أحدث المقالات

مبادئ تفسير النص المقدس – تجربة: في ظلال القرآن

السيد حيدر علوي نجاد(1)

 

لا ريب أنّ "في ظلال القرآن" هو واحد من أكثر الكتب قرّاءً، ومن التفاسير التي تركت تأثيراً كبيراً على حركة التفسير في القرن الهجري الرابع عشر. فهذا التفسير يجمع بين دفتيه جمال الأُسلوب وجاذبيته إلى الحركة الدافقة بالحيوية والحماس.

أجل، لقد كان باعث المؤلّف في أوائل رحلته مع التفسير هو الكشف عن الجوانب الجمالية في القرآن، حيث تحرّك خلال الشوط الأول في أفق النظرية الجمالية مجسداً تطبيقاتها في كتاب الله، تماماً كما كان رأيه في كتاب "التصوير الفنّي في القرآن". بيد أن دوام حضوره الجاد في ساحة العمل السياسي والاجتماعي، ومواجهته لمظاهر جاهلية العصر الحاضر، ثم أنسه بكتاب الله وملازمة الارتباط به، كلّ هذه الأسباب تحوّلت إلى حافز لكي يصل إلى رؤية عميقة ومنسجمة للقرآن دفعته إلى إعادة كتابة "في ظلال"، وتحريره ثانيةً، ليستقر في صورته الأخيرة التي حافظت على البُعد الجمالي لكنها غلَّبت الغاية والرؤية الهادفة على هذا البعد. مع تغليب الرؤية الثانية صار القرآن منهاجاً للحركة والعمل وهادياً يرسم معالم الطريق للتحرّك السياسي على مستوى الفرد والجماعة، ولا مناص من التعامل مع القرآن على أنه دستور لبناء المجتمع والإنسان الرّباني، إذا ما أردنا أن ننتفع به في الطريق إلى بناء المجتمع القرآني.

الهاجس الذي كان يضغط على "سيّد قطب" هو إعادة المسلمين إلى القرآن؛ إذ كان ينظر إلى دوره بنفس نظرة مسلمي صدر الإسلام إليه; فمهمة هذا الكتاب بناء المجتمع وتوجيه حركة الإنسان. تحقيقاً لهذه الغاية عرض في تفسيره لعدد من الأمور التي صارت بمنزلة الأصول لمنهجه التفسيري، حيث جاءت محاولته على هذا الصعيد تجمع بين بلورة أصوله النظرية وصياغتها على نحو محدّد وبين تطبيقها عملياً.

إنّ المعالم الأساسية لمنهجه لتبدو شاخصة للعيان ضاربة في شعاب تفسيره، وهي تؤلّف القاعدة العملية التي يستند إليها في العمل، بل هي بارزة في كل جزء ولها علامة دالة في كل سورة أحياناً. ولا شكّ في أنّ معرفة هذه الأصول ومتابعة هذه المبادئ، هي بمثابة المفتاح المركزي لمعرفة محتوى "في ظلال القرآن" ووعي منهجه. وهذه هي المهمة التي نذر لها البحث نفسه.

من الملاحظات الحَرِية بالانتباه، بادئ ذي بدء، هي التشابه الكبير بين أصول التفسير عند "سيّد قطب" ومبادئ تفسير النص المقدّس في إطار ما يطلق عليها بـ"الهرمنيوطيقا"(2)، بل هناك تطابق تقريباً من الوجهة العملية يبرز في المسار والأهداف والمادة الأساسية. انطلاقاً من هذه الملاحظة صار من أهداف هذا البحث الكشف عن تشابه نظريات سيّد قطب وأصوله التي يستند إليها في التفسير مع الأصول التي تبتني عليها الممارسة الهرمنيوطيقية، ما ألجأنا إلى استعراض رؤى "سيّد قطب" و مرتكزات عمله على نحو تفصيلي.

هل كان "سيّد قطب" على معرفة بنظريات الباحثين الغربيين في مجال "الهرمنيوطيقا" و "الهرمنيوطيقا الجديدة"، ومن ثمَّ أفاد منها في بيان المبادئ العامة والأصول الأساسية لفهم القرآن وتفسيره؟ أم استمدّ ذلك كلّه من الميراث التفسيري الهائل وانتهله من مباحث علوم القرآن ؟ أم أن الصحيح لا هذا ولا ذاك، بل هي آثار الحياة في أجواء القرآن والانغماس في ظلاله وأفيائه؛ حيث برزت هذه المعطيات عبر مواجهة الواقع العملي بتحولاته الاجتماعية، وما يزخر به من وقائع منظوراً إليها من زاوية قرآنية، كما أشار "سيّد قطب" إلى ذلك وركّز عليه مرّات في مقدّمة كثير من السور، وصار باعثاً دفعه إلى إعادة تحرير "في ظلال القرآن" ثانيةً؟

مع أنّ الاحتمالين الأولين غير مستبعدين، إلا أن الثالث أقرب إلى القبول، خاصة إذا أخذنا بنظر الاعتبار أن الصيغة الأخيرة التي استقرّ عليها "في ظلال القرآن" لم تأت نتيجة دراسات جديدة، بقدر ما هي حصيلة تجارب "سيّد قطب" وتأملاته وإعادة بناء أفكاره خلال مرحلة السجن وعذابات النظام الناصري الاشتراكي، حيث استوعبت المراجعة في الصيغة الثانية للظلال حتى أسلوب تصنيف الآيات وعرضها.

على أنّ ذلك لا يمنع من ملاحظة تفيد بأنّ نتائج الفكر الإنساني العميق ومعطياته تصير أقرب إلى بعضها وأكثر تشابهاً في ما بينها كلّما اقتربت نحو الحقيقة أكثر. فمن الممكن أن يلتقي معطىً فكريّ منبثق من الشرق مع آخر منبثق من الغرب عند نقطة واحدة تمثّلها الحقيقة.

هذه القاعدة لا تستثني من مداها أصول تفسير النصوص المقدسة والمناهج المستخدمة في هذا النطاق. صحيح أن الهرمنيوطيقا دخلت عهداً جديداً بعد نظريات شلايرماخر، وارتقت إلى آفاق واسعة حيث شملت النصوص جميعاً واكتسبت في موجتها التالية عنوان الهرمنيوطيقا الجديدة، لكن الصحيح أيضاً أن لمبادئ فهم النص وبخاصة النص المقدّس خلفية عريقة عند الأمم والشعوب كافة، لاسيّما على مستوى تأريخ التفسير عند المسلمين والميراث العظيم الذي يحظون به على هذا الصعيد. فعلوم القرآن هي الإطار الذي ضمَّ عند المسلمين العلوم الضرورية لفهم القرآن وتفسيره.

من هذا المنظور لم يتعاط البحث مع رؤى سيّد قُطب ومنهجه التفسيري على خلفية أنها مستمدة من الهرمنيوطيقا الغربية، بل تعامل مع "في ظلال القرآن" بوصفه تجربة تفسيرية، وحصيلة تأمّلات فكرية عميقة ومستبصرة لباحث مسلم عاش فكره من خلال صميم الواقع وعبر مُجْرَيات الحياة، دون أن يمنعنا ذلك من الإشارة إلى أوجه التشابه التي ينطوي عليها التفسير الذي ندرسه مع الهرمنيوطيقا والهرمنيوطيقا الجديدة.

لا يخفى أن بحثاً من هذا اللون يثير أسئلة واستفهامات كثيرة، خاصة وأن أصول الهرمنيوطيقا لم تستقرّ بعد على أسس ثابتة، ولم يجتمع منظورها على نسق موحّد.

مع هذا، تبقى قراءة هذه الدراسة بحاجة إلى اطلاع مسبق على أصول الهرمنيوطيقا التي تدخل في تكوين القاعدة التي تنهض عليها هذه الرؤية التطبيقية.

 

1 – الفهم أو المعلومات المسبقة للمفسّر

يقترن ظهور أي نمط من المعرفة الجديدة، سواء أكانت في صيغة الفهم أم في أسلوب البيان، بوجود فهوم مسبقة، كما تستند المعرفة الجديدة إلى معلومات قبلية على الدوام؛ بحيث لا يمكن لأي مفسّر أن يأتي بأفكاره ويؤسّس لمعارفه من العدم مطلقاً. فإذا انعدمت المعرفة القَبْلية بموضوع معيّن؛ بحيث لم يكن للمفسّر أي ضرب من الاطلاع على ذلك الموضوع، فلن تكون هناك إرادة لفهمه ولن تظهر الرغبة في بيانه والتعاطي معه. انطلاقاً من هذه الزاوية يحتاج المفسّر لفهم النص إلى معرفة مطالب حيال ذلك النص يستطيع بواسطتها أن ينفذ إلى دائرة النص، ويخرج من خلال ذلك بفهم عميق من حوله.

على هذا يعتقد قطب أن التفسير الصحيح للقرآن يرتكز إلى اطلاع المفسّر على أمور ذات صلة بالقرآن وإيمانه بأصول مرتبطة به، تكوّن له قاعدة مسبقة في الفهم من دونها لا يستطيع أن يستفيد من القرآن. على مفسّر القرآن وقارئه أن ينتبه إلى أن هذا الكتاب هو الدستور الإلهي للبشرية وليس مجرّد كلام يُقرأ: «إن هذا القرآن ليس مجرّد كلام يُتلى، ولكنه دستور شامل، دستور للتربية، كما أنه دستور للحياة العملية»(3).

يعتقد قطب أنه بمثل هذه القاعدة من الفهم المسبق، تكون معارف القرآن ذات معنى بالنسبة لنا، و توجيهاته حيّة اليوم؛ بحيث يتسنّى لنا أن نفهم المغزى الذي تريده مفاهيمه، والمقصد الذي يرجوه، حيث يقول في تتمة النص السابق: «ومن ثمّ فقد تضمّن ]القرآن بوصفه دستوراً شاملاً للتربية والحياة الاجتماعية العملية للإنسانية[ عَرضَ تجارب البشرية بصورة موحية على الجماعة المسلمة التي جاء لينشئها ويربّيها، وتضمّن بصفة خاصة تجارب الدعوة الإيمانية في الأرض من لدن آدم (عليه السلام) وقدّمها زاداً للأمة المسلمة في جميع أجيالها. تجاربها في الأنفس، وتجاربها في واقع الحياة، كي تكون الأمة المسلمة على بيّنة من طريقها، وهي تتزوّد لها بذلك الزاد الضخم، وذلك الرصيد المتنوّع»(4).

