أحدث المقالات

د. أمير خواص(*)

ترجمة: حسن نصر

خلاصةٌ

تُروى قصّة خَلْق آدم وحوّاء على أنها بداية خَلْق الإنسان في الكتاب السماويّ القرآن، وكذلك في العهد القديم. وبالنظر إلى أن الديانتين الإبراهيميّتين: الإسلام؛ واليهودية، متجذِّرتان في الوَحْي الإلهيّ فلا ينبغي أن يكون هناك فَرْقٌ بين رواية هذين الكتابين لقصّة خلق آدم وحوّاء. ولكنْ من خلال دراسة ماحكاه هذان الكتابان من القصّة نرى اختلافاتٍ كثيرة، تظهر على سبيل التحريف في العهد القديم؛ لأن هناك أسباباً مقنعة بأن القرآن الكريم في مأمنٍ من التحريف، لكنّها ليست في العهد القديم. على الرغم من أن اليهود الأرثوذكس يعتقدون أن كتابهم لم يتمّ تحريفه، إلاّ أن هناك أدلّةً كثيرة تشير إلى عكس ذلك، ومن ضمنها القصّة نفسها. وبالطبع هناك الكثير من أوجه الشَّبَه في رواية كلا الكتابين لهذه القصّة.

مقدّمةٌ

على الرغم من أن علم اللاهوت المقارن تخصُّصٌ أكاديميّ ورسميّ، إلاّ أن تاريخه لم يتجاوز قَرْناً من الزمان، ولكنّه كان بشكله غير الكلاسيكي موجوداً منذ العصور القديمة في مجالات العقيدة والفقه وما إلى ذلك. والمناظرات الكلامية أو الكتب التي حملت عنوان «الفقه المقارن»، مثل: «الخلاف» للشيخ الطوسي، و«المختلف» للعلاّمة الحِلّي، وما إلى ذلك في القرون الخالية، شاهدٌ على هذا الادّعاء.

في علم اللاهوت المقارن يمكن دراسة ديانتين أو أكثر بشكلٍ كامل من جميع النواحي؛ ويمكن دراسة مسألةٍ واحدة فقط بشكلٍ موضوعي. وما نتناوله في هذا المقال هو قصّة خلق آدم وحواء في الديانتين الإبراهيميّتين: الإسلام؛ واليهودية. وسيكون مصدر دراستنا هو الكتاب المقدَّس لكلٍّ من هاتين الديانتين.

ومن المهمّ أن نلاحظ أن قصّة الخلق في الكتاب المقدَّس للدين اليهودي تُروى فقط في سفر التكوين. وإذا كانت هناك حاجةٌ للتفسير فسيتمّ الرجوع إلى كتبٍ يهوديّة أخرى، لكنّ التركيز الرئيسي سيكون على العهد القديم. وستكون الآيات القرآنية هي محور البحث عند كلامنا عن الإسلام، وإنْ كنّا سنُحِيل إلى بعض التفاسير والمصادر الأخرى في بعض التوضيحات والأبحاث.

الإنسان ومرادفاته في القرآن الكريم

ذُكر الإنسان في القرآن الكريم بألفاظ متعدِّدة: إنسان (العصر: 2؛ العاديات: 2)؛ بشر (فُصِّلت: 6؛ الشعراء: 156)؛ الناس (الإسراء: 60)؛ أناس (البقرة: 60)، إنس (الأنعام: 112)، إنسيّ (مريم: 39)، أناسي (الفرقان: 42)، بني آدم (يس: 60). لكن كلمة «آدم» هي اسمٌ عَلَمٌٍ، ومخصَّصةٌ لأبي البشر، والإنسان الأوّل. قد تكون كلّ كلمة من هذه الكلمات مختلفةً عن الأخرى، ولكنّها تشير جميعها إلى كائنٍ محدَّد.

قصّة آدم وحوّاء في البيان القرآني

ذُكرَتْ قصّة خلق آدم في القرآن الكريم في عدّة سُوَر. ويمكن دراسة هذه القصة في أكثر من محورٍ، كالتالي:

 

1ـ مجريات ما قبل الخلق

ورد في بعض الآيات حديثٌ عن حوار الله مع الملائكة قبل أن يخلق آدم. ويتحدَّث الله في هذه الآيات عن إرادته وتصميمه على خلق الإنسان: ﴿وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ﴾ (البقرة: 30). وجاء في بعض الروايات([1]) أنه قبل الإنسان كانت الجنّ على الأرض تفسد وتسفك الدماء، وقد رأَتْها الملائكة، ولذلك قالوا: ﴿أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ﴾؟! وكان هذا من تشبيه الإنسان بالجنّ. وقال الله تعالى في آيةٍ أخرى: ﴿إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ * فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ﴾ (ص: 71 ـ 72)؛ وهناك آيةٌ أخرى مشابهة لها، مع بعض الاختلاف تقول: ﴿وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَراً مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ * فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ﴾ (الحجر: 28 ـ 29). لذلك يشاء الله أن يخلق الإنسان الأوّل آدم. وقد عارضه الملائكة في البداية، وشكَّكوا فيه، وكأنّهم رأَوْا النَّسْل القادم من آدم يسفك الدماء ويفسد في الأرض، لكنّ الله رأى في الإنسان شيئاً لم تَرَه الملائكة. ولهذا يقول: ﴿فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ﴾.

2ـ حوادث بعد الخلق

بعد أن خلق الله آدم علَّمه الأسماء كلَّها، ثمّ قال للملائكة: أنبئوني بأسمائهم، لكنّهم أظهروا عَجْزهم عن معرفة الأسماء، فيقول الله لآدم: ﴿أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ﴾، وبعد هذا يقول الله تعالى: ﴿أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ﴾ (البقرة: 31 ـ 33). وقد ورد في بعض التفاسير أن أسماء الأنبياء والأئمّة^ كانت من بين هذه الأسماء، وقد لاحظ الملائكة أن هؤلاء أعلى منهم، لذلك قالوا: لا علم لنا بهم([2]). يقول العلاّمة الطباطبائي: إن سياق الآية يدلّ على أن كلّ هذه الأسماء هي كائناتٌ حيّةٌ واعية وعالمة؛ لأنه أُشير إليهم بالضمير «هم»، الذي يُشار به للعاقلين، وليس ضمير «ها»، الذي يُشار به لغير العاقلين. إذن ليست هي الأسماء نفسها، بل هي الذوات من حيث الاتّصاف بالكمالات التي هي ظهور هذه الذوات([3]). والدليل الآخر على ذلك أن الله تعالى قال: ﴿أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلاَء…﴾؛ حيث إن كلمة (هؤلاء) تشير إلى الذوات.

