانية.

[وقد أجاب عنه: سيدنا الأستاذ مد ظله] ([59]) بأنّ ظاهر الطائفة الثانية والمتفاهم منها عرفاً أنّ ذكر كري الأنهار وغرس الأشجار من باب المثال، فليست له خصوصية يمتاز بها عن سائر أقسام الإحياء.

الحلّ الثامن: إنّ الطائفة الثانية والثالثة متعارضتان، فتصل النوبة إلى الترجيح، ويمكن ترجيح الطائفة الثانية بمرجّحين:

المرجّح الأوّل: الشهرة، ولكن قد أثبتنا في علم الأصول عدم مرجّحيتها([60]).

المرجّح الثاني: موافقتها للسنّة القطعية، وهي الطائفة الأولى؛ بناء على تواترها، خصوصاً بعد ضمّها إلى الأخبار الواردة من طرق العامة.

وفيه أولاً: قد أثبتنا في الأصول عدم مرجّحية الموافقة للسنّة القطعية، [وقد عدل عن ذلك] ([61]).

ثانياً: منع تواتر الموجود من أخبار الطائفة الأولى التي لا تزيد تقريباً عن سبع روايات من طرقنا وسبع روايات تقريباً من طريق العامة.

والصحيح ترجيح الطائفة الثالثة على الطائفة الثانية بموافقتها للكتاب ومخالفتها للعامة، بخلاف الطائفة الثانية، وهما المرجحان الأساسيّان في باب التعارض.

أ ـ أما موافقة الكتاب: فقد قال تعالى: {لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ}، وقد حقّقنا في بحث المتاجر أنّ معنى الآية الشريفة: لا تأكلوا أموالكم بينكم بكلّ سبب فإنه باطل إلا أن تكون تجارةً عن تراض، فإذا ورد في الشرع ناقلٌ عن ملك إلى ملك غير التجارة عن تراض كان ذلك مخصّصاً للآية الشريفة، والطائفة الثانية تدلّ على التملك بالإحياء مع أنه ليس تجارةً عن تراض، فلولا ابتلائها بالمعارض لكانت مخصّصةً للآية الشريفة، لكن قد تعارضها الطائفة الثالثة الموافقة للكتاب ـ وهي مخالفة له ـ فتقدّم الثالثة على الثانية.

ب ـ وأما مخالفة العامة: فلأنه لم يقل أحدٌ منهم بثبوت الخراج على المحيي وعدم تملّكه بالإحياء، وإنما هذا من مختصّات الشيعة؛ فمن المحتمل قويّاً ورود الطائفة الثانية من باب التقية، وهذا الاحتمال في نفسه ليس حجّةً، لكنه قد ورد النصّ بالترجيح بمخالفة العامة عند التعارض فنأخذ بالطائفة الثالثة ونحكم بوجوب إعطاء الخراج على كل من أحيى أرضاً ميتة، إلا الشيعة لمكان أخبار التحليل.

من هنا، من المناسب الحديث في أخبار التحليل، إذ المربوط ببحثنا هنا وإن كان خصوص تحليل الخراج، لكنّه لا بأس بالتكلّم في مطلق تحليل ما للإمام(ع)؛ لأنّه محلّ حاجة عامّة الناس.

ـ يتبع ـ

الهوامش

(*) مفكّر شهيد، أشهر من أن يعرّف، فالإحجام عن تعريفه أجدى.

([1]) راجع: الطوسي، الخلاف 3: 525؛ والعلامة الحلي، تذكرة الفقهاء(ط.ق) 2: 400؛ والسبزواري، كفاية الأحكام 2: 544 (نفي الخلاف)؛ والأنصاري، كتاب الخمس: 349 ـ 350 و..

([2]) وسائل الشيعة 9: 529 ـ 530، كتاب الخمس، أبواب الأنفال، باب 1، ح17.

([3]) المصدر نفسه 9: 527، أبواب الأنفال وما يختصّ بالإمام، باب 1، ح10.

([4]) المصدر نفسه 9: 527؛ باب 1، ح12.

([5]) المصدر نفسه، ح8.

([6]) المصدر نفسه: 532، ح20.

([7]) المصدر نفسه: 523، ح1.

([8]) حول كلمات اللغويين في مادة ضرب راجع: الفراهيدي، العين 255:4 ـ 256؛ والجوهري، الصحاح 1: 118 ـ 119؛ وابن فارس، معجم مقاييس اللغة 2: 174 ـ 175؛ وابن منظور، لسان العرب 1: 347 ـ 350 و…

([9]) وسائل الشيعة 9: 533، أبواب الأنفال، باب 1، ح28.

([10]) المصدر نفسه: 524، ح4.

([11]) المصدر نفسه 1: 168، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، باب 11، ح1.

([12]) أنظر: الخوئي، محاضرات في أصول الفقه 5: 133 ـ 134، بقلم الفياض، مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين، قم، إيران، الطبعة الأولى، 1419هـ .

([13]) أنظر نظريته في المفهوم في: المصدر السابق: 71 ـ 83.

([14]) الصدر، بحوث في علم الأصول 3: 308 ـ 326 .

([15]) السيد الطباطبائي، رياض المسائل 7: 549 ـ 550.