مالم ينطلق الإنسان من مثل هذا الوعي إلى القرآن لا يستطيع أن ينتفع به مطلقاً. هذا ما يؤسّس له قطب على ضوء ما مرّ، وهو يكتب: «ولن ننتفع بهذا القرآن حتى نقرأه لنتلمس عنده توجيهات حياتنا الواقعة في يومنا وفي غدنا، كما كانت الجماعة المسلمة الأولى تتلقاه لتتلمس عنده التوجيه الحاضر في شؤون حياتها الواقعة. وحين نقرأ القرآن بهذا الوعي سنجد عنده ما نريد، وسنجد فيه عجائب لا تخطر على البال الساهي! سنجد كلماته وعباراته وتوجيهاته حيّة تنبض وتتحرك وتشير إلى معالم الطريق، وتقول لنا: هذا فافعلوه وهذا لا تفعلوه. وتقول لنا: هذا عدوٌ لكم وهذا صديق. وتقول لنا: كذا فاتخذوا من الحيطة وكذا فاتخذوا من العدة. وتقول لنا حديثاً طويلاً مفصّلاً دقيقاً في كل ما يعرض لنا من الشؤون» (5).

القرآن كتاب هداية، أجل هذا صحيح، بيدَ أن الصحيح أيضاً أنه لا يفصح عن مكنوناته في كل موقف، ولا يمحض هداه أياً كان، بل هم المتقون أولئك المؤهلون للانتفاع بهداه، على ما ينطق به القرآن نفسه: ﴿هدىً للمتّقين﴾. والمتقون هم: ﴿الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ * والَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ وَبِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ﴾(6). وفي ذلك يسجّل "سيّد قطب" عن القرآن: «الهدى حقيقته، والهدى طبيعته، والهدى كيانه، والهدى ماهيّته، ولكن لمن؟ لمن يكون ذلك الكتاب هدىً ونوراً ودليلاً ناصحاً مبيناً؟ للمتقين»(7).

يتحوَّل هذا الفهم المُسبق للحقائق الموجودة ما وراء العالم المحسوس إلى أبرز منشأ يهيئ لتلقي هدى القرآن والفيء إلى ظلاله و الانتفاع به.

من العناصر الأساسية الأخرى التي تدخل في إنشاء قاعدة فهم مسبقة للقرآن على ما يذهب إليه صاحب الظلال، هي وحدة خالق القرآن والإنسان والوجود. انطلاقاً من هذا التوحّد يذهب "سيّد قطب" إلى أن طريقة القرآن تتجلى في مخاطبة الفطرة البشرية، وتأسيساً عليه يسعى "سيّد قطب" إلى أن يكشف أنَّ أسلوب خطابات القرآن يتلطّف إلى النفوس في بساطة ويسر، ويحرص على إيقاظ الفطرة بمخاطبتها(8): «إن طريقة القرآن في مخاطبة البشرية تدلّ بذاتها على مصدره، إنه المصدر الذي صدر منه الكون. فطريقة بنائه هي طريقة بناء الكون. فمن أبسط المواد الكونية تنشأ أعقد الأشكال، وأضخم الخلائق. الذرة يُظن أنها مادة بناء الكون، والخلية يُظن أنها مادة بناء الحياة، والذرة على صغرها معجزة في ذاتها، والخلية على ضآلتها آية في ذاتها. وهنا في القرآن يتخذ من أبسط المشاهدات المألوفة للبشر مادة لبناء أضخم عقيدة دينية وأوسع تصوّر كوني»(9).

يومئ "قطب" إلى الحقيقة ذاتها في موضع آخر من "في ظلال القرآن"، وهو يكتب: «إنّ القرآن حقيقة ذات كينونة مستمرة كهذا الكون ذاته. الكون كتاب الله المنظور، والقرآن كتاب الله المقروء، وكلاهما شهادة ودليل على صاحبه المبدع، كما أن كليهما كائن ليعمل. والكون بنواميسه مازال يتحرّك ويؤدي دوره الذي قدّره له بارئه.

الشمس مازالت تجري في فلكها وتؤدي دورها، والقمر والأرض وسائر النجوم والكواكب لا يمنعها تطاول الزمان من أداء دورها، وجدة هذا الدور في المحيط الكوني. والقرآن كذلك أدى دوره للبشرية، وما يزال هو هو. فالإنسان ما يزال هو هو كذلك، ما يزال هو هو في حقيقته وفي أصل فطرته. وهذا القرآن هو خطاب الله لهذا الإنسان، خطاب لا يتغير؛ لأن الإنسان ذاته لم يتبدّل خلقاً آخر… والقرآن يخاطبه في أصل فطرته وفي أصل حقيقته التي لا تبديل فيها ولا تغيير»(10).

تأسيساً على هذه الرؤية وانطلاقاً من هذه القاعدة في الفهم ذهب قطب إلى أن مخاطب القرآن هو "الإنسان" وليس قوماً خاصاً أو نحلة معيّنة، بل هي الإنسانية جمعاء تستوي في خطاب القرآن، والقضية الأساسية لهذا الدين، قضية العقيدة: «لقد كان يُخاطب بهذه القضية "الانسان"، الإنسان بما أنه إنسان. وفي هذا المجال يستوي الإنسان العربي في ذلك الزمان والإنسان العربي في كل زمان. كما يستوي الإنسان العربي وكل إنسان، في ذلك الزمان وفي كل زمان»(11).

إن ضروباً من الفهم كهذه تتألف من مقولات تفيد بأن القرآن كتاب هداية، وأن منشأ وجود الإنسان والكون والقرآن واحد، وأن خالق الإنسان الذي هو أعرف الجميع بوجوده، وأدرى منهم بشؤونه هو الذي بعث إليه هذا الكتاب لهدايته، وأن مخاطب القرآن هو العقل والفطرة ونفس الإنسان; عندما تدخل هذه المقولات في تكوين وعي المفسّر، وتتحوّل إلى قاعدة مسبقة لفهمه، تسعفه ليدرك من القرآن ما يعجز عن إدراكه المنكرون لعالم الغيب، وينتهل من معانيه ما يُحرَم منه الآخرون.

 

2 – علائق المفسر وما يرجوه

من المقدمات الأساسية لفهم طبيعة علاقة المفسّر بالنص وما يترقبه منه ; هذه العلاقة التي تدفعه إلى فهم النص ومساءلته. إن الإنسان يعرض لأي سؤال على أساس علاقة خاصة بالنص وانطلاقاً من ترقّب محدد، ولا ريب في أن هذه العلاقة الخاصة بالنص وما يرجوه منه لهما صلة بفهمه المسبق ومعلوماته القبلية، التي تعدّ بدورها مقدمات السؤال، ومن ثمّ فإن السؤال مسبوق على الدوام بعلاقة خاصة وحاجة محددة يرجوها السائل.

على هذا ينبغي أن ننظر ما الذي نبتغيه من القرآن بوصفه كتاباً دينياً؟ ثمّ هل هناك تأثير لهذا الذي نرجوه منه في فهمنا للقرآن فهماً صحيحاً؟ كما ينبغي لنا أن نحسم رؤيتنا لمحتويات هذا الكتاب، فهل ترانا ننظر إليه على أنه كتاب يقتصر محتواه على قضايا الآخرة وتنظيم علاقة الإنسان بالله أم أنه كتاب ينظم محتواه علاقة الإنسان مع الله، والإنسان مع الطبيعة، وتأخذ حقائقه طابعاً يشمل جميع أبعاد حياة الإنسان الفردية والاجتماعية والدينية؟

هذه جميعاً أسئلة تملي الإجابة عليها دراسة رؤى سيّد قطب في هذا المجال عبر عدد من المحاور والعناوين التالية:

        فلسفة الدين عند قطب.

        خاتمية الرسالة وخلود القرآن.

        أصالة الوحي ونفي مركزية العقل.

        نفي التسامح الديني.

        وعي المفهوم من خلال الواقع.

        الفرضيات الكلامية المسبقة (12).

 

فلسفة الدين عند قطب

واحدة من المسبقات القَبْلية المهمة التي ينطلق منها مفسّرو النص الديني هي طبيعة التعريف الذي يحددونه للدين، وما الذي يرتجونه منه.

كأن سيّد قطب كان منتبهاً إلى أهمية هذه النقطة بتركيزٍ، حين أولاها الأهمية التي تستحق، في مقدمة تفسيره. وكأنه كان يعرف أن أهل البحث والتدقيق يفتشون عن رؤيته حيال الدين والوحي والقرآن، وأن لهذه الرؤية الخاصة تأثيراً مهماً في صوغ الفضاء الذي يتحرك ضمنه فهم المفسر ولها أثرها في توجيه تفسيره؛ لذلك كلّه تراه عَرَض إلى دور الدين في بناء الحياة المعنوية والمادية للإنسان، وأجواء السكينة التي تفيض على الإنسانية لو فاءت إلى أمر الله وعاشت حياتها في ظلال القرآن وتحاكمت إليه وحده في شؤونها جميعاً(13).

لقد أبان رؤيته في المنطقة التي يستوعبها الدين ومدى ما يسجله من حضورٍ، في كتاب "خصائص التصوّر الإسلامي ومقوِّماته"، حين ذكر صراحةً أن الدين هو مجموعة نظم ربانية تستهدف تنظيم الحياة البشرية برمّتها، وأنه يستوعب جميع فعاليات الحياة وأنشطتها دون أن يشذّ عن ذلك شيء.

للقرآن من منظور سيّد قطب رؤية عقيدية متكاملة تفي بتلبية جميع احتياجات المجتمع الإنساني، وللمعرفة الإسلامية مدارات متسعة تمتد لتشمل :

1 – المؤسسة الأخلاقية التي تتضمن الأصول الأخلاقية والمبادئ التي تحفظ المجتمع وتصونه.

2 – الأجهزة السياسية التي تندرج بها أنظمة الدولة وشكل الحكم وخصوصياته.

3 – النظام الاجتماعي وما يلحق به من عوامل لها دورها في ثباته واستقراره.

4 – النظام الاقتصادي الذي تلتحق به الفلسفة التي يستند إليها والأجهزة التي يقوم عليها هذا النظام.

5 – العلاقات الدولية والنظام العالمي.

يؤمن سيّد قطب بأن الإسلام سيحكم البشرية وهو خيارها الوحيد في مستقبلها؛ لأن فيه جميع ما يكفل لها السعادة في الحياة الاجتماعية مُصاغة على نحو عضوي قوي ومتماسك (14).

