أحدث المقالات

ترجمة: السيد علي عبّاس الموسوي

التزمت التيارات التجديديّة الدينيّة الصمت والسكوت إزاء المسائل المتعلّقة بالمرأة، يرجع ذلك إلى عوامل مختلفة؛ فقد يعتقد بعض المجدّدين الدينيين أنّ المرأة ليس لها مسائلها الخاصّة، أو أنّ حلّ معضل حقوقها إنّما يقع ضمن سياق الحلّ المنشود للمشاكل الأساسية للمجتمع برمّته؛ ولذا ينبغي العمل على حلّ تلك المشكلات، أو أنّ العرف الاجتماعي الموجود ليست لديه إمكانيّات الحلحلة وتحمّل أيّ تغيير أساسي في أحكام العلاقة بين الرجل والمرأة؛ لذا فما ينبغي العمل عليه هو القيام بتغييرات صغيرة ضمن إطارٍ قانوني. وتتخذ الدراسات الرئيسة المتداولة في المجتمع حول قضايا المرأة نمطاً فقهياً ـ حقوقياً، وتساعد على اكتشاف بعض المشكلات ثمّ حلّها، إلا أنّنا لا نزال نعاني من نقصٍ في الدراسات التي تتسم بالطابع المعرفي الديني؛ من هنا كان هذا الحوار مع د. عبدالكريم سروش.

المجتمع الديني بين الفقه والأخلاق ـــــــ

● حيث نعيش في مجتمعٍ ديني، نرجو منكم بيان تصوّركم لهذا المجتمع، فما هي الخصوصيّات التي يمتاز بها المجتمع الديني؟

المجتمع الديني هو المجتمع الأخلاقي، إنّ الشيء المهمّ في المجتمع الديني هو صيرورة الأخلاق فيه عمليةً، فلا تعني دينيّة مجتمعٍ كونه فقهيّاً، أي أن بإمكاننا تصوّر مجتمعٍ يُطبّق الفقه في كلّ ما يقوم به الإنسان بيد أنّه بعيد غاية البُعد عن الروح الدينية والأخلاقية، إنّ فقهيّة المجتمع لا تضمن لنا ـ بأيّ وجهٍ ـ دينيّته، بل إننا نشاهد في بعض الحالات فقدان الروح الدينية، إذ تظهر فيه ـ وبوضوح ـ حالة التمسّك بالقشور والظواهر، الأمر الذي يكشف عن نقصانٍ ما في مكانٍ آخر.

أمّا المجتمع الأخلاقي فيتطابق تماماً مع المجتمع الديني، فالأخلاق تحتضن في داخلها الحقوق والتكاليف، دون أن تغدو نوعاً من القيود والإلزامات التابعة للعقد الاجتماعي، بل ترتبط بالفرد حتى في خلوته فتقيّده، فكيف به وهو في العلن؟! إن أبسط مظاهر الأخلاق هو الصدق، والاحتراز عن الغيبة، والتهمة، وإهانة الناس وغير ذلك إلى أن نصل إلى أبسط الحقوق والقيم الأخلاقية.

هذا ما أراه المجتمع الديني الأنموذجي، وليست العدالة غير هذا؛ لأنّها تعني العمل بالقيم الأخلاقية، بل ليست العدالة ـ في الواقع وكما أتصوّرها ـ قيمةً فوق القيم الأخرى، إنّما تماهيها بل هي عينها؛ فإنّ القيم الأخلاقية متى طبّقت في المجتمع ظهر المجتمع العادل، والإنسان الفرد في أيّ مجتمعٍ كان عندما يحقّق عالمه الفردي القيمَ الأخلاقية فإنّه يغدو عادلاً من العدول.

