أحدث المقالات

قراءةٌ تحليليّة نقديّة

الشيخ نبيل يونس(*)

الحاجة لهذا الدراسة

لا يكاد يمرّ يومٌ لا نسمع فيه بعملية إعدام «نوعية»، تقوم بها الجماعات الإسلامية التكفيرية. ووصفُها بالـ «نوعية» بلحاظ أنّه أصبح للإعدام فنون وأساليب، يُتباهى بها أمام وسائل الإعلام في العالم أجمع. والذي يزيد الأمر حماسةً أنّ الحرق بالنار، والإغراق بالماء، والدَّوْس بالأقدام، والذبح بالسيف، والقتل بالرصاص، وغيرها من فنون الإعدام، كلّه يحصل باسم الله الرحمن الرحيم!

ولِمَ الاستغراب؟ طالما أنّ الإسلام أمر بذلك، والرسول محمد| ومَنْ بعده من أئمة أهل البيت^ اعتمدوا هذه الوسائل لتطهير الأرض من نجاسة المرتدين! ألم يُفْتِ لنا فقهاء المسلمين، بحَسَب ما فهموا من النصوص، أنّ حكم المرتد هو القتل؟! ألم ينقل لنا العلماء أنّ الإمام علي× أحرق بالنار، وأمر بالقتل دَوْساً…؟! إذن، لِمَ الاستغراب؟!

 والذي يفاقم الأزمة أكثر فأكثر هو أن كبار فقهاء العالم الإسلامي حاولوا تبرير وتوجيه حكم إعدام المرتدّ بما ينسجم مع رأفة الإسلام بالمسلمين، وتأمين الحماية لعقائدهم!

ولكنْ للأسف، إنّ حكم إعدام المرتدّ لم يحقّق هدفه المنشود له، ولم يصِلْ إلى الغاية التي تبرِّر تشريعه ـ كما هو المدَّعى ـ. بل على العكس، فهو قد ساهم في فتح باب الهجرة، أقصد الهجرة عن الإسلام، ليصبح الارتداد حلم كلّ شابّ يخجل من دين القتل، ويطمح إلى دين سلامٍ ومحبة.

 أما الخطباء والدعاة، وفي مقام الردّ على كلّ هذه الأفعال الوحشيّة، فإنّهم يستنكرون ويندِّدون ويصرخون، وينادون بالوَيْل والثبور وعظائم الأمور، ويبكون ويتأسَّفون، ولا أدري بعد ماذا يفعلون، وجمهور المسلمين ينظر إليهم نظرة الأسف والحزن!

 نعم، نظرة الأسف والحزن، والخيبة أيضاً. لماذا؟ لأنّ الناس، وبكلّ بساطةٍ، لم تعُدْ تقتنع بالكلام الفضفاض الذي لا يعالج الأمر من جذوره، بل كلّ المسلمين يطمحون ويتطلَّعون إلى فقهٍ جديد، يواكب تطوُّرهم، وينسجم مع «العولمة»، واحترام حرّية وإنسانية الآخر، طالما هذا الآخر لم يَعْتَدِ ولم يَهْتِكْ حرمة أحد.

ومن هنا، تبرز أهمِّية النتاج الفكري والفقهي للعلاّمة الدكتور حسين الخشن، الذي يعيد دراسة المباني الفقهية والكلامية والروائية في المنظومة الإسلامية الفكرية.

وربما آخر هذا النتاج كان كتاب «الفقه الجنائي في الإسلام، الردّة نموذجاً»، يدرس فيه منظومة العقوبات الإسلامية من أساسها، مقدِّماً فهماً جديداً للروايات، ومحدّداً القواعد العامة التي يجب أن تحكم هذه المنظومة الفقهية، مناقشاً ومفنِّداً أدلة حكم «قتل المرتدّ».

بكلمةٍ: لقد تناول العلاّمة الأستاذ حسين الخشن بحسٍّ نقدي بارع قضيّة خطيرة أجمع عليها فقهاء الإسلام، وهي فتوى قتل المرتدّ. فوضعها على مشرحة البحث العلمي ناقداً ومفنِّداً. وهذا الأمر ليس جديداً علينا! فالعلاّمة الخشن قد عوَّدنا على كتاباته الجريئة والواقعية؛ فها هو «العقل التكفيري» شاهدٌ على ما نقول؛ وليس كتاب «هل الجنة للمسلمين وحدهم؟» إلاّ صرخة علمية بوجه كلّ مَنْ يعطي التعصُّب لبوساً دينياً؛ أمّا كتاب الإسلام والبيئة فهو دراسةٌ شاملة تحدِّد كلّ واجبات المسلم تجاه الطبيعة، وحرص الإسلام على البيئة.

كتاب «الفقه الجنائي في الإسلام، الردّة نموذجاً» صدر عن دار «الانتشار العربي»، ويصل عدد صفحاته إلى 350. وهو يتألَّف من سبعة فصول، كلٌّ منها تحوي عناوين إشكالية مهمّة وشائقة.

جولةٌ في الكتاب

بداية مع المقدّمة، حيث كشف المصنِّف عمّا هو مكنونٌ في صدره. فهو ليس حزيناً كثيراً، ولا يشعر بكثيرٍ من الأسى، على كلّ هذا السيل من الاتّهامات والإشكالات التي تُطْرَح في وجه الإسلام، بل بعبارة: «حَسَناً فعل هؤلاء ويفعلون» يصف كلّ هذه الحالة؛ لأنّ كل هذه الحملات الظالمة ضدّ الإسلام الأصيل تحثُّنا وتدفعنا وتجبرنا على إعادة دراسة اجتهاداتنا وما فهمناه من النصوص الدينية. وهذا شيءٌ حَسَن ومطلوب.

ولكنّ الدفاع عن الإسلام لا يكون من خلال كلمات شاعرية، وجُمل ذات ألفاظ جميلة فقط، بل لا بُدَّ أن نخرج «من طوباوية الكلمات»، إلى جِدِّية البحث وعمق الفكرة، ونعيد تقييم النتائج التي توصَّلنا إليها، كما هو حال فتوى مشهور الفقهاء «قتل المرتدّ».