وكان يعيش قلقاً كبيراً لابتعاد النظم الاجتماعية والسياسية والقانونية، وانفصالها في المجتمعات الإسلامية عن تعاليم الدين وأحكامه. وهو يرجع هذه القطيعة بين المسلمين ودينهم إلى الاستعمار والأجنبي الذي لجأ إلى ذلك؛ لغرض فرض الهيمنة الثقافية على المسلمين. لهذا كلّه تحرّك في طريق إعادة الأمة الإسلامية إلى استقلالها الفكري والعلمي والسياسي والاجتماعي، من خلال إبراز ما يحظى به هذا الدين من شمول وقدرات كفيلة باستيعاب حاجات الأمّة على هذا الصعيد، كما تشير إلى ذلك جهوده الفكرية وما نهض به من كتابات ومؤلفات (15).

الربانية والثبات والشمولية والواقعية والوحدة تأتي في طليعة خصائص التصوّر الإسلامي وتدخل في أهم مقوّماته عند سيّد قطب (16).

انطلاقاً من هذه الرؤية وتأسيساً على هذه المسلمات في الفهم اتجه "سيّد قطب" صوب تفسير القرآن، فجاءت نظرته إلى القرآن وما يرتجيه منه تختلف عن كثير من المفسرين. فليس القرآن كتاباً للعُبّاد والعارفين وحسب، ولا هو بكتاب العلم التجربي أو الفلسفي، بل هو كتاب حركة وواقع، وهذه الصفة في النظر إلى القرآن والتعاطي معه هي التي جعلت منهجيته في التفسير تشتهر بعنوان "المنهج الحركي".

يكتب: «ونحن نؤكد على هذه السمة في هذا القرآن، سمة الواقعية الحركية؛ لأنها في نظرنا مفتاح التعامل مع هذا الكتاب وفهمه وفقهه وإدراك مراميه وأهدافه»(17).

 

خاتمية الرسالة وخلود القرآن

من بين المسبقات التي دخلت في إنشاء قاعدة الفهم عند مفسري القرن الرابع عشر الهجري، و كان لها دور خطير في بناء رؤيتهم لما يرتجونه من القرآن، هي مسألة خاتمية هذا الدين ورسالة سيّد المرسلين (صلى الله عليه وآله) وخلود القرآن؛ حيث لم يكن سيّد قطب بدعاً من هؤلاء ولم يشذّ من بينهم في العناية بهذه المسألة. فمن يؤمن بالحكمة من وراء هذا الوجود، ويعتقد بحقانية الوحي وكماله وواقعيته، ثمّ يعرف أن الله قد بعث إلى البشرية آخر رسالات السماء والكتاب الأخير الذي لن يتلوه كتاب، حاثاً إيّاه للالتزام به أبداً و التمسك بحجزته دائماً وإلى آخر شوط للإنسانية واليوم الأخير من أيامها على الأرض، فلابد من أن يذعن بأن هذا القرآن  يلبي جميع الاحتياجات؛ لكي يكون المرجع الأخير، والثابت الذي لا يريم ولا يتغيرَّ مطلقاً.

انطلاقاً من اعتقاده بخاتمية الرسالة وخلود قرآنها راح سيّد قطب يبحث عن سرّ الخلود من خلال "تناسق القرآن مع فطرة الإنسان"، فالتدبّر في هذه الخصلة هو القمين بحلّ هذا اللغز وإماطة اللثام عنه. فالمتأمل في ركب الإيمان يشهد توالي موكب الرسالات منذ فجر البشرية حتى رسالة خاتم النبيين، حيث مضى كل رسول – قبل خاتم الرسل – مبعوثاً برسالة خاصة لمجموعة خاصة ولمرحلة من الزمان، حتى إذا أراد الله أن يختم رسالاته إلى البشر، أرسل إلى الناس كافة رسولاً خاتم النبيين برسالة لـ"الإنسان" لا لمجموعة من الأناسي في بيئة خاصة وفى زمن خاص ولمرحلة خاصة، رسالة تخاطب "الإنسان" من وراء الظروف والبيئات والأزمنة؛ لأنها تخاطب فطرة الإنسان المركوزة في الناس أجمعين، والتي لا تتبدل ولا تتحور ولا ينالها التغيير(18).

يكتب: «وفصّل في هذه الرسالة شريعة تتناول حياة الإنسان من جميع أطرافها، وفي كل جوانب نشاطها، وتضع لها المبادئ الكلية والقواعد الأساسية في ما يتطور فيها ويتحور بتغير الزمان والمكان، وتضع لها الأحكام التفصيلية والقوانين الجزئية في ما لا يتطور ولا يتحوّر بتغيّر الزمان والمكان، وكذلك كانت هذه الشريعة بمبادئها الكلية وبأحكامها التفصيلية محتوية كل ما تحتاج إليه حياة الإنسان منذ تلك الرسالة إلى آخر الزمان» (19).

يسجّل سيّد قطب أنه لم يجد نفسه مرة واحدة وهو في مواجهة الموضوعات الأساسية، في حاجة ولو إلى نص واحد من خارج القرآن والنص النبوي، بل اكتفى بهما كما أثبتت ذلك تجربته الطويلة في البحث والدراسة على ما يذكر.(20)

لقد انطلق قطب من هذه الرؤى والمعتقدات التي تراها مبثوثة في كل جزء من "الظلال" ودأب على تكرارها؛ ليرسخ عند المخاطبين القناعة التي تفيد أنه ينبغي لهم أن يقرأوا القرآن ويتعاطوه بوصفه  كتاب الأمس وكتاب الحاضر والمستقبل.

 

أصالة الوحي ونفي مركزية العقل

يكتب سيّد قطب في معرض توضيح العلاقة بين العقل الإنساني والوحي الإلهي، ما نصه: «وهذا يقتضي أن تكون لدين الله حقيقة ثابتة يرجع إليها العقل البشري بمفهوماته كلها، فيعرضها على هذا الميزان الثابت، وهناك يعرف صحيحها من خاطئها، والقول بأن دين الله هو دائماً "مفهوم البشر لدين الله" وأنه من ثمّ "متطوّر في أصوله" يعرّض هذه القاعدة الأساسية في دين الله – وهي ثبات حقيقته وميزانه – لخطر التميّع والتأرجح والدوران  المستمر مع المفهومات البشرية؛ بحيث لا يبقى هنالك ميزان ثابت تُعْرَض عليه المفهومات البشرية. والمسافة قصيرة بين هذا القول، والقول بأن الدين من صنع البشر، فالنتيجة النهائية واحدة».(21)

برغم تمجيد قطب لدور العقل في فهم الوحي وامتداحه له في إدراك المعارف الدينية، تراه يرفض وعلى نحو مطلق نزعة التمركز العقلي ونصب العقل محوراً، وأن يخضع تفسير القرآن إلى فرضيات عقلية مسبقة لا فرق في أن تكون هذه المسبقات من ضرب المقولات  المنطقية والفلسفية والمباحث العقلية المحضة أو تلك المخلوطة من التجربة والعقل. فالموقع الخليق بالعقل، هو أن يقعد بين يدي الوحي كما المتعلم أمام الأستاذ، لا أن يتحول إلى أستاذ ليحاكم بمقرراته الخاصة مقررات الدين أو يمارس التقنين بدلاً من الدين.(22)

 

نفي التسامح في الدين

لا معنى للتسامح في الدين من منظور سيّد قطب الذي يرى في هذا بضاعة من ثقافة الغرب ونفوذها، مضافاً لكونها من إيحاءات المستشرقين وغير المسلمين. فبعد أن ثبتت أصالة شيء وأنه جزء لا ينفك من الوحي والدين والشريعة، فلا معنى لتركه أو التهاون به ولو كان ضئيلاً بتعلة التساهل وجذب غير المسلمين.

الإسلام خاتم الأديان وشريعته آخر الشرائع، يترتّب على هذه الحقيقة مقتضياتها المباشرة، منها: ﴿فَاحْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ عَمَّا جَاءكَ مِنَ الْحَقِّ﴾(23). لقد عرض اليهود على رسول الله (صلى الله عليه وآله) أن يؤمنوا له إذا تصالح معهم على التسامح في أحكام بعينها، بيدَ أن الإسلام رفض ذلك، وأعرض عن المنطق الذي يذهب إلى التساهل في أمر الدين والتفريط بشيء من الشريعة مهما كان قليلاً، مراعاة للاعتبارات والملابسات وتأليفاً للقلوب.(24)

لقد كان سيّد قطب عنيفاً في مواجهة المستشرقين والتحذير من دورهم الخطر في إضعاف معتقدات المسلمين، وأن مستشرقاً كمنتغمري واط وأضرابه ما هم إلا رموز في حركة التزييف والتزوير التي تستهدف هدم الإسلام وضربه من خلال التمجيد به أحياناً.

 

وعي المفهوم من خلال الواقع

يذهب سيّد قطب إلى أن فقه هذا الدين لا يُنال من خلال الأجواء الراكدة والأروقة المغلقة، ولا يأتي عبر الدراسات النظرية الباردة، إنما يُدرَك هذا الدين في مضمار العمل ويتمّ التفقّه به في مجرى الحياة الدافق، وعبر النفير والخروج والجهاد والحركة بهذه العقيدة. هذا هو الطريق الوحيد – برأيه – لإدراك الدين والتفقه به ونيل معارفه.

انطلاقاً من هذه الرؤية، ذهب في تفسير الآية (122) من سورة التوبة إلى بيان يختص به. فعند تفسير قوله (سبحانه): ﴿وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُواْ كَآفَّةً فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُواْ إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ﴾، قال: «والذي يستقيم عندنا أن تنفر من كل فرقة منهم طائفة، لتتفقه في الدين بالنفير والخروج والجهاد والحركة، وتنذر الباقين من قومها بما رأته وما فقهته من هذا الدين في أثناء الجهاد والحركة. إن هذا الدين منهج حركي لا يفقهه إلا من يتحرك به، فالذين يخرجون للجهاد به هم أولى الناس بفقهه بما يتكشف لهم من أسراره ومعانيه، وبما يتجلَّّى لهم من آياته وتطبيقاته العملية في أثناء الحركة به.

