أحدث المقالات


السيد عبد الرحيم بوستة

بعد فاصل زمني يقرب من السنتين على مؤتمر الشهيدين في دورته الأولى المنعقدة بمدينة قم، تحتضن بيروت في أواخر شهر أيار/ ماي من هذا العام 2011م الدورة الثانية من المؤتمر، والذي سيكرس معظم أعماله للشهيد الثاني، فمؤتمر واحد لا يسع الدارسة العلمية التي تريد أن تحيط وتتناول معظم الحقول العلمية التي خاض غمارها الشهيدان وقدما فيها إسهامات عظيمة ومؤثرة أسهمت في تطور مسار المعرفة الدينية، وافتتاح مجالات علمية جديدة أمامها كما تجلى ذلك في علم التعلّم أو الأخلاق العلمية(آداب المعلم والمتعلم)  الذي أسس له الشهيد الثاني من خلال كتابه الفريد "منيه المريد في أدب المفيد والمستفيد".

لاشك في أنّ الاحتفاء بالشهيدين؛ محمّد بن مكّی العاملي الجَزینی المعروف بالشهید الأول (734- 786هـ)، وزين الدين عليّ بن أحمد الجُبَعي العاملي المعروف بالشهيد الثاني (911 – 965هـ)؛ وإن اندرج ضمن تقليد ممدوح وسنّة حسنة تكرّم العلماء الكبار من ذوي الأثر البالغ في الفقه أو في مجمل المعارف الإسلامية؛ وتحيي آثارهم في شكل موسوعات جامعة، فإنّ عقد مؤتمر برسم الشهيدين يكتسب خصوصية تخرج بالاحتفاء عن الإطار المرسوم له ويتجاوز المتوقع في كلّ إحياء وهذا ما سنحاول بسطه في هذه الافتتاحية.

مسوغّ هذا الكلام هو تلك الحاجة الماسة إلى استئناف النظر في فكر الشهيدين وفقه الشهيدين ومسلك الشهيدين.. والتي يمكن أن نرقى بها إلى مستوى الحاجة التاريخية، فعندما تواجه الأمة انسدادات في مسارها التاريخي؛ كما هو حاصل الآن، ويتعطل فعلها الحضاري عن الإبداع بل وترتكس إلى الجهالة المغلفة بالدين وتلوذ بعصبياتها المذهبية، وتفتتح على مسرح التاريخ الحديث وعلى أعين العالم حروبا مذهبية كما حصل في العراق، وكما قد يحصل في أكثر من ساحة محتقنة، فإن ذلك يدفعنا إلى استحضار كل تجارب الإصلاح في أمتنا، واقتباس جذوة النور من حملة المشاعل والاستعانة بها لعلنّا نحدث الخرق المطلوب.

والمخرج من مأزق الانسداد التاريخي؛ وهو ممكنٌ تاريخيٌّ أيضا؛ وتجاوز معضلاته يحتم حالة الاستدعاء هذه لنماذج وتجارب الإصلاح في الأمة واستئناف النظر في مشاريعها ومناهجها، وهذه ليست نزعة ماضوية أو تراثية، فنحن أمة تعيش راهنها لكنّها لا تنفصل عن تراثها وماضيها، ولا نرى أنفسنا ننزلق بهذا الطرح إلى هوامش الحداثة، بل نريد أن نكون في القلب منها وفق ثابت تاريخي وفلسفي لا يختلف في كون أنّ لكل امة حداثتها الخاصة بها تعيشها على وفق شرطها الثقافي والديني.

من مظاهر ما أسميناه بالانسداد التاريخي أن معلمه الأبرز وتعبيره الصارخ نابع من أزمة تديّن في مجتمعاتنا، فنحن أمام فهم للدين ينتج التعصب والانغلاق وينتهي بجمهور عريض من المتدينين ليس فقط إلى ادعاء الحقيقة بل واحتكارها، ومن الطبيعي أن تنشط دينامية التوترات المذهبية وتتفاقم إلى مستويات من التكفير والاستباحة وتقويض أسس الاجتماع السياسي والعصف بكل قواعد العيش المشترك في الوطن الواحد، وعلى صعيد الأمة الواحدة.

هذه الأزمة في العلاقات الإسلامية- الإسلامية لها جذورها التاريخية، فمنذ أن انقسم المسلمون إلى سنة وشيعة، لم ينجح الطرفان إلى الآن في تدبير الخلاف بما يحرر طاقة الأمة من ثقل التاريخ ويخفف عن جسمها ضغوطات التوتر، وإذا تساءلنا بموضوعية: هل يختلف واقع علاقاتنا المذهبية اليوم عمّا كان عليه الوضع زمن الشهيد الأول والشهيد الثاني أي ما بين القرنين الثامن والعاشر الهجري؟ في تقديرنا –وللأسف- أن جوهر المشكل لا زال قائما سواء على مستوى العلاقة أو على مستوى التمثل وتوارث نفس النظرة النمطية إلى الآخر، نعم برزت إلى السطح الحالة التقريبية المحمودة، لكنها لم تحدث اختراقا قويا – إلى الآن- في البنية المذهبية المستحكمة والمغلقة بل والمتفاقمة في بعض مستوياتها في وقتنا الراهن، ويكفي مؤشرا على ذلك أن ما أتاحه العصر من تكنولوجيا في الاتصال كشبكة الانترنت وإعلام فضائي عابر للقارات وما إلى ذلك؛ تحول إلى عدّة حرب للتناحر المذهبي لا تجد كلمةً سواء يمكن أن يتوحد عليها أبناء الملّة.