في الفصل الأوّل، يبدأ الكاتب بعرض بعض أنواع «الردّات» التي يمكن قبول حكم القتل فيها، كما لو كان المرتدّ «محارباً»، أو كان ارتداده يُشكِّل فتنة للمسلمين؛ عندها ودفاعاً عن المجتمع من عدوانه وفتنته يمكن القول بأنّ «قتله» له تبريرٌ عقلائي.

ثم يصل الكاتب إلى النوع الأكثر ابتلاءً في زماننا، وهو «الردّة الفكرية». فماذا لو ارتدّ أحدُ المسلمين عن الإسلام؛ لعدم قناعته بأحد أصول الإسلام، التي يوجب إنكارها الكفر والخروج عن الدين، ولكنّه كان ملتزماً القوانين العامة، مساهماً في حفظ أمن المجتمع، وناجحاً في عمله، وفي الوقت نفسه قد ارتدّ فكرياً عن الإسلام.

هنا عرض المصنِّف أربعة «تبريرات» سيقت من قِبَل بعض كبار المفكِّرين لتبرير حكم «قتل هذا المرتدّ»، وقد ناقشها وردّها.

أما الفصل الثاني، يتطرّق فيه المصنِّف إلى «تعريف الردّة». فيذكر أوّلاً المعنى اللغوي، ثمّ المعنى الاصطلاحي. ولم يكْتَفِ بذلك، بل يتعرَّض المصنِّف إلى دور النيّة في العقائد. فهل يمكن للمسلم أن ينوي إسلامه من دون إبراز أو إشهار إسلامه؟ وماذا لو نوى المسلم الارتداد، ولكنه لم يشهر ذلك؟ ثم يتعرَّض المصنِّف إلى كيفية «تحقُّق» الارتداد، فهل يُشترط في صدق «الارتداد على المسلم» أن يكون عارفاً بدينه، أو جاحداً لما يعرفه، وليس فقط جاهلاً أو مشتبهاً؟

وفي الختام، يدرس المصنِّف مسألة يقع فيها الكثير من الناس، وهي: ماذا لو وُجد عذرٌ للشخص الذي يخالف الشريعة، أي لو كان السارق معذوراً، أو القاتل، أو «المرتدّ». وعلى فرض أنّ له عذراً في ارتداده فهل تصدق عليهم هذه العناوين، ونرتِّب آثارها من عقوبات، أم تُرْفَع عنهم؛ لأنهم معذورون؟

في الفصل الثالث، يتناول الكاتب «طبيعة الحدّ وماهيّته». ويجيب في هذا الفصل عن ثلاثة أسئلة، هي:

1ـ هل أنّ حدّ الردّة حكمٌ مولوي تشريعي أو أنّه حكمٌ تدبيري؟

2ـ بناء على كون حدّ الردّة حكماً تشريعياً مولوياً فهل هو حدٌّ أو تعزير؟

3ـ هل أنّ الردّة التي توجب القتل هي الردّة التي تنطلق من عدم الاقتناع ببعض الأصول الاعتقادية، أو هي الردّة على النظام العام، والتي تتحقّق إمّا بالانحياز إلى صفّ الأعداء، أو بمحاولة إيجاد شرخ في الأمّة وثَلْم وحدتها، وهذا ما يعبَّر عنه بالحرابة، أو يندرج فيها؟

أما جواب المصنِّف عن السؤال الأول فهو أنّ القول بتدبيرية حدّ الردّة له وجه ثبوتي، كما لو أراد المشرِّع منح السلطة الشرعية نوعاً من المرونة في التعامل مع هذا الأمر الحسّاس والخطير، ولكنْ يبقى الأساس في نهوض دليل إثباتيّ يؤكِّد التدبيرية. وهذا طبعاً سيتم التعرُّض إليه في بحث الروايات.

أما السؤال الثاني، وفي سياق الجواب عنه يعرض الكاتب رأي أحد الباحثين الذي توصَّل إلى كون «حكم قتل المرتدّ» حكماً تعزيرياً، وليس حدّاً، وهكذا بالإمكان تغيُّر الحكم بحَسَب الظروف، والمصلحة التي يراها الحاكم الشرعي.

وبالرغم من أنّ أدلة هذا الباحث لم تثبت عند المصنِّف، لكنّه ذكر شواهد أخرى لتأييد فكرة التعزير في حدّ الردّة. ومن أبرز هذه الشواهد قبول الرسول| شفاعة عثمان بن عثمان في أخيه من الرضاعة ابن أبي سرح. وكما هو معلومٌ فإنّ الحدود لا تقبل الشفاعة.

وقد خلص المصنِّف إلى أنّ «حكم قتل المرتدّ» هو نوعٌ خاصّ من التعزير، قريبٌ من التدبيرية. ثم يذكر سبعة شواهد لإثبات تدبيرية الحكم المذكور.

الفصل الرابع «دور الزمان والمكان في ثبوت حدّ الردّة أو سقوطه»، ويستهلّ الكاتب هذا الفصل بسؤالٍ عن دور الزمان والمكان في عمليّة استنباط الحكم الشرعي، وهل أنّ لهما تأثيراً على الحكم الشرعي نفسه أو على موضوعه ومتعلّقه؟ لينقسم الفصل إلى عنوانين أساسيين، هما:

1ـ دور الزمان والمكان في إسقاط نظام العقوبات من رأسٍ.

2ـ دخالة دور الزمان والمكان في موضوع العقوبة الشرعية.

