أحدث المقالات
 

التصور المركزي للبحث:

لكل أُمة تطلع إلى مشروع حضاري، يخرج مجتمعاتها من وضع اختلال التوازن القيمي إلى وضع التوازن بين عوامل الارتقاء الذاتي وعوامل الدفاع عن الوجود؛ بحيث ينشط هذا التوازن في عالم التطبيق([1])، ولكل مشروع حضاري أيّا كانت طبيعته وسماته جذر معرفي متراكم، وإن تفاوت عمقه التاريخي، ومتى كان الجذر أقدم كان أكثر تركزاً. فللصيرورة التاريخية للمعرفة التي تتحول إلى عقل قابل للنقد والمساءلة آثارها التي تنتجها أحداث تاريخية متلاحقة ومستمرة، تعمل في خياراتنا المعاصرة، وترسم مواقفنا إزاء الأحداث والأفكار والمفاهيم، وتوجه أعمالنا الفردية والمؤسساتية([2]).

ويتشكل العقل المعرفي من المعتقدات والتشريعات والأعراف والتقاليد والقيم المتوارثة؛ ليكون بمجموعه معياراً للتفهم المعاصر، وأساساً للخطاب السياسي والحضاري، وخلفية للاختيار بين بدائل الموقف إزاء موضوع واحد([3]).

ويُعدّ الدين من أبرز عوامل تشكيل العقل المعرفي، لا سيما في منطقة الشرق الأوسط؛ لأنّ الإسلام هو المكون الأساس لثافة شعوبه حتى لغير المعتنقين لـه؛ لأنه صاغ المناخ الثقافي، وأوجد مساحة للتمازج والتعايش بين ثقافته وثقافة وعقائد المنتمين إلى غير دين الإسلام([4]).

لا يعزى التشكل السالب ـ فيما أعتقد ـ إلى أساسيات الإسلام أو نصوصه الرئيسة الأُولى، إنما إلى قراءات الفقهاء والمنظرين والمفكرين لتلك النصوص، ففي طول تاريخ تكوّن الثقافة المبتنية على أساس تلك النصوص الأُولى، تأسست مدارس واجتهادات ونـزعات فكرية وتوجهات وتيارات. ويُعدّ أمراً طبيعياً أن نصاً شمولياً مطلقاً من محددات الزمن والمكان والمستويات الحضارية والبيئية مثل النص القرآني أن يُقرأ قراءات متعددة، وتتناولـه اجتهادات متعددة، لا سيما وقد مرّ عليه زمن طويل تجاوز الخمسة عشر قرناً.

وعلى ما تقدم فلا يختلف إثنان في مكونات هذا الواقع المعرفي أو في مسبباته، ولا يختلف أحد في أن القضية في (قراءات الإسلام) التي أنتجتها ظروف التلقي لـه من جراء عوامل اجتماعية وسياسية واقتصادية، بيد أنّ إشكالية البحث تدور حول أن هذه القراءات هي التي أنتجت عقلاً معرفياً قد أصبح فيما بعد المنظور والزاوية التي تحدد اختيار الموقف، فبقدر ما تكون القراءة برهانية موضوعية إيجابية منفتحة يكون الموقف المختار مثلـها، وبقدر ما تكون انغلاقية منكفئة تتوهم احتكار الحقيقة والصحة يكون الموقف من جنسها، ولعل سؤالاً يرد هنا: لماذا الإسلام والشرق الأوسط؟

المبحث الأول: الإسلام والشرق الأوسط وخيار العنف السياسي

هل تعني هذه الثنائية أن الإسلام ثقافة تولد الإرهاب؟

أقول: كلا، لا جنسية للإرهاب والعنف السياسي والعقائدي ولا دين لـه. نعم، للإرهاب ثقافة ربما تتصل بالدين تأخذ منه مشروعيته([5])، إلاّ أن الواقع الحالي وطبيعة مسارات الصراع بين (مجتمعات الشرق الأوسط) وهيمنات الدول الغربية والنادي الديمقراطي المسيحي، يفرض تحديداً للبحث نضعه بالسياق الآتي:

إن الطبيعة الدينية للإسلام طبيعة ممتزجة، غير قابلة للفصل في مكوناتها العقائدية والتشريعية والأخلاقية، فهو المعادل لوجود الإنسان بكل مسارات حركته ووجوده، وهو الذي يمنح التصور الكوني، ويضع نظرية تفصيلية ومحددة في التكليف بشكل شامل لأنماط السلوك.

وفي الإسلام هرم معياري ضابط ومنضبط، بعكس المسيحية ذات الأُفق الاعتقادي ـ على الأقل في أزماننا المعاصرة ـ دون التشريعي. أما اليهودية فهي دين ذو نـزعة لا يلتفت فيه إلى صحة اعتقاد من كانت أُمّه يهودية، ثم هو دين يدعو إلى تحقيق سيادة اليهود على العالم كلـه بالوسائل كافة، أما الاتجاهات الفكرية العلمانية فهي تهمل الجوانب الاعتقادية الكونية، وتركز على (قوانين المجتمع المدني)، بلا تقييد لحرية المعتقد والدين.

فالإسلام إذن، يختلف تماماً في تأثيره على صنع الإنسان؛ لأنه يرتبط به ارتباطاً صارماً لا مجال عنده لاتخاذ موقف دون العودة إلى موازينه وأُصولـه، وحيث أن موازينه وأُصولـه لم تبق في حدود النصوص الأُولى المؤسِّسة، إنما تجاوزتها إلى نصوص اجتهد الإنسان فيها على أساس من تلك الأُصول الأُولى، فألحقها التاريخ بالنصوص المؤسِّسة، فصارت منظومة معرفية ثم تحولت إلى عقل معرفي ثم قيم معيارية تكمن وراء كل تصرف، ومنها ممارسة العنف السياسي والعقائدي.

وهنا نتساءل:

ما صلة القيم المنتزعة من التراث والدافعة للعنف؟

الجواب: هناك صراع تاريخي بين مصالح الغرب وحقوق مجتمعات الشرق الأوسط، متى تم التحسس بالخطورة عليها، استعان الشرقي بقيمه وقراءاته التراثية لكي يكوّن شرعية للمواجهة([6])، ولعل هذه مقدمة (هي المدخل الأول) للإجابة عن: (لماذا الإسلام والشرق الأوسط)؟

فالصراع التاريخي على الموارد والنفوذ وطرق التجارة شكل تحدّياً مزدوجاً، زاده تزاحم وتدافع بين نظرية التبشير المسيحي، ونظرية الدعوة إلى الإسلام، فأوجد تعارضاً فيما بينهما (الغرب والشرق). وعلى تخوم أُوربا الجنوبية وتخوم العالم الإسلامي الشمالية نشأ تلاقح واحتكاك، أثّر في قراءة كل دين لنوع العلاقة مع الدين الآخر من الناحيتين الفلسفية والاستراتيجية، أي النفوذ والـهيمنة السيادية. فتنامى شكل العلاقة على اتجاهين: الأول (المواجهة الفكرية)، والثاني (المواجهة لأجل مدّ النفوذ على حساب الآخر). ولم ينشأ تطلّع أو نـزوع نحو علاقة تكامل وتعاون وحوار وإنهاء الـهيمنات.

فقد ظهرت المنافسات السياسية الحادة من فتح القسطنطينية، وظهرت في شكل الدعوة للسيطرة على القدس التي تطلبت السيطرة على بلاد الشام تحت دعوى حماية المسيحيين من إكراهات المسلمين، وظهرت استثمارات القوة في منتصف القرن التاسع عشر، والقرن العشرين، مما سمّي بالاستعمار الغربي للعالم الإسلامي. الـهدف منه نهب ثرواته إلى جانب ظهور عدد من الدراسات الاستشراقية لمهاجمة ثقافة المسلمين وعقيدتهم([7]). ثم ظهرت في شكل إقامة حكومات قطرية رافقت تجزئة وتفتيت العالم الإسلامي، وتم تنصيب حكومات تتخادم مع التطلعات الغربية، وهذا كلّه ولّد أصلاً علاقة صراعية تتصاعد باتجاه المواجهة الحادة والساخنة، والتي وجدت نفسها مضطرة لقراءة التراث الإسلامي من جديد؛ لاستنهاض أية دافعية تخدم تلك النوعية من المواجهة، التي بدأت في نهايات القرن العشرين تتلمس وسيلة للتغلب على صعوبات عدم التكافؤ بين القدرات الغربية، وقدرات المواجهة لدى شعوب الشرق للـهيمنة الغربية، فاختارت الإدارات الغربية استخدام القوة المفرطة والحروب المدمرة، بينما اختارت بعض أشكال (المقاومة الإسلامية) طريق القتل الجماعي مضطرة، مما سمّي مؤخراً بالإرهاب، الذي حاولت الولايات المتحدة الأمريكية نقلـه من الساحة الأمريكية ـ الأُوربية إلى مكافحته على أرضه، فاختارت افغانستان والعراق، وربما ستختار بلداناً أُخر ساحة لتصفية (قدراته) وتجفيف منابعه، وكلا المطلبين، أي مطلب تبدل السياسة الأُوربية ـ الغربية من سياسة العنف والقوة والنهب والاستغلال واحتكار التقنية([8])، ومطلب السياسة الجهادية السلفية لدى معتنقي نظرية الإسلام الجهادي في الشرق الأوسط، صعب.

فهل ستسهم بحوث وتأملات وأفكار ونظريات الحكماء من المفكرين إلى إبدال هذه الأنماط من العلاقات بين الشمال والجنوب وحضارتيهما؟

وهل يمكن فتح نافذة من النور أمام ايديولوجية يشترك الغرب والشرق في تبنيها من خلال مبدأ حوار الحضارات، ونقد تراث كل منهما لفتح الطريق أمام استراتيجيات جديدة تتطلع إلى مجتمع عالمي إنساني تربطه علاقة المصالحة والتعاون والتكافل؛ لمواجهة كوارث البيئة في أُوربا، والمجاعة في إفريقيا، والتخلف في آسيا، وتنتهي باعتمادها سلوكيات الاستباحة الغربية لمقدرات شعوب الشرق، وتحرّم استخدام القوة وأسلحة الدمار، كما تحرم سلوكيات القتل الجماعي العشوائي لأسباب سياسية وعقائدية، مقابل واقع بقاء العلاقة صراعية تغذي دوامة العنف والعنف المضاد، وبينهما ستضيع تنمية الإنسان وتقدمه، ويشيع الخوف والرعب، وينعدم الأمن الدولي؟

وسوف لن يكتب النصر الحاسم لأحد الطرفين طالما استطاع الإنسان ـ في الغرب والشرق ـ أن يستخدم التقنية استخداماً للموت وليس استخداماً للحياة والسلام، فهل من اكتشاف لقيم جديدة في ثنايا تراث أُوربا، وتراث الشرق معاً مما يحفز على الخير والتعاون وفتح الآفاق الإنسانية، والتعامل مع المصالح على موازين الحق والعدل الدولي بأُفق أرحب من الانكفاء العرقي أو الديني أو الجغرافي، أو الاستراتيجي؟

