أحدث المقالات
أن تدرس الأمّة تاريخها وتراثها، وتقوم بقراءته باستمرارٍ قراءةً واعية، لتوظيفه أو تثويره أو نقده أو…، ضرورة لا مجال لتجاوزها على ما يبدو، فالتراث هو الأمّة، والأمة هي تراثها، إلى جانب الحاضر والراهن.
وتبرز في التراث شخصياته وعظماؤه، الذين يفترض بالأمة ومثقفيها أن يتعرفوا إليهم، ويخبروا تجاربهم.
1 – فأوّل شروط قراءة الرجال والتراث وأهمُّها، تجاوز القداسة فيه، وتخطِّي الحواجز التي تمنع الفكر من مطاولة مساحات قد تكون لدى بعض محرَّمةً أو لا مفكّر فيها، فالقداسة غير الاحترام، وإذا ما سيطرت على قراءتنا للتراث فلن تنتج سوى لغة احتفائية تبجيلية، تشعر الذات معها بأنّ الماضي كان دائماً أفضل من الحاضر، وتشدّ النفس وتنـزعها ناحية التماهي مع هذا الماضي المقدَّس، أو استنساخه حرفياً، أو اعتباره المرجعية المعرفية الوحيدة، وهذه الأمور جميعها مشاكل تعوِّق وعي التراث بشكل علمي أو موضوعي.
إنّ قرب الماضي ورجاله من عصر الوحي ـ داخل النسق الديني ـ لا يفترض به أن يعطينا قانوناً عاماً، يقدّم من سبق على من لحق، فقد لا يكون من الصحيح دائماً تصوّر الكمال في الماضي والتراجع في الحاضر، تلك الصورة التي لا ترى في الذات على الدوام سوى انحدارٍاً أو اندحاراً، فتشلّها عن العمل، وتسقطها عن جرأة المعرفة والتفكير.
2 – وفي هذا السياق، نخطئ حينما نحاول ممارسة استنساخ حرفي للموروث ورجاله، كما نخطئ عندما نتصوّر أن مبدأ القطيعة التامة هو الذي يحكم علاقتنا بهذا الماضي ووجوهه، فالماضي نحن في الزمن الذي سلف، وهو نحن في الراهن المعاصر، لا يقبل القطيعة ولا الانقطاع، إنما الذي يقبلها هو الاستنساخ الحرفي لهذا الماضي.
ثمّة من يقرأ عن الرجال، عن الفلاسفة، والفقهاء، والمتكلمين، والعرفاء… فيخفض جناحه وينكسر قلبه أمامهم، فيندفع لتمثيل حياتهم في عصره، وكأن أنساق حياتهم هي المعيار الدائم لجميع العصور ومختلف الأمصار والبقاع، لقد شاهدنا – كثيراً – هذا النوع من الاستنساخ في المجتمع الديني، ولربما كان أحد أسباب بعض مظاهر الإخفاق الذي نشاهده فيه.
صحيح أنّ رجال التراث منارات، وأنّهم أسوة لنا وقدوة، وأنهم مفخرةٌ لنا وعزة و…، فهذا الأمر لا نقاش لنا فيه، إنما النقاش في معنى الأسوة والمنارة والقدوة، فهل تعني معطى حرفياً أو أن روح تجاربهم بسياقها الزمكاني، وعلو كعبهم بما منحهم الله في عصورهم هو القدوة؟ أي يفترض تجريد الرجال في شكلانيات تجاربهم، ومظاهر نتاجاتهم، للنفوذ إلى المكوّنات الأساسية المتعالية عن الزمان والمكان الخاصّين، وإلاّ اعتزلنا حياتنا، وهجرنا عصرنا، وعزفنا عن زماننا و…!
3 – لهذا يفترض فهم الرجال في زمكانياتهم، سياسياً، واجتماعياً، وثقافياً، ومعرفياً، واقتصادياً و.. وهذا مالا نقدر عليه، إذا بقينا – في قراءتنا للموروث – داخل النصوص التي تركها لنا التاريخ عن الرجال، فالنص – كما يقولون اليوم في الهرمنيوطيقا – صاحب دلالة ناقصة وإشارة معبّرة لكن عاجزة، فمن الضروري وعي التاريخ لوعي رجاله، ووعي الرجال لوعي التاريخ، في علاقة جدلية مستديمة.