والجواب عن السؤال الأول يأتي بالنفي؛ لأنّ نظام العقوبات إنّما شُرِّع لحماية الفرد والمجتمع في كلّ زمانٍ ومكان. وفي غياب المعصوم تقوم السلطة التشريعية بمهامّه. ولكنْ ماذا لو لم توجد سلطة تشريعية ذات نفوذ، وإنّما وُجد فقيهٌ له نفوذ في دائرةٍ خاصّة، هل يُطبق نظام العقوبات أم لا؟ وقبل ذلك مَنْ هو المقصود من «الإمام» في الروايات؟

 وأما عن السؤال الثاني، وهو ما إذا كان لتغيُّر الزمان وتبدُّل المكان دورٌ في تغيُّر موضوع الحكم الشرعي، يجيب الكاتب، وبقلمٍ جازم، بأنّ شبكة العلاقات السياسية والاجتماعية والاقتصادية في تغيُّر دائم، وهذا ما يؤثِّر على موضوع الحكم الشرعي. ها هو «حكم الغنائم» ـ المعلوم في زمن النصّ ـ يقضي بتوزيع ما يُغنم من جيش «العدوّ»، فهل يمكن في عصرنا الحالي توزيع الدبابات والطائرات على أفراد الجيش إذا ما فازوا بحربٍ؟! وكذلك «حكم الحيازة» يقضي بأن يملك أيّ مسلم ما يحوزه من أراضٍ، وفي زماننا هذا، ومع وجود الوسائل والآلات الحديثة، يمكن لأصحابها أن يحوزوا عشرات الكيلومترات في بضع ساعاتٍ، فهل يمكن تمليكهم ما يحوزونه؟!

 وهكذا، سرد الكاتب نماذج عدّة، ليؤكِّد أهمِّية دراسة «دور الزمان والمكان في تغيُّر موضوع الحكم الشرعي»، وأنّ الأوان قد حان لتأسيس قواعد اجتهادية جديدة، حتّى لو أدَّتْ إلى تغيُّر هامّ في المنظومة الفقهية.

أما الفصل الخامس فهو أكبر فصول الكتاب، وفيه يناقش الكاتب كلّ الأدلة التي اعتمدها الفقهاء في الاستدلال على حكم قتل المرتدّ. بدأ المصنِّف أوّلاً بالقواعد العامة في مسألة الدماء، لينقح الأصل عند الشكّ. فماذا لو لم نتوصَّل من خلال الأدلة إلى نتيجة يقينية، وبقي لدينا شكٌّ في حكم قتل المرتدّ؟ ما هو الحكم العملي؟

يتناول الكاتب بالبحث العلمي المعمَّق ثلاث قواعد: 1ـ قاعدة أصالة الصحة في المعتقدات؛ 2ـ قاعدة عصمة الدماء أو أصالة الاحتياط في الدماء؛ 3ـ قاعدة دَرْء الحدود بالشبهات. ويدخل الكاتب في كلّ واحدةٍ منها بالتفصيل والمناقشة، مع حشد الأدلة على كلٍّ منها.

 وبعد القواعد العامة ينتقل الكاتب إلى عالم الأدلة الخاصّة بقتل المرتدّ، حيث يقسِّمها إلى قسمين: الأدلة المرجعية، المتمثِّلة بالقرآن الكريم والعقل؛ والأدلة غير المرجعية، المتمثِّلة بالإجماع والروايات.

وبدايةً مع القرآن، ومع جولةٍ واسعة وشاملة يستنطق بها الكاتب القرآن الكريم، ليستوحي الجوّ القرآني من مسألة قتل المرتدّ، ثم يسجِّل ملاحظةً ذات دلالة، وهي خلوّ القرآن من الحكم بقتل المرتدّ. والأهمّ من ذلك أنّ الكاتب حاول الاستدلال بالقرآن على نفي قتل المرتدّ، مسلِّطاً الضوء على ما يقارب من ستّ آيات، ليصل إلى آية ﴿لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ﴾، ويتوقف عندها وقفةً طويلة. ومن هنا ينطلق الكاتب مناقشاً الآراء، وخاصّة رأي السيد الخوئي&، ورافضاً ما يدَّعيه البعض من دعوى النسخ والتقييد في الآية، ليخلص إلى نتيجةٍ حاسمة أنّه لا دليل من القرآن على «حكم قتل المرتدّ»، بل على العكس، يمكن القول بوجود إشاراتٍ وقرائن تدلّ على عدم جواز قتله.

أما العقل فهو أيضاً لا يمكن التمسُّك به لإثبات حكم «قتل المرتدّ»، بل على العكس، يمكن دعوى دلالة العقل على قبح هذا القتل.

أما الأدلة غير المرجعية، فيبدأ الكاتب بمناقشة دعوى أن حكم القتل ضرورةٌ فقهية، ويثنّي بمناقشة الإجماع. ثم يحطّ رحاله في ساحة الروايات. ولكنْ قبل عرض الروايات ومناقشتها لا بُدَّ من ضوابط عامّة تضبط حركة الفكر الفقهي ضمن سياق عقلائي في فهم النصوص.

 لذلك استعرض الكاتب أربع نقاط وضوابط تحكم الاعتماد على الروايات، هي: 1ـ الوثوق بالأخبار؛ 2ـ موافقة القرآن الكريم؛ 3ـ النظرة الشمولية؛ 4ـ انتفاء احتمال التدبيرية والتاريخية.

 وسيجد القارئ أنَّ للكاتب في كلّ نقطةٍ رأيَه الخاصّ. ففي النقطة الأولى يذهب الكاتب إلى الدعوة إلى اعتماد مبنى الوثوق في الأخبار، وليس مبنى خبر الثقة، مستدلاًّ بعدّة شواهد كالطرق العقلائية، وطبيعة الخبر وحجم انتشاره. أما نسخ القرآن وتخصيصه بخبر الواحد فيتوقف عنده مليّاً؛ لأنّ نص القرآن الكريم عامّ لكل المسلمين، فإذا ما صدر حكم وانتشر على مدى سنوات، ووصل إلى الهند والسند، فلا يمكن قبول تخصيص هذا الحكم من قبل المشرِّع من خلال إصدار رواية هنا وحديث هناك، بحيث يبقى أغلب المسلمين جاهلين بهذا التخصيص، فهذا عملٌ يتنزَّه عنه العقلاء، فضلاً عن المشرِّع الحكيم.