من هذا الواقع الإسلامي المثقل بأزمته الدينية وألوان أزماته المتعددة، والعالق في هامش من االعطالة الحضارية، تمدنا تجربة الشهيدين وبلحاظ التشابه الكبير في الأبعاد الشخصية لكليهما، والسمات الزمانية، والأدوار العلمية والتاريخية، بالكثير من الإضاءات التي إن عرفنا كيف نسقطها على بؤر العتمة في تجربتنا التاريخية فإنها تستحيل إلى دوائر من نور تعزز مظاهر الاستنارة المغتربة والمستوحشة وتتلاحم معها في أفق اجتراح زمن إسلامي مختلف وراشد.

ميزة الشهيدين أنهما انتسبا إلى مدرسة التشيّع وكانا وكما هو معروف وفق المعيار الاجتماعي ضمن الأقلية المذهبية في الفضاء السنّي الوسيع، فرتّب عليهما هذا الوضع وبحكم التنشئة العلمية والدينية لكليهما التزامات تمشي في اتجاهين، التزامات تتصل بطائفتهما وبتراثها العلمي استيعابا وتطويرا، والتزامات تجاه فضائهما الإسلامي الأوسع انفتاحا على مذاهبه الإسلامية ورتقا للفتق المذهبي المزمن في نسيجه الديني والاجتماعي على سبيل إرساء الاجتماع الإسلامي على التعدد في إطار الوحدة؛ وحدة أمة تقوم بدور الشهادة على الناس.

وسمة الانفتاح هذه والتي عبّر الشهيد الأول نفسه عنها في إجازته لابن الخازن بالقول: "وأما مصنفات العامة ومروياتهم فإني أروي عن نحو أربعين شيخا من علمائهم بمكة والمدينة، ودار السلام بغداد، ومصر ودمشق وبيت المقدس، ومقام إبراهيم الخليل.."، لم تكن انفتاحا محايدا بل انفتاحا تفاعليا يخضع لشروط الممارسة العلمية، وهذا ما انعكس بقوة على ذهنيته و في أحد أهم مؤلفاته "القواعد والفوائد" والذي لا يخلو من تأثر بالتدوين القواعدي الفقهي عند أهل السنة من قبيل "قواعد الأحكام في مصالح الأنام" لابن عبد السلام الشافعي(٦٦٦هـ) وكتاب الفروق للقرافي المالكي(٦۲۸هـ)، ولم يكن وصف الشهيد لكتابه هذا "لم يُعمل للأصحاب مثله"، إلاّ شهادة على أنه سلك فيه منهجية خاصة مميزة ومبدعة.

وكذلك الحال بالنسبة للشهيد الثاني الذيأحاط إحاطة واسعة بمختلف المذاهب الإسلامية في الفقه والحديث والتفسير، وكان في بعلبك يفتي كل فرقة بما يوافق مذهبها، ويدرّس فيها كتب المذاهب بأجمعها.

هذا الانفتاح على الآخر والانغماس في مدرسته وتجشم عناء الرحلات للتتلمذ على مشايخه، بل واعتبار ذلك تكليفا شرعيا، يدخل ضمن مشمولات التفقه بمعناه الواسع، واستحضار الرأي الآخر في الممارسة الفقهية بما حقق طفرة هائلة في الفقه المقارن مع الشهيد الأول في كتابه الذي لم يقدر له أن يكتمل "ذكرى الشيعة في أحكام الشريعة" والذي يعد بحق تطويرا نوعيا لكتاب "تذكرة الفقهاء" للعلاّمة الحلّي (٦٤۸هـ٧٢٦هـ) لجهة سعة استقصائه أدلة وروايات السنة والشيعة واستفاضته في تقييمه للآراء وعمق مباحثه.

وفضلا على المردود العلمي لهذا الانفتاح على صعيد المعرفة الدينية كما ألمحنا إلى ذلك، فإنّه يصلح لأن يمثل صاعقا قويا لظاهرة الانغلاق المذهبي والاستغناء بآراء المذهب والاكتفاء بها ذاتيا، كما هو سائد الآن بينا، وهو الانغلاق الذي يمثل ارتكاسة عن مراحل من تاريخ العلوم الإسلامية كانت فيها المعرفة محكومة لمنطق الجدل الداخلي بين الآراء والحساسيات المذهبية، فضلا عن تفاعلها وتأثرها بأنماط من المعرفة اليونانية والفارسية وغيرها.