وهل من تجليات إنسانية لثقافة الأديان ونظريات فكر الإنسان بحيث توظف في هذا المجال للوصول إلى مجتمع عالمي معافى من الدمار والحروب والقتل والتجويع، (الذي عانى الشعب العراقي من نموذج قاسٍ منه والذي سمّي بالحصار الاقتصادي على الضحية دون الجاني؟

هل من سبيل للتنازع عن ايديولوجيات الإحباط، والقراءات المأزومة للمركّب (المصالح ـ الثقافة) الذي يفرض ثقافة من خلال إكراه السلاح أو يدافع عن عقيدة أو مصالح من خلال وسيلة الموت الجماعي غير المميز بين المذنب والبريء؟

هل ازدهار أُمة على حساب إفقار أُمة استراتيجية يُكتب لـها الديمومة؟

هل (نظرية) إصلاح الشرق الأوسط من الخارج وسيلة للمصالحة أو وسيلة للإخضاع؟

وهل في الإسلام نص أساسي يوّلد الإرهاب؟ أم القراءات الانكفائية لـه تولده لا سيما حين يتساند معه ظلم الدول الكبرى لشعوب الشرق الإسلامي الفقيرة، ثم ظلم الحكومات في بلدان العالم الإسلامي لشعوبها المضطهدة، واعتماد سياسات التعسف إزاء توجهات تراثية يتمثل ذلك بإبعاد وإقصاء التيارات الإسلامية حتى لو كانت معتدلة ومستنيرة وعقلانية؟

هل التخلف الاقتصادي والبطالة، والإثراء الـهائل لفئة قليل أو الإثراء الـهائل لدول الغرب على حساب اقتصاديات الشعوب المظلومة دافع لممارسة العنف في العالم الإسلامي؟

هل يحتاج العالم الإسلامي إلى تطوير اقتصادياته بالتعاون مع دول العالم المتقدم؛ لخلق دخول كافية تمنح من تداعيات الشعور بالإحباط، حتى يتساوى الموت والحياة، مما يشجع عل العمليات الانتحارية؟

هل يحتاج العالم الغربي لأن يتفهم أن الأمن الدولي أصبح مسؤولية مشتركة بين دول العالم وشعوبه؟

من هذا العرض يتبين أن الأسباب الدافعة لممارسة العنف السياسي والعقائدي في بلدان منطقة الشرق الأوسط هي:

1 ـ القراءات المتعصبة والانكفائية للإسلام، التي لبعضها ظروف وصيرورة تاريخية، ولبعضها الآخر إكراهات معاصرة.

2 ـ سياسات الغرب تجاه منطقة الشرق الأوسط، وممارسة الحروب والتدمير ضد بلدانهم، ونهب ثرواتهم، واحتكار التقنية عنهم.

3 ـ تخلف اقتصاديات الشرق الأوسط إلى جانب سوء التوزيع في بلدانهم، وثراء العالم الغربي على حساب حقوق الحياة عندهم.

4 ـ المساندة الدائمة والمطلقة من أمريكا والغرب للكيان الصهيوني رغم ممارساته الوحشية وجرائم الإبادة الجماعية والتطهير العرقي، والإعراض والتمرّد المستمر على الشرعية الدولية، وقرارات الأُمم المتحدة، ومحكمة العدل الدولية.

5 ـ دعم الغرب للحكومات المحلية المتخادمة مع السياسات الغربية، ودعم توجهاتها القمعية والإلغائية، ودعم ديكتاتوريات السلطة في بلدان العالم الإسلامي.

6 ـ الحرب الثقافية الغربية ضد الثقافة الإسلامية، واشتراك وسائل تشكيل الرأي العام بتشويه صورة المسلم في العقل الغربي. وتأسيس وتطوير الاغتراب الحضاري لدى أبناء شعوب الشرق الأوسط.

7 ـ تشجيع الغرب (لمجموعات متطرفة) لتنفيذ مآربها الآنية، مما يجعل هذه المجموعات تتقوى فتنقلب على سياسات الغرب فيما بعد. وكمثال على ذلك (مجموعات طالبان، ونظام صدام حسين الذي قام بدعمٍ محايد للغرب).

8 ـ عدم المساهمة في التنوير الموضوعي للإنسان المسلم؛ لخلق توجّهات منفتحة ومستنيرة.

وبعد استعراض أبرز الأسباب ستتناول هذه الورقة جزءاً من السبب الأول وتحليلاً وتأثيراً وإشكالية لـهذه الورقة.

المبحث الثاني: أُصول العقل المعرفي الإسلامي، النص القرآني وقراءات المفسرين

يشاطر الكثيرون من يرى أن العقل المعرفي العربي قد مرّ بمرحلتين، مرحلة ثقافة ما قبل الإسلام، ثم مرحلة الثقافة المؤسَّسة على النص القرآني، والأُولى فيما يعتقد الكثيرون لم تترك أثراً واضحاً لسبب بسيط هو احتواء الثانية للأُولى تصحيحاً أو إقراراً أو إلغاءً بحيث لم تعد واضحة الأثر.

أما الثانية، فإنها شكلت العقل المعرفي للمسلمين عرباً كانوا أو غير عرب على تفاوت في التمثل ونمط القراءة([9])، وهذه الثقافة لـها أُصول أساسية أولية، الأصل الرئيس فيها هو (النص القرآني الموحى به)، وهو نص نـزل خاتماً للنصوص السماوية ومعجزاً في صياغته، وجوهر إعجازه تعدد دلالاته بما يتوافق مع استمرارية الزمان وتعددية المكان (البيئات الحضارية) ومستوى الوعي البشري لحقائق الوجود، ويعتقد الكثيرون أن قضية المحكم والمتشابه([10]) إنما جاءت في النص؛ لكي يستمطر كل جيل من علماء الأُمة من النص الثابت في لفظه والمتعدد في دلالته ومضامينه الموقف من كل إشكالية تستجد في واقع مجتمع أو بيئة، وإمكان النص الذي تتعدّد فيه القراءات يجعل منه نصاً مفتوحاً على التأويل، وتتعدّد فيه الرؤى، وكل رؤية وتمثل وتأمل واستنتاج لـه جذره الذي يستند إليه، أي أنه يشتمل على قدر من المشروعية والمستند، ويبقى الحوار في مدى مقبولية الاستفادة التأويلية من النص([11]).

وحضارة ـ مثل حضارة المسلمين ـ تنعقد في أصلـها على نص مفتوح على التأويل توهم بأنها غير منضبطة، إلاّ أن الحق أنها أكثر ضبطاً من حضارة تقوم على أساس فكر بشري رائد متقدم على عصره، يلحق به سريعاً الجيل التالي فيتناول النص الأصلي المؤسِّس بالتحليل والتفكيك، حتى يصل به الحال في بعض الأحيان إلى مناقضة ذلك النص بالضد. أما النص الرّباني فيبقى دستوراً ثوابته (الآيات المحكمة)، وكل التأويلات تجري على أساسه ومعاييره، لذلك فإن الحضارة الإسلامية في أصلـها المؤسِّس تستند إلى (النص المنـزل) أكثر ضبطاً، ويلحق به مشكلاً العقل المعرفي النص المفسَّر للنص المؤسِّس، سواء كان من السنة (وهو أعلى مرتبة) من النص البشري، أو من (آراء المفسرين) والفقهاء والشرّاح والمتكلمين، وعموماً فالكل يسهم بدرجات في تشكيل العقل المعرفي الإسلامي.

ولو راجعنا النص القرآني نجد فيه عشرات النصوص التي تدعو إلى التعاون والتكافل بين البشر، وتحترم تلك النصوص وتقدس حق الحياة؛ لأنها هبة اللـه للبشر، وإلى جنبها نصوص تدعو للدفاع عن الحياة والإنسان والوجود العقائدي، وحرية العقيدة ومصالح الجماعة المنضوية تحت منظومة الاعتقاد، ولو نظرنا بطريقة متوازنة لكلا المجموعتين من النصوص، فلا نجد حاكمية من النمط الأول، أي (آيات التعاون بين البشر) على (الآيات الجهادية)، ولا نجد العكس، فلكل من الوقائع أحكام خاصة بها، إلاّ أن قراءات المفسرين أوجدت حاكمية الآيات الجهادية على آيات التعاون بين البشر.

فالمفسرون المنتمون إلى تموضع السلطة، والخاضعون لمقتضياتها ربطوا بين مصالح الدولة ومصالح العقيدة، أي أن كل تمرّد على الدولة أو إساءة لـها إساءة للعقيدة؛ لأن منطلقهم كان حماية السلطة أكثر من حماية العقيدة، وجعلوا الجهاد لأجل عقيدة الدولة أكثر مما هو رد للعدوان على مجتمع العقيدة.

بينما المفسرون المنتمون إلى (تموضع المعارضة) انطلقوا من التأكيد على حقوق الإنسان داخل الدولة أولاً، وهذا ألزمهم بالاعتراف بحقوق الإنسان مطلقاً، سواء المسلم أو غير المسلم؛ لذلك عاملوا آيات الجهاد على أساس أنه (قرار يتخذه حكماء يقدرون فيه ضرورة وأهدافه ووسائلـه)، وعليه فالجهاد تكليف جماعي عند الشيعة، وهو تشريع للأُمة وليس للأفراد، ولا يتخذ قرار الجهاد إلاّ بمراعاة مقاصد الشريعة (الأدلة العليا)، وحكمة التشريع، وحسابات الجدوى، وليس تطبيقاً تجزيئياً للنص([12]) خارج هذه المكملات الضرورية لحيثيات القرار.

والعقل الشيعي وإن لم يلج علم المقاصد ولوجاً عميقاً، إلاّ أنه جعل قضية الجهاد خاصة مرهونة بـ (حسابات القدرة والجدوى والـهدف البعيد والتداعيات)، واعتبره قرار الأُمة وليس قرار الأفراد؛ لكي لا يتخذ الفرد أو المجموعة قراراً دون مشورة حكماء الأُمة، ولا بد أن يجري تحت راية إمام شرعي لـه مؤسساته الدستورية، أما الدفاع الشرعي عن النفس أي ما يطلق عليه (بيضة الإسلام) فهذا لـه أحكامه الخاصة عند بعض فقهاء الشيعة، ويلحق بأحكام الجهاد عند غيرهم([13]). ووسائل الجهاد والدفاع عند الشيعة متعددة لا تنحصر بالقتال، فمنها المقاطعة الاقتصادية، ومنها الحث على قطع الصلات الدبلوماسية([14]).