أما موافقة القرآن الكريم (النقطة الثانية) فلا يكتفي الكاتب بوجوب عرض الروايات المتعارضة على القرآن، للأخذ بما يوافق الكتاب، بل لا بُدَّ من عرض كلّ الروايات على القرآن الكريم، وبعبارةٍ أخرى: ليس «التعارض» بين الروايات هو السبب الحَصْري في عرض الروايات على القرآن، لنعمل بما يوافقه، بل يجب عرض كلّ التراث الخبري على القرآن، وندرس انسجامه مع روح القرآن وأهدافه ومقاصده.

في النقطة الثالثة، يرى أنّ النظرة المطلوبة والصحيحة في الاستنباط هي النظرة الشمولية، دون النظرة التجزيئية التي تعيق الباحث عن رؤية المسار العامّ للروايات.

وفي النقطة الرابعة يرى الكاتب أنّ على الباحث أيضاً أن يبحث في احتمال تدبيرية الحكم الوارد في الروايات؛ لأنّ احتمال أن يكون الحكم صادراً من المعصوم على نحو الحكم التدبيري الولائي في زمنٍ وظرف معيَّن يقف عائقاً أمام الاستدلال بالروايات.

وبعد ذلك كلِّه، يصل الكاتب إلى عالم الروايات. ويستعرض ما يقرب من عشرين رواية، من طرق الفريقين، السنّة والشيعة. وسيجد القارئ نقاشاً موضوعياً مستوعباً لكلّ الروايات. فالكاتب يناقش في السند، وفي المضمون، ويطرح كل الاحتمالات الواردة على فهم النصّ؛ ليصل إلى أنّ هذه الروايات لا تصلح لإثبات الحكم بقتل المرتدّ، ولا سيَّما أنّها مبتلاةٌ بالمعارض. وهنا يذكر المؤلِّف عدداً من الروايات التي تصلح لمعارضة روايات قتل المرتدّ.

 ولقد أعرضْتُ عن ذكر الروايات لأنها كثيرةٌ، وأُحيل القارئ إلى الفهرس، فهرس الكتاب التفصيلي، ويمكن من خلاله معرفة عناوين الروايات المطروحة من قِبَل الكاتب.

أما الفصلين الأخيرين، الفصل السادس والسابع، فهما يمثِّلان تكملةً لاستيفاء البحث.

ففي السادس، يتكلَّم الكاتب عن حركة الزندقة في التاريخ الإسلامي، مع شيءٍ من التفصيل عن الزنادقة وأسمائهم، وكيفية تعامل الأئمة^ معهم.

أما الفصل الأخير، فيأخذنا الكاتب فيه في جولةٍ تاريخية إلى الردّة الأولى في الإسلام، وهي التي حصلَتْ في زمن الخليفة أبي بكر؛ ليتكلَّم عنها، مبيِّناً حجمها الطبيعي، وما جرى تضخيمه فيها، ولينهي هذا الفصل بـتأكيد مشاركة الإمام عليّ× مع أبي بكر في حرب الردّة.

النقاط المميَّزة بالكتاب

من الأمور التي لا يمكن أن تخفى على القارئ هي قوّة قلم الكاتب، وجرأته، ووضوح فكرته، واستيعابه، وغيرها من المميِّزات التي ترفع من المستوى العلمي للكتاب، ليصبح جديراً بأن يُقْرأ ويُدْرَس ويولى أهمِّية وجِدِّية من قبل الباحثين.

1ـ الواقعية

من المميزات التي تلفت القارئ مصداقية الكاتب وواقعيته في طرح الأمور، وعدم اقتناعه بالكلمات الفضفاضة والشاعرية. كلنا يستمع إلى الخطباء والمبلِّغين الذين يدافعون عن الإسلام، ومفهوم الحُرِّية في الدين، ويهاجمون الجماعات التكفيرية وما يقومون به من أعمال وحشية تشوِّه صورة الإسلام، فتستمع لأحدهم وهو يصف الإمام عليّ× بإمام الإنسانية، وأنّه× يتقبَّل الآخر، مهما كان هذا الآخر، ولا يتعدّى على أحدٍ، ولا يقاتل أحداً إلاّ بقدر ما تقتضيه مصلحة الإسلام، كالخوارج الذين لم يقاتلهم× على بغضهم وفكرهم المنحرف، إلاّ حين أصبحوا خطراً على الأمن الاجتماعي. ثمّ، بعد هنيهة، يكمل هذا الشيخ كلامه ودفاعه عن الإسلام بأنّ عليّاً× عاقب عبد الله بن سبأ فأحرقه بالنار، أو خنقه بالدخان، ويبرِّر هذا العمل بأنّه دفاعٌ عن الإسلام والعقيدة!

هذا التهافت في الكلام قد لا يلاحظه عامّة الناس، ولكنّه ثغرةٌ في البنيان الثقافي، ومؤشِّرٌ على هشاشة مضمونه. وهكذا، استفاد مبغضو الإسلام والجماعات التكفيرية من هذه الشواهد، فأحرقوا وقتلوا وخنقوا باسم الإسلام.

ومن هنا، من واقعية المصنِّف في رؤيته للأمور، أطلق صرخةً في هذا المجال، قائلاً: «لقد اعتاد الكثير من المثقَّفين والعلماء والوعّاظ المسلمين ـ في مقام الدفاع وردّ سيل الاعتراضات الموجَّهة ضدّ الإسلام في ما يرتبط بالحرّيات العامة وحقوق الإنسان ـ على الحديث عن الحرّية في الإسلام بلغةٍ شاعرية أدبية، تمتدح الحرّية إلى حدّ التغزُّل والتغنّي بها إلى درجة الاستهلاك، دون أن تلامس المشكلة في العمق، وتلاحق الإشكالات التفصيلية، وتقدِّم الأجوبة المقنعة عليها. وقد آن الأوان لنخرج من طوباوية الكلمات… إنّ المطلوب هو بذل جهودٍ فكرية اجتهادية تأصيلية لقضايا الحرّية وحقوق الإنسان، مع ملاحقةٍ تامة ومتابعة شاملة لإشكاليات الحرّية على المستوى العقدي والفكري والتشريعي…»([1]).

