أحدث المقالات

نلتقي في هذه الأيّام بذكرى ولادة نبيّ من أنبياء الله العظام، هو المسيح عيسى بن مريم(ع)، الّذي تمثّل ولادته المعجزة، كما سيرته، محطّة كبرى من محطّات اللّقاء الإسلامي ـ المسيحي، حول هذه الشخصية العظيمة الّتي كانت رحمةً للنّاس في حركتها وتعاليمها، كما كانت قدوةً لهم في الزّهد. فالمسيح (ع) كما وصفه الإمام علي (ع): «كان إدامه الجوع، وسراجه باللّيل القمر، وضلاله في الشتاء مشارق الأرض ومغاربها، وفاكهته وريحانه ما تنبت الأرض للبهائم، ولم تكن له زوجة تفتنه، ولا ولد يحزنه، ولا مال يلفته، ولا طمع يذلّه، دابّته رجلاه، وخادمه يداه».

ونحن عندما نلتقي بذكرى هذا النبيّ الجليل، الّذي كان يقول عنه رسول الله (ص): «أنا أولى النّاس بعيسى بن مريم».. نشعر بأننا كمسلمين معنيّون بهذه الذّكرى في معانيها الرّساليّة السامية، لأنّنا معنيّون بأن نظلّ على هذه الصّلة بكلّ أنبياء الله الّذين جاء النبيّ محمد(ص) ليختتم سيرتهم، من خلال العنوان الأخلاقي الكبير الّذي أطلقه: «إنما بعثت لأتمّم مكارم الأخلاق».. وهو العنوان الّذي يلتقي بالعنوان الّذي أطلقه السيّد المسيح(ع)، والّذي يُنسب إليه: «إنما جئت لأُكمل الناموس».

وإذا كانت مناسبة ولادة عيسى(ع) محطّة احتفالية أو تأمليّة في الوسط الإسلامي والمسيحي معاً، فنحن نعتقد أنّ هذه المحطة تفرض علينا جميعاً، مسلمين ومسيحيّين، أن نلتقي لقاء المكاشفة والمصارحة، لا لقاء المجاملة والاستعراض، لنبحث جديّاً في التحدّيات الكبرى الّتي تقف في وجه البشريّة، والّتي يشتدّ أوارها وتتزاحم في المنطقة العربية والإسلامية على وجه الخصوص، وكذلك التحدّيات الحضاريّة المتّصلة بمستقبل البشرية كلّها، في عالمٍ مضطرب مأزوم..

فالمسيحيّون والمسلمون يتآخون بالانتماء إلى هويّة حضاريّة واحدة، هي حضارة الكرامة الإنسانيّة وأخلاقها المهمومة بسلام العالم وأمنه، ولا سيّما في هذا المفصل التاريخيّ الّذي تفاقمت فيه ذهنيّات التطرّف الدّيني والعنف الدّيني، باستغلال الدّين ضدّ الدّين والإنسان.

وبمعزلٍ عن الأرقام المذهلة من حصاد العنف ونتائجه الدّامية، فإنّ الحديث عن التّضامن المسيحي ـ الإسلامي يبدو من ضرورات الالتزام بالحكمة والقيم، فيما نشهده من هذه الفوضى الدّينيّة الّتي تكاد تقود العالم بأسره نحو كارثةٍ عظمى، بفعل تغليب ثقافة العنف والقطيعة على ثقافة التّسامح والحوار. والسّؤال إزاء هذا التحدّي هو: كيف يواجه الخطاب المسيحي ـ الإسلامي أزمة الحضارة الإنسانيّة المشتعلة بلعبة الفتن الطائفيّة والتّرويج لها على أرض منابت الدّين ومحاضن الأنبياء؟

يبدو لي أنّ احتفالنا هذا العام بميلاد السيد المسيح (ع)، يتيح لنا، مسيحيّين ومسلمين، النظر باقتران هذا الميلاد بفكرة الخلاص، وما يقابلها من إيمان المسلم القرآني باقتران مولد خاتم الأنبياء برسالة الرّحمة والخلاص.

وما يعنينا من وراء هذه الإشارة المضيئة، هو نداء المسؤولية، واستنهاض مساحات الإيمان المشتركة على كلمة سواء، والنّظر في ما بوسعنا أن نقدّمه لإنقاذ الحضارة الإنسانيّة المحاصرة بجميع أشكال الظّلم والبؤس والطّغيان.

وإذا كانت سياسات القرن الماضي قد اتّسمت بظاهرة تهديم السياسة لما يبنيه الدّين من الفضائل، فإنّ أخشى ما نخشاه، أن يصبح التديّن غير العاقل على مستوى العالم، جزءاً من مشكلات فساد الدّين أو إفساده.

وبذلك، فإنَّ المطلوب من الخطاب المسيحي ـ الإسلامي في الوقت الرّاهن، هو إضفاء آليّات التعاون المشترك على البرّ والتّقوى، لتظهير الجوهر الرّوحي من رسالتهما في المحبّة المسيحيّة والرّحمة الإسلاميّة، فنؤسّس لمنهج يحمي الجانب الأخلاقي منهما من أيّ استهداف يطاول تشويه صورة الدّين وتمزيق أوصاله.

وفي ظلّ الأزمات السياسيّة والاجتماعيّة الكبرى الّتي تلفّ العالم من شرقه إلى غربه، نجد من مهمّات الإيمان التوحيديّ السّماويّ، أن يواجه هذا التحدّي التاريخيّ، لتصويب علاقة الدّين بالسياسة والاجتماع، فلا نغضّ النظر عن الأخطاء والخطايا الّتي ترتكب باسم الدّين. وبمنهج نقد الذّات الدّينيّة، لا يجوز أن نقف موقف المتفرّج على هذا الخلل الذي أصاب التديّن في عقله وسلوكه.

وفي مدى الفلتان الأمني المفتوح على عواصمنا العربيّة والإسلاميّة، يجدر بعيوننا أن تسهر على وحدتنا الوطنيّة، فنحذر بالوعي الدّيني والوعي السياسي والوعي الاجتماعي ألغام الإشاعات وألغام المشاريع المشبوهة المتخصّصة بتأجيج الفتن وتثوير العداوات تحت شعارات لا تمتّ إلى أديان السّماء بصلة.

كذلك، فإني أدعو إلى وجوب العناية بظاهرة المخاوف المتبادلة بين الأديان، وما رافقها من ظاهرة الهجرة المسيحيّة والإسلاميّة.. وأن نلتزم بصراحة نداء الكلمة السّواء والإيمان المشترك، فإن كلّ همّ من هموم المسيحيّين في الشرق، يجب أن ننظر إليه باعتباره هماً إسلامياً، والعكس صحيح، حيث لم يعد من الجائز تصنيف خرائط المشكلات في عالمنا العربيّ إلى مشكلة تخصّ المسيحيّين، وأخرى تخصّ المسلمين… فلنتعقّل من جديد معنى أن نكون جميعاً أبناء وطن واحد وأمّة واحدة، وبذلك تأتي أهميّة أن يظلّ اللّقاء والحوار مفتوحين على جميع قضايانا التنمويّة والاقتصاديّة والمعيشيّة.

 
 

Facebook
Twitter
Telegram
Print
Email

اترك تعليقاً