إنّ ما أراه هو أنّ أفضل النظم الحقوقية وأفضل نماذج العقد الاجتماعي هو ذلك الذي يسهّل عملية تطبيق القيم الأخلاقية في المجتمع، إنّ العقد الاجتماعي إذا كان باعثاً على حقد النفوس ودافعاً بالإنسان إلى الكذب وارتكاب الأعمال المنافية للأخلاق فمعنى ذلك عدم تبلور هذا العقد بصورةٍ سليمة، والعلاقة بين الرجل والمرأة في العائلة والمجتمع نوعٌ من أنواع العقد الاجتماعي، فلا يمتلك قيمته الأخلاقية من ذاته، وإنّما يكون وسيلةً لحفظ القيم الأخلاقية، فإذا لم يتمكّن هذا العقد الاجتماعي من حفظها فلا بدّ من إزالته، إذ هو القشر لا اللبّ.

وفي الإسلام الأمر كذلك أيضاً؛ حيث لابدّ من صيانة مجموعةٍ من القيم الأخلاقية الهامّة؛ ولهذا الغرض وضع الإسلام جملة تكاليف، وهي تكاليف مؤقتة تماماً ومرحلية، تعتمد على ظروفٍ اجتماعية واقتصادية زمنية، في الوقت الذي لابدّ فيه للقيم الأخلاقية من أن تحظى بدوامٍ، ذلك أنّ الأخلاقيّات فوق تاريخية.

نظام القيم في علاقات الجنسين ـــــــ

● هل يمكنكم الإشارة إلى بعض القيم الأساسيّة في علاقات الرجل والمرأة؟

الذي أراه أنّ أهمّ القيم الحاكمة على علاقات الرجل والمرأة أن يكون الرجل رجلاً والمرأة امرأة، فجميع الحكماء يعتقدون أنّ كمال أيّ موجود يختصّ به ويتناسب معه، وليس لدى الناس جميعهم كمالٌ واحد، فالكمال أن يبقى كلّ شيء نفسَه، وهذا الرأي ـ بنظري ـ من أهمّ القيم التي ينبغي أن تكون حاكمةً على علاقات الرجل والمرأة، وعلى أخلاقهما.

لا ينبغي أن تؤدّي العلاقة بين الرجل والمرأة إلى خللٍ ما في سعي الرجل نحو كماله أو في سعي المرأة كذلك، أي أنّ هذه العلاقة لا ينبغي أن تجعل الرجل امرأةً ولا أن تُخرج المرأة عن أنوثتها، إنّ القاعدة الفلسفية التي تشكّل أساساً لهذا الأمر تتلخّص في أنّ لدى كلّ موجود الكمال الذي يليق به وعليه السعي إلى تحصيله، وهذا الأمر يتوقف على ملئ هذه القابلية، ومنها ما هو كمّي ومنها ما هو كيفي؛ لذا لا يقال عن الرجل: إنّ لديه استعداد مائة ليتر مثلاً فيما المرأة سبعين، فقابليته أوسع من قابليتها؛ لأنّ القابلية تتضمّن الكمّ والكيف معاً.

وعليه، لا ينبغي وضع قوانين تُخرج الرجل عن خصوصيّة كونه رجلاً والمرأة عن خصوصية كونها امرأة، ومتى سلّمنا بهذا الأصل الأوّلي تقع على عاتقنا وظيفتان مهمّتان: إحداهما أن نصل إلى تعريفٍ دقيق وصحيح للأنثويّة وحدودها، وكذا الذكورية وحدودها أيضاً، وثانيتهما وضع قوانين تتلاءم مع التعريف الذي توصّلنا إليه، وأيّ تعريفٍ نقدّمه عن حدود دائرة الذكورة أو الأنوثة أو ماهيّتهما، لابد وأن يعتمد ـ دون شك ـ على علوم الزمان الذي نعيش فيه والأسس الثقافية التي نحملها، أي أنّنا لا نملك تعريفاً مستقلاً ومنفصلاً عن ثقافة الزمن الذي نعيش فيه، ولذلك كانت هذه التعاريف متغيّرة، وتبعاً لذلك لابدّ وأن تكون القوانين والأحكام الموضوعة لحفظ هذه الكمالات متغيّرة أيضاً، وهذا ما يرجع إلى تغيّر التعريف الذي نملكه.