ولعل بعضهم يظن أن المتخلفين عن الغزو والجهاد والحركة هم أولى للتفقه به لتفرغهم للدراسة والبحث والتحليل، بيدَ أن التجارب تجزم بأن الذين لا يندمجون في الحركة بهذا الدين لا يفقهونه مهما تفرغوا لدراسته في الكتب دراسة باردة، وأن اللمحات الكاشفة في هذا الدين إنما تتجلى للمتحركين ولا تتجلى للمستغرقين في الكتب العاكفين على الأوراق».(25)

يؤمن مؤلف "في ظلال القرآن" أن الفهم الصحيح لمعارف الدين وأحكام الشريعة رهين بحركة هذا الدين على أرض الواقع. فإذا ما تمت الحاكمية للإسلام، وقرّر المجتمع أن تكون شريعة الله شريعته، فحينئذ ينبثق الفهم الصحيح الموصول بالواقع وما يحفل به من ملابسات وأجواء. أما حينما تغيب حاكمية الإسلام وشريعته، وتبتعد الشقة بين المنظرين الدينيين ومضامير المجتمع والميادين التي يفترض أن تتحرك من خلالها النظريات، فلا يمكن أن ننتظر انبثاق الفهم النافذ والإدراك الصحيح للدين، ولا أن ننتظر تجدّد الفقه وازدهاره. فالفقه الإسلامي وليد الحركة الإسلامية، ومن ثمّ: «إن الفقه الإسلامي لم ينشأ في فراغ، كما أنه لا يعيش ولا يُفهم في فراغ. لقد نشأ الفقه في مجتمع مسلم، ونشأ من خلال حركة هذا المجتمع في مواجهة حاجات الحياة الإسلامية الواقعية».(26)

 

الفرضيات الكلامية المسبقة

لم يتجه سيّد قطب تلقاء تفسير القرآن وهو محمّل بقواعد الفهم المسبقة للأشاعرة والمعتزلة، بل سعى إلى صَوغ أسس رؤيته الكونية، وأخذ مبادئ عقيدته من القرآن مباشرة، دون أن يقع ضحية القوالب الكلامية المعروفة ويصير أسير أطرها وفرضياتها ومقولاتها. من هذا المنظور رفض الإذعان إلى مسبقات يحتكم إليها في النظر إلى القرآن، بل دأب على الاستمداد من القرآن، ومن ثم تقويم أفكاره والحكم على عقائده من خلال القرآن نفسه، كما ذكر ذلك في كتاب « خصائص التصوّر الإسلامي ومقوماته» مؤكداً  أن هذا هو المنهج الصحيح.(27)

أشار في تفسيره مرّة إلى اختلافات المذاهب الكلامية وتأثير الفلسفة اليونانية فيها، وعندها أفصح عن موقفه منها، وهو يقول: «وقضية الجبر والاختيار كثر فيها الجدل في تأريخ الفكر الإسلامي بين أهل السنة والمعتزلة والمجبرة والمرجئة، وتدخلت الفلسفة الإغريقية والمنطق الإغريقي واللاهوت المسيحي في هذا الجدل، فتعقَّد تعقيداً لا تعرفه العقلية الإسلامية الواضحة الواقعية، ولو أخذ الأمر بمنهج القرآن المباشر الميسّر الجادّ ما اشتدّ هذا الجدل، وما سار في ذلك الطريق الذي سار فيه».(28)

يتساءل في موقع آخر بعد أن عرض لتأويلات غير صحيحة تناول بها بعضهم شيئاً من الأمور الغيبية والخوارق وغوامض القرآن: «من أين جاءوا بهذا؟ من أين جاءوا بهذه المقررات التي يحاكمون إليها نصوص القرآن والحديث ؟» ليُجيب على ذلك بقوله: «فسبب هذا ]التأويل [عندهم أنهم يجيئون إلى القرآن بتصورات مقررة سابقة في أذهانهم أخذوها من مصادر أخرى غير القرآن، ثم يحاولون أن يفسّروا القرآن وفق تلك التصورات السابقة المقررة في أذهانهم من قبل».

يضيف بعد ذلك موضحاً النهجَ الأمثل للتعاطي مع كتاب الله: «إن الطريق الأمثل في فهم القرآن وتفسيره، وفي التصور الإسلامي وتكوينه، أن ينفض الإنسان من ذهنه كل تصور سابق، وأن يواجه القرآن بغير مقررات تصورية أو عقلية أو شعورية سابقة، وأن يبني مقرراته كلها حسبما يصوّر القرآن والحديث حقائق هذا الوجود. ومن ثم لا يحاكم القرآن والحديث لغير القرآن، ولاينفي شيئاً يثبته القرآن ولا يؤوِّله، ولا يثبت شيئاً ينفيه القرآن أو يبطله، وما عدا المثبت والمنفي في القرآن، فله أن يقول فيه ما يهديه إليه عقله وتجربته».

ثمّ يستأنف القول مضيفاً: «نقول هذا بطبيعة الحال للمؤمنين بالقرآن، وهم مع ذلك يؤوِّلون نصوصه هذه لتوائم مقررات سابقة في عقولهم، وتصورات سابقة في أذهانهم لما ينبغي أن تكون عليه حقائق الوجود».(29)

وعن تجربته الخاصة ومدى أمانته في الالتزام بهذا النهج يسجل سيّد قطب، معترفاً: «وما أبرئ نفسي أنني في ما سبق من مؤلفاتي وفي الأجزاء الأولى من هذه الظلال قد انسقت إلى شيء من هذا، وأرجو أن أتداركه في الطبعة التالية إذا وفَّق الله».(30)

 

3 – الاهتمام بالأفق التأريخي للنزول أو ظهور النص

من العناصر الضرورية التي تَبْرُزُ في فهم أي نص، هي أن نعرف ما الذي كان يبتغيه صاحب النص في لحظة انبثاق النص، وما الأهداف التي كان يتوخّاها في عصر ظهوره؟ فإذا ما كان البحث يدور حول الكتابات الإنسانية، فينبغي أن نعرف ما الذي كان يريده المؤلف، وما هي الهواجس الفكرية التي تشغله وتلح على عقله أو الواقعيات النفسية الإنسانية أو الاجتماعية الإنسانية التي دفعته إلى إنشاء النص؟ كما يتعين معرفة طبيعة الأجواء والأوضاع التأريخية التي تحدّث خلالها؟ كما تتحتم معرفة طبيعة الأجواء التي تحيط المخاطبين بالكلام والأوضاع التأريخية التي كانت تلمّ بهم، مضافاً إلى إدراك المعطيات العلمية لعصره وإمكاناته اللغوية في إنشاء النص نطقاً أو كتابة. بتعبير آخر، ينبغي إدراك النص جيداً في أفق عصره ومداه الزمني ومجاله التأريخي.

لقد انتبه سيّد قطب إلى هذه المسألة وأولاها عناية خاصة، وراح يركز على ضرورة قراءة النص القرآني في إطار مناخه التأريخي الخاص وعبر أفقه الزمني والأجواء التي تحيط به. ففي مقدمة كل سورة دأب على بيان الوضع التأريخي والموضوع الخاص في عصر النزول الذي أملى نزول السورة بأكملها أو مجموعة من آياتها، وما كان يحفّ ذلك من وقائع وحوادث سبقت النزول أو اقترنت معه; لقد دأب على أن يفعل ذلك كلّه مقدمة كل سورة تارة بإسهاب وأخرى باختصار، ليخلص من ذلك إلى تحديد شأن النزول وتشخيص زمان السورة ومكانها عبر رؤية نقدية دقيقة.

استطاع سيّد قطب عبر مساوقة شؤون النزول المروية مع سياق الآيات، وتحريكهما في أفق واحد، أن يخرج بمكاسب كثيرة، كما استطاع أن يكشف عبر هذه المزاوجة عن نقاط دقيقة ويتوفر على دراستها وتحليلها. يكتب في مقدمة سورة الأنفال، وهي من السور المدنية، ما نصه: «نزلت سورة الأنفال… في شهر رمضان من العام الثاني للهجرة بعد تسعة عشر شهراً من الهجرة على الأرجح».(31)

ينعطف "سيّد قطب" بعد ذلك وعبر ما سمّاه بمبدأ الإلمام بالملابسات التأريخية لكل سورة، والاستئناس بهذا في إيضاح الجو والملابسات المحيطة بالنص ;(32) ينعطف بعدئذ إلى بيان الوقائع التي احتضنتها تلك السنة، وبخاصة غزوة بدر الكبرى، فيدرس بالتفصيل موقف الإسلام من الجهاد، ناقلاً النظريات الخاطئة على هذا الصعيد معرّضاً بها وناقداً لها، مشيراً إلى أن الوعي التأريخي للسورة هو بمنزلة المفتاح لفهم الجهاد ومراحله في الإسلام والقرآن فهماً سليماً معافىً من الزيف والخطأ والانحراف. إن المقدمة المفصَّلة التي يسوقها سيد قطب على هذا الصعيد أحرى بها أن تتحول إلى رسالة مستقلة قائمة بذاتها تحوي كثيراً من الحقائق القرآنية، وتضيء من المسائل ما له مساس بتأريخ صدر الإسلام؛ لتكون في النتيجة القاعدة التي على أساسها تتهيأ أرضية الفهم الصحيح لسورة الأنفال وجميع ما له شأن من الآيات بالجهاد الإسلامي.(33)

يقول "سيّد قطب" موضحاً: «في هذه الغزوة التي أجملنا عرضها بقدر المستطاع نزلت سورة الأنفال، نزلت تعرض وقائع الغزوة الظاهرة، وتعرض وراءها فعل القدرة المدبرة، وتكشف عن قدر الله وتدبيره في وقائع الغزوة، وفي ما وراءها من خط سير التأريخ البشري كلّه، وتحدث عن هذا كلّه بلغة القرآن الفريدة وبأسلوب القرآن المعجز، وسيأتي تفصيل هذه المعاني في ثنايا استعراض النصوص القرآنية».(34)

عندما يمضي قدماً في تفسير آيات السورة يستمد من المقدمة، ليكتشف على ضوئها فهماً صحيحاً للنص القرآني ينطلق من أفق زمان النزول، ثم يمدّ ذلك ويعممه على مدار الزمان والمكان.

 

4 – تحديد المركز المعنوي للنص

المركز المعنوي  للنص هو القاعدة الأساسية والنواة الأصلية التي تستند إليها محتويات النص وتعود إليها أفكاره، ومن ثم فإن فهم النص هو قيد إدراك هذه الرؤية الأصلية ومنوط بإصابة هذا المحور الأساسي. بعبارة أخرى، لا يستطيع المفسر تفسير النص، إلا بعد الإيمان بوجود ضرب من الوحدة التي تتخلل النص والإقرار بوجود كيان واحد ينتظمه ويحوّله إلى وحدة واحدة تفيد معنىً خاصاً.

القرآن بنظر سيّد قطب هو وحدة واحدة لا تتجزأ، كل شطر فيه هو جزء من ذلك الكل وبضعة من الكيان الواحد. والتوحيد هو محور جميع معارف القرآن، والربانية هي في طليعة الخصائص التي تنتظم الرؤية الكونية القرآنية – الإسلامية، وتبيين هذه الحقيقة المحورية الكبرى هي المهمة الأولى التي انصبّ عليها معنى النص القرآني في مكة، على حين كان محور هذا النص في المدينة تشريع النظام الاجتماعي القائم على أساس الرؤية التوحيدية تلك.