([16]) محمد حسن النجفي، جواهر الكلام 21: 169.

([17]) المصدر نفسه 38: 18.

([18]) الخوئي، مصباح الفقاهة 1: 844.

([19]) وسائل الشيعة 9: 533، أبواب الأنفال، باب 1، ح28 .

([20]) المصدر نفسه، ح4.

([21]) المصدر نفسه 15: 157 ـ 159، كتاب الجهاد، أبواب جهاد العدو، باب 72، ح1، 2.

([22]) المصدر نفسه 17: 370، كتاب التجارة، أبواب عقد البيع وشروطه، باب 21، ح9.

([23]) المصدر نفسه 15: 155 ـ 156، كتاب الجهاد، أبواب جهاد العدو، باب 71، ح1.

([24]) الأنصاري، فوائد الأصول 4: 97 ـ 98، نشر: مجمع الفكر الإسلامي، إيران، الطبعة الأولى، 1419هـ.

([25]) وسائل الشيعة 25: 414 ـ 415، كتاب إحياء الموات، باب3، ح2.

([26]) الإصفهاني، حاشية المكاسب 3: 16.

([27]) وسائل الشيعة 9: 487، كتاب الخمس، أبواب ما يجب فيه الخمس، باب 2، ح5.

([28]) انظر حوله: الخوئي، معجم رجال الحديث 12: 234 ـ 251، رقم: 7846.

([29]) وسائل الشيعة 9: 531 ـ 532، كتاب الخمس، أبواب الأنفال، باب 1، ح20.

([30]) المصدر السابق: 523، ح1.

([31]) الصدر، بحوث في علم الأصول 3: 198 ـ 211.

([32]) محمد حسن النجفي، جواهر الكلام 16: 118.

([33]) المصدر نفسه: 38: 15.

([34]) وسائل الشيعة 15: 111، كتاب الجهاد، أبواب جهاد العدو، باب 41، ح2.

([35]) المصدر نفسه: 158، كتاب الجهاد، أبواب جهاد العدو، باب 72، ح1.

([36]) المصدر نفسه، ح2.

([37]) هذه الجملة من المقرِّر، يقصد بها ـ حسب الظاهر ـ السيد الصدر.

([38]) هذا النص بين معقوفين للمقرِّر، يقصد به السيد الصدر حسب الظاهر.

([39]) أنظر: جواهر الكلام 21: 171.

([40]) وسائل الشيعة 25: 411، كتاب إحياء الموات، باب 1، ح 1.

([41]) المصدر نفسه: 412، ح4.

([42]) المصدر نفسه، ح5.

([43]) المصدر نفسه: 413، باب2، ح1.

([44]) المصدر نفسه: 412، باب1، ح3.

([45]) المصدر نفسه: 411، باب1، ح2.

([46]) المصدر نفسه: 415.

([47]) المصدر نفسه: 414، باب3، ح1.

([48]) المصدر نفسه: 413، باب1، ح8.

([49]) المصدر نفسه: 414 ـ 415، باب3، ح2.

([50]) المصدر نفسه 9: 549، كتاب الخمس، أبواب الأنفال، باب 4، ح13.

([51]) جواهر الكلام 38: 23.

([52]) ذهب السيد باقر الصدر إلى أن الإعراض موهن للخبر في دورته الأصولية الأولى، فراجع: بحوث في علم الأصول 4: 426؛ لكنه عدل عن ذلك في دورته الثانية، فراجع: مباحث الأصول2: 585 ـ 590، وبهذا يصرّح أيضاً السيد كاظم الحائري ـ مقرّر أبحاثه ـ في المصدر الأخير: 88؛ وقد ذهب الصدر في بعض أبحاثه الفقهية إلى الأخذ بقاعدة الوهن فراجع له: بحوث في شرح العروة الوثقى 3: 345، و4: 105.

([53]) النائيني، فوائد الأصول 1: 136 ـ 137.

([54]) ضياء الدين العراقي، مقالات الأصول 1: 208، 244؛ ونهاية الأفكار 1: 160 ـ 163، 179 ـ 180؛ وكان السيد الصدر في بحثه الآخر حول الموضوع نفسه قد نسب هذا الكلام للمحقق الخراساني، وعلقنا هناك فانظر: الصدر، إحياء الموات، دراسات في فقه الأراضي في الشريعة الإسلامية، تحقيق: حيدر حب الله، مجلّة الاجتهاد والتجديد، العدد الخامس: 23، 35.

([55]) الصدر، بحوث في علم الأصول 7: 288ـ 312؛ ومباحث الأصول ق2، ج5: 660ـ 682.

([56]) الخراساني، كفاية الأصول: 514ـ 516، مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين، قم، الطبعة الثالثة، 1415هـ.

([57]) النائيني، فوائد الأصول 4: 740ـ 748.

([58]) هذه جملة أما من السيد الصدر نفسه، أو هي تعبير عن المقرِّر.

([59]) هذه الجملة من تعبير المقرِّر لا المقرَّر له، كما هو واضح.

([60]) الصدر، بحوث في علم الأصول 7: 361 ـ 362، 370 ـ 375.

([61]) هذا الكلام من المقرِّر لا المقرَّر له.

Facebook
Twitter
Telegram
Print
Email

اترك تعليقاً