أصالة التاريخية في الأحكام التشريعية الدينية ـــــــ

ويشكّل ما نقوله هنا أساساً، سواء على صعيد النظرية الإسلامية أو غيرها في الأديان والمذاهب الأخرى، إنّ ما أراه هو أنّ الأحكام التي ترجع إلى شؤون الاجتماع في الإسلام لها جنبةٌ مؤقّتة ما لم يثبت خلافه، نعم، لا يوافق الفقهاء على ذلك، بل يعتبرون كلَّ ما ورد في الشرع أبديّاً خالداً إلى أن يثبت العكس، لكنّ التتبّع التاريخي لكيفية تكوّن الإسلام والفقه الإسلامي يدلّنا على أنّ ما جرى كان بنحوٍ آخر، أي أنّ الشارع صحّح القوانين والأحكام الموجودة في المجتمع العربي آنذاك؛ لأنّها كانت تتناسب مع عدالة ذلك الزمان وتشكّل مصداقاً لها، ولا دليل على أن تلك القوانين التي كانت رائجةً وموجودة أفضل القوانين والأحكام الممكنة على مرّ التاريخ.

مضافاً إلى ذلك، يميل العلماء والفقهاء المتأخرون إلى القول بأنّ دين الإسلام دينٌ سياسي واجتماعي، وهذا يعني أنّ الأحكام الدينية في حقيقتها أحكامٌ سياسية ـ اجتماعية، والسياسة والاجتماع في حقيقتهما عنصران متحوّلان متغيّران، وسبب هذه الصيرورة السياسيّة والاجتماعية تغيّر الظروف الحياتية التي ترجع إلى تغيّر معرفة الإنسان بالإنسان، وتغيّر معرفته بالواقع الخارجي والطبيعة والتاريخ وغيره.

إنّ ملاحظة جميع ما ذكرناه يشهد على كون مقولة (الحقوق) من المقولات السيّالة المتغيرة، فمن بديهيّات علم الحقوق اليوم كون القوانين سيّالةً خاضعة للظروف الحياتية، ومتى سلّمنا بذلك فلا فرق حينئذٍ بين كونها دينيةً أو غير دينية، فجميع الأحكام المترتبة على القوانين غير الدينية تترتّب على الدينية منها، وهو ما يشبه الفلسفة؛ فإننا إذا جعلنا للفلسفة خصوصيّات تمثل ماهيّتها، فلن يكون في ذلك فرق بين الفلسفة الدينية وغيرها، ومعه لابدّ للفلسفة الدينية من أن تشتمل هذه الخصوصيات أيضاً؛ ولذا فمن يذهب إلى كون الحقوق والقوانين ـ الأعم من حقوق المرأة، والرجل، والحقوق التجارية و.. ـ ثابتةً غير سيّالة وأبدية غير متغيّرة، لا يملك اطلاعاً حقيقيّاً على ماهيّة علم الحقوق والقانون.

إنّني أرى في الحقوق والقوانين الحدّ الأدنى من الأخلاق التي يراها المجتمع لازمةً لتحسين العلاقات الإنسانية، فالقوانين محض أحكام تنظيمية تتضمّن الحدّ الأدنى من الأخلاق الاجتماعية، وتعمل على المحافظة عليها، وهي قوانين اجتماعية بامتياز، وفي اللحظة التي تصبح فرديةً لا يمكن تسميتها بالحقوق؛ لأنها تدخل حيّز الأخلاق، والحقوق والقوانين تبقى ما دامت تفي بالقدر اللازم من الأخلاق التي انبعثت منها، ومتى لم تفِ بذلك فهذا يعني زوالها لا زوال الأخلاق.

قضايا المرأة وأسطرة المقولات الدينية ـــــــ

● إذا أردنا تطبيق هذه المنهجية المستخدمة في علم القانون على قضايا المرأة وحقوقها، فما هي النتيجة المتوقّعة؟

تتعقّد المسألة أكثر متى وصلت إلى حقوق المرأة؛ إذ تنشأ لدينا مشكلة الرؤية التاريخية للبشر حول المرأة، وبحسب عقيدتي فإن المناهج الفكرية القديمة جميعها ـ لا سيّما الدينية منها ـ تختلط نظرتها للمرأة بالأسطورة، وحُكمنا هذا يسري إلى تمام الأحكام الشرعية، ومن جملتها الأحكام الراجعة للنساء.