لم تولد النظريات من عدم، ولم تتوالد من بعضها بعضاً فقط، بل أسهمت في إيلادها العناصر الحافّة بالرجال والظواهر، إن هذه الرؤية قد تقلب كثيراً من تصوّراتنا عن الموروث ورجاله بعد ضمّ النقطة الأولى التي أشرنا إليها مطلع هذه الورقة، قد يعود فهم الأشياء تاريخياً أكثر من ذي قبل، وقد نعيد تصوّراتنا عن أشخاص كان السكون قد أعطانا صورةً أخرى عنهم.
4 – وفي هذا المجال، ننظر بعين النقد إلى الكثير من مؤتمراتنا الإسلامية العلمية التي تتناول عظماء وأعْلاماً ورجال تراث نوابغ، كانوا مفخرةً لأمّتهم وعَلَماً لتقدّمها، لقد لاحظنا أنّ محاور الدراسة في أغلب هذه المؤتمرات هي محاور تبجيلية احتفائية، تؤجّل النقد – خصوصاً الجذري منه – إلى مرحلة لاحقة؛ انطلاقاً من أنّ المرحلة هي مرحلة التعريف بالتراث، لأن الأمّة غابت عنه، ولم تطّلع عليه، ولأن تقديم هذا التراث منتقداً قد يؤثّر سلباً على المفاهيم الدينية في بعض المجالات.
وقد امتدّت هذه الحالة داخل المؤسّسة الدينية إلى غير نشاط علمي، فالدوريات والنَّشرات الدينية تتجنّب مثل هذا النوع من النقد عادةً، وتراه يعكس مردوداً سلبياً أكثر من المردود الإيجابي، لا بل يذهب بعضهم إلى أنّه من غير الصحيح أن نفسح المجال لنقَّاد صغار(!) ليتناولوا بالنقد رموز التراث ورجالاته العظماء.
ويبدو أنّ لهذه الظاهرة غير مسوِّغ، لكننا لا نراها إيجابية في هيمنتها على النشاط الفكري، بل يفترض أن تولى أهمية أكبر للفعل النقدي البنّاء للتراث، وأن تسلّط الأضواء عليه أكثر من أيّ وقتٍ مضى، لا لتصفية حساب مع هذا التراث والعياذ بالله، بل لأن خلق هذه الروح وإفساح المدرسة الدينية، والمؤسسات والمراكز البحثية، والمؤتمرات والملتقيات الفكرية، والنشريات والدوريات الإسلامية.. إفساحها جميعاً المجال لحركة النقد المنظمة هذه عنصرٌ أساسي في الإبداع وتقدُّم البحوث العلمية نحو الأمام، وبعث مناشط الفكر من جديد، ما دامت هذه الفعاليات النقدية تلتزم بحدود الأخلاق والأدب الرفيع، وتعتمد المنهج العلمي الرصين والأكاديمي الموثّق في رصد المعطيات وتناول الأفكار، ولا تنجرف في سياق الشهوة العمياء الطاغية والداعية إلى تحطيم التراث والقطيعة معه، في غضب عارمٍ من الموروث، نتيجة سوء علاقة مع امتداداته المعاصرة.
إننا نوجّه دعوةً جادّة لكل القيمين على العمل الثقافي والفكري في الساحة الإسلامية كي يدرسوا هذا الموضوع بجدية أكبر، ومن دون هيمنة المخاوف وأنواع القلق والاضطراب، ليتوصلوا إلى نتائج محمودة في هذا المجال إن شاء الله تعالى.
5 – وفي ضمن سياق دراسة التراث تأتي ضروة إحياء المدفون القيِّم منه، من الضروري الإسراع في خطوات إحياء التراث، وإخراجه من المخطوطات أو النسخ الحجرية إلى عالم الطباعة الأنيقة المعاصرة، تراثاً محققاً ومصححاً يسهل على الباحثين الرجوع إليه، ويؤمّنهم من التورط في مشاكل النُّسَخ واختلافها، فيختصر المسافات عليهم، وييسّر العمل أمامهم.
من هنا، نؤكّد أن ثورةً حقيقية في عالم إحياء التراث الشيعي قد حصلت منذ بداية النصف الثاني من القرن العشرين، فقد شاهدنا موجة عارمة من هذا العمل، وتأسيس مؤسسات مرموقة ومشكورة، أسهمت بشكل فاعل في إحياء التراث في إيران، والعراق، ولبنان و.. وإن كانت هناك بعض الملاحظات على بعض العاملين في هذا المجال، لا سيما بعض دور النشر التجارية التي تتجاهل الضرورات العلمية والتحقيقية في مجال إحياء التراث، لتستعجل بطباعة الكتب، طمعاً في المردود المادي فحسب، وهذه وإن كانت خدمة على أيّ حال لهذا التراث من حيث طبعه وإخراجه إلى العلن، إلاّ أنّها خيانة في حقه – في الوقت عينه – من حيث عدم إخراجه بالحلّة التي تحفظ مضمونه ومحتواه.