2ـ لا للتبرير

لا يخفى أنّ هناك علماء كبار امتازوا بصفاء فكرهم، وقوّة منطقهم العلمي، وعُرِفوا بإنسانيتهم وجمال عقلهم، كالسيد محمد باقر الصدر، والسيد الطباطبائي، والشيخ سيد سابق، والشيخ الشلتوت، والسيد فضل الله، والشيخ شمس الدين، وغيرهم من العلماء، الذين حاولوا جاهدين مقاربة فتوى قتل المرتدّ بطريقةٍ تبريرية ومنسجمة مع إنسانية الإنسان والحفاظ على الإسلام.

ولكن المصنِّف لم يقبل بكلّ التبريرات التي ساقها هؤلاء المفكِّرون، ولم يتأثَّر بـ «عظمة الأسماء»، بل ناقش وفنَّد، وبعبارة «مع احترامنا الكامل لأصحابها» خلُص إلى أنّ الأجدى ترك هذه التوجيهات التي لا تخلو من تكلُّف وضعف.

وهكذا، قام الكاتب بدراسة كلّ تبرير على حِدَةٍ، وتبيان نقاط الضعف فيه. ومن ردوده: «إنّ تبرير قتل المرتد بذلك يشكِّل نقطة ضعفٍ وعامل توهين في الإسلام، ويمثِّل إساءةً للمسلمين وسوء ظنٍّ بهم؛ لأنّه يعطي انطباعاً سلبياً بأنّ الإسلام لا يملك قوّةً برهانية تحصِّنه أمام بعض الردّات المتلاحقة، أو أنّه ضعيفٌ في نفوس أتباعه، مما يفرض حمايته بقوّة السيف والتهديد بالقتل. كما ويعطي انطباعاً بأنّ المسلم هو بدرجةٍ من الضعف الفكري تجعله مهتزّاً أمام ردّةٍ من هنا، أو ردّةٍ من هناك. هذا مع أنّ…»([2]).

ولم يكتَفِ الكاتب بردّ التبريرات المساقة، بل قام بطرح تبريرات عكسية، تبرز الآثار السلبية لفتوى قتل المرتدّ، فقال: «إنّ قتل المرتد يغذّي ويعزِّز الاتجاه النفاقي الذي يُظهر أصحابه الإسلام، ويبطنون الكفر، باعتبار أنّ السماح للمرتدّ بالإعلان عن نفسه سوف يكشفه أمام جمهور المسلمين، فيأخذون حذرهم منه. أمّا توعُّدُه بالقتل في حال الردّة فإنّه سيدفعه لإضمار الحقد على الإسلام والمسلمين…»([3]).

3ـ الاستيعاب والشمولية

من الأمور التي يلاحظها القارئ هي استيعاب الفكرة المطروحة. فالكاتب لا يتعرَّض لأيّ فكرةٍ من دون استقصاء لكلّ مفرداتها، وما يُمكن أن يلازمها ويتعلق بها.

ومثال ذلك في تعريف المرتد؛ حيث لم يقتصر المصنِّف على عرض المعنى اللغوي والاصطلاحي، ومناقشتهما، بل ذهب إلى دراسة أركان الارتداد، والأسس التي يرتكز عليها عنوان «المرتدّ»، والتي تنطبق على الإنسان حين يرتدّ. لذلك، بعد عرض المعنى اللغوي والاصطلاحي، تعرّض الكاتب مباشرةً إلى تحديد «الأصول» التي يوجب إنكارها الكفر. ثم تعمَّق المصنِّف إلى النوايا، ليسأل: ما هو دور النيّة في الإسلام والارتداد؟ وماذا لو نوى الإنسان الارتداد من دون إظهار ذلك؟ وكذلك، الكثير من المرتدين حالياً، وخاصّة في بلاد الغرب، لم يتعرَّفوا على الإسلام إلاّ ما توارثوه من أهاليهم، وعليه هل يمكن إطلاق عنوان «المرتدّ» على مَنْ ارتدّ عن الإسلام وهو لا يعرف عن الإسلام شيئاً، كالصبيّ الذي وُلد من مسلمَيْن، ثمّ ارتدّ قبل بلوغه قبل أن يتعلم عن دينه شيئاً، أو اليتيم المسلم الذي تربّى في كنف الإخوة المسيحيّين مثلاً، فاختار المسيحية عندما بلغ، هل يصدق عليه عنوان «المرتدّ»؟

يجيب المصنِّف على كلّ هذه الأسئلة، ويخلص إلى نتيجةٍ دقيقة، لا غموض فيها، محدِّداً تعريف «المرتدّ» بكلّ وضوح، ومستوعباً لأيّ فكرةٍ أو مسألة يمكن أن تتعلق بالتعريف. وهذا الاستيعاب في طرح الفكرة وبيان وجودها ومحتملاتها وأدلتها المؤيّدة أو المعاكسة هو طابع الكتاب بشكلٍ عام.

4ـ جرأةٌ في الطرح

ليس خافياً أن طرح فتوى «قتل المرتدّ» على طاولة النقاش العلمي، والتشكيك بضرورتها الفقهية والتسالم عليها، يمثِّل جرأةً بيِّنة، بينما تناساها الكثيرون حتّى مع عدم اقتناعهم بالفتوى المذكورة.

والجرأة في الطرح تطبع الكثير من بحوث الكتاب، ومن أهمّها: ما قوّاه أو مال إليه الكاتب من احتمال التدبيرية في العقوبات، ومنها: فتوى قتل المرتدّ.

يقول المصنِّف، بعد أن يذكر أنّ المعروف والمشهور بين الفقهاء هو أنّ حكم المرتد حكمٌ تشريعيّ مولويّ: ولكنّ «التشريعية في هذا الحكم ليست بديهيةً، وثمة مجالٌ للنظر فيها، وإمكانية القول: إنّ الحدّ المذكور هو إجراء تدبيريّ اتَّخذه الرسول| حمايةً للمجتمع الإسلامي من مخاطر الردّة وتداعياتها السلبية على الكيان الإسلامي حديث الولادة…»([4]).