في نطاق عنايته بكتاب الله قسّم سيّد قطب القرآن إلى: قرآن مكي وقرآن مدني. ثم راح يتابع محور السور المكية والمدنية والموضوعات التي تنتظمها في إطار الهدف الكلي للقرآن.

من رؤاه أيضاً أن لكل سورة من سور القرآن شخصية مميزة، لها روح ولها موضوع رئيسي أو عدة موضوعات رئيسية مشدودة إلى محور خاص هو الذي ينشئ لها مركزيتها.

 

لتوضيح المحاور الثلاثة هذه يمكن سوق النقاط التالية:

 أ- التوحيد محور معارف القرآن وهدفها الأسمى

يذهب سيّد قطب إلى أن للقرآن طبيعة يتقوّم بها، مثله في ذلك مثل أي موجود حي آخر: «وإن طبيعة هذا القرآن ذاتها، طبيعته في دعوته وفي تعبيره، طبيعته في موضوعه وفي أدائه، طبيعته في حقيقته وفي تأثيره; إن طبيعة هذا القرآن لتحتوي على قوة خارقة نافذة، يحسّها كل من له ذوق وبصر وإدراك للكلام، واستعداد لإدراك ما يوجّه إليه ويوحي به. والذين تلقّوه وتكيّفوا به سيّروا ما هو أضخم من الجبال، وهو تأريخ الأمم والأجيال، وقطعوا ما هو أصلب من الأرض، وهو جمود الأفكار وجمود التقاليد، وأحيوا ما هو أخمد من الموتى، وهو الشعوب التي قتل روحها الطغيان والأوهام. والتحوّل الذي تمّ في نفوس العرب وحياتهم فنقلهم تلك النقلة الضخمة دون أسباب ظاهرة إلا فعل هذا الكتاب ومنهجه في النفوس والحياة، أضخم بكثير من تحوّل الجبال عن رسوخها، وتحول الأرض عن جمودها، وتحوّل الموتى عن الموات!

﴿بَل لِّلّهِ الأَمْرُ جَمِيعًا﴾ وهو الذي يختار نوع الحركة وأداتها في كل حال».(35)

يؤمن "سيّد قطب" أن قرآناً كهذا له "شخصية" و "طبيعة" خاصة، إنما يريد تحقيق هدف معين. فكل ما يقوله وينطق به، وكل ما يومئ إليه، وكل ما يذكّر به إنما هو لأجل هدف عام، هو إعلان الرؤية الكونية التوحيدية، وبناء الإنسان والمجتمع الرباني، وإيجاد النظام الإلهي: «وإنما أرسلناك لتتلو عليهم هذا القرآن. هذا القرآن العجيب الذي لو كان من شأن قرآن أن تسيّر به الجبال أو تقطّع به الأرض، أو يكّلم به الموتى، لكان في هذا القرآن من الخصائص والمؤثرات ما تتمّ معه هذه الخوارق والمعجزات، ولكنه جاء لخطاب المكلفين الأحياء… ولقد صنع هذا القرآن في النفوس التي تلقّته وتكيّفت به أكثر من تسيير الجبال وتقطيع الأرض وإحياء الموتى. لقد صنع في هذه النفوس وبهذه النفوس خوارق أضخم وأبعد آثاراً في أقدار الحياة، بل أبعد أثراً في شكل الأرض ذاته، فكم غيّر الإسلام والمسلمون من وجه الأرض، إلى جانب ما غيّروا من وجه التأريخ؟».(36)

تغيير الإنسان وتغيير المجتمع، وسوق الاثنين صوب الحركة والصراط السوي، هو الهدف الأساسي للقرآن. وهذا الهدف يسعى القرآن إلى تحقيقه من خلال تحويل المجتمع إلى مجتمع رباني، وأن تكون عقيدة التوحيد هي قاعدة جميع المعتقدات ومحورها، وهي المركز الذي ترجع إليه تشريعات الإسلام كافة وتنبثق عنه كل برامجه وخطواته لتنظيم الحياة: «إن طبيعة هذا الدين هي التي قضت بهذا، فهو دين يقوم كله على قاعدة الألوهية الواحدة، كل تنظيماته وكل تشريعاته تنبثق من هذا الأصل الكبير. وكما أن الشجرة الضخمة الباسقة الوارفة المديدة الظلال المتشابكة الأغصان، الضاربة في الهواء، لابد لها أن تضرب بجذورها في التربة على أعماق بعيدة، وفي مساحات واسعة تناسب ضخامتها وامتدادها في الهواء، فكذلك هذا الدين. إن نظامه يتناول الحياة كلها، ويتولى شؤون البشرية كبيرها وصغيرها، وينظم حياة الإنسان لا في هذه الحياة الدنيا وحدها، ولكن كذلك في الدار الآخرة، ولا في عالم الشهادة وحده ولكن كذلك في عالم الغيب المكنون عنها، ولا في المعاملات الظاهرة المادية، ولكن في أعماق الضمير ودنيا السرائر والنوايا. فهو مؤسسة ضخمة هائلة شاسعة مترامية، ولابد له إذن من جذور وأعماق بهذه السعة والضخامة والعمق والانتشار»،(37) وماهي هذه القاعدة التي يقوم عليها هذا كله سوى عقيدة التوحيد ذاتها.

بهذا كله نزل القرآن على قلب رسول الله (صلى الله عليه وآله) لينشئ به أمة، وليقيم به دولة، ولينظّم به مجتمعاً، وليربّي به ضمائر وأخلاقاً وعقولاً، وليحدد به روابط ذلك المجتمع في ما بينه، وروابط تلك الدولة مع سائر الدول، وعلاقات تلك الأمة بشتى الأمم، وليربط ذلك كله برباط قوي واحد يجمع متفِّرقه ويؤلِّف أجزاءه، ويشدّها كلها إلى مصدر واحد وإلى سلطان واحد وإلى جهة واحدة، وذلك هو الدين كما هو في حقيقته عند الله، وكما عرفه المسلمون أيام كانوا "مسلمين".(38)

 

ب- المكي والمدني في القرآن

في المقدمة وقبل أن يدلف في تفاصيل تفسير الآيات يدلي سيّد قطب برأيه حيال مكية السورة أو مدنيتها، مستعرضاً الروايات ومتناولاً أفكار الآخرين ومواقفهم برؤية نقدية تعتمد أساساً على دراسة السياق بوصفه المحور الأساس الذي يستند إليه في حسم انتماء السورة إلى القرآن المكي أو القرآن المدني. ينطلق "سيّد قطب" من خلال رؤيته الخاصة للسور المكية والمدنية، وانطلاقاً من هذه الرؤية وعلى أساسها يحسم موقفه من انتماء السور أو الآيات، مستنداً إلى معياره الخاص غير آبه بنظرات الآخرين وما يقولونه على هذا الصعيد.

السور المكية أو القرآن المكي

يكتب في مقدمة سورة "الأنعام": «هذه السورة مكية من القرآن المكي، القرآن الذي ظل يتنزل على رسول الله (ص) ثلاثة عشر عاماً كاملة، يحدثه فيها عن قضية واحدة، قضية واحدة لا تتغير، ولكن طريقة عرضها لا تكاد تتكرّر؛ ذلك أن الأسلوب القرآني يدعها في كل عرض جديدة حتى لكأنما يطرقها للمرة الأولى.

لقد كان يعالج القضية الأولى، والقضية الكبرى والقضية الأساسية في هذا الدين الجديد، قضية "العقيدة" ممثلة في قاعدتها الرئيسية، الألوهية والعبودية وما بينهما من علاقة». ثم يضيف موضحاً خصائص أخرى للقرآن المكي: «لقد كان هذا القرآن المكي يفسّر للإنسان سرّ وجوده ووجود هذا الكون من حوله، كان يقول له: من هو؟ ومن أين جاء; وكيف جاء ; ولماذا جاء؟ وإلى أين يذهب في نهاية المطاف؟ من ذا الذي جاء به من العدم والمجهول؟ ومن ذا الذي يذهب به وما مصيره هناك؟… وكانت هذه هي القضية الكبرى التي يقوم عليها وجود الإنسان، وستظلّ هي القضية الكبرى التي يقوم عليها وجوده على توالي الأزمان.

وهكذا انقضت ثلاثة عشر عاماً كاملة في تقرير هذه القضية الكبرى، القضية التي ليس وراءها شيء في حياة الإنسان إلا ما يقوم عليها من المقتضيات والتفريعات.

ولم يتجاوز القرآن المكي هذه القضية الأساسية إلى شيء مما يقوم عليها من التفريعات المتعلقة بنظام الحياة، إلا بعد أن علم الله أنها قد استوفت ما تستحقه من البيان، وأنها استقرت استقراراً مكيناً ثابتاً في قلوب العصبة المختارة من بني الإنسان، التي قدر الله لها أن يقوم هذا الدين عليها، وأن تتولَّى هي إنشاء النظام الواقعي الذي يتمثل فيه هذا الدين».(39)

أكد "سيّد قطب" على هذه المسألة في مقدمة سورة الأعراف كما في السور المكية الأخرى، وهو لا يألو جهداً في إلفات قارئ ظلاله إلى هذه الحقيقة وشدّ انتباهه إليها، دون أن يخشى التكرار. على سبيل المثال يطالعنا في السطر الأول من تفسير سورة "الأعراف": «هذه سورة مكية – كسورة الأنعام – موضوعها الأساسي هو موضوع القرآن المكي; العقيدة».(40)

كما يذهب "سيّد قطب" إلى أن هذا المنهج في الدعوة الإسلامية الذي يتوزع القرآن على أساسه إلى مكي له محوره الذي يتحرك من حوله، ومدني له هو الآخر محوره الخاص به، هو أمر حري بانتباه الدعاة لهذا الدين إليه: «فأما شأن هذا القرآن [المكي] في تناول قضية الاعتقاد وحدها، دون التطرق إلى تفصيلات النظام الذي يقوم عليها، والشرائع التي تنظم المعاملات فيها، فذلك كذلك مما ينبغي أن يقف أمامه أصحاب الدعوة لهذا الدين وقفة واعية. إن طبيعة هذا الدين هي التي قضت بهذا، فهو دين يقوم كله على قاعدة الألوهية الواحدة».(41)

لقد انتهى سيّد قطب إلى هذا المعيار عبر تعمّقه في أجزاء القرآن وسوره المكيّة، ثمّ عاد لتوظيفه والإفادة منه في دراسة مكية السور ومدنيتها وحسم الموقف من ذلك، كما من الآيات التي يدور الاختلاف من حول مكان نزولها وفيما إذا كانت مكية أم مدنية.