أيضا يمكن أن نعتبر هذا الانفتاح؛ على طريقة الشهيدين؛ شرطا معرفيا، فلا معرفة حقّة إلا بالانفتاح على الأخر الذي نشترك معه في أهم مصادر التشريع ونحمل معه نفس الهوية الدينية ﴿..هو سمّاکم المسلمین من قبل وفي هذا لیكون الرسول شهیدا علیكم وتكونوا شهداء علی الناس../الحج٧۸، فيغدو الآخر شرطك المعرفي الذي لا تستوي معرفتك ولا تكتمل إلاّ به، وهذا قد يستدرج على الصعيد العلمي قطيعة مع منطق الاستعلاء والاكتفاء المعرفي الموهوم والمتسيّد على واقعنا الديني، ويفتتح دينامية جديدة في اتجاه المعارف الشيعية خاصة، باعتبار حجم التجافي عنها والإعراض عن مكتبتها ونفائسها يعدّ موقفا التزمه معظم الجمهور؛ إذا جوّزنا لنفسنا استعمال هذا التعبير؛ وذلك على عكس فقهاء الإمامية والذين على طول التاريخ كانت إحاطتهم –دائما- بآراء ومصادر أهل السنة ليست بأقل من إحاطتهم بآرائهم ومصادرهم الخاصة.

هذا كأثر علمي، أما أثره على الصعيد الاجتماعي فإنّ الانفتاح الذي يفترض العبور إليه عبر النقد والمراجعة وإعادة النظر في نمط علاقاتنا المذهبية قد يمهد الطريق نحو مشهد في العلاقات الإسلامية- الإسلامية قائم على تركزّ فكرة التعدد والاختلاف في الوعي الجمعي للأمة، بما يجعلها تتصالح مع نفسها وتعيد تأهيل نفسها للأدوار التي تنتظرها.

ويبقى أن نقول أنّ استحضار الشهيدين في مثل لحظتنا التاريخية القلقة هو في الواقع استحضار لنهج تداخلت فيه الخصوصية المذهبية بالهوية الدينية الجامعة، وانصهرت فيه فكرة التقريب بالسلوك الوحدوي الواعي، هو تلمس لمعالم مدرسة ترسم لنا خارطة طريق، خارطة تنتشلنا من التيه وتحدد لنا الاتجاه الصحيح، وعلى ضوء إشاراتها نتعلم كيف نعيش الانفتاح مع خصوصية الانتماء، وكيف نحيّد المعرفة عن الاعتبارات المذهبية، وكيف نلزم أنفسنا باحترام التعدد وتدبير الاختلاف على وفق الأصول والقواعد الأخلاقية، وكيف نعيش لأمة منذورة لأن تحتمل التعدد والاختلاف والتنوع في داخلها، بل تحميه وتصونه وتنمّيه وتترقّى به على مدارج الغنى الثقافي.

استحضار الشهيدين في بيروت وعلى مسافة من موطنهما، هو استحضار فيه مواءمة بين خصلة الشهيدين في الانفتاح وهويّة بيروت التعدد والتنوع والاحتضان الخلاّق لطوائفها ومذاهبها ولكل تياراتها الفكرية والسياسية، التعدد الذي لم يميّع بيروت أو هي تميّعت به بل على عكس ذلك؛ ازدانت به و منحها هوية مضافة اسمها المقاومة.

استحضار الشهيدين هو إضاءة على حقيقة مرّة وهي أنّ التعصب الديني الذي تربص بهما ونال منهما وهما في ذروة العطاء؛ لازال سمة مستشرية في نمط تديننا، وكأنّنا نراوح في نفس المحطة التاريخية.

أيضا استحضار الشهيدين يؤكد حاجتنا لبعض التراث لاجتراح نهضة لا زالت لم تعرف كيف تهتدي إلى لحظة مخاضها المأمول، حاجتنا إليه أكثر من حاجته –أي التراث- إلينا نحن تحت مسميات الإحياء أو استئناف النظر.

وثمة إضاءة أخيرة يحذوني الأمل في أن لا يغفلها المؤتمر وهي الكشف عن جدل الفقيه والمثقف في شخصية كلّ من الشهيدين، فالإطلاع على ثقافة عصرهم لا يضاهيهم فيها أحد، ومواصفات المثقف العضوي وفقاً لمحددات الفيلسوف الايطالي أنطونيو غرامشي الذي فرّق بين المثقف التقليدي والمثقف العضوي «النقدي» تنطبق عليهما، وتزداد عليها برساليتهما..رسالية انتهت بهما إلى الشهادة كوحدة مصير، مصير سيظل يؤرق العقل الراشد في الأمة، من خلال همس منبعث من كلّ جراحات التاريخ: بأي حق تهدر مثل هذه القيمة الإنسانية والعلمية التي تجسدت في الشهيدين؟ وإلى متى سيظل التعصب يتحكم في مسارنا ويختار لنا النهايات المؤلمة؟  

 

 

Facebook
Twitter
Telegram
Print
Email

اترك تعليقاً