كلّما غدت القوانين أكثر عرفيّةً اشتدّ بسبب ذلك التساؤل حول الجهة الأسطورية في الأحكام الدينية؛ فالأعمال الخاصّة في الشريعة ـ مثلاً ـ من الوضوء والغسل والطهارة تتشابه بشكلٍ كبير مع النظافة والاستحمام، لكنها في الوقت نفسه تتضمّن جنبةً أسطورية، وتختزن في داخلها أسراراً؛ فلا يصح جعلها مجرّد نظافة بسيطة وإلا كان اقتراح التغيير فيها سهلاً جدّاً، والأحكام الاجتماعية للمرأة لا تخلو هي أيضاً من تلك العناصر الأسطورية، ولا يتمكّن أحدٌ من معرفة رمزها وسرّها، لقد امتلكت المرأة حضوراً منذ القدم في أساطير الأمم والشعوب كافّة، وكانت عنصراً منتجاً إلى جانب الأرض والماء والمطر، ولذا كانت تتمتّع بنوعٍ من الاحترام وصل إلى حدّ أصبح يتضمن نوعاً من التقديس الأسطوري، أي إنّ المرأة أصبحت ذات حرمة خاصّة؛ لأنها تمتلك نوعاً من الارتباط بالإله.

والذي أظنّه هو أنّ مسألة حجاب المرأة لم يكن ذا محتوى صرف اجتماعي ـ حقوقي أو أخلاقي، بل كان ذا بُعد أسطوري أيضاً، أي أنّ إلزام المرأة بالستر، وإبعادها عن ساحة الحياة الاجتماعية، وإقرار نوعٍ من العلاقة الخاصّة معها، والنظر إليها بوصفها موجوداً ملوّثاً، هذا كلّه يحكي عن نوعٍ من الرمزية الأسطورية، وأظنّ أنّ هذا الأمر يشاهد حتى بالنسبة للإسلام والقوانين الإسلامية، فمثلاً لا تلزم الأمَة أو المرأة الكتابيّة بالحجاب على ما تنصّ عليه الشريعة الإسلامية، وقد استدلّ بعض المفكّرين والفقهاء كالشهيد المطهري لإثبات ضرورة الحجاب بأنّه إنّما شُرّع لصيانة عفّة المرأة، أو صيانة العفاف الاجتماعي بشكل عام، وهنا يأتي السؤال: ألا يوجب ظهور نساء أهل الذمة والإماء الذين كانوا يشكّلون عدداً كبيراً في المجتمع آنذاك نوعاً من الإخلال بهذا العفاف الاجتماعي؟ نعم، فالعفة من المفاهيم الأخلاقية التي تعني أن تكون المرأة امرأةً والرجل رجلاً، ولا تختصّ بالمرأة، أمّا أنّه كيف نتمكّن من حفظ العفة عبر القانون، فهذا يرجع إلى الطرق المعتمدة في كلّ زمان والمتناسبة معه ومع العرف السائد فيه، وقد اتّبع الإسلام هذا العرف، فلابد عند ملاحظة حكم الشارع بالنسبة للنساء الأحرار أو الإماء أو نساء أهل الكتاب من الرجوع إلى روح مراد الشارع ومعرفة لبّه.

والأمر الهام الذي ينبغي الالتفات إليه أن أحكام المرأة ليست بعيدةً عن التلوّث بالأساطير، وأن للرموز والأساطير معنى في حياة المرأة، فلو أرادت أن تخرج المرأة من دنياها فستواجه العديد من المشاكل؛ ولذا لابدّ من النظر إلى الأحكام جميعها بنظرة عَرَضيّة أسطورية، وإخراجها من أسطوريّتها هذه.