على سبيل المثال يحسم سيّد قطب موقفه من سورة "هود" على أساس معياره في تمييز القرآن المكي عن المدني، ويذهب إلى  أنها مكية بأكملها رافضاً ما ذهب إليه بعضهم من استثناء بعض آياتها بأنها مدنية، فهذه الآيات تنتظمها نفس شواغل القرآن المكي وهمومه،  كما يفصح عن ذلك مضمونها من جهة، وسياق السورة من جهة أخرى. يدلي سيد قطب بموقفه هذا ويلتزم به بقوة، وهو يكتب: «هذه السورة مكية بجملتها، خلافاً لما ورد في المصحف الأميري من أن الآيات (12، 17، 114) فيها مدنية. ذلك أن مراجعة هذه الآيات في سياق السورة تُلهم أنها تجيء في موضعها من السياق، بحيث لا يكاد يتصور خلو السياق منها بادئ ذي بدء. فضلاً على أن موضوعاتها التي تقررها هي من صميم الموضوعات المكية المتعلقة بالعقيدة».(42)

يلجأ "سيّد قطب" إلى الأسلوب ذاته في مقدمة سورة "يوسف" ويستفيد منه في حسم موقفه من السورة؛ إذ يسجل أنها تنتمي بجملتها إلى القرآن المكي دون استثناء، خلافاً لما ذهب إليه بعضهم من استثناء عدد من آياتها ونسبتها إلى القرآن المدني. يكتب: «هذه السورة مكية… والسورة مكية بجملتها على خلاف ما ورد في المصحف الأميري من أن الآيات (1، 2، 3، 7) منها مدنية… وهذه الآيات

]الثلاث الأولى من السورة[ هي مقدمة طبيعية لما جاء بعدها مباشرة… أما الآية السابعة فالسياق لا يستقيم بدونها أصلاً… ]كما[ لا يستقيم نزول الآية الثامنة دون أن تكون معها الآية السابقة… والسورة كلها لُحمة واحدة عليها الطابع المكّي واضحاً في موضوعها وفي جوّها وفي ظلالها وفي إيحاءاتها، بل إن عليها طابع هذه الفترة الحرجة الموحشة بصفة خاصة».(43)

على هذا الأساس لم يتناول القرآن المكي الموضوعات ذات الصلة بالنظام الاجتماعي والأحكام التي تتصل بالمجتمع، ولا يمكن رؤيتها فيه؛ لأن القران كتاب حي ومنهج يتعامل مع الواقع، يواجه الواقع ليقضي فيه بأمره، ومن ثم فهو لا يشرع إلا لحالات واقعة فعلاً، وحيث لا وجود للمجتمع الإسلامي عند انطلاق الوحي في مرحلة القرآن المكي فلا معنى للتشريع الاجتماعي، وإذا لم يكن ثمَّ وجود للمجتمع الإسلامي فكيف يمكن بناء الدولة الإسلامية؟

يكتب "سيّد قطب": «وجانب آخر من طبيعة هذا الدين يتجلى في هذا المنهج القويم. إن هذا الدين منهج عملي حركي جادّ، جاء ليحكم الحياة في واقعها، ويواجه هذا الواقع ليقضي فيه بأمره، يقرّه أو يعدّله أو يغيّره من أساسه، ومن ثم فهو لا يشرّع إلا لحالات واقعة فعلاً، في مجتمع يعترف ابتداء بحاكمية الله وحده. إنه ليس نظرية تتعامل مع الفروض… فلابد أولاً أن يقوم المجتمع المسلم الذي يقرّ عقيدة أن لاإله إلا الله، وأن الحاكمية ليست إلا لله، ويرفض أن يقرّ بالحاكمية لأحد من دون الله، ويرفض شرعية أي وضع لا يقوم على هذه القاعدة.

وحين يقوم هذا المجتمع فعلاً، تكون له حياة واقعية تحتاج إلى تنظيم وإلى تشريع، وعندئذ فقط يبدأ هذا الدين في تقرير النظم وفي سنّ الشرائع، لقوم مستسلمين أصلاً للنظم والشرائع، رافضين ابتداءً لغيرها من النظم والشرائع. ولابد أن يكون للمؤمنين بهذه العقيدة من السلطان على أنفسهم وعلى مجتمعهم ما يكفل تنفيذ النظام والشرائع في هذا المجتمع، حتى تكون للنظام هيبته ويكون للشريعة جدّيتها.

والمسلمون في مكة لم يكن لهم سلطان على أنفسهم ولا على مجتمعهم. وما كانت لهم حياة واقعية مستقلّة هم الذين ينظّمونها بشريعة الله، ومن ثم لم يُنزل الله في هذه الفترة تنظيمات وشرائع، وإنما نزّل لهم عقيدة… فلما صارت لهم دولة في المدينة ذات سلطان تنزلت عليهم الشرائع، وتقرّرَ لهم النظام الذي يواجه حاجات المجتمع المسلم الواقعية، والذي تكفل له الدولة بسلطانها الجدية والنفاذ».(44)

 

السور المدنية أو القرآن المدني

تختلف السور المدنية وما نزل على النبي (صلى الله عليه وآله) من القرآن بعد الهجرة اختلافاً أساسياً مع السور المكية. الهدف في القرآن المكي والقضية الأساسية الكبرى التي قصدها الوحي هناك هي قضية العقيدة ممثلة في قاعدتها الرئيسية الألوهية والعبودية. أما في القرآن المدني، فإن الهدف بعد أن استقرت العقيدة وترسّخت أركانها هو عرض النظام الإسلامي وبيان معالمه وتشريعاته.

راحت آيات الوحي تترى وهي تواكب الحياة وتواجه الوقائع التي يزخر بها المجتمع الإسلامي وتكون وجهاً لوجه مع ما صار يعيشه المسلمون في المدينة. المحور الذي انتظم حركة الوحي هنا تمثل بإرساء بنى النظام الإسلامي المنبثقة من عقيدة خاصة تمثلها الرؤية الكونية التوحيدية، وتشريع النظم وترسيخ القواعد الاجتماعية والسياسية للدين بما يتناسب مع امتداد أبعاد الحياة الفردية والاجتماعية وتفتّحها. فضرورة الوضع في المدينة هي التي أملت إيجاد النظام الإسلامي الرباني على قاعدة العقيدة التوحيدية.

وكما أن قضايا العقيدة في مكة والقرآن المكّي لم تكن تخصّ العرب دون غيرهم من الأقوام ولا أنها تقتصر على مرحلة تأريخية أو زمنية خاصة، فكذلك تشريعات الإسلام الاجتماعية ونظمه في الحياة العامة لا تقتصر على قوم دون غيرهم بل هي توجيهات وقوانين طليقة من قيد الزمان والمكان، وقيد الظروف والملابسات، وإن كان ذلك لا يمنع من أن تفصح هذه الآيات عن معناها الجليّ في إطار الزمان والمكان وملابساتهما الخاصة. انطلاقاً من هذه الرؤية وعلى أساسها راح "سيّد قطب" يبذل جهوداً تثير الإعجاب وهو يفضي بتأملاته العميقة في مقدمات السور المكية، فيدرس هذه السور على ضوء الأجواء التأريخية والاجتماعية التي اكتنفتها، ثم ينعطف إلى تفسير النصوص وهو مزوّد بذخيرة كاملة من الوعي التأريخي لأجواء النزول.

سنغضّ النظر الآن عن ذكر نماذج لمقدمات السور المدنية بسبب كثرتها، على أن نعود إلى الفكرة مجدداً، نشبعها بالأمثلة التطبيقية عند الحديث عن شخصية السور.

ثَمَّ نقطة أخرى من الضروري الانتباه لها، فالنظرية الأساسية التي يستند إليها سيّد قطب حيال فهم القرآن وتفسيره والتي أدّت إلى انبثاق نظريته المعروفة في التفسير الحركي للقرآن، إنما تنشأ مما ذهب إليه من أن الآيات والسور نزلت في مقاطع زمنية مختلفة طبقاً لحاجات الإنسان، ومن ثم فإن إدراك القرآن وفهمه يرتبط ارتباطاً وثيقاً بوعي الفضاء العام لعصر النزول والإحاطة بالملابسات الخاصة لذلك العصر.

 

ج- شخصية السور ومعناها المركزي

1 – شخصية السور

كما يعتقد قطب بأن القرآن يعكس وحدة عضوية واحدة وكياناً لا يتعضى وغير قابل للتجزئة، تراه يؤمن أيضاً بوجود خصائص منفصلة للقرآن المكي تميّزه عن القرآن المدني، ثم راح يتحدث إلى جوار ذلك عن شخصية خاصة لكل سورة تميّزها عن بقية السور. فللقرآن وحدة كيانية لا تتجزأ، وفيه السور المكية والمدنية التي تتميَّز عن بعضها، ثم هناك لكل سورة شخصية مستقلة. هذا ما يؤمن به سيّد قطب.

لكن ينبغي الانتباه إلى أن شخصية السورة هي غير موضوعها، فلكل سورة – بالإضافة إلى الشخصية المستقلة – موضوع خاص تتبعه وهدف محدد تتحراه. على سبيل المثال تشترك سورتا الأنعام والأعراف في موضوع واحد، فكلا السورتين موضوعهما الأساسي هو موضوع العقيدة التوحيدية وبيان الاختلافات الجوهرية بين هذه العقيدة والعقائد الجاهلية، لكن نجد بينهما اختلافاً في منهج العرض والطريق الذي تسلكه. ومن ثم، فإن لكل واحدة منهما شخصية متفردة تتميّز بها. فبينما تعرض سورة الأنعام موضوع العقيدة وحقيقتها، وتواجه الجاهلية العربية في حينها وكل جاهلية أخرى كذلك، مواجهة صاحب الحق الذي يصدع بالحق، وتستصحب معها في هذه المواجهة تلك المؤثرات العميقة التي تختزنها، نجد أن سورة الأعراف تأخذ طريقاً آخر وتعرض موضوعها في مجال آخر، إنها تعرضه في مجال التأريخ البشري، في مجال رحلة البشرية كلها، مبتدئة بالجنة والملأ الأعلى وعائدة إلى النقطة التي انطلقت منها.