3ـ خلق الإنسان، بين التراب والماء

هناك عدّة آياتٍ حول خلق الإنسان، ولكلٍّ منها تعبيرها الخاصّ. وبالطبع يمكن الجمع بين هذه التعابير المختلفة.

تقول بعض الآيات: ﴿أَوَلاَ يَذْكُرُ الإِنسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُنْ شَيْئاً﴾ (مريم: 67). وهذه الآية تتحدَّث عن جميع البشر، وتقول: كلّ البشر خُلقوا من العَدَم. ويتمّ التعبير عن ذلك في المصطلح الكلاميّ، بـ «الخَلْق من العَدَم»، وبلغة الفلسفة: «الوجود الإبداعيّ». وتنقل آياتٌ أخرى هذا المعنى أيضاً، مثل: ﴿هَلْ أَتَى عَلَى الإِنسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً﴾ (الإنسان: 1)؛ وآية موجَّهة إلى النبيّ زكريا عندما تفاجأ بالبشرى له بالوَلَد، فتعجَّب من ذلك، قال الله تعالى: ﴿وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُنْ شَيْئاً﴾ (مريم: 9). لكنّه يقول في آياتٍ أخرى أنه خلق الإنسان من ترابٍ وماء. فهناك مادّةٌ أوّلية إذن، ولم يتمّ خلقه من العَدَم، مثل: ﴿فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ﴾ (الحجّ: 5)؛ و﴿الَّذِي خَلَقَ مِنْ الْمَاءِ بَشَراً﴾ (الفرقان: 54). وبالجمع بين هاتين المجموعتين من الآيات يمكن القول: إن جسد الإنسان خُلق من ترابٍ وماءٍ أو طين، ولكنْ لا بُدَّ من إضافة شيءٍ آخر إليه ليوجد الإنسان، وهذا الشيء لم يكن مادّةً، ولكنّه الصورة الإنسانية، أو النَّفْس، أو الرُّوح([4]). ويقول في آياتٍ أخرى: ﴿فَلْيَنظُرْ الإِنسَانُ مِمَّ خُلِقَ * خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ﴾ (الطارق: 6)، و﴿خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ﴾ (النحل: 4). ويمكن الجمع بين كلّ هذه الآيات؛ لأن جميع البشر ـ ما عدا آدم ـ خُلِقوا من نطفةٍ، والنطفة عبارةٌ عن ماءٍ، وهي ماءٌ دافق كذلك. والنطفة مكوَّنةٌ من المواد الغذائية، وهذه بدَوْرها مكوَّنةٌ أيضاً من عناصر نباتيّة وحيوانيّة، والكلّ يرجع في نهاية المطاف إلى التراب والأرض، ويتغذَّى من التراب. لذلك يصحّ القول: إن الإنسان خُلِق من التراب، مع هذا الفارق، وهو أن آدم خُلِق من ترابٍ بلا واسطة، والبشر الآخرون من ترابٍ عبر وسطاء، لكنّهم خُلِقوا مباشرةً من نطفةٍ وماء.

4ـ خلق حوّاء، من جسم آدم أو جنسه؟

يُفْهَم من بعض الآيات أن حوّاء خُلقَتْ من آدم: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً﴾ (النساء: 1)، وفي آيةٍ أخرى استُعملت كلمة (جَعَلَ) بَدَل (خَلَقَ): ﴿هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا﴾ (الأعراف: 189).

وقد دار الكثير من النقاش بين المفسِّرين حول المقصود بخلق حوّاء من نفسٍ واحدة، أي من آدم.

يقول الطبرسي: ﴿خَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا﴾ أي إنه خلق حوّاء من ضلعٍ من أضلاع آدم([5]).

لكنّ العلاّمة الطباطبائي يرفض هذا التفسير، ويقول: لقد اقترح البعض هذا التفسير؛ بسبب بعض الأخبار. لكنّ هذا القول غيرُ صحيحٍ. ويعتقد أن معنى هذه العبارة هو أن حوّاء وآدم ينتميان إلى نوعٍ واحد، وهناك تماثلٌ بينهما في الوجود، وأنها كغيرها من الآيات التي يخاطب فيها جميع الرجال قائلاً: ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ﴾ (الروم: 21)([6])؛ أي إن زوجاتكم هُنَّ من جنسكم، وهُنَّ بَشَرٌ مثلكم.

إن خلق حوّاء من جسد آدم فكرةٌ يهوديّة مشوّهة، لها جذورها في العهد القديم. كما قال العلاّمة. وبالرجوع إلى آياتٍ مشابهة لهذه الآية يتّضح أن معنى الآية أنّ زوجة آدم خُلقَتْ من جنس البشر، كما في الآية 21 من سورة الروم، التي سبق ذكرها، وكما في قوله تعالى: ﴿وَاللهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً﴾ (النحل: 72)؛ إذ تقول الآية: خلق الله أزواجاً من جنسكم، ولا يمكن القول: إن المقصود منها أن أزواجنا خُلِقْنَ من أجسادنا. لذلك يكون المراد من الضمير «منها» في الآية الأولى من سورة النساء، الذي يعود إلى النفس الواحدة أي آدم، هو خلق حوّاء من جنس آدم، وليس من جَسَد آدم([7]).

 

5ـ نفخ الرُّوح في آدم

بعد أن خلق الله بَدَن الإنسان، والذي يتضمَّن الخلق من نطفةٍ، علقةٍ، مضغةٍ، عظامٍ، ولحمٍ، نفخ فيه من روحه، وأصبح إنساناً كاملاً. فما هو المقصود بهذه الرُّوح؟ وما هو معنى نسبتها إلى الله؟

استُخدم نفخ الروح في خمسة مواضع من آيات القرآن الكريم: اثنان منها مختصّان بآدم، وموضعٌ عامّ لا يستبعد أن يكون متعلِّقاً بآدم أيضاً، وموضعان يخصّان السيّدة مريم([8]).