هكذا، يزلزل الكاتب دعائم المشهور في هذه المسألة، ويبدأ بمناقشة المسألة من عمقها.

هل أنّ الأصل في كلام النبيّ| أو الإمام× هو المولوية التشريعيّة، بحيث لو شككنا في ذلك، نبني على المولوية؟

يردّ الكاتب: «إنّ أصالة المولوية غير واضحة؛ فإنّ الرسول| كما أنّه مبلِّغ عن الله تعالى فهو الحاكم وبيده السلطة وإدارة شؤون المجتمع، وهذا يقتضي أن يصدر عنه في كثيرٍ من الأحيان أحكامٌ تدبيرية سلطانية تُعنى بتنظيم شؤون المجتمع في مراحل تطوُّره وتكامله. وقد صدر عنه ـ في ما يثبت لدينا ـ عشرات الأحكام التدبيرية. ومع نفي أصالة المولوية في أحكامه| يغدو احتمال التدبيرية وارداً بنحوٍ يكون كافياً لمنع ظهور النصّ الوارد في قتل المرتدّ على المولوية»([5]).

5ـ التجديد

ومن الأبحاث الجديدة والشيِّقة التي اقتحمها الكاتب هي «دور الزمان والمكان في إسقاط الحكم أو تغيُّر موضوعه». ومن المعلوم أنّها أبحاثٌ جديدة الطرح نسبياً، وما زالت في إطار التنقيح والتأصيل.

وهنا يبرز المصنِّف في كيفية مقاربته لدور لزمن والمكان. فهو لا يقتصر على «اقتراح» العمل على إعادة دراسة المنظومة الفقهية على أساس تغيُّر الزمان والمكان، بل قام فعلاً بدراستها ـ طبعاً بقدر ما تقتضيها هذه الدراسة ـ؛ لذا انطلق الكاتب وبقلمٍ جازم لإثبات آثار هذه الدراسات على مستوى الفقه، مستعرضاً عدّة نماذج، كتملُّك غنائم الحرب مثلاً، والفرق بين زمان النصّ وزماننا. وكذلك مسألة «دية المرأة» باعتبارها نصف دية الرجل، كما هو موجودٌ في الفقه، فاستشكل الكاتب على هذا الحكم، معتبراً أنّ المرأة في زمن النصّ لم تكن إنسان منتجاً، خلافاً لأيامنا، وقد باتت المرأة فيه نصف المجتمع، ماليّاً وسياسياً واجتماعياً، وعلى كلّ الأصعدة.

ومن هذا الباب دخل المصنِّف إلى «الردّة»، ليقول: إنّ زماننا يختلف عن زمن النصّ، إنْ بالنسبة لكيفية الردّة وحصولها، أو من ناحية أثرها على المجتمع. ففي الزمن السابق كان المرتدّ محارِباً للمجتمع الإسلامي؛ لأنّ هوية المجتمع كانت آنذاك هي الإسلام، لذا كان لا بُدَّ من ردع عدوان هذا المرتدّ. أما الآن، وفي ظلّ الأنظمة الجديدة، يمكن أن يرتدّ المسلم عن دينه، وهو يحافظ على الأمن الاجتماعي، ولا مبرِّر لردعه أو قتله أو عقابه.

وهكذا، بنَفَسٍ تجديديّ حازم، يقول الكاتب: «إنّ الحاجة ملحّة إلى دراسة هذا الكلام الذي أصبح مطروحاً، ولو بشكلٍ خجول، في داخل بعض الأوساط الحوزوية، فضلاً عن سائر الفضاءات الفكرية، وليس صحيحاً أن ندفن رؤوسنا في التراب، أو نستخفّ بهذا النمط من التفكير الآخذ بالانتشار يوماً بعد يومٍ، أو نندفع بانفعالٍ إلى تخوين أصحابه»([6]).

6ـ المقاصدية

إنّ الاتجاه المقاصدي في قلم الكاتب بيِّنٌ وواضح، وإنْ كان إقحام «الفهم المقاصدي» ضمن دراسةٍ فقهية تأصيلية فيها شيءٌ من المحذور، والخروج عمّا هو مألوف وتقليدي، إلاّ أنّ المصنِّف أبدع حينما قارن بين «حدّ الردّة» و»حدّ السرقة»، من ناحية المقاصد التشريعية لكلٍّ منها.

وكما هو معلومٌ في الفقه الإسلامي، إنّ حدّ السرقة لا يُعْمَل به في حال توفَّرت بعض الظروف، ومنها: وجود مجاعة وفقر عامّ بين الناس. ويعلِّل الكاتب ذلك بقوله: «إنّ حدّ السرقة إنما يهدف إلى منع التعدّي على أملاك الناس وأموالهم وحماية الاستقرار الاجتماعي. وعليه، لو وُجد نظامٌ إسلامي أو غيره يعمل على أن يوفِّر للناس فرص العيش الكريم، ويرفع عنهم شبح المجاعة، ثم أقدم البعض على السرقة، فلا يكون تصرفه مبرَّراً إطلاقاً. أمّا لو لم يتوفَّر ذلك النظام، وعاش إنسانٌ في أجواء المجاعة وحصار الفقر، فأقدم على السرقة، فهل تُقْطَع يده؟»([7]).

 وهكذا حكم «قتل المرتدّ» في زماننا، حيث لا تمضي ساعةٌ إلاّ ويسمع المسلم إشكالات وشبهات يطرحها القريب قبل البعيد، وأحياناً من الملتزمين قبل الفاسقين. فيمكن القول: إنّنا في زمن مجاعةٍ معرفية وعلمية، وفقر فكريّ عامّ بين الناس، وباتت الحاجة ملحّةً إلى مَن ْيدفع عنهم شبح هذا الفقر، ليغني الساحة بحراكٍ فكريّ علمي ثريّ، يعيد الإسلام إلى نضارته وقوّته في قلوب المسلمين.

