أحدث المقالات
 
ليس بالأمر الجلل أن تسعى لفهم أفكاري و مواقفي و ادراك الغايات و الاهداف التي أعمل على تحقيقها، بالعكس فالتفاعل البشري العام قائم على التدافع ،كما أنه ليس بالمحرم أن تناقشني فيما أنتج من فكر أو قول أو عمل، لأن ذلك هو بمثابة الكاشف لنواقص ذلك كله، و المحفز لقدراتي على استدراك الثغرات و العثرات، هذه المقاربات كلها جديرة بالتمعن لدى الأفراد و الجماعات ضمن كل الأطر الحياتية سواء الثقافية و الدينية و الاجتماعية و السياسية و ما هنالك، لكنها تبقى شمولية و غير مضبوطة ما لم ترّشد أو تطّعم بفيتامينات الصدق و الانفتاح و الموضوعية و النزاهة و حفظ الكرامة و مساءلة مصاديق المقدس بعيدا عن صندوق الحقد و الصراع الغرائزي المأزوم، لأن معضلة العلاقات الانسانية و الاجتماعية تتمثل في اعتقادنا بنسبية و لاجدوائية النظرة النقدية لدى الآخر إلينا، بينما نلبس نقدنا للآخر زي الاطلاق و اللامحدودية و القداسة وحق الحكم في الملموس و المدسوس، لأننا نطلب العدالة و الحرية و الحاكمية من أجلنا و نقيد ذلك كله بالنسبة للآخر حسب مصالحنا و مشاريعنا و وفق آليات التنفيس عن محرجات ذواتنا …
السؤال الذي يزاحمنا في واقعنا الانساني العام و العربي الاسلامي الخاص و يلامس حساسياتنا اليومية و خصوصياتنا العامة و الخاصة هو: ماهية الآخر؟
هذا السؤال تتولد منه عدة أسئلة ثانوية ، الاجابة عنها من شأنها ترتيب و تنظيم و تطوير وعينا لماهية الآخر؟
لا يزال الانسان العربي و المسلم يعيش أزمة حياة تتعلق بعنوان الآخر ككل في الطبيعة و الحياة و الانسانية و الفكر و الرمز و الزمان و المكان و التاريخ و الدين و المذهب و الجنس و النوع و الشعور و الوجود ، هكذا صار الآخر سؤال تناقض (paradox) ضمن المجال العربي و الاسلامي، يلاحق البشر العرب في كل مواقع الوجود ليثير فيهم دفائن العقول به (الآخر)، لكن أزمة العقل العربي و المسلم المعاصر انحصرت في بوتقة الممانعة و المقاومة للآخر بكل تمظهراته الجوانية و البرانية، و لعل البرانية هي انعكاس للانغلاق المرضي الضاغط على الذات و المجتمع العربي و الاسلامي تجاه عناوين الآخر الجوانية…
بتأمل بسيط للأجواء العامة و المجهرية للواقع العربي و الاسلامي، نستوحي حالة من الفوضى و الارباك و التخلف و الرجعية و الانطوائية الماسكة بمحاور العلاقات العامة سواء على المستوى الثقافي أو الاجتماعي أو السياسي أو الاعلامي ، هناك رهاب فردي من المجتمع بكل محدداته (الثقافية و الاجتماعية و السياسية و الاقتصادية) و هناك رهاب اجتماعي من كل التحولات المنهجية في المعالم الثقافية و السياسية و الاقتصادية، أصبح الزمن العربي و الاسلامي الراهن محل حالة نفسية اجتماعية حرجة، اختلط فيها التأزم التاريخي المتراكم و التحدي التاريخي المعاصر في مشروع بناء وعي عربي اسلامي حديث بماهية الآخر…
لا مناص أن مأزق الآخر للعبور إلى عمق الواقع العربي و الاسلامي ليس بجديد أو قديم، بل هو ذلك كله نتيجة عوامل نفسية و اجتماعية ساهمت في عرقلة الصياغة الثقافية الجديدة للمسلمين عبر الزمن الاسلامي كله، كما أن الآخر الجواني هو ذلك التعدد المتعارك باسم الخصوصيات للقبض على الواقع المشترك و تسخيره لمآربه..
هناك جدلية اجتماعية مصدرها ترهل ثقافي و قصور سياسي، ساهمت في انقباض مسألة الآخر داخل المجال العربي و الاسلامي عبر التاريخ و بقائها ضمن الأطر الحساسة…