ويرى مفسرو الشيعة أن قضية النسخ في القرآن قليلة جداً لا تتعدى آية أو آيتين([15])، في حين يصرّ المفسرون من باقي المذاهب على مقولة النسخ ويتوسعون فيه، وثمرة هذا الخلاف أن الآيات التي تؤكد على السلام والتعاون ادُّعي عليها النسخ، لإحباط أثرها على العقل المعرفي الإسلامي، وكمثال على ذلك، قولـه تعالى: >يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ ادْخُلُواْ فِي السِّلْمِ كَآفَّةً<([16])، والأمر الربّاني للنبي 2 بقولـه تعالى: >وَإِن جَنَحُواْ لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لـها<([17])، وقولـه تعالى: >ادْعُ إلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلـهم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ<([18])، وقولـه تعالى: >أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ<([19]). كل هذه الآيات ادُّعي عليها النسخ بآيات الجهاد والقتال، وفسروا قولـه تعالى: >يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللـه أَتْقَاكُمْ<([20]) بأنه التعارف، أي (معرفة الآخر) وليس التعامل (بالمعروف) الدالة عليه آخر جملة تأكيدية في الآية([21]). بل، إنّ أداة النفي وإلغاءه بالاستثناء المفيد للحصر في قولـه تعالى: >وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ<([22])، يؤكد على أن إرسال النبي كان لإشاعة أُخوة البشر، وتعاونهم بلا حصر بعقيدة أو عرق، وإلاّ فكيف تتحقق الرحمة من دون ذلك؟ وكيف تفهم لفظة (العالمين) إذا كان المسلمون جزءاً من (المجموع البشري) الذي يشاركنا الأرض والبيئة؟

لذلك حرّم القرآن الكريم إفساد الأرض والإساءة إلى البيئة الطبيعية والبشرية فقال: >فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيْتُمْ أَن تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ * أُولئك الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللـه<([23]).

ثم جاء الأمر الربّاني بالتعاون مع المجتمعات التي لم تدخل معنا في صراع مسلح فقال: >لا يَنْهَاكُمُ اللـه عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللـه يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ<([24]).

ولو طالعنا تفسير الطبري([25]) وابن كثير([26]) والنيسابوري([27]) من القدماء، ودروزه([28]) من المعاصرين وابن عاشور([29])، وآراء الشافعي وأحمد وابن حزم وغيرهم([30])؛ لوجدنا أن قراءات هؤلاء جميعاً كانت قراءات bتموضعت حسب مقتضيات سياسة الدولة ومقولات السلطةv.

أما الشيعة الإمامية، فإننا نرى أن الشهيد الثاني يؤكد على أن الجهاد لا يجب إلاّ مع عدوان الغير على المسلمين([31])، وكذلك السياغي وصاحب البحر الزخار من علماء الشيعة الزيدية، وإلى حد كبير تأثر بهم الحنفية فنرى بعض هذه الآراء تسرّبت إلى مدوّناتهم.

لكن القرآن (بوصفه نصاً حمّالاً للوجوه) مما يمكن الإفادة منه للوجوه كافة، فلو أخذنا حزمة (موضوعية) من آيات في موضوع الجهاد وجعلناها حاكمة على الآيات الأُخر؛ لتحملنا مسؤولية عدم استمرار القتال طيلة حياتنا، طالما بقي في الأرض (غير المسلم)، ولو أخذنا حزمة موضوعية لآيات (السلام والتعاون) وجعلناها حاكمة على آيات الجهاد، لأسقطنا واجب الدفاع الشرعي عن الوجود الإسلامي، ولو أخذناهما معاً بلازمة التعارض والترجيح لرجح الحاكم على المحكوم من الحزمتين، ولو عاملناهما كل في مجالـه مع إشراك الواقع مرجِّحاً لاتخاذ القرار، وإشراك الحكماء في عقلنة مقتضى النص، لوجدنا أن قرار (قتال الغير) لا يتخذ بصورة فردية؛ لأن قضية القتال وما ينتج عنه من تدمير الثروات والبنى الأساسية للمجتمعات، وإشاعة الخوف والرعب، وإزهاق الأرواح ليس قراراً سهلاً، بحيث يتخذه فرد أو مجموعة أفراد يتفهمون النص على وجه من وجوهه، ثم يلزمون الناس بفهمهم، فيتخذون قرارين أحدهما إعلان الحرب، والمواجهة المسلحة بدون مشاركة حكيمة وعقلانية (لأهل الحل والعقد)، والآخر تكفير من لم يوافقهم في القرار على ما في ذلك من نتائج خطيرة ومدمرة، واعتبار من لم يوافقهم الرأي كافراً أو مرتداً يستحق الموت، وتهدر حياته ودمه، وتسقط الحرمة والحصانة عن أموالـه، ولعل هذا منتزع عندهم من أحكام الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهو في حقيقته التوعية الداخلية والتثقيف أو تهذيب السلوك لصالح الأهداف السامية للشريعة والأُمة معاًv، لكنها سيقت مبرراً لمعاقبة الغير مفسرين النهي (بالمعاقبة).

ويسندون قضية المعاقبة إلى حديث النبي 2: bمن رأى منكم منكراً فليغيره بيدهv([32])، واليد كما هو لفظ دال على القوة، فإنه يدل على العطاء، أما العنف فهذا ليس تشريعاً للأفراد إنما تشريع للأُمة، ولا يحق لمجموعة أن تتولى تكليف الأُمة كلـها منفردة دون إجماع أو أغلبية منهم، أو دون أن تعهد الأُمة لـهم بتنفيذ التكليف من خلال سلطة مستنيرة شرعية مؤسساتية مدركة ضابطة تدرس ردود الأفعال، وتدرك مدى ما يؤدي ذلك التصور لمعنى النهي عن المنكر إلى الإخلال بالنظام العام، الداخلي أو الدولي، والصحيح والعقلاني أن توازن (قيادة عقلانية حكيمة) بين مفسدتي المنكر، وتداعيات النهي عنه، فلعل عنفاً يؤدي إلى إصلاح المجتمع، ولعل عنفاً يؤدي إلى دوامة من الكراهية والرد بالمثل، ولعل نهياً عن منكر يتم من خلال وسائل غير مسلحة مثل الممارسات الاحتجاجية، كالمظاهرات والاضرابات والاعتصامات وغيرها، وهذه إذا حصلت إن لم تمارس بطريقة محسوبة جيداً، فأنها تتسبب في فوضى داخلة وتستعمل في أهداف بسيطة بحيث تفقد فوائدها، لذلك فكل من وسائل الجهاد الدفاعي ووسائل الأمر بالمعروف للإصلاح الداخلي لا يخضع مباشرة للمتلقي للنص فينفذ مقتضاه بفهمه لـه أو بفهم مجموعته لـه دون الرجوع إلى رأي أغلبية الأُمة من خلال قادتها وحكمائها ومجتهديها، ولا بد من حساب (المفسدتين) أيهما الأشد، فيحتمل الأخف لدفع الأشد، كما هو مقتضى القادة العقلية والشرعية، معاً، ولا تعمم الحالات والمواقف، فلابد من أن تدرس كل حالة بخصوصها، ففي حالات يجد العقلاء أن السكوت أجدى، وفي أُخرى يجدون أن الحوار أوفق؛ لأن لخسارة المجموعة الجهادية في الصراع المسلح لـه تداعيات تدمير البُنى الارتكازية، وفرص التقدم، وهدر الطاقات البشرية والمادية، وضياع هذه القوى حينما يراد استعمالـها ـ بوضع أفضل ـ كقوة ضاغطة، أو قوى رادعة، فبخسارتها ـ لقرارها غير المدروس ـ تضيع على الأُمّة مجموعة معطيات، وبذلك تتسبب المواقف غير المحسوبة على (الجدوى) بإتلاف مجموعة مصالح تملك الأُمة حق استيفائها بالوقت الذي يرى حكماؤها أنه الوقت المناسب للمواجهة ـ وبالطريقة التي يختارونها ـ فهذه الطاقات مدخرة لذلك الوقت، وبإهدارها يبقى القرار الصحيح والسليم والمجدي فاقداً للقوى المنفذة لـه.

السنة النبوية والعقل المعرفي

عرّف العلماء السنة النبوية أنها أقوال النبي 2 وأفعالـه وإقرارته([33])، وحاول بعضهم التعامل مع السنة بوصفها نصوصاً مطلقة لا تقل عن إطلاقية القرآن الكريم، واختلفوا في الصحيح منها من دون الصحيح وصولاً إلى الضعيف والموضوع من جهة الصدور، كما ظهرت بصورة غير جلية اتجاهات ترى أن ظروف عصر النبي 2، وأُسلوب قيادته للجماعة المؤمنة في مكة، والدولة في المدينة تضطرنا للتعامل مع النص النبوي اعتبار الظروف الموضوعية لصدور الحديث أو الفعل، إلى جانب اختلافهم في دلالة الحديث ـ وإن كان من حيث الكم ـ أقل من الاختلاف في دلالة النص القرآني؛ لان القرآن نص معجز، والحديث النبوي لا إعجاز فيه، ويرى آخرون أن سلوك النبي هو عبارة عن التفهم الأرقى للمقولات القرآنية، وإن كان تفهماً بشرياً لما ورد في القرآن >قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ<([34]).

ويرسم القرآن الكريم صورة نبي الإسلام رسماً مختلفاً عن صورة عيسى A في العهدين القديم والجديد، وصورة موسى A، فهو في المسيحية تجسيد للرب، فماهيته ربوبية، لذلك جاءت آيات الإنجيل عبارة عن سيرة الرب، الذي جمع بين كونه الإلـه والمرسل بكينونة مزدوجة، بينما في اليهودية فإنه بشر يخطئ ويتمادى، وكل الرسل في العرض التوراتي كذلك ربما يقترفون الجرائم، أما نبي الإسلام فهو إنسان يوحى لـه، وقد سدده اللـه في القول والعمل، وأوهبه التفهم الأرقى لكلمة اللـه، لذلك جعلت نصوص القرآن من حيث المضمون معياراً لصحة الحديث النبوي، فما خالف القرآن فلا يعتد به مما رواه الناس عنه، فالعلاقة بين السنة مجملاً والقرآن كالعلاقة بين متشابه القرآن ـ في تفهم الناس ـ ومحكمه؛ لأن المحكم هو الضابط لـهذا التفهم، ولأن الخلاف على السلطة السياسية بعد النبي 2 أصبح محور الخلاف بين الاتجاه الشيعي والاتجاه السني، فقد تحول هذا الخلاف من النطاق السياسي إلى النطاق التدويني للحديث النبوي، وهذه من أخطر إشكاليات تدوين النص.

وعموماً فقد صار للشيعة مدونات حديثية يرجعون إليها ويعتقدون بطرقها وبصحة أغلب ما ورد فيها([35])، بينما انصرف أهل السنة إلى مدوناتهم التي كتبت تحت رقابة السلطة السياسية، وعبرت عن مقولاتها في الغالب، فاعتبروا (صحاحها) حقائق لا تقبل التشكيك في صدورها عن النبي 2([36])، وترك للناس تلقيها وحفظها والعمل بها بلا توسط الاجتهاد في فهمها في ضوء مقتضيات الواقع المتجدد والمقاصد العليا للشرع، وعلى الرغم من كل هذه التعارضات، فلقد اتفق محدثو الشيعة والسنة في كلتا المجموعتين من مدونات الحديث على صدور أحاديث عن
النبي
2 تشكل العقل الإسلامي تشكيلاً حضارياً إنسانياً بنّاءً، لا يلجأ إلى القتل والعنف إلاّ في الحالات التي يجدها ضرورية، فالحرب والقتال في مجمل المشروع الحضاري الإسلامي الذي أسسته نصوص القرآن والسنة النبوية استثناء إزاء قوانين قدسية الحياة، ولعل هذا ما تتفق عليه أيضاً عقول البشر كافة، ولكن إلى جانبها عشرات النصوص التي تؤكد على حق الإنسان في الدفاع عن وجوده وعقيدته ونفسه ومصالحه ومصالح مجتمعه وإقليمه بالوسائل المجدية، والأقل تدميراً مما يحقق لـها أهداف ذلك الدفاع ومع الأمرين معاً، فإن القاعدة الأساسية للصلات والعلاقات بين البشر هي قاعدة أُخوة البشر كافة وتعاونهم فقد قال 2: bكلكم لآدم وآدم من ترابv([37])، وقال: bالناس سواسية كأسنان المشطv([38])، وقال: bحب لأخيك ما تحب لنفسكv([39])، ولو أردنا استعراض هذه الشواهد لبلغت المئات.