أما الآية العامّة فهي قوله تعالى: ﴿الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الإِنسَانِ مِنْ طِينٍ * ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلاَلَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ * ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ…﴾ (السجدة: 7 ـ 9). ويمكن أن يعود الضمير في (سوّاه) إلى النوع الإنساني. و(بدأ خلق الانسان) ذات صلةٍ بالنبيّ آدم.

وهناك آيتان تتعلَّقان بالنبيّ آدم: ﴿وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَراً مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ * فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ﴾ (الحجر: 28 ـ 29)؛ و﴿إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ * فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ﴾ (ص: 71 ـ 72). وبما أن الكلام عن السجود فالمقصود بالإنسان في هاتين الآيتين هو النبيّ آدم.

وتتحدث آيتان أيضاً عن نفخ الرُّوح في مريم: ﴿وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهَا مِنْ رُوحِنَا وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ﴾ (الأنبياء: 91)؛ و﴿وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا﴾ (التحريم: 12). وقد أدّى نفخ الرُّوح إلى ولادة النبيّ عيسى×؛ لأن مريم كانت بالفعل على قيد الحياة، وكانت إنساناً كاملاً، لا سيَّما في الآية الثانية التي ورد فيها الضمير (فيه) مذكَّراً، ولا يمكن أن يعود إلى مريم([9]).

كما استُعملت كلمة «روح» في القرآن للإشارة إلى كائنٍ من طبيعة الملائكة، مثل: ﴿تَنَزَّلُ الْمَلاَئِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ﴾ (القدر: 4).

وتتطلَّب دراسة الرُّوح في القرآن بحدّ ذاتها بحثاً مستقلاًّ. لكنّ المقصود بهذه الروح التي تنفخ في الإنسان كائنٌ ذو حياةٍ وشعور من مخلوقات الله.

والمقصود من إسناد الروح إلى الله في عباراتٍ مثل: (مِنْ رُوحِي) أو (مِنْ رُوحِنَا) التشريف، وينقل الشرف إلى الروح، وليس أن الروح جزءٌ من الله يتمّ نفخه في الإنسان؛ لأنه أُثبِتَ في مكانه بالحجّة أن الله ليس مركَّباً؛ لأن التركيب ينتج عن الحاجة، وهي إحدى خصائص المخلوقات، أي الممكنات، والله بسيطٌ، وليس له أجزاء.

والروح كائنٌ غير مادّي؛ لأن الله، بعد وصفه لمرحلة تكوين جسم الإنسان من النطفة إلى اللحم، يقول: ﴿ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ﴾ (المؤمنون: 14)، وهكذا يتّضح أن نفخ الروح ليس من قبيل: الفعل والانفعال الطبيعيّ، بل شيءٌ آخر وخَلْقٌ آخر، وهذا دليلٌ على أن الروح ليست من نوع الكائنات المادّية([10]).

6ـ الأمر بالسجود لآدم

بعد أن خلق الله آدم، ونفخ فيه الروح الإلهية، أمر الملائكة بالسجود له. وسجد جميع الملائكة لآدم، إلاّ ابليس أبى أن يسجد. وتعتبر الآيات القرآنية أن هذا التصرُّف كان استكباراً، لذلك أصبح من الكافرين([11]). ويسأل الله تعالى الشيطان: ﴿مَا مَنَعَكَ أَنْ لاَ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ﴾؟ فأجاب: ﴿أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ﴾، فيطرده الله من هذا المقام، ويعتبره من الصاغرين؛ لأنه لا ينبغي له أن يتكبَّر على الأمر الإلهيّ([12]).

ويشير العلاّمة الطباطبائي إلى نقطةٍ لطيفة حول الآية 33 من سورة البقرة، ويقول: في نهاية الآية يقول الله للملائكة: ﴿وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ﴾. وفي الآية التالية يتّضح معنى ما كتموه، وهو «كفر إبليس»، الذي انكشف تكبُّره وكفره برفضه السجود([13])؛ لأنه في الآية 34 تمّ استخدام الفعل الماضي البعيد، أي عبارة: ﴿وَكَانَ مِنْ الْكَافِرِينَ﴾، أي قبل الأمر بالسجود كان إبليس من الكافرين؛ لأنه إذا كان عدم إيمانه مرتبطاً بمرحلة السجدة فيجب أن تكون الآية بدون (كان)، فكُفْرُه متعلِّقٌ بما قبل خلق الإنسان وخلافته على الأرض، وهو ما أعلنه الله للملائكة قبل خَلْق الإنسان([14]). ومن هنا فإن عبارة: ﴿كَانَ مِنْ الْكَافِرِينَ﴾ في الآية 36 تنسجم مع عبارة ﴿كُنتُمْ تَكْتُمُونَ﴾، الواردة في الآية التي سبقَتْها، وكلا العبارتين جاءتا بصيغة الماضي البعيد. لكنّ السؤال الذي يطرح نفسه هنا: بما أن المقصود بـ ﴿كَانَ مِنْ الْكَافِرِينَ﴾ هو إبليس فلماذا تمّ التعبير عنه في الآية السابقة بصيغة الجَمْع، ونسب الكتمان إلى الملائكة جميعاً، فقيل: ﴿كُنتُمْ تَكْتُمُونَ﴾؟ والجواب: بما أن الشيطان لم يظهر عصيانه، ولم يكن متميِّزاً عن غيره، فمن المعتاد أن ينسب الفرد إلى الجماعة في حال كان هذا الشخص غير مميَّزٍ عن سواه. وطبعاً قد ورد في بعض الروايات أن الملائكة ـ بالإضافة إلى إبليس الذي قرَّر التمرُّد إذا ما أمره الله بالطاعة ـ كتموا في نفوسهم أَمْراً، وهو أنهم اعتقدوا أن الله لن يخلق مخلوقاً أفضل منهم([15]).