لعل المدخل الرئيسي لاستيعاب مأزق ماهية الآخر، يتحدد في بحث و دراسة ماهية الحوار لدى مكونات الواقع العربي و الاسلامي، من خلال تحريك الفعل الحواري وفق مناهج عملية مصدرها الدراسات الدقيقة للعوامل النفسية و الاجتماعية و المثبطات الثقافية التاريخية الرمزية ، حيث استهداف الخلاص من الرهاب الاجتماعي (كتضخم و انشطارات جوهرية في الوعي الاجتماعي العام) في مقابل ماهية الآخر، بحاجة لمشروع معرفي و ثقافي كبير مستقل عن السلطة و منفتح على أزمة المجتمع المركزية المتمثلة في فوضى الأفكار و صراع الارادات، و بالتالي يتأسس الاصلاح الثقافي على إحياء ثقافة الحوار و تقليص منطق الفوضى و الصراع و الاقصاء، بخلق فضاء حوار حقوقي واسع على مستوى الاعلام و الفعاليات الثقافية و اللقاءات الاجتماعية و محاولة فهم هندسة المعوقات المنهجية و الفعلية، بالاضافة الى ابتكار مؤشرات تحفيزية لتنمية الفضيلة الاجتماعية لقيم: التعارف، التسامح و التعايش …
كانت هذه محاور عديدة لرؤى و مطارحات نلحظها تقريبا يوميا ضمن حقل الانشغالات الثقافية العربية و الاسلامية ، حيث زاد وهجها خلال الايام الاخيرة، كتفاعل مع دعوة المملكة العربية السعودية لتأسيس مركز للحوار المذهبي، و ككل المثقفين و العلماء و الناشطين و المهتمين بمجال الحقوق و الحوار و الوحدة و التنمية ، أثمن هذه المبادرة و التي نأمل أن تتجلى حقائقها بواقع الاجتماع العربي و الاسلامي (سياسيا و حقوقيا و اعلاميا)، لأن انشاء المركز كدليل حضاري و خيار استراتيجي بالنسبة للأمن الاجتماعي للمسلمين بحاجة لمدلولات حقوقية و تشريعية و اعلامية مهمة ، و مكرسة لثقافات التعارف بدلا عن التناكر و التسامح بدلا عن الحقد المقدس، الانفتاح و التواضع بدلا عن الانطواء و النرجسية العمياء، التواصل بدلا عن التقاطع و التعاون بدلا عن التنازع، من أجل العبور من المجاملة إلى المصارحة و التناصح و التصالح كمرتكزات منهجية أساسية في مشوار الصياغة الاسلامية الثقافية الجديدة القادرة على استيعاب حقيقة الآخر في عمقها الاجتماعي العام و الباعثة للدور الحضاري المسؤول للمسلمين في ظل التحديات الكونية الراهنة و المستقبلية …
بكلمة: الآخر هو هذا الكل النسبي ضمن حقيقة ماهية الحوار في مشروع العيش المشترك و العدل الاجتماعي و السياسي و الحرية المسؤولة و الاحترام المتبادل بيننا من أجل السلام العام، لم أرد الخوض في توضيح الواضحات في النظرية الاسلامية بخصوص الآخر و الحوار و الحريات و التعارف و التسامح و التكافل ، فضلت التنبيه لحقيقة وحيدة: لابد من إخراج العقل العربي المسلم من غرفة الانعاش السياسية و التاريخية و الطائفية ، لأن أزمة قلبه الحضاري تتمثل في حرمانه من أوكسجين الهواء الطلق الاسلامي و خنقه بغازات التكفير و التفسيق و الاقصاء و الاستبداد الديني و السياسي…

هناك شروط نفسية و اجتماعية موضوعية خاصة بهذا المجال العربي الاسلامي ذات أبعاد حضارية و محددات إنسانية مهمة ، لابد من نفض الغبار عنها و التفكير في ايقاظها من سباتها العميق ، لأن البترول و الغاز لا يكون ذات قيمة و ثروة و نفع على المدى المتوسط و البعيد إلا بها …ببساطة إنها كرامة الانسان العربي و المسلم كإنسان بغض النظر عن خصوصياته العرقية و الدينية و المذهبية و الثقافية …و الله من وراء القصد.

__________________________________________

(*) كاتب و باحث من الجزائر
 
Facebook
Twitter
Telegram
Print
Email

اترك تعليقاً