هذه الشخصية الخاصة التي تتحلى بها كل سورة بمعزل عن السور الأخرى هي خصلة ملموسة يحس بها كل من عاش جوّ القرآن: «يلحظ من يعيش في ظلال القرآن أن لكل سورة من سوره شخصية مميزة، شخصية لها روح يعيش معها القلب، كما لو كان يعيش مع روح حيّ مميّز الملامح والسمات والأنفاس. ولها موضوع رئيسي أو عدة موضوعات رئيسية مشدودة إلى محور خاص. ولها جوّ خاص يظلل موضوعاتها كلها، ويجعل سياقها يتناول هذه الموضوعات من جوانب معيّنة تحقق التناسق بينها وبين هذا الجو… وهذا طابع عام في سور القرآن جميعاً، ولا يشذّ عن هذه القاعدة طوال السور كهذه السورة ]سورة البقرة[».(45)

يعود "سيّد قطب" للتركيز على الحقيقة ذاتها في مقدمة سورة "النساء"، فيقول: «إن لكل سورة من سور القرآن شخصيتها الخاصة… ومن مقتضيات الشخصية الخاصة أن تتجمع الموضوعات في كل سورة وتتناسق حول محورها في نظام خاص بها، تبرز فيه ملامحها وتتميّز به شخصيتها، كالكائن الحيّ المميّز السمات والملامح، وهو مع هذا واحد من جنسه على العموم».(46)

من المواضع التي يعرض فيها سيّد قطب الفكرة ذاتها هي مقدمة سورة الأنعام والأعراف، وإن فعل ذلك على نحو أجلى في مقدمة "الأعراف " وهو يقول: «إن كل سورة من سور القرآن ذات شخصية متفردة… إن الشأن في سور القرآن من هذه الوجهة كالشأن في نماذج البشر التي جعلها الله متميزة، كلهم إنسان، وكلهم له خصائص الإنسانية، ولكنهم بعد ذلك نماذج منوّعة أشد التنويع، نماذج فيها الأشباه القريبة الملامح وفيها الأغيار التي لاتجمعها إلا الخصائص الإنسانية العامة.

هكذا عُدتُ أتصوّر سور القرآن، وهكذا عدتُ أحسّها، وهكذا عدت أتعامل معها، بعد طول الصحبة وطول الألفة وطول التعامل مع كل منها وفق طباعه واتجاهاته وملامحه وسماته. وأنا أجد في سور القرآن تبعاً لهذا وفرة بسبب تنوع النماذج، وأنساً بسبب التعامل الشخصي الوثيق …

ومصاحبة السورة من أولها إلى آخرها رحلة، رحلة في عوالم ومشاهد، ورؤىً وحقائق، وتقريرات وموحيات، وغوص في أعماق النفوس، واستجلاء لمشاهد الوجود، ولكنها كذلك رحلة متميزة المعالم في كل سورة ومع كل سورة».(47)

عرضت النصوص الآنفة لتصور سيّد قطب لشخصية السور القرآنية كمقولة كلية وعامة، كما نبّه إلى ذلك مرّات في مقدمات السور. بيدَ أنه لم يكتف بذلك بل راح يتحدث عن الشخصية الخاصة التي تحظى بها كل سورة على حدة في مقدمتها؛ ليلفت القارئ من خلال ذلك إلى محتوى السورة والجو الخاص الذي يظللها، ويزيد عن هذا الطريق استعداده لتلقي مفاهيم السورة والانتفاع بها على نحو أفضل.

من النقاط الأخرى التي أثارها على هذا الصعيد، وجود طابع خاص يغلب على الجزء الثلاثين من القرآن الكريم ويهبه – بجميع سوره – شخصية واحدة: «هذا الجزء كله – ومنه هذه السورة ]النبأ[ – ذو طابع غالب. سوره مكية فيما عدا سورتي "البيّنة" و "النصر"، وكلها من قصار السور على تفاوت في القصر. والأهم من هذا هو طابعها الخاص الذي يجعلها وحدة – على وجه التقريب – في موضوعها واتجاهها وإيقاعها وصورها وظلالها، وأسلوبها العام».(48)

يكتب في موضع آخر عن خصائص شخصية هذا الجزء من القرآن منطلقاً هذه المرة من محتوى سوره: «في الجزء كله تركيز على النشأة الأولى للإنسان والأحياء الأخرى في هذه الأرض من نبات وحيوان. وعلى مشاهد هذا الكون وآياته في كتابه المفتوح، وعلى مشاهد القيامة العنيفة الطامة الصاخة القارعة الغاشية».(49)

 

2- موضوع السور ومعناها المركزي

يذهب "سيّد قطب" إلى أن لكل سورة موضوعاً أو موضوعات مهمة تدور برمّتها حول محور خاص تنشدّ إليه، بحيث يمكن فهم المعنى الأساسي للسورة من خلال الانتباه إلى ذلك المحور ووعيه. على أن الإشارة سلفت إلى أن الموضوع الأصلي للسورة أو موضوعاتها المهمة أو المحور الأساس الذي تتحرك من حوله مفاهيم السورة، هي عند سيّد غير شخصية السورة. على سبيل المثال يقول في مقدمة سورة "الأعراف": «إن موضوع سورة الأنعام هو العقيدة، وموضوع سورة الأعراف هو العقيدة، ولكن بينما سورة الانعام تعالج العقيدة في ذاتها، وتعرض موضوع العقيدة وحقيقتها، وتواجه الجاهلية العربية … نجد سورة الأعراف وهي تعالج موضوع العقيدة كذلك، تأخذ طريقاً آخر وتعرض موضوعها في مجال آخر، إنها تعرضه في مجال التأريخ البشري».(50)

آثر سيّد قطب أن يعرض مقدمة كل سورة موضوع تلك السورة أو موضوعاتها الأصلية التي تتحرك من حولها، مع تنبيهه إلى محور المعنى ومركزه، بالإضافة إلى شخصية السورة. على هذا تنطوي هذه المقدمات على الأصول التي اعتمدها سيّد قطب والمنهجية التي سار عليها في تفسير "في ظلال القرآن"، كما تعكس من جهةٍ رؤاه حيال القرآن، ورؤاه حيال كل سورة من جهة أخرى. ما يوفر للقارئ آفاقاً ممتدة لم يكن يعرفها قبل ذلك أو لم تكن له بها دراية كاملة.

محور المعنى ومركزه الأساسي الذي يدور عليه موضوع أو موضوعات السور المكية، هو العقيدة. أما المحور في السور المدنية فهو إيجاد النظام الإسلامي. هذه هي الرؤية العامة التي تنتظم موقف سيّد قطب من مقولة مركز المعنى، علاوة على ما ذهب إليه في مقدمة كل سورة من تحديد شخصية تلك السورة.

يقول في مقدمة سورة "البقرة": «هذه السورة تضمّ عدة موضوعات. ولكن المحور الذي يجمعها كلها محور واحد مزدوج يترابط الخطّان الرئيسيان فيه ترابطاً شديداً».(51)

كما يكتب في مقدمة سورة "المائدة": «نجد في هذه السورة كما وجدنا في السور الثلاث الطوال قبلها، موضوعات شتى، الرابط بينها جميعاً هو هذا الهدف الأصيل الذي جاء القرآن كله لتحقيقه: إنشاء أمة، وإقامة دولة، وتنظيم مجتمع على أساس من عقيدة خاصة، وتصور معيّن وبناء جديد، الأصل فيه إفراد الله (سبحانه) بالألوهية والربوبية والقوامة والسلطان، وتلقّي منهج الحياة وشريعتها ونظامها وموازينها وقيمها منه وحده بلا شريك».(52)

يعكس " سيِّد قطب" الفكرة ذاتها في مقدمة سورة أخرى هي سورة "الصف" حين يكتب: «هذه السورة تستهدف أمرين أساسيين واضحين في سياقها كلّ الوضوح; إلى جانب الإشارات والتلميحات الفرعية التي يمكن إرجاعها إلى ذينك الأمرين الأساسيين: تستهدف أولاً أن تقرر في ضمير المسلم أن دينه هو المنهج الإلهي للبشرية في صورته الأخيرة، سبقته صور منه تناسب أطواراً معيّنة في تأريخ البشرية، وسبقته تجارب في حياة الرسل وحياة الجماعات، تمهّد كلّها لهذه الصورة الأخيرة من الدين الواحد، الذي أراد الله أن يكون خاتمة الرسالات، وأن يُظهره على الدين كله في الأرض … هذا الهدف الأول الواضح في السورة يقوم عليه بالهدف الثاني. فإن شعور المسلم بهذه الحقيقة، وإدراكه لقصة العقيدة ولنصيبه هو من أمانتها في الأرض، يستتبع شعوره بتكاليف هذه الأمانة شعوراً يدفعه إلى صدق النية في الجهاد لإظهار دينه على الدين كلّه».(53)

يكتب أيضاً في مقدمة تفسيره لسورة "الجمعة": «نزلت هذه السورة بعد سورة "الصف" السابقة، وهي تعالج الموضوع الذي عالجته سورة الصف، ولكن من جانب آخر وبأسلوب آخر، وبمؤثرات جديدة».(54)

من الخصائص البارزة لحركة التفسير في القرن الرابع عشر الهجري التركيز على الموضوع الأساسي المحوري الذي ينتظم القرآن الكريم، والاهتمام بالمحور الخاص الذي تتحرك عليه كل سورة. وتفسير "في ظلال القرآن" يعد واحداً من ألمع الدراسات وأعمقها على صعيد هاتين الفكرتين.

يمكن تلخيص رؤية سيّد قطب في هذا المجال بالنقطتين الآتيتين:

أ- إن للقرآن بأجمعه طبيعة خاصة تنتظمه، ثم لكل سورة بالإضافة إلى العناصر المشتركة التي تجمعها مع السور الأخرى شخصية خاصة تتفرد بها وتتميز بها على بقية السور.

ب- إن للقرآن على سعة موضوعاته وامتدادها مقصداً واحداً يتحرَّاه، ومحوراً محدداً وهدفاً خاصاً يبتغي تحقيقه، ثم إن لكل سورة أيضاً وبرغم تنوّع الموضوعات وتشعّبها، محوراً متفرداً وهدفاً خاصاً تسعى إليه.

 

إيضاح المعنى بلغة العصر

المسافة الزمنية التي تفصل المسلمين عن عصر النزول صارت سبباً إلى أن يتبدل تدريجياً الجو الذي يعيشه المسلمون، وأن يختلف تلقّيهم للقرآن ومعانيه والهدف من نزوله، وأن يتراخى التزامهم العملي به،  ثم تترسم على أرض الواقع مساحة شاسعة تبعدهم عن فهم معناه.