ولم يكن اختلاف العقيدة فيما ورد عنه 2 سبباً في إزهاق الأرواح، فقد عاش 2 في مكة أكثر من عقد من السنين بين من يخالفونه بالعقيدة ويعارضونه، بل يقاتلونه ويعذبون أصحابه، ولكنه لم يتخذ سلوكاً عنيفاً ضدهم مع قدرته على ذلك، ثم هاجر مع أصحابه إلى يثرب وامتلك وسائل الدولة وقوتهاً، ولم يبادرهم بحرب أو قتل أو إرسال مجموعات إلى مكة لتقتل مخالفيه، وكان ذلك عليه من أسهل التدابير بيد أنه صدَّ هجمات مخالفيه دفاعاً عن نفسه، ولم تظهر في سياساته سلوكيات انتقامية ولا ضربات استباقية.

أما سياسته الداخلية في المدينة المنورة التي كان يسكنها اليهود ومن بقي على دينه، وطريقة عبادته، فقد كانت سياسة جامعة بناءة حقوقية دستورية، جسدتها صحيفة المدينة([40]) التي رسمت للكل ـ على اختلاف تنوعهم ـ حقوقهم وواجباتهم، وفيها يحدد حق الجوار فيقول: bإن الجار كالنفس غير مضار ولا آثم إلاّ من ظلم وأثمv([41])، ثم دعا اليهود للرجوع إلى كتبهم حتى يلتمسوا وعد اللـه لـهم بإرسالـه ثم قال: bفإن كنتم لا تجدون ذلك في كتابكم فلا كره عليكم، قد تبين الرشد من الغيv([42])، وفي صلح الحديبية نجد معاهدة للـهدنة والسلام وتبادل المصالح والمنافع تعقد مع اختلاف العقيدة، وعقيب معارك شرسة أُزهقت فيها الأرواح وسالت فيها الدماء فانتهت إلى المسالمة والسلام، وأغاث 2 أهل مكة وهم مشركون، فأرسل لـهم في مجاعة ألمت بهم غوثاً منه([43])، كل ذلك إلى جنب مئات النصوص التي تهذب وتخفف ويلات الحروب، وتراعي الأسرى والعزل والمدنيين وغير المحاربين، والتي تلزم المسلم بالرفق والإحسان لغير المسلم([44]).

وهذه الشواهد ـ كما قلنا ـ موضع اتفاق بين التدوين السني للحديث والتدوين الشيعي، وإلى جانبها نصوص تحث على الصبر والمقاومة والمرابطة والفروسية والمكافحة للعدوان، فغلّب (الرسميون ومثقفو السلطة وكتاب السلاطين) أحاديث القتال والجهاد والحروب على أحاديث السلام والبناء وازدهار البشرية كافة، على طريقة الناسخ والمنسوخ، وكذا الحال في كتب التاريخ والسيرة النبوية، حتى أن واقعة فتح مكة وطريقة تعامل النبي السامية مع أعدائه التاريخيين، أوجدت لديهم إشكالية في تفسيرها، من جهة كتّاب سيرته، التي صوروها نـزاعة للعنف.

وتروي السيرة أنه 2 بعث خالد إلى أسفل تهامة داعياً، فتصرف خالد وقتل أُناساً من بني جذيمة من كنانة، فوصل أمره إلى رسول اللـه 2 فارسل علياًA ومعه تعويض لكل منهم، حتى رضوا، فقام الرسول 2 وقال ثلاثاً: bاللـهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد بن الوليدv([45])، وختم عمره الشريف في حجة الوداع وهو ينادي: bإن دماءكم وأموالكم عليكم حراماً إلى أن تلقوا ربكمv([46])، مؤكداً في ذلك حق الإنسان مطلقاً بالحياة، وحقه في الملكية.

الإجماع:

وهو الأصل الثالث من الأُصول الرئيسة المؤسِّسة للعقل الإسلامي، وقد عرّفه العلماء أنه (اتفاق العلماء على حكم ـ تعددت دلالة أصلـه ـ فاتفقوا على واحدة منها)، وهذا الأصل ـ على وجاهته ـ لم يقع في تاريخ أية أُمة إلاّ على الكبريات والبديهيات والمتفق عليه مما يندر للخلاف فيه، وفي الغالب تصور الأغلبية الموافقة على أمر ما ـ لأي سبب من الأسباب ـ إجماعاً، بصرف النظر عن ظروف حصول هذه الأغلبية، حتى صار دليلاً لابد أن يقام عليه الدليل مما يلزم فيه الدور، والأكثر إشكالاً أنه قد ادّعاه كل مخالف على مخالفه، وردّ المخالف بادعائه أيضاً، فتوحد في المفهوم وتعدد في المصداق، وهو فيما أعتقد جسر الوصل أو المنطقة الوسطى بين النص والاجتهاد الفردي، أي أن الاجتهاد الجماعي يأتي بالدرجة التالية بعد النص([47]).

الأدلة العقلية (الاجتهاد)

وهو الأصل الرابع المؤسِّس للعقل الإسلامي، ومرادهم منها مختلف، فالأدلة العقلية: مفهوم جامع شامل تعددت آلياته عند المفكرين المسلمين، فذهب الشيعة إلى مفهومه الأشمل بما سمّوه المستقلات العقلية، وذهب أهل السنة إلى أنه القياس والاستحسان والمصالح والذرائع والعرف وغيرها من الأُصول، وفي ظني أن مصطلح الاجتهاد جامع لاستخدام هذه الآليات.

وقضية الاجتهاد، قديمة قدم النص، فقد اختلف العلماء في أن النبي 2 هل كان يجتهد عندما تحصل واقعة ليس فيها نص؟ وأقر الجميع باجتهادات الصحابة، وتشكلت مدرستان: إحداهما تقف عند النص وهي bمدرسة المدينةv التي انتجت مذهب مالك وأحمد والظاهرية؛ وثانيهما تتوسع في الرأي والقياس وهي bمدرسة الكوفةv التي نشأ عنها مذهب أبي حنيفة، ويقال: إن مذهب الشافعي أفاد من المدرستين فتوازن، واتخذ أهل البيت G طريقاً ثالثاً يضع النص في موضع الموجّه، ويضع العقل في موضع الجامع بين مقتضى النص ومقتضى واقع الموضوع، ويأخذ بالاعتبار أنسنة القرار ثم يقضي بالواقعة على وفق هذه المداخلات.

وبعد عصر الأئمة الكبار تعاظم مفهوم الاجتهاد واتسع، وتكاملت آلياته حتى أواخر القرن الرابع الـهجري، فحصل تدهور في مجتمع الدولة الإسلامية مما أدى بالرسميين إلى حصر الاجتهاد bبما قالـه الأئمة الأربعةv، ولم يسمح لأحد أن يقول في أمر ما فتح اللـه به عليه إلاّ إذا أسنده لواحد من الكبار، ولم يلتزم الشيعة بهذا، واستمروا ينادون بوجوب الاجتهاد في الأُصول والفروع وجوباً كفائياً، مستندين في ذلك إلى أنه من ضروريات الحياة، ومن ضروريات الإفادة من النص. فالدين ـ بلا اجتهاد ـ يقرأ قراءة تاريخية، ويسبقه الزمن بمبتكراته، ويضطر المسلم للتعامل مع المستجدات خارج أُطر الضبط الشرعي، أو يتخلى عن التواصل مع الحياة وهذا فرض صعب، ويرى الشيعة أن الواقع متغير ولا متناه في وقائعه، والنص (متناه) في اللفظ، لا متناه في المعاني والمضامين المكتنـزة به، لذلك فالرابط بين النص والواقع هو الاجتهاد؛ لكي يستمر الفهم الصحيح والسليم للإسلام من خلال هذا المركب.

إذن، فالاجتهاد ضم مقتضى الواقع لموجّهات النص، والتخلّي عنه يؤدي إلى إحلال فهم سابق (غير واقعي) للنص، مما يؤدي إلى تصادم بين رسم سياسات للحياة المتجددة وسياسات للتقدم مع النص، وتقع القطيعة بينه وبين هاجس التقدم، وباستمرار الإغلاق تستمر القطيعة. ومن المؤسف أنه لم يغلق الاجتهاد الفقهي فقط، إنما غُلق الاجتهاد في كل مستويات المعرفة، وأُصيبت الأُمّة بالركود، فساير الأُوربيون العصر، وتوقف المسلمون في عصور مظلمة دامت ثمانية قرون، تراكمت فيها القطيعة بين الواقع والنص، والواقع والعقل الإسلامي المقيد بوقف الاجتهاد، وتعاظمت القطيعة بين المسلمين والإنسان خارج العالم الإسلامي، حتى أفاق المسلمون في القرن التاسع عشر على غزو أُوربي يمتلك تفوقاً في منهج البحث والتفكير، والمعرفة وتطبيقاتها، لا سيما على مستوى آلات الحرب والاقتصاد والإعلام والإدارة… فخسروا المواجهة معهم في العصر الحديث.

وعليه، فإن تنشيط الاجتهاد وتجديده المستمر، وتسريته لكل صنوف المعرفة، والإكثار من حوارات المجتهدين، يقدم القرار الإسلامي إزاء ظروفه وتحدياته خطوة نحو إنهاء القطيعة، وخطوة نحو التكامل التشاوري، الذي يجمع في النهاية بين ضبط الموضوع وضبط الحكم معاً.. وأُريد بضبط الموضوع: التعرف الدقيق على عناصر bالمشكلةv وتداعياتها كافة، وتقدير ما إذا كان الحكم مطابق للمصلحة أم لا، وهل هو على مستوى العنوان الأولي أو العناوين الثانوية؟

وبهذا الضبط bلصانع القرارv ينضبط الشارع، ويتحدد الرأي العام ويقف أمام المشكلات وقفة التوازن، ويحقق المشروع الاجتهادي خطواته نحو التأسيس والتطوير.

فمن يؤمن بالاجتهاد، ويقيم لـه سلطة تشكيل الرأي، وتشكيل الوعي، يتعامل مع المستجدات والتحديات بلا تطرف، أو على الأقل بتوازن أكثر، فخسارته على مستوى تحقيق الأهداف الفعلية على الأرض، أو على مستوى قوة القرار وصحته تكون أقل، ومن يتعامل مباشرة مع النص فإنه ينقل التجربة التاريخية مباشرة إلى الحاضر.