على أيّ حال، يفترض مواصلة هذا السبيل المحمود والمشكور، بل وتطويره إلى مختلف مجالات نشر التراث على الأقراص المدمجة أو صفحات الشبكة العنكبوتية (الانترنت) أو غير ذلك، متجاوزين فعلاً جملة ملاحظات ناقدة.
6 ـ وفي الإطار نفسه، نلاحظ أن بعض مشاريع إحياء التراث كانت انتقائيةً، تهدف إلى ترويج أفكار محدّدة، ولا ضير في ذلك، لكن الأفضل أن تسعى المؤسسات الكبرى المهتمّة بمجال تحقيق التراث إلى التعامل معه بطريقة علمية لا انتقائية تحكم عليه سلفاً، فقيمة تراثنا وحيويته تكمن في تنوّعه وتعدّد اتجاهاته، على مختلف الصعد وفي المجالات كافة.
7 ـ وختاماً، وحيث تزمع (وقد سمعنا أنهم بصدد الإعراض مع الأسف) بعض المؤسسات المرموقة المشكورة في الجمهورية الإسلامية الإيرانية، أن تقيم قريباً مؤتمراً تكريمياً للإمام العلامة السيد عبدالحسين شرف الدين العاملي (1377هـ)، وذلك في مدينة بيروت، بعد أن سبقه مؤتمر آخر قبل أشهر في مدينة قم الإيرانية.. فإننا نقدر جهود العاملين والمنظِّمين، ونشكر سعيهم، ونشدّ على أيديهم، لإحياء فكر العلامة شرف الدين، ودراسة تجربته، سيما في المجال التقريبي والوحدوي، ونشر كتبه ومقالاته كاملةً في حلّة جميلة متكاملة، إن ذلك بالتأكيد يخدم الإسلام والفكر الإسلامي، ويرفع مستوى الوعي الإسلامي في أوساطنا أكثر فأكثر.
من الضروري الإطلالة على فكر هذا العلاَّمة العَلم، والأنموذج الكبير في الحوار الإسلامي ـ الإسلامي، الذي جمع بين أدب الحوار وأخلاقياته وقواعده، وبين المصارحة الفكرية والمكاشفة التامة؛ دفاعاً عما يعتقده المذهب الحق في خضم ازدحام المذاهب الإسلامية.
إننا نعتقد بأن عودةً نحو الوراء تحصل اليوم في بعض الأوساط الإسلامية إزاء ما كان يهدف إليه العلامة شرف الدين من بناء حوار نقي ومفتوح داخل المذاهب الإسلامية، ونرى أنّ موجة الطائفية البغيضة المتنامية مؤخراً في عالمنا الإسلامي تعدّ ارتكاساً عن المقولات والمفاهيم التي نادى بها المصلحون المسلمون في القرن العشرين، من أمثال العلامة شرف الدين، لهذا يفترض بمن يديم الطريق أن يعمل جاهداً لمواجهة هذه المصاعب، بروح التضحية، والوعي، والمنطق و..
لقد كان العلامة شرف الدين أنموذجاً من نماذج التضحية، والجهاد، والبصيرة، والحوار، والنقد، فأقلّ ما يجب تجاهه على المسلمين بعامَّة، والشيعة بخاصَّة، والعامليين بالأخص، أن يدرسوا فكره، ويقرؤوا تجربته، ويحيوا نتاجه، ففي فكره عناصر الدقة، والمتانة، وفي تجربته مظاهر الوعي والأمانة، وفي نتاجه أرقى أشكال الأدب، وأبرز مظاهر العربية، وأجلى سمات المنطق، آملين أن يلتفت القائمون والدارسون للنقاط المطلوبة اليوم فكرياً في دراسة التراث ورجاله، مما ذكرنا بعضه آنفاً باختصار.
>قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ< [الزمر / 9].

_____________________________________________________________

(*) نشر هذا المقال في العدد 38، من مجلة المنهاج في بيروت، صيف عام 2005م.

Facebook
Twitter
Telegram
Print
Email

اترك تعليقاً