7ـ عصيان آدم وحوّاء للأمر الإلهيّ

ورد في آيات القرآن أن الله أسكن آدم وحوّاء الجنّة (جنّةً خاصّة)، وحذَّرهما من أكل شجرةٍ معينة، لكنّ الشيطان خدعهما، وطُردوا من هناك، وهبطوا إلى الأرض: ﴿فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ﴾ (البقرة: 35 ـ 36).

وجاء في بعض الآيات أن الشيطان خدع آدم وحوّاء، كما في قوله تعالى: ﴿فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ﴾ (البقرة: 36)، وقوله: ﴿فَوَسْوَسَ لَهُمَا﴾ (الأعراف: 20)، حيث استخدم ضمير المثنّى في كلَيْهما. لكنْ في بعض الآيات جاء الحديث عن خداع آدم، وبسببه أكلَتْ حوّاء أيضاً من الشجرة الممنوعة: ﴿فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لاَ يَبْلَى * فَأَكَلاَ مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا…﴾ (طه: 120 ـ 121)، والضمير في «إليه» يعود إلى آدم؛ بقرينة الآيات السابقة، لكنّ الفعل « أكلا» بصيغة المثنّى يشير إلى آدم وحواء.

وقد ورد موضوع خداع الشيطان في بعض الآيات بطريقةٍ قال فيها الشيطان لآدم: ﴿هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لاَ يَبْلَى * فَأَكَلاَ مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا…﴾ (طه: 120)؛ وفي بعض الآيات بيانٌ قريب من الآية السابقة: ﴿وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلاَّ أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنْ الْخَالِدِينَ﴾ (الأعراف: 20). في كلا الآيتين هناك حديثٌ عن الخلود. وفي الآية الثانية حديثٌ عن التحوُّل إلى ملاكٍ، ويمكن أن يكون هو نفسه أحد مصاديق الخلود؛ لأن الملائكة كائناتٌ عازبةٌ وخالدةٌ إلى يوم القيامة.

8ـ ماهيّة الشجرة المُحَرَّمة

لم يَرِدْ في الآيات الكريمة ذكرُ ماهيّة الشجرة المُحَرَّمة. وطبعاً جاء في بعض الروايات أن الشجرة كانت شجرة تفاح، أو شجرةً عادية، مَثَلُها كمَثَل سائر أشجار الجنّة، أو كانت تحتوي على جميع أنواع الثمار. وفي غيرها ورد أنها كانت شجرة علم محمد وآل محمد([16]). وعلى أيّ حالٍ كان هذا أمراً إلهيّاً لاختبار طاعة آدم وحوّاء، ولا يوضِّح القرآن الكريم ماهية تلك الشجرة. لكنّ نتيجة الأكل منها هو انفتاحُ عينَيْ آدم وحوّاء وانكشاف عوراتهما. يقول العلاّمة الطباطبائي في هذا الصدد: «يحتمل أن تكون الشجرة هي نبتة القمح، على افتراض أن تلك الشجرة المحرَّمة كانت من الحنطة، وبالنظر إلى اعتماد الحياة البشرية عليها كانت تمثِّل الحياة الدنيا بالنسبة لآدم. ومسألة انكشاف عوراتهما وتغطيتها تؤكِّد هذه النقطة أيضاً، والله العالم([17]). وبالنظر إلى أن الله علَّم آدم الأسماء كلَّها، وكذلك الآيات الأخرى التي تؤكِّد باستمرارٍ على العلم، فمن المستَبْعَد أن تكون تلك الشجرة هي شجرة العلم والمعرفة.

9ـ نتيجة المعصية هبوطٌ إلى الأرض

يُستَنْتَج من آيات القرآن أن عصيان آدم وحوّاء أدّى إلى انكشاف عوراتهم، فغطَّوْا أنفسهم بأوراق الشجر، وطردهم الله من تلك الجنّة، وأسكنهم الأرض([18])، رغم أنهم تابوا وقَبِلَ الله توبتهم؛ بتعليمهم الكلمات([19]). يتمّ التعبير عن «الطرد من الجنّة» في القرآن بـ «الهبوط»: ﴿اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ﴾ (البقرة: 36). ويفهم من الآيات أن الهبوط كان من السماء إلى الأرض؛ لأن الهبوط في اللغة هو السقوط من أعلى إلى أسفل. وعليه يتبين أن المراد من الجنّة التي كان فيها آدم وحوّاء هي الجنّة نفسها، وليس أيّ حديقةٍ على الأرض. ويُستفاد من كلام أمير المؤمنين× أن الطرد من الجنّة محتَمَلٌ؛ إذ يقول: «ثمّ بسط الله سبحانه له في توبته، ولقّاه كلمة ربّه، ووعده المردّ إلى جنّته، وأهبطه إلى دار البليّة، وتناسل الذرّية…»([20])، ويُفهم من عبارة الإمام×: «ووعده المردّ إلى جنّته» أن إخراج آدم وحواء كان من الجنّة([21]).

خلق آدم وحوّاء في العهد القديم

تحظى قصّة خلق آدم وحواء والأحداث المتعلِّقة بها في القرآن الكريم باتّساعٍ وتنوُّعٍ بيانيّ كبير؛ لكنّ هذا الاتّساع والتنوُّع غير موجودٍ في العهد القديم. وهذا لا يمنع من وجود قواسم مشتركةٍ واختلافاتٍ بين النصّين.

وبعد دراسة هذه القصّة في العهد القديم سوف نبحث في هذه النقاط.

وفقاً للعهد القديم خلق الله السموات والأرض في ستّة أيّام، واستراح في اليوم السابع([22])، ثمّ قرَّر الله أن يخلق آدم وحوّاء. في هذا الوقت لم يكن على الأرض أيّ نوعٍ من النبات؛ لأن الله لم ينزل المطر على الأرض، ولم يكن هناك إنسانٌ عليها ليقوم بعمل الأرض، وكانت تُروى بالضباب([23]).

1ـ اختصارٌ شديد في بيان مجريات الخلق

«وَجَبَلَ الربّ الإلهُ آدَمَ تُرَاباً مِنَ الأرْضِ، وَنَفَخَ فِي أنْفِهِ نَسَمَةَ حَيَاةٍ. فَصَارَ آدَمُ نَفْساً حَيّةً»([24]). هذا كلّ ما ذُكر عن خلق آدم في العهد القديم. ولا يوجد هذا التنوُّع في التعبير الذي عهدناه في القرآن عن خلق آدم.