من ذلك مثلاً:

هل يقر الاجتهاد المعاصر اعتبار اختلاف وجهات النظر في (اعتقاد بقراءة للإسلام) ردّه، يترتب على صاحبها القتل وإسقاط حق الحياة، وسلب ونهب ممتلكاته؟ إن الاجتهاد في الأقل لا يجعل هذا الحكم إجماعياً، بل في الأقل يجعلـه حكماً خلافياً، وفي هذه الحالة لا يكسبه قوة الإجماع.

والاجتهاد لا يجعل القرار الفقهي قرار المجموعة الايديولوجية، أي (أصحاب القراءة الواحد) بل، يجعل منه دراسة مقارنة للآراء الفقهية؛ للاطلاع على وجهات النظر المتعددة بصرف النظر عن الخلاف؟

وفي ظني، لو كانت هذه الآليات معتمدة في أفغانستان لما سادت راديكالية طالبان، ولو كانت في مصر لما سادت منها جماعات التكفير والـهجرة، ولما تنامت جماعات القتل في الجزائر، ولما تنامت جماعات التكفير في السعودية مثلاً. إن تجربة bحزب اللـهv لبنان وهي حركة سياسية شيعية لـها جناح عسكري مقاوم؛ لأنها تكونت في ظروف المقاومة ضد إسرائيل، لم تنجر حتى في القتال مع عدو واضح وعدوان حاصل إلى ممارسات القتل الجماعي إلاّ نادراً، وتعد تجربة حزب اللـه أقصى اليسار الشيعي الذي لايسوغ وجوده إلاّ المقاومة، ولنشهد أنه دخل في مشاركة سياسية مع المسلم في قراءة للإسلام تختلف عن قراءة (حزب اللـه)، ومع المسيحيين ومع الماركسيين ومع أصناف أُخر مخالفة في الايديولوجيا.

لم تستطع قيادات حزب اللـه أن تعبئ (جماهيرها) نحو ممارسات إرهابية مثل قطع الأعناق والتمثيل بالأجساد، والضرب العشوائي، وإمطار الموت دون اهتمام أينما يقع؛ لأن منظومتها الثقافية والقيمية (بوصفها معياراً) لا تساعدها على هذا النوع من التعبئة والتشكيل القيمي للعقل.

وأيّاً كانت العقيدة العسكرية والسياسية التي يؤمن بها (حزب اللـه) في أصل العلاقة بينه وبين (الآخر المسلم، والآخر غير المسلم)، إلاّ أنه عملياً الآن يؤمن بأن القتال على موازين أخلاقية هو الردّ على العدوان، فلا قتال لإكراه الناس على ايديولوجية الحزب، أو الطائفة التي ينتمي إليها.

أما في bوضع فكريv يقفل أعمال العقل والاجتهاد، لضبط الموضوع وإعادة قراءة النصوص على أساس من مناهج ثبتت قوة وصحة إنتاجها للحكم مع ضرورة الاستعانة بالمناهج الجديدة والمتجددة، فإنه سيكون صاحب فقه تاريخي سلفي ماضوي، الصحيح منه لـه ظروفه التي يعد بسببها صحيحاً. أما غير الصحيح في زمنه، فمن الخسارة أن تنقل آراء غير صحيحة من زمن (تغيرت ظروفه) إلى زمن لـه مستجداته.

ومن الطريف، ونحن نسير في مسلك المقارنة، أن أغلب علماء الشيعة لا يرون صحة تقليد المجتهد بعد موته ابتداءً، بل يرى بعضهم أن بموته يلزم (غير المتخصص بممارسة الاجتهاد) أن يتّبع مجتهداً لا يزال على قيد الحياة يمارس الاستنباط بوعي كاف للواقع والظروف، ويعيد قراءة النص والسوابق، ويأخذ بعين الاعتبار المصالح على أساس (فسحة الاجتهاد الولايتي)؛ لأنّ المجتهد يفترض نفسه أنه ولي أمر الأُمة، ولا بد حينما يتخذ قراراً ما يراعي (مدى إمكانية التطبيق، ونوع تداعيات هذا التطبيق)، ومن أمثلة ذلك:

إن الشيعة بصفة عامة لا يعترفون لأية سلطة بعد وفاة النبي 2 ـ ما عدا حكم الأئمة المعصومين ـ بالشرعية إلى يومنا هذا، ويختلفون في منح الشرعية حتى (للحاكم الشيعي الفقيه) على خلفية مبناهم في صحة أو عدم صحة نظرية ولاية الفقيه، بيد أنهم توازنوا إزاء هذا الموقف بما يطلق عليه (بالتقية)، أي التعامل مع هذه السلطة (رسمياً) لا روحياً أو عقائدياً، وهو ما نطلق عليه بالاعتراف الواقعي، وليس الاعتراف الشرعي، ولا يرفعون ضد هذه السلطات ـ غير الشرعية في نظرهم ـ سلاحاً، إلاّ في حالات نادرة جداً، منها لو اعتمدت سلطة ما من تلك السلطات انتهاك حرمة من حُرم الدين وضرورياته، أو السعي إلى إزالة واحدة منها، أو العمل على إبادتهم وتهديد وجودهم، ودليلنا موقف مرجعية النجف خلال السنوات 1916 ـ 1920، وموقف مراجع إيران للأعوام 1952 ـ 1979، وحركة البحرين الشيعية أعوام ما قبل 2000، وحركة الشيعة في المنطقة الشرقية بالسعودية، وحركة المحرومين في جنوب بيروت وجنوب لبنان والشيعة في باكستان والشيعة في أفغانستان إبّان حكم الملك ظاهر شاه، وإبّان حكم ما قبل طالبان، موقف مراجع الشيعة في العراق 1968 ـ 2003 إزاء سلطة حزب البعث، ثم موقفهم في أعقد مرحلة وهي ما بعد آذار 2003.

إن تقرير مثل هذا الموقف التاريخي لا يعني أن الشيعة (مجتمع لا يقاوم الظلم)، لكنه في الغالب يعتمد وسائل (غير مسلحة) ووسائل مواجهة (غير جماعية) ضد خصومهم والظالمين لـهم، والمتجاوزين على حقوقهم ومقدساتهم، لقد تركز في أذهانهم كيف تعامل أئمتهم مع ظالميهم عبر قرنين من الزمان. وأعتقد أن سيرة الأئمة قد تحولت إلى أساس معرفي قيمي درجوا عليه، فأكسبهم مرونة سياسية عالية في التعامل مع سلطات لا تمارس إلاّ القمع، ولعل هذا هو الذي أبقاهم وأبقى ثقافتهم عبر العصور رغم الأخطار الـهائلة التي أحاطت بهم، والقسوة التي مورست ضدهم على طول تاريخهم.

ربما: يمكن وصفهم بأنهم قوم أتقنوا كيف يعارضون، ولم يتقن إخوانهم المسلمون السنة إلا (كيف يحكمون)، فتحول التاريخ المعرفي لدى كل منهما إلى طبيعة ذهنية متراكمة ترسم نمط السلوك السياسي، وكدليل تاريخي آخر على هذا:

نجد أن الشيعة الإسماعيلية (الفاطميين) أسسوا دولة في شمال إفريقيا ومصر، وامتدت حتى بلاد الشام على مدى ثلاثة قرون ونصف (297 ـ 567هـ)، مقابل هذه الدولة كانت دولة سنية في بغداد وبلاد المشرق في ذلك الوقت، والذي حصل أن (دولة بغداد) وجهت المسار العلمي والثقافي والتدويني بشكل رسمي؛ لإعادة كتابة الإيديولوجية السنية للإسلام عن طريق المدرسة النظامية والمدرسة المستنصرية، وما صدر في القرنين الرابع والخامس من كتب في الفرق والعقائد، وعلم الكلام والتفاسير والفقه والحديث وعلم الرجال bتميز بالإقصاء الكامل للمدون الشيعي الذي كان سائداً حتى النصف الثاني من القرن الرابع الـهجريv.

وبذلك نجد أن السياسة نـزلت لتكون الموجه للثقافة والمعرفة، وتجعلـهما خادمتين للموقف السياسي، مما تسبب بمواجهات دموية (على خلفية التنافس المذهبي)، الذي اضطر الطوسي مثلاً أن يهرب من بغداد إلى النجف عام 448هـ، جرّاء ضغط السلطة والشارع المعبأ تطرفاً من وعاظ السلطة إلى منطقة بعيدة (عن العاصمة بغداد)، وهكذا تشكلت ثقافة رسمية ـ سادت إلى يومنا هذا ـ في القرنين الرابع والخامس ترتكز على القسر، في حين نلحظ أن الدولة الإسماعيلية لم تمارس bتغيير البنية الثقافية لمصرv لصالح مفاهيمها الشيعية، وحينما أُنهيت تلك الدولة أُعيدت مصر إلى الثقافة الرسمية دون أن نلحظ (خلطاً ثقافياً)، وأظن أن الخلفاء الإسماعيليين لم يكونوا عاجزين ثقافياً أو تعبوياً، لكنّ مانعاً معيارياً ثقافياً تركز في أذهانهم يمنعهم من ممارسة الإقصاء للآخر.

ولم تتوقف (السلطة الرسمية السنية) عند إقصاء ثقافة التشيع فقط بالوسائل كافة، إنما دخلت في صراعات عنيفة مع الاتجاهات العقلانية، حتى مع المتفقين معهم في القراءة. فصراع الأشاعرة (نظرية السلطة) مع المعتزلة كان لأسباب بنيوية الثقافة، وصراع الفقهاء (مع الفلاسفة) وتحريم الفلسفة والاشتغال بها لم يكن إلاّ محاولة لإقصاء (نظرية تعتمد موازين عقلية)، واضطهاد ابن رشد شاهد على ذلك([48]).

كما أن اضطهاد مفكري التصوف واتهامهم بالردة والكفر والزندقة، لم يكن مدفوعاً بدوافع إيمانية محضة، إنما كان اضطهاداً فكرياً سياسياً إقصائياً. ولو تتبعنا تاريخنا الرسمي، وتاريخ نشأة السلطة وتطورها في القرون الخمسة عشر الماضية، فإننا لم نجد تداولاً أو حواراً فكرياً طويل الأمد، إلاّ لأغراض مقاضاة ذلك الفكر، أي مواجهته بلائحة اتهام لـها طبيعة ثقافية.

التطبيقات التاريخية

لقد تحولت النظرية الإسلامية إلى واقع فعلي اتسم بممارسات عقائدية معارضة للسائد في جاهلية مكة وممارسات سياسية معارضة، ثم تحولت إلى ممارسات bسلطةv في المدينة المنورة، ثم حصل أن تفتتت السلطة إلى قوى اجتماعية مؤثرة كانت قريبة من التداولية، حتى تركزت في نظام أُسري وراثي أوجدت فصائل كانت معارضة متعددة الاتجاهات، تتنافس على إقناع المجتمع بنظريتها، ومن المؤسف أن دراسات السيرة النبوية لم تبلور السلوك النبوي في فترة البعثة (بمكة)، ولم تجعلـها bسوابقv يُستنار بها في سلوك المعارضة الإسلامية المعاصرة للثقافة السياسية، وتم التركيز على السلوك النبوي في المدينة، وهذه واحدة من إسقاطات الذهن الإمبراطوري.