فيقول الكاتب: «ولو جئنا إلى حدّ الردّة، فإنّه ـ بناء على ثبوته ـ يهدف إلى حماية عقيدة الناس، وعليه لنا أن نتساءل: لو كنّا في ظلّ نظامٍ إسلامي يعمل على نشر الهداية وتوفير وسائل الإقناع وإقامة الحجّة من خلال الدعاة والوعّاظ والكتّاب والمفكِّرين، معتمدين على مختلف الوسائل التي تدحض الباطل بالمنطق والبرهان، وتحاصر فكر الإلحاد والكفر، فيكون تطبيق حدّ الردّة والحال هذه «معقولاً» ومقبولاً ومفهوماً. أمّا إذا لم يكن الأمر على هذه الصورة، كما هو الحال في أيامنا، حيث نفتقد في الكثير من بلدان المسلمين نظاماً إسلامياً يعمل على تبليغ الإسلام والذبّ عنه.. ولا تنفكّ وسائل الإعلام والدعاية غير الإسلامية تقتحم على المسلمين بيوتهم ونواديهم بالكثير من الإشكالات التي تسمِّم عقولهم وتبعثهم على التشكيك بدينهم، فهل يلزم أو يشرع، والحال هذه، تطبيق حدّ الردّة؟»([8]).

فالمقصد واحدٌ، وهو حماية المجتمع. أمّا إذا لم يكن أفراد هذا المجتمع يعيشون الأمان، الأمان من شبح الجوع والفقر، والأمان من ظلمة الجهل والشكوك، فيكون العقاب حينئذٍ خلافاً لمقاصد التشريع الإسلامي.

7ـ اجتراح الحلول

من المشكلات التي تواجهنا في فضائنا الإسلامي، وخاصّة الفكريّ منه، هو بُعْد التنظير العلمي عن الواقع نسبياً. ما أقصده هو أنّ الكثير من المفكِّرين تجدهم يبحثون ويدرسون ويخلصون إلى نتائج قد لا تتلاءم أو لا يمكن تطبيقها في الوقت الراهن، أو أنّها تحتاج إلى نقاشٍ أكثر، فتبقى في أروقة المعاهد والحوزات، دون أيّ جدوى عملية لها.

أمّا كاتبنا العزيز فقد استدرك الأمر؛ إذ من المحتمل جدّاً أن لا تلقى فتواه الجديدة ـ وهي «عدم جواز قتل المرتدّ، إلاّ المحارب والمعتدي» ـ قبولاً من قِبَل «المسؤولين» والقيِّمين على المجتمع الإسلامي، بحجّة أنّها بحاجةٍ إلى نقاش ودراسة.

ومن هنا، قدَّم المصنِّف حلاًّ نظرياً علمياً لوقف العمل بفتوى «قتل المرتدّ»، والتي تعتمدها الحركات التكفيرية بشكلٍ فوضوي لتشويه صورة الإسلام؛ وذلك من خلال تجميد العمل هذه لفتوى.

وقد استند الكاتب على رواياتٍ عدّة، منها: خبر الكناسي، عن الباقر×: «لا يعفي عن الحدود التي لله دون الإمام…»، ثمّ قال الكاتب: «فقد دلَّتْ الرواية على أنّ للإمام أن يُصدر عفواً عن الحدود التي تمثِّل انتهاكاً لحقّ الله تعالى، ومنها حدّ الردّة… ثانياً: إنّ الحدود إنّما شُرِّعت للمصلحة العامة، ودفعاً للمفسدة، فإذا أدَّتْ إقامتها إلى عكس ذلك فيكون تجميدها أجدى من تطبيقها»([9]).

وعلى فرض وجود مَنْ يريد النقاش، ولم يسلِّم بالكلام، يحتكم الكاتب للعقل، العقل الذي لا يمكن تخصيص أحكامه، ومَنْ ذا الذي ينكر قاعدة التزاحم، وتقديم الأهمّ على المهمّ؟! ومَنْ ذا الذي يشكّ الآن، في واقعنا المأزوم، بأنّ العمل في فتوى قتل المرتدّ لها آثار سلبية تفوق بكثيرٍ تجميد العمل بها؟! يقول المصنِّف: «إنّ المسألة تدخل في باب التزاحم، وتنطبق عليها أحكام ذلك الباب، من تقديم الأهمّ على المهمّ. هذا على فرض تماميّة القول بأن حكم المرتدّ في التشريع الإسلامي هو القتل»([10]).

8ـ دقّة المنهجيّة

من المميِّزات التي تبرز في هذا الكتاب منهجية البحث، ودقّة الخطوت المتَّبعة، سواء بين الفصول أو في الفصل نفسه.

بين الفصول، الواضح هو الفصل التامّ بين الموضوعات، بحيث لا يوجد تداخلٌ أو عشوائية في ترتيب الأبحاث. ولكنّ الكلام هو في الفصول نفسها؛ إذ ما لفتني هو المنهجية المتَّبعة في الفصل الخامس، في عرض الأدلّة ومناقشتها.

فالمميَّز أنّ الكاتب قسَّم الأدلة إلى قسمين: قواعد عامة؛ وأدلة خاصّة. ثم قسَّم الأدلة إلى: أدلة مرجعية؛ وأخرى غير مرجعية. وأدرج تحت الأدلة المرجيعة كلاًّ من القرآن والعقل، باعتبارهما أدلّةً وحجّة على كلّ المسلمين، ويشكِّلان مرجعية في تحكيم النصوص، وإمكانية قبول دلالتها. ثمّ أدرج الروايات في الأدلّة غير المرجعية، في إشارةٍ واضحة إلى وجود الخلاف والاختلاف بين المفكِّرين.

وبعد أن حدَّد المرجعية خاض الكاتب في بحر الروايات، ليفرد لكلّ واحدةٍ نقاشاً مستقلاًّ في الدلالة والسند.