ويتابع فيقول: وَغَرَسَ الربّ الإِلَهُ جَنّةً فِي عَدْنٍ شَرْقاً، وَوَضَعَ هُنَاكَ آدَمَ الذِي جَبَلهَُ. وَأَنْبَتَ الربّ الإِلَهُ مِنَ الأرْضِ كلّ شَجَرَةٍ شَهِيّةٍ لِلنّظَرِ وَجَيّدَةٍ لِلأكلِْ([25]). ويُفْهَم من هذا الوصف أن الجنّة التي عاش فيها آدم كانت على الأرض، وليس لها علاقة بالسماء.

ويتابع فيقول: «وَكاَنَ نَهْرٌ يَخْرُجُ مِنْ عَدْنٍ لِيَسْقِيَ الْجَنّةَ، وَمِنْ هُنَاكَ يَنْقَسِمُ فَيَصِيرُ أرْبَعَةَ رُؤُوسٍ: اِسْمُ الْوَاحِدِ فِيشُونُ، وَهُوَ الْمُحِيطُ بِجَمِيعِ أرْضِ الْحَوِيلةَِ حَيْثُ الذهَبُ. وَذَهَبُ تِلْكَ الأرْضِ جَيدٌ. هُنَاكَ الْمُقْلُ وَحَجَرُ الْجَزْعِ. وَاسْمُ النهْرِ الثانِي جِيحُونُ، وَهُوَ الْمُحِيطُ بِجَمِيعِ أرْضِ كوُشٍ. وَاسْمُ النهْرِ الثالِثِ حِداقِلُ، وَهُوَ الْجَارِي شَرْقِي أشورَ. وَالنهْرُ الرابعُ الْفُرَاتُ([26]).

2ـ ماهيّة الشجرة المحرَّمة

وضع الله شجرتين في وسط الجنّة: إحداهما: شجرة الحياة؛ والأخرى: شجرة معرفة الخير والشرّ([27]). ووفقاً للعهد القديم وضع الله آدم في حديقة عَدْنٍ لهَدَفين: أحدهما: القيام بعمل الحديقة؛ والآخر: لحمايتها. وقال له: كُلْ من كلّ شجر الجنّة، ولكنْ لا تأكل من شجرة معرفة الخير والشرّ؛ لأنك إذا أكلْتَ منها تموت([28]). يقول العهد القديم، تكملةً لقصّة خلق آدم: وَقَالَ الربّ الإلهُ: «لَيْسَ جَيّداً أنْ يَكوُنَ آدَمُ وَحْدَهُ، فَاصْنَعَ لهَُ مُعِيناً نَظِيرَهُ». وَجَبَلَ الربّ الإلهُ مِنَ الأرْضِ كلّ حَيَوَانَاتِ الْبَرّيّةِ وَكلّ طُيُورِ السّمَاءِ، فَأحْضَرَهَا إلَى آدَمَ؛ لِيَرَى مَاذَا يَدْعُوهَا، وَكلّ مَا دَعَا بِهِ آدَمُ ذَاتَ نَفْسٍ حَيّةٍ فَهُوَ اسْمُهَا([29]).

3ـ خَلْق حوّاء من ضلع آدم

بعد أن لاحظ الله أن الحيوانات ليسوا رفقاء ومؤنسين لآدم قرَّر أن يخلق حوّاء كزوجةٍ له: «فَأوْقَعَ الربّ الإِلَهُ سُبَاتاً عَلَى آدَمَ، فَنَامَ، فَأخَذَ وَاحِدَةً مِنْ أضْلاَعِهِ وَمَلأ مَكاَنَهَا لَحْماً. وَبَنَى الربّ الإِلَهُ الضِّلْعَ التِي أخَذَهَا مِنْ آدَمَ امْرَأةً، وَأحْضَرَهَا إِلَى آدَمَ، فَقَالَ آدَمُ: «هذِهِ الآنَ عَظْمٌ مِنْ عِظَامِي، وَلَحْمٌ مِنْ لَحْمِي. هذِهِ تُدْعَى امْرَأةٌ، لأنّهَا مِنِ امْرِئٍ أُخِذَتْ». لِذلِكَ يَتْرُكُ الرجُلُ أبَاهُ وَأمّهُ، وَيَلْتَصِقُ بِامْرَأتِهِ، وَيَكوُنَانِ جَسَداً وَاحِداً، وَكاَنَا كِلاَهُمَا عُرْيَانَيْنِ، آدَمُ وَامْرَاتُهُ، وَهُمَا لاَ يَخْجَلاَنِ([30]).

يتّضح من العهد القديم أن حوّاء خُلقَتْ من جزءٍ من جسم الإنسان، وهذه الفكرة تسرَّبَتْ إلى العالم الإسلامي. وقد مال بعض المفسِّرين، مثل: العلاّمة الطبرسي، إليها؛ في حين أن آيات القرآن لا تحتوي على مثل هذا التصريح.

 

4ـ العصيان والخروج

يُستفاد من العهد القديم أن الله نهى آدم وحده عن الأكل من شجرة معرفة الخير والشرّ، وكان هذا النهي موجوداً قبل خلق حوّاء.