ثم فصّل المؤرخون وكتاب السير في إجراءات الحكام واعتبروهم دائماً هم المعيار، واتهموا السلوك الاحتجاجي للمعارضة بتهم الخروج على السلطان، وبعد ذلك نشأ اتجاه يعدّ التطبيقات التاريخية مصدراً للمعيارية، ويستند إليها لتصحيح الحاضر على اعتبار أن تلك التطبيقات قد تمت لصيقة بالنص من خلال الأجيال الأُولى التي آمنت به وفهمته جيداً، وتأسست لـهذه المنظومة فكرة عدالة الصحابة واستقامتهم، وانطبق هذا المفهوم وما ترتب عليه على عصر الخلفاء الراشدين بوصفهم من أوائل الصحابة، إلاّ أنه وطبقاً للقاعدة المؤسَّس عليها لم يستطع التيار التاريخي أن يستثني (معاوية) رغم كل ما حصل في ظل سلطته؛ لأنه من الصحابة (تاريخياً).

ثم امتد الأمر إلى التابعين، فحُمل تصرّف السلطات كلـها على الصحة حتى نهاية عصر عمر بن عبدالعزيز؛ لانطباق المفهوم على واقع متعدد، ولأجل استمرار عصر التدوين لابد من مد العصر إلى أتباع التابعين. ولأجل إسناد هذا التوجه، وُجد حديث ينص على أن: (خير القرون قرن رسول اللـه ثم الذي يليه)، ومهما ناقش نقاد الحديث هذا النص سنداً ودلالة، إلاّ أنه أصبح مستنداً، وقد سبب هذا التوجه مشكلات كثيرة منها خلق ثقافة تبريرية، فكل التصرفات التي حصلت حتى نهاية القرن الثاني والتي تعارضها النصوص، جعل الشراح والمفسرون يتدخلون لتبريريها (طالما أن النص لـه وجوه، والتصرف الحكومي لـه وجوه واحد)، فلا بد من تطويع النص وهو أسهل عليهم بكثير من إنكار التصرف؛ لأنه ثابت تاريخياً؛ ولأن قوة السلطة على عقل الأُمّة أكبر من قوة النص.

أما في منهج الشيعة، ونتيجة لموقفهم مما حصل بعد رسول اللـه 2، فإنهم لم يلتزموا بهذا المنهج، بل انكروا ما جرى فيه، واعتمدوا مقولة إن ما وافق النص فهو صحيح ولكنه ليس مستنداً؛ لأن المستند هو النص نفسه، وهذا المنهج أكثر دستورية، وأرحب في مجال ممارسة النقد التاريخي أو نقد التراث، ولأجل (طبيعة المستند) الذي تغاير على أُسس سياسية، أصبح المرجع فيما لم يكفه النص ـ عند السنة ـ التطبيق التاريخي والتصرف الإنساني، بينما ما لم يكفه النص ـ عند الشيعة ـ أصبح العقل والواقع والموازنة والترجيح العقلي بين البدائل هو المكمل لمرجعيات الاجتهاد، ولم تشكل السابقة التاريخية ـ على فرض حصولـها ـ شرائط المقبولية إلاّ لكونها المصداق الأول التطبيقي للنص، فلا تنفع التطبيقات التاريخية إلاّ كونها شاهداً أو أمارة على رجحان الاستنباط من النص. الآن وهنا نتساءل، ما صلة ذلك بالاستخدام المعاصر للعنف السياسي؟

الجواب: من يعدّ ـ التطبيقات التاريخية ـ مرجعاً ومستنداً ومصححاً، فإنه يرى فيه bتطلعاً إمبراطورياًv.. تطلعاً للدولة الإسلامية وسياستها الخارجية، وهي في أغلب الفترات تطلعات حالة الحرب المفتعلة، وعلى مستوى الوضع الدستوري لا يجد الباحث تداولية ولا احتراماً لرأي الأُمّة، ولا تدخلاً للأُمة في صنع القرار. أما الوضع السياسي المرتبط بالعقيدة قسراً، فكل المعارضين السياسيين قطعاً مخالفين للعقيدة إلى درجة الارتداد، الدرجة التي تسوّغ قتلـهم، وبالمقابل فإن المعارضة تزعم أنها وحدها التي تمتلك الحقيقة؛ لذلك يتأسس المفهوم التاريخي: (إن عدم شرعية السلطة، وضرورةً يوجب استعمال السلاح كوسيلة سياسية أُولى للمعارضة)، وبهذا تتراتب إيديولوجية العنف السياسي داخلياً وخارجياً.

أما من لم يعدّ ذلك مسوّغاً معيارياً، ويراها (سلوكيات) تحتاج إلى تطابق مع النص حتى تكتسب الشرعية أو يقررها العقل الضروري، لذلك فالمعادلة المترتبة على هذه المقدمة: أن النص يعامل عقلياً لاستنباط أفضل وجوه الدلالة مع احتساب الواقع (موضوع الحكم) ملاحظة المقاصد العليا (الضروريات) لكي يتم الإفتاء، فإن هذا المفهوم يعدّ أكثر ديناميكية وتأملاً ودقة في تحسس المشكل السياسي، وتفكيك عناصره، وجدوى المواجهة، ومدى المرونة في سبل المواجهة.

المبحث الثالث: مقولتا السلطة والمعارضة في العقل المعرفي

ربما يقع الباحث في اضطرار استنتاج أن أصل الخلافات التي أصبحت فيما بعد خلافات فكرية أو مذهبية، كان أصلـها خلافاً على قضية انتقال السلطة من المنصب النبوي المسدد بالوحي إلى البشري (التابع)، إذ يعتقد الشيعة أن إدارة المجتمع والدولة من المهام الجسيمة والخطيرة، بحيث تحتاج إلى حصانة ذاتية ضد الظلم، وتحتاج إلى تسامي عن الغرض الشخصي، وقدرة فوق اعتيادية على عقلنة الأفكار، وتفهم شمولي ودقيق للواقع، كل ذلك إلى جانب فهم عميق ومسدد للنص. وقد عبروا عن ذلك كلـه بمصطلح الإمام المعصوم الذي انتقلت إليه السلطة بنص إلـهي ورد في القرآن الكريم، وتنصيب نبوي رسمي وعن طريق الوحي أيضاً حصل يوم الغدير، ويرون أن المعهود لـه بإدارة وقيادة المجتمع مكلف ربانياً أن ينقل السلطة إلى المعيّن ربانياً أيضاً من أبنائه ممن يحمل هذه الصفات، وبذلك تكون السلطة متميزة بأمرين:

الأول ـ إنها غاية السمو والعدالة والرحمة والأخذ المتفوق بيد الأُمّة نحو التقدم.

الثاني ـ ترتب طاعة المجتمع لـهذه القيادة التي بهذه المواصفات بحيث تحرم مخالفتها مطلقاً.

وعليه فكل قيادة للمجتمع لا تتوفر فيها هذه المواصفات ليست شرعية، بل غاصبة للسلطة منهم، إلاّ أن الوجه الثاني لـهذه النظرية bأن أصحاب السلطة الشرعيين ـ في رأي الإمامية ـ كانت تحكمهم معادلة في مستوى التطبيق الواقعي لنظريتهم، معادلة أكثر تعقيداً وصعوبة، فإنهم حينما يكونون على رأس السلطة فهم متسامحون يؤمنون بضرورة أن يعبر الآخر عن رأيه، وإن خالفهم الرأي بالرغم مما يتمتعون به من تسديد، استمراراً لسيرة النبي المسدد الذي استمع إلى آراء أصحابه، وغير رأيه طبقاً لما سمع، بل شاورهم وطلب آراءهم وأمره اللـه تعإلى بذلك؛ لإشعار التابعين بضرورة أن يكونوا جزءاً من صنع القرار السياسي، ولنا في تجربة دولة الإمام علي A على مدى السنوات الخمس أكثر من دليل، وكيف تعامل مع مشكلات الآخر المخالف.

لكنهم ـ أي الأئمة ـ حينما يُغلبون على حقهم، فالقاعدة عندهم أنهم يسالمون السلطة والمجتمع الإسلامي متى سلمت أُمور الناس، وإن لحقهم جور وغُصب عليهم حقهم، ولننظر سيرة الإمام علي A مع الخلفاء الثلاثة قبلـه أُنموذجاً.

أما إذا تعرضت مصالح المسلمين وتضرر التطبيق لأساسيات الشريعة، فإنهم يمارسون المعارضة بالوسائل السلمية، فمتى ما واجهوا قمعاً مفرطاً نـزلوا لاضطرارهم إلى الدفاع الشرعي عن أنفسهم، وسيرة الحسين A وزيد الشهيد أُنموذجاً.

وحينما تكون سيرة أئمة أهل البيت G على هذه المسلكية، وهي تحظى بقدر كبير من الاحترام، وتعامل معاملة المنهج والمعيار، فإنها قطعاً ستنعكس على السلوك السياسي للشيعة فيما بعد.

أما عموم المسلمين ـ من غير الشيعة ـ فهم بين منكر للنص الدستوري؛ لانتقال السلطة من النبوة إلى الإمامة، وبين مضطر للاعتراف بذلك النص، إلاّ أنه يؤول معناه إلى ما لا يمس قضية السلطة، ويرى أن المسلمين اجتمعوا وانتخبوا الخليفة الأول على ما بايعوا كبارهم عليه، وأيّاً كانت ملابسات الموضوع تاريخياً، إلاّ أن المبايَع (الخليفة الأول) لم يلتزم بطريقة اختياره، فأوصى عاهداً بها إلى من بعده، ولم يلتزم الثاني بطريقة اختيار الأول ولا بطريقته، فعهد بها إلى ستة يختارون من بينهم أحداً، وكانت بيعة الرابع بيعة عفوية شاملة عامة على مرحلة واحدة bالاستفتاء العامv، فاضطر المثقفون تحت ضغط إيديولوجي إلى اعتبار كل هذه الطرق مسالك لشرعية السلطة.

فلما أخذها معاوية بالغلبة والتمرد، دخلت الغلبة، أي (الانقلاب العسكري)([49]) أو نواتج القوة المكرهة، وسيلة أيضاً لسلطة bوضعوا لـها حقاً على الناس بالطاعةv، لذلك استمرت مقولة السلطة خارج إرادة المجتمع في الدولة الإسلامية حتى مطلع القرن العشرين، حين سقطت بسقوط الخلافة العثمانية. ولم تعرف الأُمّة في تاريخها تداولاً سلمياً للسلطة، ولم تظهر فيها ثقافة اختيار الأُمّة للحاكم، ولا قيم الانضباط الطوعي للسلطة حتى مجيء الفكر الغربي، فأقام جمهوريات وملكيات إلاّ أنه لم ينجح في الوطن العربي، ولا في بلدان العالم الإسلامي سواء كانت حكومات (علمانية ليبرالية) أو دينية.