مفهوم المرأة ودوره في بلورة قوانينها ـــــــ

● ذكرتم أنّ حقوق المرأة وأحكام علاقتها بالرجل ترتبط في العالم القديم ـ ومنه العالم الإسلامي ـ بمدى فهم حقيقة الرجل والمرأة، ومع الأخذ بعين الاعتبار التغييرات التي حصلت في العالم والتحوّلات التي وقعت في المعرفة الإنسانية، نجد أنّ تعريف الرجل والمرأة قد خضعا أيضاً لهذا التغيير، والسؤال هنا: ألا يلزم من ذلك تغيّر الأحكام والقوانين الحاكمة على علاقة الرجل والمرأة؟ أليس السبب في ظهور معضلة عنوانها (حقوق المرأة) هو عدم وجود تناسب بين أمرين هما: (القوانين والأخلاق التقليدية) و (التعريف الجديد للرجل والمرأة)؟

لا شكّ أنّ الرجل قد وضع حقوقاً للمرأة بناءً على ما تكّون لديه من رؤية معرفية عنها، لكن ذلك لم يكن العامل الوحيد في تكوّن نظامها الحقوقي، بل الواقع هو أنّ المرأة في الماضي ــ ولأسباب متعدّدة ــ لم يكن لها أيّ دور اجتماعي، وأن الإمكانات والفرص المتاحة للرجل لم تكن متاحةً لها؛ فقد كان المجتمع أمّياً غير متعلّم، والمرأة تزيد عن الرجل أميّةً وجهلاً، وكانت عقيدة القدماء تذهب إلى كون المرأة أضعف من الرجل من جهةٍ تكوينية، أي بلحاظ القوى الإدراكية.

وهذا الكلام يتردّد حتى في فلسفة كانط، فمع كونه من فلاسفة عصر النهضة، إلا أنّه ذكر ـ عند بحثه في فلسفة الأخلاق ـ أنّ الموجودات المستقلّة وحدها التي تتمتّع بقوى إدراكية، دون أن يعتبر المرأة منها، ورأي كانط هذا قريبٌ من رأي الملا صدرا والحكيم السبزواري؛ حيث كانا يعتقدان أنّ المرأة إنّما تتمكّن من إدراك الجزئيات دون الكلّيات.

لقد كان هذا هو رأي اليونانيين القدماء والفلاسفة المسلمين والأوروبيين حتى بداية عصر النهضة، وبشكل طبيعي فإنّ ما ذكروه من حقوقٍ للمرأة وأحكامها الأخلاقية كان متأثراً بهذا الرأي، ولم يقتصر رأيهم هذا على اعتبار المرأة مخلوقاً أدنى على مستوى الفكر والإدراك، بل كانوا يرونها تفتقد القدرة على الإمساك بعاطفتها، ولا يقتصر أمرُها على الوسوسة للآخرين، بل إنها لا تتمكّن من الاستفادة من وجودها بشكل لائق، وقد ورد في الروايات وفي كتاب إحياء علوم الدين للغزالي أنّ المرأة تشكّل نصف جند الشيطان، وأنّ الشيطان يتمكّن ـ من خلالها ـ من الوصول إلى مقاصده داخل المجتمع الملتزم بالدين، كما ورد في روايةٍ أخرى أنّ النبيّ في المعراج نظر إلى جهنّم فوجد أكثر أهل النار من النساء.