من أهم الأهداف التي تبرز في أفق تفسير النص المقدس، ومما يمكن أن يُعَدّ أيضاً الغاية المتوخاة من ظاهرة الفهم والتفسير، هي ترجمة المتن وإيضاحه بما يتطابق مع اللغة المعاصرة. والمقصود بالترجمة هي بيان محتوى النص وإيضاحه بلغة مفهومة إلى الناس في الوقت الحاضر. فكثير من مقاطع النص المقدس ليست واضحة بالنسبة إلى أناس لم يعيشوا فضاء عصر النزول، إلا بعد الترجمة. وليس المقصود من الترجمة هو مقابلة مفردة بمفردة، بل الانتقال من أفق الفهم في عصر النص إلى أفق الفهم المعاصر، بهدف كشف الالتباس والإبهام الحاصل من وجود الفاصلة الزمنية بين هذين الأفقين التأريخيين. وهذا هو مدلول ترجمة النص للعصر الحاضر.

يومئ "سيّد قطب" إلى أنه كثيراً ما يقف متحرجاً أمام أبّهة النص القرآني مأخوذاً بهيبته، حتى يبلغ به الحال أن يخشى مقاربته بأسلوبه البشري، خوفاً من أن يشوبه بتعبيره البشري الفاني، حيث تتأكد هذه الحالة في بعض السور منها "الأنعام" و"الرعد"؛ إذ يقول: «وهذه السورة ]الرعد[ كلها – شأنها شأن سورة الأنعام من قبلها – من بين النصوص التي لا أكاد أجرؤ على مسّها بتفسير أو إيضاح».

ثم ينعطف ليضيف بتأثر شديد: «ولكن ماذا أصنع ونحن في جيل لابد أن يقدَّم له القرآن مع الكثير من الإيضاح لطبيعته ومنهجه ولموضوعه كذلك ووجهته. بعدما ابتعد الناس عن الجو الذي تنزل فيه القرآن، وعن الاهتمامات والأهداف التي تنزل لها، وبعد ما ذبلت في حسّهم وتصوّرهم مدلولاته وأبعادها الحقيقية، وبعد ما انحرفت في حسّهم مصطلحاته عن معانيها، وهم يعيشون في جاهلية كالتي نزل القرآن ليواجهها، بينما هم لا يتحركون بهذا القرآن في مواجهة الجاهلية كما كان الذين تنزَّل عليهم القرآن أول مرة يتحركون، وبدون هذه الحركة لم يعُد الناس يدركون من أسرار هذا القرآن شيئاً. فهذا القرآن لايدرِك أسراره قاعد، ولا يعلم مدلولاته إلا إنسان يؤمن به ويتحرك به في وجه الجاهلية لتحقيق مدلوله ووجهته.

ومع هذا يصيبني رهبة ورعشة كلما تصديت للترجمة عن هذا القرآن. إن  إيقاع هذا القرآن المباشر في حسي محال أن أترجمه في ألفاظي وتعبيراتي. ومن ثم أحس دائماً بالفجوة الهائلة بين ما أشعره منه وما أترجمه للناس في هذه (الظلال)».

يستطرد بعد هذه الفقرة مضيفاً: «وإنني لأدرك الآن بعمق ٍ حقيقة الفارق بين جيلنا الذي نعيش فيه والجيل الذي تلقّى مباشرة هذا القرآن … لقد كانوا ينهلون مباشرة من معين هذا القرآن بلا وساطة، ويتأثرون بإيقاعه في حسّهم فماً لأذن، وينضجون بحرارته وإشعاعه وإيحائه، ويتكيفون بعد ذلك وفق حقائقه وقيمه وتصوراته.

أما نحن اليوم فنتكيف وفق تصورات فلان وفلان عن الكون والحياة والقيم والأوضاع، وفلان وفلان من البشر القاصرين أبناء الفناء. ثم ننظر نحن إلى ما حققوه في حياتهم من فوارق في ذات أنفسهم وفي الحياة من حولهم، فنحاول تفسيرها وتعليلها بمنطقنا الذي يستمدّ معاييره من قيم وتصورات ومؤثرات غير قيمهم وتصوراتهم ومؤثراتهم، فنخطئ ولاشك في تقدير البواعث وتعليل الدوافع وتفسير النتائج؛ لأنهم هم خلق آخر من صنع هذا القرآن».(55)

يركز "سيّد قطب" في تتمة هذا النص ومواضع أخرى على وقوع فجوة كبيرة بيننا وبين القرآن، وإذا مارام الجيل الجديد أن يفهم القرآن ينبغي له أن يعي هذه الفجوة ويدرك أسبابها ثم يبادر لعلاجها حتى يقترب من أجواء الفكر القرآني وينغمر في أنواره، ليقترب بعدئذ من المجتمع القرآني.

في نصوص أخرى تحدّث "سيّد قطب" عن الحجب الكثيفة التي تفصل بين قلوبنا والقرآن؛ إذ لا حظَّ لنا منه في أغلب الأحيان غير تلاوته أو استماع آياته، وكأنه كلمات تعبّدية تبعث على النعاس! لا ربط لها بواقعيات الحياة الإنسانية المعاصرة، ولا صلة لها بمجريات هذا الكائن المسمى "الإنسان"، ولا علاقة لها بما يواجهه المسلمون!

يحصل هذا في الوقت الذي نزل فيه القرآن ليواجه الحالات الفردية والاجتماعية والوقائع التي تجري في المجتمع فعلاً؛ لكي يوجّه البشرية ويسوقها من خلال الوقائع الضاربة في عمق الحياة، على نحو حيّ وبنّاء.

بتعبير مكثّف، يعتقد سيد قطب أن الجيل الحاضر يعيش في فضاءٍ تحكمه معتقدات الجاهلية ومعاييرها، ولهذا السبب بالذات وقعت الفجوة بينه وبين القرآن. وما ينبغي للمسلمين هو إدراك هذا الواقع لإزالة حجب الجاهلية وخرق سترها الظلماء، لكي يتملّوا حقائق القرآن وينظروا إلى شمسه الساطعة، ولكي يجسّدوا في الواقع العملي مفاهيمه الإنسانية التي تبعث على السعادة والرقي.

 نقلاً عن موقع معهد الرسول الأكرم(ص) – مجلة الحياة الطيبة العدد الثالث عشر

الهوامش:

 (1) كاتب من أفغانستان.

(2) لاتزال مبادئ الهرمنيوطيقا غير ثابتة عند أصحابها وأنصارها، حيث الفوارق كثيرة بين المنظرين لها. أما الانتفاع من تلك المبادئ والأصول في مضمار تفسير القرآن، فهي عملية تترافق بالمزيد من الدقة والحذر نظراً للفوارق الأساسيَّة مابين القرآن والعهدين. فبعض متطلبات مفسري نصوص التوراة والأناجيل لا واقع لها في الإطار القرآني إطلاقاً كما هو الحال في تفكيك الصحيح وعزله عن غير الصحيح.

في كل الحالات تتطلب المسألة الالتفات إلى هذه الأصول وإجراء المقارنة اللازمة بين الهرمنيوطيقا وعلوم القرآن، وما جاء في الدراسة هو إشارة للتشابه ما بين نظريات سيّد قطب والهرمنيوطيقا.

(3) المصدر نفسه، ج 1، ص 261.

(4)المصدر نفسه، ج 1، ص 261.

(5) المصدر نفسه، ج1، ص 261.

(6) سورة البقرة: الآيات 2ـ3.

(7) المصدر نفسه، ج 1، ص 38.

(8) ينظر: المصدر نفسه، ج 5، ص 2806، ج 6، ص 3767، 33692، 3466.

(9) المصدر نفسه، ج 6، ص 3466.

(10) المصدر نفسه، ج 1، ص 349.

(11) المصدر نفسه، ج 2، ص 1004.

(12) لم يعرض البحث في أصله إلى هذه التفاصيل عبر هذه العناوين، مما دفعنا إلى أخذ هذا المقطع منه عن دراسة أخرى لباحث آخر هو علي الحيدري لكي تكتمل معالم الصورة. المحرر.

(13) ينظر: المصدر نفسه، ج 1، ص 15.

(14) المستقبل لهذا الدين، ص 1 – 3.

(15) منها: معركة الإسلام والرأسمالية، العدالة الاجتماعية في الإسلام، في ظلال القرآن، دراسات إسلامية، هذا الدين، المستقبل لهذا الدين، خصائص التصور الإسلامي ومقوماته، معالم في الطريق.

(16) خصائص التصور الإسلامي ومقوماته، ص 114.

(17) المصدر نفسه، ج 4، ص 2121.

(18) المصدر نفسه، ج2، ص 842.

(19) المصدر نفسه، ج2، ص 842.

(20) المصدر نفسه، ج 3، ص 1422.

(21) المصدر نفسه، ج 3، ص 1761.

(22) المصدر نفسه، ج 2، ص 807.

(23) المائدة: 48.

(24) المصدر نفسه، ج 2، ص 902.

(25) المصدر نفسه، ج 3، ص 1734.

(26) المصدر نفسه، ج4، ص 2006.

(27) خصائص التصور الإسلامي ومقوماته، ص 16.

(28) المصدر نفسه، ج 3، ص 1226.

(29) المصدر نفسه، ج 6، ص 3730.

(30) المصدر السابق، هامش ص 3730. إلى هنا تنتهي الفقرة التي أضفناها للدراسة من بحث علي الحيدري، ليواصل الباحث حيدر علوي نجاد دراسته. المحرر.

(31) المصدر نفسه، ج 3، ص 1429.

(32) المصدر نفسه، ج 3، ص 1429 أيضاً.

(33) المصدر نفسه، ج 3، ص 1466.

(34) المصدر نفسه، ج 3، ص 1463.

(35) المصدر نفسه، ج 4، ص 2061.

(36) المصدر نفسه، ج 4، ص 2061 أيضاً.

(37) المصدر نفسه، ج 2، ص 1009.

(38) ينظر: المصدر نفسه، ج2، ص 825.

(39) المصدر نفسه، ج 2، ص 1004، 1005.

(40) المصدر نفسه، ج 3، ص 1243.

(41) المصدر نفسه، ج 2، ص 1009.

(42) المصدر نفسه ،ج 4، ص 1839.

(43) المصدر نفسه، ج4، ص 1949، 1950.

(44) المصدر نفسه، ج 2، ص 1010.

(45) المصدر نفسه، ج 1، ص 27، 28.

(46) المصدر نفسه، ج 1، ص 555.

(47) المصدر نفسه، ج 3، ص 1243.

(48) المصدر نفسه، ج 6، ص 3800.

(49) المصدر نفسه، ج 6، ص 3801.

(50) المصدر نفسه، ج 3، ص 1244.

(51) المصدر نفسه، ج 1، ص 28.

(52) المصدر نفسه، ج 6، ص 825.

(53) المصدر نفسه، ج 6، ص 3550.

(54) المصدر نفسه، ج 6، ص 3562.

(55) المصدر نفسه، ج 4، ص 2038، 2039.

 

Facebook
Twitter
Telegram
Print
Email

اترك تعليقاً