فالتجارب السياسية وطبيعة أنظمة الحكم التي قامت في مطلع القرن العشرين، كانت ذات طبيعة (ملكية، وذات صبغة برلمانية شكلية، التفّ على مضمونها الإرث القيمي المتوارث فأجهضه). وحينما برزت الاتجاهات الثورية في العالم الإسلامي، قومية أو يسارية، سوّقت ديكتاتوريتها باسم مكافحة ومقاومة الاستعمار حتى الستينات.

ففي الوطن العربي، عُلّقت الانتخابات والأوضاع الدستورية على تداعيات قضية فلسطين، والصراع مع الصهيونية حتى الثمانينات التي سقطت بها قضية فلسطين (بعد زيارة السادات فلسطين المحتلة)، فانفتح في مصر الوضع السياسي على برلمانية أوسع قليلاً من بقية بلدان الوطن العربي.

على أن الملفت للنظر أن لبنان قد شهد ممارسات وتجارب (برلمانية ديمقراطية)، وذلك لوجود ضاغط المسيحيين المارونيين، الذين وجدوا في العلمانية والديمقراطية أمراً يحقق لـهم حماية لوجودهم المهدد منذ تولّي الأُمويين لقيادة تجربة الأُمّة، في حين أن سورية والأُردن لم تشهدا وضعاً ديمقراطياً إلاّ بعد التسعينات في الأُردن بضغط أمريكي بريطاني، وبقيت سورية تنتقل من وضع ديكتاتوري إلى آخر.

وفي مطلع الثمانينات تأسست تجربة سياسية إسلامية شيعية في إيران ـ أوجدت لـها دستوراً، بالقياس على دساتير التجارب العلمانية العربية والعلمانية في بلدان إسلامية غير عربية ـ تعد تجربة متقدمة، وبضغط من المفكرين والقوى السياسية للشباب في الجامعات، والمرأة، اتجهت التجربة تصلح ذاتها بما يطلق عليه الإصلاحات، ويطلق على أصحابها الإصلاحيون، وإن كانت لـهم توجّهات انكفائية أيضاً.

إن مفارقة تثير التساؤل والبحث تجسدها المقارنة بين تجربتا الـهند والباكستان، بما يؤيد هذا التحليل. فالقارة الـهندية كلـها كانت تحت سيطرة انكلترا، وحينما خرجت منهما انفصلت الباكستان عن الـهند عام 1947. وبالرغم من أن الـهند (شعب متعدد الأعراق واللغات والأديان والاتجاهات)، إلاّ أن تجربة برلمانية ديمقراطية تداولية عاشت وكُتب لـها الحياة، وإن اتّسمت ببعض النواقص، لكنها استطاعت أن تلبي حاجة العدد الـهائل من سكانها إلى الحد الأدنى من العيش، والحد الأدنى من التقدم والحفاظ على استقلال القرار، واستطاعت أن تدخل النادي النووي، وأن تؤسس مجموعة عدم الانحياز، لكن إلى جنبها (الباكستان) وهو بلد أغلبه من المسلمين (وإن تعددت مذاهبهم)، إلاّ أنهم فشلوا في غضون أكثر من نصف قرن أن تعيش في بلدهم ديمقراطية برلمانية تداولية، فعشرات الانقلابات، وفترات تعليق الدستور، وإعلان حالات الطوارئ، والفقر والفقدان النسبي لاستقلال القرار السياسي، كانت سمات ملازمة للتاريخ السياسي في الباكستان. فإذا تساءل أحد عن الأسباب فلأن bالمنظومة المعرفية القيمية والتاريخ الذي شكل قناعات العقل الإسلامي كانت منظومة كارزمية([50]) تتمحور في ولائها على شخص، ولا تميل إلى مجتمع المؤسساتv.

ولعل تجربة أفغانستان أوضح دليل على ما قلناه، فقد دفع ضعفها السياسي والداخلي (السوفيت سابقاً) لاحتلالـها تساوماً مع أمريكا، التي أغرت بدورها فيما بعد bحكام بغدادv للعدوان على إيران في أيلول 1980، مما دعا bالسلفية الجهاديةv للاستعانة بأمريكا لمقاومة الاحتلال السوفيتي تحت عنوان الحلال والحرام ومقاومة الكفار والملحدين، مما جعلـها ساحة لتجمع المقاومين، فما أن انسحبت القوات السوفيتية حتى تحولت أفغانستان إلى مقاطعات ودويلات، وظهرت شخصيات خاضت فيما بينها حروباً مدمرة، انتهت بهجوم كاسح شنته (مجموعات طالبان) تحت يافطة دينية أيضاً، وأظهرت للعالم صورة مظلمة مشوهة عن الإسلام، الذي سوّقته وكأنه دين القتل والظلامية والاضطهاد، وتهديد المجتمع باغتيال السلم الاجتماعي فيه، واغتيال حقوق الإنسان وكرامته، ثم تحولت تجربة طالبان بعد فترة إلى (مجموعات إرهابية) تقتل بلا بصيرة ولا تمييز وبكل الوسائل المتاحة، وتنتقل هنا وهناك لتمارس عملية القتل؛ لتهيئ لأمريكا إعادة بسط نفوذ الغرب تحت ذريعة مقاومة (الإرهاب!!) على بلدان العالم الإسلامي.

وكان قدر العراق أن عاش ديكتاتورية علمانية قاسية، فأصبح بلد النكبات والتقل في دوائر المخابرات والحصار والموت الجماعي، فاستغلت أمريكا bالانفصال النفسي بين الحكام الجلادين والشعب (المحكومين) v، فهاجمت العراق، وبدأت تجربة أُخرى من تجاربها لإخضاع الأُمّة لنظريتها الفكرية، وهيمنتها السياسية، ولم ترعوي تلك الجماعات الظلامية من أكثر من تجربة دموية جرّت الويلات على شعوبها، حتى انتقلت من أفغانستان لتقاتل أمريكا على أرض الرافدين، وصار القتل سجالاً أغلب ضحاياه أبرياء وعزّل ومحرومو هذا البلد الممتحن. والوجه السياسي لـه bمقاومة الإسلاميين للاحتلالv.

وهكذا حينما نتلمس أزمة حركة الإنقاذ.. التي أفشل العلمانيون توجهاً ديمقراطياً لـها في الجزائر، أدى إلى أن تحولت بعض فصائلـها إلى مجموعات جهادية، وتنافست على أرض الجزائر ثقافة العنف لسنوات عديدة مع إرادة السلام.

وفي مصر تنفق الحكومة المصرية الملياردات لضبط الأمن إزاء التوجهات السلفية الجهادية، ويتهيأ المجتمع المصري لقبول علمانية غربية كردّ فعل على ممارساتها.

والصورة الأكثر إثارة: تحول المجموعات السلفية في (السعودية) من مناصرين لسلطة ايديولوجيتها bسلفية وهابيةv إلى أعداء وخصوم، وتتركز أهدافهم في إصقاط الأُسرة الحاكمة بطريق القتل الجماعي والتكفير، فلم يعد هناك معيار bللكافر والمسلمv، ولم يعد هناك خط أحمر bلحق الإنسان في الحياةv لا يمكن تجاوزه.

إن عقلية الخوارج سابقاً انتقلت إلى ما يطلق عليه (القاعدة) اليوم، الذين تحتقر صلاتك إزاء صلاتهم، وصومك وعبادتك إزاء عبادتهم، ولكنك تشعر بالتهديد العنيف في توجهاتهم، وتخشى من اتساع هذا في بلدان العالم الإسلامي، بل بلدان العالم أجمع.

وفي وسط هذا الخلط المتعمد في الأفكار والمبادئ والقيم المعيارية للنص الإسلامي، مع تداعيات قراءة النص قراءة سلفية ماضوية عنفية أول وسائل التعبير عن وجودها (القتل)، تضيع حقيقة الإسلام كمشروع حضاري إنساني، ويخسر دعاته في أُوربا أبرز وسيلة للنصر بكسب عقول المفكرين الغربيين ومجتمعات الغرب، لكي تستثمر الديمقراطية الغربية بكثرة أصوات المسلمين في (أُوربا وأمريكا) سواء من المهاجرين أو المواطنين لتكيل قوة الضغط السياسي لمصلحة الإسلام، ويخسر هذا الدين إحدى أهم وأبرز الوسائل للانتشار السلمي الفكري البرهاني في طول بلدان العالم وعرضها.

ولقد استقر في ذهن الأُوربي أن الإسلام عبارة عن دين القتل، ودين الدماء، ودين التخلف والجوع والحرمان، ومصادرة الحقوق الأساسية والحريات، دين ينتج الديكتاتورية والإرهاب، وقد صار من الصعب أن تُزال هذه النظرية إلاّ بوسائل ترقى إلى إحداث تأثير العنف السياسي الذي مارسه السلفيون في 11 / أيلول / 2001.

ثمة صورة أكثر إثارة للدهشة والحيرة وهي: أن هذه القوى الجهادية السلفية تمتنع من ممارسة نشاطاتها في bفلسطين المحتلةv، ويشهد الحاضر أن bإسرائيلv طالما حاصرت قوى المقاومة الفلسطينية (حماس، الجهاد وغيرهما)، وكان يفترض دينياً أن تُعان تلك المقاومة (بقدرات القاعدة المتطورة)، لكن الواقع يخبرنا عكس ذلك، بل لم تسمع في أدبياتهم توجّهاً نحو الصهاينة، مع احتلال الأرض وارتكاب المجازر الوحشية ضد مسلمين فلسطينيين في جنين وغزة، كما لم تتضح صورة مساهمة قوى الصهيونية (جيشاً / مخابرات) في المشاركة بقتال القاعدة وتنظيماتها. إن حياد (إسرائيل) إزاء الصراع بين المجموعات السلفية الإرهابية وبين الـهيمنة الأمريكية، مثير للحيرة والدهشة، ولقد تجلى هذا الحياد في الثقافة الموجهة من القوى الصهيونية، وفي (النشاط المخابراتي، والنشاط العسكري) الذي لم تتناول فيه الأجهزة التابعة للتجمعات اليهودية لتنظيم القاعدة بسوء، ويلاحظ أن هذا الحياد موقف متبادل بين الفريقين معاً، على أن المفترض أن يكون أول أهداف المقاومة السلفية الجهادية فلسطين، أما الآن ففي المشهد المعاصر للأُمّة نلحظ:

1 ـ تصاعد المواجهة بين هذه المجموعات وبين مواطنين مسلمين أبرياء في العراق وأفغانستان، وأن أغلب ضحايا هذه المواجهة ليس المحتلون والأجانب. فالقتال يتحول من قتال المحتل إلى قتال عموم الأجنبي، ومن قتال الأجانب إلى قتال مواطني العالم الإسلامي، ومردّ هذا التوارث التاريخي لقيم المعارضة (الخوارجية) التي قرأنا ممارستها السياسية في كتب التاريخ.