ويبدأ خداع آدم وحوّاء بحوّاء، عن طريق الحيّة: «وَكاَنَتِ الْحَيّةُ أحْيَلَ جَمِيعِ حَيَوَانَاتِ الْبَرّيةِ التِي عَمِلهََا الربّ الإلهُ، فَقَالَتْ لِلْمَرْأةِ: «أحَقّاً قَالَ الله: لاَ تَأكُلاَ مِنْ كلّ شَجَرِ الْجَنّةِ؟»، فَقَالَتْ الْمَرْأةُ لِلْحَيّةِ: «مِنْ ثَمَرِ شَجَرِ الْجَنّةِ نَأكلُُ، وَأمّا ثَمَرُ الشجَرَةِ التِي فِي وَسَطِ الْجَنّةِ فَقَالَ الله: لاَ تَأكُلاَ مِنْهُ، وَلاَ تَمَسّاهُ لِئَلاّ تَمُوتَا»، فَقَالَتْ الْحَيّةُ لِلْمَرْأةِ: «لنَْ تَمُوتَا! بَلِ اللهُ عَالِمٌ أنهُ يَوْمَ تَأكُلاَنِ مِنْهُ تَنْفَتِحُ أعْيُنُكُمَا، وَتَكوُنَانِ كالله، عَارِفَيْنِ الْخَيْرَ وَالشرّ»([31]). وتتأثَّر حوّاء بإغواء الحيّة: و«رَأَتِ الْمَِرْأةُ أن الشَّجَرَةَ جَيّدَةٌ لِلأكْلِ، وَأنّهَا بَهِجَةٌ لِلْعُيُونِ، وَأن الشَّجَرَةَ شَهِيّةٌ لِلنَّظَرِ، فَأخَذَتْ مِنْ ثَمَرِهَا وَأَكَلَتْ، وَأعْطَتْ رَجُلهََا أيْضاً مَعَهَا فَأكَلَ، فَانْفَتَحَتْ أعْيُنُهُمَا، وَعَلِمَا أنهُمَا عُرْيَانَانِ. فَخَاطَا أوْرَاقَ تِينٍ، وَصَنَعَا لأنْفُسِهِمَا مَآزِرَ»([32]).

معظمُ عبارات العهد القديم عن الله ملموسةٌ ومادّية، فتراه يقول، إكمالاً للقصّة: وَسَمِعَا صَوْتَ الربّ الإلهِ مَاشِياً فِي الْجَنّةِ عِنْدَ هُبُوبِ رِيحِ النّهَارِ، فَاخْتَبَأ آدَمُ وَامْرَأتُهُ مِنْ وَجْهِ الربّ الإلهِ فِي وَسَطِ شَجَرِ الْجَنّةِ، فَنَادَى الربُّ الإلهُ آدَمَ، وَقَالَ لهَُ: «أيْنَ انْتَ؟»، فَقَالَ: «سَمِعْتُ صَوْتَكَ فِي الْجَنّةِ، فَخَشِيتُ؛ لأني عُرْيَانٌ، فَاخْتَبَأتُ»، فَقَالَ: «مَنْ أعْلَمََكَ أنّكَ عُرْيَانٌ؟ هَلْ أكَلْتَ مِنَ الشجَرَةِ الّتِي أوْصَيْتُكَ أنْ لاَ تَأكلَُ مِنْهَا؟»، فَقَالَ آدَمُ: «الْمَرْأةُ التِي جَعَلْتَهَا مَعِي هِيَ أعْطَتْنِي مِنَ الشَّجَرَةِ فَأكَلْتُ»، فَقَالَ الربُّ الإلهُ لِلْمَرْأةِ: «مَا هذَا الذِي فَعَلْتِ؟»، فَقَالتَِ الْمَرْأةُ: «الْحَيّةُ غَرَّتْنِي فَأكَلْتُ»([33]).

ووفقاً للعهد القديم قال الله لآدم: إنك إذا أكلت من هذه الشجرة فسوف تموت. لكنْ ليس فقط هذا لم يحصل، بل أصبحوا حكماء، وعارفين بالخير والشرّ. فهل كذب الله على آدم؟

فَقَالَ الربُّ الإلهُ لِلْحَيّةِ: «لأنّكِ فَعَلْتِ هذَا… أضَعُ عَدَاوَةً بَيْنَكِ وَبَيْنَ الْمَرْأةِ، وَبَيْنَ نَسْلِكِ وَنَسْلِهَا… وَقَالَ لِلْمَرْأةِ: «تَكثِْيراً أكثرُ أتْعَابَ حَبَلِكِ، بِالْوَجَعِ تَلِدِينَ أوْلاداً… وَقَالَ لآدَمَ: «لأنّكَ سَمِعْتَ لِقَوْلِ امْرَأتِكَ، وَأكَلْتَ مِنَ الشجَرَةِ التِي أوْصَيْتُكَ قَائِلاً: لاَ تَأكُلْ مِنْهَا، مَلْعُونَةٌ الأرْضُ بِسَبَبِكَ. بِالتَّعَبِ تَأكُلُ مِنْهَا كلّ أيّامِ حَيَاتِكَ…، حَتّى تَعُودَ إلَى الأرْضِ التِي أُخِذْتَ مِنْهَا…» ([34]).

ويُفْهَم من هذا الكلام أن الجنّة التي عاش فيها آدم وحوّاء كانت على الأرض، حيث قال الله لآدم: ملعونةٌ الأرض بسببك.

وبعد الأكل من شجرة المعرفة قَالَ الربُّ الإلهُ: «هُوَذَا الإنْسَانُ قَدْ صَارَ كوََاحِدٍ مِنّا، عَارِفاً الْخَيْرَ وَالشرّ. وَالآنَ لعََلّهُ يَمُدّ يَدَهُ وَيَأخُذُ مِنْ شَجَرَةِ الْحَيَاةِ أيْضاً، وَيَأكُلُ وَيَحْيَا إلَى الأبَدِ»، فَأخْرَجَهُ الربُّ الإلهُ مِنْ جَنّةِ عَدْنٍ؛ لِيَعْمَلَ الأرْضَ التِي أُخِذَ مِنْهَا. فَطَرَدَ الإنْسَانَ، وَأقَامَ شَرْقِيّ جَنّةِ عَدْنٍ الْكرَُوبِيمَ، وَلهَِيبَ سَيْفٍ مُتَقَلّبٍ لِحِرَاسَةِ طَرِيقِ شَجَرَةِ الْحَيَاةِ([35]).

ويُستفاد من هذا الجزء من العهد القديم في أن الفَرْق بين الإنسان والله يكمن في الخلود، وبمجرّد الأكل من الشجرة يصبح آدم خالداً، وتنعدم المسافة بينهما. ومن ناحيةٍ أخرى حينما يأكل من شجرة المعرفة يصبح، بحَسَب تعبير العهد القديم، مثل الله، عارفاً بالخير والشرّ! ألا يدلّ هذا على تنزُّل وجود الله وضعفه؟! الله الذي يريد أن يكون آدم جاهلاً، لكنّ آدم أكل من شجرة المعرفة، وأصبح حكيماً؛ والله الذي يقلق خوفاً من وصول آدم إلى الحياة الخالدة بأكله من الشجرة، لذلك طرده من الجنّة، وعيَّن حرّاساً لحماية شجرة الحياة؛ لئلاّ يعود آدم خفيةً إلى تلك الجنّة، ويأكل من ثمرتها التي تمنح الخلود، فيصير مثل الله. هذا القِسْم هو أيضاً دليلٌ على أن العهد القديم يعتبر أن تلك الجنّة على الأرض.