ولم يكتَفِ المصنِّف بهذا الترتيب الدقيق، بل قسَّم الروايات بحَسَب سندها إلى رواياتٍ واردة في مصادر «السنّة»، وروايات واردة في مصادر «الشيعة».

وبهذه المنهجية الدقيقة والواضحة تمَّتْ دراسة الأخبار، ومناقشتها.

هذا كلُّه يعين القارئ على تتبُّع الأدلة، ودراسة النقاشات بكلّ تفصيلاتها؛ ويساعده أيضاً على الاستيعاب والتركيز، وخاصّة إذا اضطرّ إلى قراءة البحث خلال أوقاتٍ متباعدة، كما لو قرأه خلال شهرٍ أو شهرين مثلاً، فلن يشعر بالضياع أو الملل.

9ـ دراسةٌ إسلاميّة

لا يخفى كثيراً على المتتبِّع أنّ الساحتين الفكريتين، السنّية والشيعية، هما شبه منفصلتين. فلكلٍّ منها أبحاثها ودراساتها ونتائجها التي تتوصَّل إليها. وقلَّما تجد بحثاً مشتركاً يستفيد منه كلا المذهبين. إلاّ أنّ الكتاب الذي بين أيدينا يختلف عن غيره من الكتب والأبحاث، فمصنِّفه كان حريصاً على تناول المسألة من كلّ جوانبها؛ لذلك تجده يعرض آراء علماء السنّة، كما الشيعة، ويفنِّد إشكالات الطرفين. والأهمّ أنّه درس وناقش كل الروايات، تلك التي من طرق الشيعة، وتلك التي من طرق السنة أيضاً، دون تمييزٍ.

لذا كان من الواضح أنّ هذا البحث يستفيد منه أتباع الفكر الشيعي، وكذلك أتباع الفكر السنّي، وبكلمةٍ: هو كتابٌ إسلامي بامتيازٍ، يناقش فتوى إسلامية، اتَّفقت عليها كلّ المذاهب، وقام الكاتب بمناقشة وتفنيد كلّ الأدلة.

إشكالاتٌ على الكتاب

وكما هو معلومٌ، لا يخلو كتابٌ على الإطلاق من إشكالاتٍ واستفسارات؛ ربما لأنّ الكتابة هي وسيلةٌ من وسائل التعبير، وتبقى عاجزةً أحياناً عن إيصال مراد الكاتب ومقصوده الدقيق من فكرته، فيقع القارئ في التباسٍ هنا، ويتساءل عن أمرٍ آخر هناك.

ومن الأمور التي يمكن أن يُستشكل بها على الكاتب والكتاب، وهي أمور فنِّية شكلية، ما يلي:

1ـ اللغة التخصُّصية

مشكلة المشاكل في الكتب الحوزوية هي أنّها أشبه بعُقَدٍ تعبيرية أمام الآخرين. وليس دائماً تكون المشكلة في المصطلحات، والتي سعى الكاتب جاهداً لتفسيرها في الهامش، بل الأزمة هي في سَبْك الجُمَل، وكثافة الأفكار المحشوّة في الفقرة الواحدة، وكأنّها تتنافس أيّها تريد اقتحام ذهن القارئ أوّلاً.

ومع أنّ الكاتب ـ وللإنصاف ـ يمتلك قلماً سيّالاً، يشعر معه القارئ بالراحة والمتعة الفكرية أحياناً، إلاّ أنّ هذه الفرحة لا تكتمل حتّى يقع في فقرةٍ علمية تخصُّصية، تُقْحمه في شبكةٍ من الأقوال والردود، و«اللهمّ» و«إنْ قيل»، ليسأل في نهاية المطاف عن المحصّلة من ذلك كله.

لا أدري ما هو الحلّ؟ وأصلاً هل هذا يُعتبر إشكالاً؟ باعتبار أنّ هذه الأبحاث هي تخصُّصية حوزوية، لا يمكن تنزيلها إلى مستوى الثقافة العامّة. ولكنْ يبقى الأمل والطموح هو وصول هذه الدراسات إلى أكبر قدر من مثقَّفي العالم، ليطَّلعوا على الفكر الديني المتنوِّر، والحركة الاجتهادية الآخذة بالتطوُّر والتجديد.

2ـ ثغرةٌ في العموم

من الواضح، أقلُّه من خلال العنوان، أنّ هدف الكاتب ليس فتوى «حكم قتل المرتدّ» فحَسْب، بل المصنِّف يصبو إلى دراسةٍ تغييرية في كلّ منظومة العقوبات في الفقه الإسلامي. ومع أنّ ذلك يظهر في ثنايا هذه الدراسة، حيث تجد الكاتب، وعند كلّ فرصةٍ سانحة، يتعرَّض لهذه المنظومة بكلِّيتها، ويعمل على مناقشة القواعد العامة التي يُعْمَل بها، مقدِّماً طروحات جديدة تساهم في فهمٍ جديد، وبناء منظومة تواكب زماننا هذا.

ولكنْ يبقى الإشكال هو في عدم إفراد فصلٍ خاصّ لهذا الأمر. ولم يحدِّد لنا ما هو المقصود بالفقه الجنائي؟ وما هي أهم معالمه ومزاياه؟ والقارئ إذا أراد أن يقرأ عن رأي الكاتب في المنظومة ككلّ، وبعض مناقشاته في ارتكازات هذه المنظومة، لا في جزئية فتوى قتل المرتدّ، فلن يَسَعه ذلك؛ وذلك بسبب عدم إفراد فصلٍ خاصّ أو عنوان مستقلّ بهذا الأمر.

الهوامش

(*) كاتبٌ في الفكر الإسلاميّ. من لبنان.

([1]) ص 16.

([2]) ص 34.

([3]) ص 35.

([4]) ص 92.

([5]) ص 93.

([6]) ص 134.

([7]) ص 136.

([8]) ص 137.

([9]) ص 143.

([10]) ص 145.

Facebook
Twitter
Telegram
Print
Email

اترك تعليقاً