2 ـ عدم الالتزام بأخلاقيات المواجهة المسلحة التي نص عليها القرآن الكريم، وأكدتها أحاديث السنة النبوية، والتعاليم العليا للإسلام، واعتمادهم وسائل تخلو من الرأفة والإحسان للغير، وتمارس المثلة، والقتل بطريقة وحشية، وهذا يدلل أن قراءة الإرهابيين للإسلام قراءة منقوصة وبرجماتية.

3 ـ إن مبدأ العقوبة ـ في الإسلام ـ محصور بالجناة، وهي على قدر (الجناية)، وهذه السمة الأخلاقية في النصوص الإسلامية الأصلية قد قلبتها القراءات المأزومة والمتشنجة، حتى عادت العقوبة توجه للمذنب والضحية والأعزل والبريء والمضلل والمغرر به ومتدني الوعي معاً، وبلا حساب للجناية. وهذه السمات كلـها ليست سمات النص الأصلي، إنما سمات قراءات النص، وفقه القتال المتوارث من عصور كانت لـها تموضعاتها وظروفها التي انتجت مثل تلك الثقافة، والتي نحتاج اليوم إلى عملية نقدها والبحث عن ثقافة التراث المتوازنة والعقلانية.

الخاتمة والاستخلاصات
ظهر من خلال البحث:

1.    إن للإنسان عقلاً معرفياً مشكّل من العقائد والتشريعات والأعراف والقيم الأخلاقية، وإن الإسلام يجمع هذه جميعاً، حتى عاد جوهر ثقافة الأُمّة، فهو إذن bمكون العقل المعرفي للشرق الأوسطv.

2.    إن الإسلام ليس (المكون للعقل المعرفي) للمسلمين فقط، إنما لمواطني الشرق الأوسط والأقصى. فثقافة المسلمين بأعراقهم والعرب بأديانهم، قد كونت الـهوية الحضارية لـهذا الجزء من العالم.

3.    ظهر أن المراد بثقافة الإرهاب في هذا البحث (ليس النص الإسلامي المؤسِّس)، إنما النص المفسَّر وقراءات النص وتراكماتها التاريخية.

4.    إن إعادة نقد وتقويم التراث في ضوء مصالح الأُمّة، واكتشاف حقائق الخير (في ثنايا القراءات الاجتهادية) للإسلام، واجب علمي وإنساني وشرعي وأخلاقي يقع على عاتق المؤسسات العلمية والأكاديمية، وعلى عاتق علماء الدين والباحثين فيه بما يؤدي إلى bإظهار الإسلام للبشرية مشروعاً إنسانياً للحضارة، وبرنامجاً سامياً للمجتمع مدني متفوق أخلاقياً، وهذه في تقديرنا مهمة العلماء والمفكرين الإسلاميين، والمنصفين من باحثي الغرب.

5.    ظهر من البحث أن هناك ترابطاً وثيقاً بين bمسلك استعمال العنف كوسيلة لانتشار الإسلام وبين واقع التخلف في العالم الإسلامي، واستمرار هذا الواقع، لتلك لا بد من إعادة النظر بهذه الجدلية على مستوى الواقع والفكر والتطبيق والتعاون الدولي.

6.    ظهر أن التراث الفكري الشيعي بعامة لا يسعف التوجهات العنيفة لأسباب ايديولوجية، بينما التراث الفكري للمتشددين من المذاهب والفرق الإسلامية الأُخر حاضن للممارسة العنفية، وسبب ذلك عند الشيعة (سيرة أئمة أهل البيت G، واستمرار مقولة الاجتهاد).

7.    ظهر أن الديمقراطية bعامل جاذبv وليست عاملاً طارداً، فالمشروع السياسي الرصين والبرهاني الذي يخدم الإنسان لا يعارض الديمقراطية كآلية لتشكيل السلطة bجوهراً وصلاحياتv، بينما الفكر غير العقلاني لا يرغب بالاحتكام للرأي العام؛ لعدم قدرته على احتواء الأغلبية الساحقة منهم.

8.    ولأجل تخليص العالم من الإرهاب يجب أن تُنظر أسبابه كافة، سواء من داخل منظومته أو من خلال السلوكيات الغربية في العالم الإسلامي، ويُعالج معالجة شاملة.

 

*    *     *

الهوامش



 ______________________________________________

 

(*)أُستاذ الدراسات الإسلامية العليا، كلية الآداب، من العراق.

 



([1]) د. عبدالأمير كاظم زاهد، أزمة المشروع النهضوي، بحث في المؤتمر الفلسفي العربي الثاني (بيت الحكمة) ص113. ( [2]) د. طه عبدالرحمن، تجديد المنهج ص19.

([3]) د. محمد عابد الجابري، نقد العقل العربي (1) ص9.

([4]) د. عبدالأمير كاظم زاهد، التراث وعلمانية الغرب، المؤتمر الفلسفي العربي الرابع (بيت الحكمة) ص72.

([5]) د. عبدالحسين شعبان، إرهاب الإسلام، أم إسلام الإرهاب ص183. بحث منشور في مجلة المعهد / لندن / 2003.

([6]) عبدالأمير كاظم زاهد، إرادات الـهيمنة (قراءة في فكر أركون)، بحث في مؤتمر الجمعية الفلسفية الأُردنية / عمان / 2002.

([7]) اليونسكو العربي، مناهج المستشرقين في الدراسات العربية والإسلامية ج1 ص117.

( [8]) صموئيل هنتغون، صدام الحضارات ص169.

([9]) د. عبدالأمير زاهد، أزمة المشروع النهضوي ص119.

([10]) الزرقاني، مناهل العرفان في علوم القرآن ج2 ص271.

([11]) د. عبدالأمير كاظم زاهد، التأويل وتفسير النص مقاربة في الإشكالية / مجلة السدير العدد 4، ص9.

([12]) الشيخ محمد مهدي شمس الدين، الاجتهاد والتجديد ص92.

( [13]) المصدر السابق نفسه.

([14]) الإمام الخميني، تحرير الوسيلة (رسالة فقهية علمية) ج1 ص485.

([15]) الإمام أبو القاسم الخوئي، البيان في تفسير القرآن ص275؛ الزلمي، النسخ في القرآن ص118.

( [16]) سورة البقرة / 208.
([17]) سورة الأنفال / 61.
([18]) سورة النحل / 125.
([19]) سورة يونس / 99.
([20]) سورة الحجرات / 13.

([21]) محمد حسين الطباطبائي ، الميزان في تفسير القرآن ج11 ص121.

( [22]) سورة الأنبياء / 107.
([23]) سورة محمد / 22.
([24]) سورة الممتحنة / 8.

([25]) الإمام الطبري ، جامع البيان عن تأويل آي القرآن ج10 ص24.

([26]) ابن كثير، تفسير القرآن العظيم ج1 ص331.

([27]) النيسابوري، غرائب القرآن ورغائب الفرقان ج4 ص115.

([28]) محمد عزة دروزة، الدستور القرآني ص239؛ ولـه أيضاً التفسير الحديث ج7 ص298.

([29]) ابن عاشور، تفسير التحرير والتنوير ج2 ص209؛ محمد أبو زهرة، نظرية الحرب ص10.

( [30]) ابن حزم، المحلى ج7 ص296.

 ومن العلماء من يذهب إلى أن غاية الجهاد فرض الإسلام على الغير، وليس الدفاع عن الوجود. أُنظر: محمد بن الحسن الشيباني في السير الكبير؛ والسرخسي، شرح السير ج1 ص187؛ السمرقندي، الخزانة ج1 ص273؛ ابن الـهمام، فتح القدير ج4 ص282؛ الموّاق، التاج والإكليل ج3 ص346؛ الشافعي: الأُم ج4 ص239، الشيرازي، المهذب ج2 ص227؛ الرملي، نهاية المحتاج ج8 ص43؛ ابن قدامة، المقنع ج1 ص483؛ المرداوي، الإنصاف ج4 ص117.

([31]) الشهيد الثاني زين الدين، الروضة البهية ج2 ص393؛ الطوسي، المبسوط ج2 ص12.

([32]) رواه أبو سعيد الخدري (قال السيوطي في الجامع ج2 ص171: حديث صحيح، ورواه مسلم في جامعه، ورواه أحمد في مسنده.

([33]) الآمدي، الإحكام في أُصول الأحكام ج1 ص145.

( [34]) سورة فصلت / 6.

([35]) مثال ذلك الكافي للكليني، والتهذيب والاستبصار للطوسي، ومن لا يحضره الفقيه لابن بابويه القمي، ووسائل الشيعة للحر العاملي.

([36]) مثال ذلك جامع البخاري، جامع مسلم، جامع الترمذي، سنن ابن ماجه، سنن أبي داود، مسند أحمد.

([37]) رواه البزار عن حذيفة، قال السيوطي، في الجامع الصغير ج2 ص95: (حديث حسن).

( [38]) رواه مسلم في الجامع ج2 ص116.
([39]) رواه البخاري في صحيحه ج3 ص291.
([40]) ابن هشام، السيرة النبوية ج2 ص105.
([41]) المصدر السابق ج2 ص106.
([42]) المصدر السابق ج3 ص138.

([43]) محمد بن الحسن الشيباني، في (السير الكبير)؛ أُنظر السرخسي، شرح السير ج1 ص96.

([44]) د. عبدالأمير كاظم زاهد، نظرية الصراع المسلح، ندوة الجهاد (بيت الحكمة) ص79.

( [45]) ابن هشام، السيرة النبوية ج4 ص155.
([46]) المصدر السابق ص184.

([47]) الآمدي: الإحكام في أُصول الأحكام (مبحث الإجماع) ج1 ص167.

([48]) د. عبدالأمير كاظم زاهد: أزمة المشروع النهضوي ص127.

( [49]) الماوردي، الأحكام السلطانية ص36.
([50]) القيادة الكارزمية charismatic leadership:

 أُسلوب قديم من أساليب نقل السلطة، والحفاظ عليها. سابق لنظام الوراثة يمتد تأريخياً إلى ما قبل 8 آلاف سنة، إذ وجد عند السوريين والمصريين القدماء وبني إسرائيل وفي الهند واليابان القديمة، حيث اختلط بالوراثة والطقوس الدينية فولّد حقاً مقدساً للملوك في تولّي السلطة، فكانت الكارزما تشكل عند القدماء الاعتقاد بألوهية الحاكم.

 اتّخذت الكارزما أشكالاً متعددة، منها التعيين، كما كان ذلك في المجتمع الروماني، أو عند أباطرة الجرمان.

 ثم تطورت الأسس الموضوعية للكارزما، فظهرت الكارزما العسكرية، والكارزما البطولية، فكانت أساساً لنمط الخلافة الذاتية، التي باتت الكارزما البطولية واضحة في مؤسسي الدول الاستعمارية من قادة حركات التحرر في القرن العشرين.

للمزيد راجع: موسوعة الثقافة السياسية الاجتماعية الاقتصادية العسكرية، عامر رشيد مبيّض، ص1064، ط. دار المعارف ـ حمص 1999. (التحرير)


Facebook
Twitter
Telegram
Print
Email

اترك تعليقاً