مقارنةٌ مختصرة بين القصّتين

أـ وجوه الاشتراك

1ـ كلا النصّين يؤكِّد أن الله هو خالقُ آدم، وخلقه من ترابٍ قبل حوّاء.

2ـ بعد خلق جسم الإنسان نفخ فيه الرُّوح، وأصبح آدم حيّاً.

3ـ خلُقَتْ حوّاء بعد آدم، لكنْ ليس من الواضح الوقت الذي استغرقه ذلك.

4ـ أخرج آدم وحوّاء من الجنة؛ لأنهما خُدِعا من قِبَل مخلوقٍ ما.

5ـ تمّ خداع آدم وحوّاء، وأكلوا من الشجرة المحرَّمة، وطُردوا من الجنّة التي عاشوا فيها… ونتيجةً للعصيان انكشفت عوراتهم، وغطَّوْا أنفسهم بأوراق الشجر.

ب ـ أوجه الاختلاف

1ـ في القرآن الكريم أُثيرت قضايا قبل خلق آدم، ومنها: حقيقة أن الله شاطر الملائكة قراره في خلق الإنسان، واحتجّوا، وقال اللهُ لهم: إني أعلم ما لا تعلمون.

لكنْ في العهد القديم لا يذكر قرار الله، وحواره مع الملائكة، واعتراضاتهم.

2ـ وضع الله تعالى في القرآن الكريم هَدَفاً سامياً لخلق آدم، وهو خلافته على الأرض.

لكنّ العهد القديم يعتبر أن خلق آدم شيءٌ سطحيّ وغير مهمّ؛ إذ خلقه لمجرّد الاستفادة من أشجار جنّة عَدْنٍ، والمحافظة عليها.

3ـ نواجه في القرآن الكريم مجموعةً متنوعة من التعبيرات عن خلق الإنسان، مثل: كيفية خلق آدم، التي لا تخلو من الإبداع الجماليّ.

ولكنْ في العهد القديم يقول: خلق آدم من تراب الأرض.

4ـ إن خَلْق الإنسان في القرآن الكريم متأخِّرٌ بكثيرٍ عن خَلْق العالم والكائنات الأخرى.

لكنْ من الممكن أن نفهم من العهد القديم أنه تمّ خَلْق الإنسان مباشرةً بعد خَلْق الكَوْن في ستّة أيّام، واستراحة الله في اليوم السابع.

5ـ علَّم الله تعالى آدم الأسماء كلَّها بحَسَب القرآن الكريم، وبها تاب على آدم من ذنبه وعصيانه.

لكنْ في العهد القديم لم يعلِّم الله آدم، بل أحضر الحيوانات إلى آدم؛ ليختار أسماء لها، حتّى يصير أحدها رفيقاً له.

6ـ الهدف من خَلْق الله لحوّاء في القرآن الكريم هو اختيار رفيقٍ لآدم؛ ليكون معه، ويصل إلى الهدوء والسَّكينة.

ولكنْ في العهد القديم كان هَدَف خَلْق حوّاء هو اختيار زوجةٍ لآدم؛ لكي يتخلَّص من الشعور بالوحدة.

7ـ تختلف كيفية خلق حوّاء في القرآن الكريم اختلافاً كبيراً عن العهد القديم؛ فبحَسَب القرآن خُلقَتْ حوّاء من جنس آدم؛ ولكنْ وفقاً للعهد القديم ألقى الله النوم على آدم، وخلق حوّاء من ضلعه.

8ـ أغوى الشيطان آدم وحوّاء، وفقاً للقرآن الكريم؛ لكنْ لم يَرِدْ ذِكْرٌ للشيطان في العهد القديم، بل الحيّة هي التي أغوَتْ حوّاء، وحوّاء بدَوْرها أغوَتْ آدم. وهذا يدلّ أيضاً على أن الجنّة المذكورة في العهد القديم كانت على الأرض؛ لأنه لا يوجد حيّةٌ في الجنّة، ولا مكان للحيوانات الأخرى.

9ـ خاطب الله آدم وحوّاء ونهاهما معاً عن أكل تلك الشجرة، بحَسَب الرواية القرآنية؛ أما في العهد القديم فكان هذا النهي موجَّهاً لآدم فقط.

10ـ لم يتمّ تحديد الشجرة المحرَّمة بالضبط في القرآن الكريم؛ لكنّها في العهد القديم شجرة الخير والشرّ وشجرة الخلود.

11ـ لم يكذب الله تعالى على آدم وحواء قطّ في القرآن الكريم؛ ولكنْ ورد في العهد القديم أن الله قال لآدم: إذا أكلْتَ من هذه الشجرة تموت، ولكنّ آدم لم يمُتْ بأكلها. ولا يُفهم من العبارات الواردة في العهد القديم أن المقصود هو الموت الروحيّ.

12ـ جرى الحديث في القرآن الكريم عن تعليم الأسماء كلّها لآدم؛ ولكنْ يتّضح   من العهد القديم أن الله لا يرغب في أن يصبح الإنسان مطَّلعاً وعالماً، فيقول له: لا تأكل من هذه الشجرة؛ لأنك ستموت، ولكنْ بعد الأكل منها يتَّضح أنها كانت شجرة المعرفة، وتمييز الخير والشرّ. لذلك يريد الله أن يكون الإنسان جاهلاً، وليس حكيماً!

13ـ كان مسكن آدم وحوّاء حَسْب تعاليم القرآن الكريم في الجنّة؛ لأنهم هبطوا بعد العصيان، والهبوط عبارةٌ عن نزول من الأعلى إلى الأسفل.

ولكنْ وفقاً للعهد القديم كانوا يعيشون في حديقةٍ أرضية.

14ـ لقد تاب آدم وحوّاء بعد المعصية بفضل الهداية الإلهيّة، طبق ما جاء في القرآن الكريم، وتقرَّر أنهم من خلال العمل الجادّ، والعيش على الأرض، يستعيدون حقّ العودة إلى الجنّة.

لكنْ في العهد القديم لم يَرِدْ ذِكْرٌ لتوبة آدم وحوّاء.

15ـ جاء في القرآن الكريم أن الشيطان قال لآدم وحوّاء: ﴿مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلاَّ أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنْ الْخَالِدِينَ﴾؛ لكنْ في العهد القديم قالت لهم الحيّة: إذا أكلتُمْ من هذه الشجرة ستصبحان عالمين بالخير والشرّ.

16ـ أدّى الأكل من الشجرة المحرَّمة بصاحبه ـ وفقاً للقرآن الكريم ـ إلى الدخول في زمرة الظالمين، لذلك يمكن أن نفهم أن نَهْي الله كان لاختبار طاعتهم له، وليس خَوْفاً من أن يصبحوا عالمين.

لكنّ النتيجة التي كانت مقرَّرةً للأكل من الشجرة المحرَّمة ـ وفقاً للعهد القديم ـ هي موت آدم وحوّاء، وهو ما لم يتحقَّق. لذلك يبدو أن الله كان يحاول خداع آدم وحوّاء.

17ـ آدم في القرآن الكريم مُكرَّمٌ، وجديرٌ بالخلافة الإلهية، ولذلك يأمر الله الملائكة بالسجود له بعد نَفْخ الرُّوح.

لكنْ في العهد القديم لم يَرِدْ ذِكْرٌ لكرامة الإنسان، وشرفه على الكائنات الأخرى، وطلب السجود لآدم.

18ـ في القرآن الكريم تُنْسَب الرُّوح التي نُفخَتْ في آدم إلى الله؛ لأن الآية تقول: ﴿وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي﴾، وهذه علامةٌ على المنزلة العالية للرُّوح التي تنسب إلى الله.

ولكنْ في العهد القديم يقول: نفخ في أنف آدم روح الحياة، ولم يَرِدْ ذِكْرٌ لانتساب الروح إلى الله.

الخاتمة

يمكن الاستنتاج من قصّة آدم وحواء في العهد القديم أن خَلْقهما كان من قِبَل الله. لكنْ هناك عدّةُ نقاطٍ في هذه القصّة لا تناسب شأن الله تعالى باعتباره الكمال المطلق. وهذا دليلٌ على تصرُّف اليد البشريّة في العهد القديم، ولا يوجد أثرٌ للبراعة الجمالية أو الحقائق أو المعارف السامية في هذه القصّة.

لكنّ القرآن الكريم، بسَرْده لقصّة خلق آدم وحوّاء، لا يسعى فقط إلى سَرْد قصّةٍ وحَدَثٍ، بل يعلِّم من خلالها الكثير من الحقائق والأسرار، ويعبِّر عن كرامة الإنسان الذاتية، وشرفه على جميع الكائنات. ولا يوجد في القرآن أيّ موضوعٍ هابط لا يكون متوافقاً مع مقام الربوبية المنزَّه.

الهوامش

(*) أستاذٌ مساعِدٌ في مؤسّسة الإمام الخمينيّ للتعليم والأبحاث ـ قم.

([1]) السيد هاشم البحراني، البرهان في تفسير القرآن 1: 167، ح7، مؤسّسة البعثة، طهران، 1416هـ.

([2]) المصدر السابق 1: 164.

([3]) السيد محمد حسين الطباطبائي، رسالة الإنسان قبل الدنيا: 29، دار الزهراء، قم، 1371هـ.ش.

([4]) محمد تقي مصباح اليزدي، معارف القرآن (معرفة الإنسان): 331، ط2، منشورات على طريق الحقّ، قم، 1368هـ.ش.

([5]) أمين الدين الطبرسي، تفسير جوامع الجامع 1: 233، تصحيح: أبو القاسم گرجي، ط2، جامعة طهران، طهران، 1367هـ.ش.

([6]) السيد محمد حسين الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن 4: 136، مؤسسة النشر الإسلامي، قم.

([7]) ناصر مكارم الشيرازي وآخرون، الأمثل في تفسير كتاب الله المُنْزَل 3: 246 ـ 247، دار الكتب الإسلامية، طهران، 1353هـ.ش.

([8]) محمد تقي مصباح اليزدي، معارف القرآن (معرفة الإنسان): 349.

([9]) المصدر السابق: 350.

([10]) المصدر السابق: 359 ـ 358.

([11]) البقرة: 36.

([12]) الأعراف: 12 ـ 13.

([13]) السيد محمد حسين الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن 4: 31.

([14]) السيد محمد حسين الطباطبائي، رسالة الإنسان قبل الدنيا: 243.

([15]) السيد هاشم البحراني، البرهان في تفسير القرآن 1: 75، ح14.

([16]) السيد هاشم البحراني، البرهان في تفسير القرآن 1: 83 ـ 79.

([17]) السيد محمد حسين الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن 4: 35.

([18]) البقرة: 36، الأعراف: 26؛ طه: 123.

([19]) البقرة: 37.

([20]) نهج البلاغة، الخطبة الأولى.

([21]) السيد محمد حسين الطباطبائي، رسالة الإنسان قبل الدنيا: 252.

([22]) سفر التكوين 2: 2.

([23]) المصدر السابق 2: 4 ـ 6.

([24]) المصدر  السابق 2: 7.

([25]) المصدر السابق 2: 8 ـ 9.

([26]) المصدر السابق 2: 10 ـ 16.

([27]) المصدر السابق 2: 9.

([28]) المصدر السابق 2: 15 ـ 17.

([29]) المصدر السابق 2: 18 ـ 20.

([30]) المصدر السابق 2: 21 ـ 25.

([31]) المصدر السابق 3: 1 ـ 5.

([32]) المصدر السابق 3: 6 ـ 7.

([33]) المصدر السابق 3: 8 ـ 13.

([34]) المصدر السابق 3: 14 ـ 19.

([35]) المصدر السابق 3: 22 ـ 24.

Facebook
Twitter
Telegram
Print
Email

اترك تعليقاً