وأغلب الظنّ أنّ هذه الروايات من الروايات الموضوعة، لكنّها تقدّم لنا العبرة وتحكي لنا عن النمط الفكري الذي كان سائداً في المجتمع الديني آنذاك، وكيف كان نمط التفكير لدى عالمٍ كالغزالي وكذا أنماط تفكير من كان يقرأ كتبه ويتلقّاها بالرضا، لقد كان هذا النمط من التفكير رائجاً، ولذا لم يعترض أحدٌ في المجتمع الديني القائم آنذاك على الكثير من هذه الروايات والأحكام والحقوق المتعلّقة بالنساء، فقد كانت متناسبةً مع التصوّر الموجود عنهنّ، تتلاءم معه وتنسجم؛ لذا لم يكن هناك من داعٍ للاعتراض، بل كان للوقوع في حصار التصوّر التقليدي للمرأة دوراً في فتح باب عدم التناسب بين حقوقها ووجودها، وهذا ما جعل الأصوات ترتفع عالياً حيث لابد للحقوق والقوانين من أن تراعي عرف الزمان والروح الحاكمة عليه، ولا يمكن لنا أن نطلب من الناس تبديل أعرافها ومفاهيمها، فلك في قانون الجاذبية أن تقول: إنّه موجود وان لم تقبله فعليك أن تغيّر الفضاء، أمّا في مورد الحقوق والقوانين فلا يصحّ مثل هذا الكلام؛ إذ أين يذهب قوله تعالى: >لاَ يُكَلِّفُ الله نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا<؟! ومن مصاديقها المفاهيم العامّة التي نعيش فيها.

وأطرح لذلك مثالاً، فقد ورد في كتب الأحكام أنه يستحبّ تزويج البنت عند بلوغها تسع سنين، كما ورد في الروايات أنّ من سعادة الرجل أن لا تحيض ابنته في بيته، لكننا نجد أنّ هذا النوع من السعادة لا يسعى إليه أيّ إنسان اليوم، ولا يرضى حتى عُرفُ المتديّنين في زماننا بتزويج البنت في سنّ التاسعة، ولو فعلت أسرةٌ ما هذا الأمر للامها العقلاء والمتديّنون، وهذا العرف لم يتحقّق دون سبب، أي أنّ الأمر لم يصل إلى ما وصل إليه عبر قيام الناس بعقد تبانٍ واتفاقٍ شيطاني يقضي بعدم تزويج البنت عند بلوغها تسعاً وتأجيل زواجها إلى حين بلوغها الثامنة عشرة أو العشرين، بل إن الصورة المرسومة عن المرأة ودورها الاجتماعي قد اختلفت عمّا كان سابقاً.

نعم، إذا كان تصوّرنا لدور المرأة أنّه ينبغي عليها أن تلِدَ الأطفال بمجرّد أن يملك جسدها القدرة على ذلك، وأن تهتمّ بزوجها فقط، فهذا يوصلنا إلى القول بأنها من الأفضل لها أن تُسرع في الانتقال إلى بيت زوجها وأن تؤدّي وظيفة إنجاب الأطفال ما دامت تملك القدرة على ذلك، أمّا إذا كنّا نرى لها دوراً آخر في المجتمع وأن تقف إلى جنب الرجل في بناء المجتمع، ولذا لابد أن تكون متعلّمة تملك تجربةً وتعيش في المجتمع، وأن نعترف بقدرتها على إدراك الكليات، مضافاً إلى إدراكها الجزئيات، فعندئذ لابدّ وأن نحدّد سنّ الزواج بنحوٍ مختلف، وبهذا يظهر لنا إلى أيّ حدّ كانت الرواية الواردة تحكي عمّا يتناسب مع عرف ذلك الزمان وليس لسانها تأبيدياً، وكذلك الحال بالنسبة لمسألة البلوغ وحقوق العائلة وسائر الأحكام الراجعة للمرأة، فإنها جميعها قشورٌ لحفظ القيم الأساسيّة.

وتكمن القضية في عدم وجود تلاءم بين التصوّر الجديد للمرأة وبين النظام الحقوقي التقليدي؛ فلابدّ لنا من البحث في الأحكام الدينية لنرى أيّ البناءات المعرفية لحقيقة الإنسان هي التي بُنيت عليها هذه الأحكام؛ حيث يذهب بعض المفكّرين المعاصرين مثل فضل الرحمن إلى أنّ ملاحظة فلسفة الأحكام المتعلّقة بالمرأة، كشهادتها، سوف يوجب تغييراً في الكثير منها.

والذي أراه أنّه ينبغي علينا استخراج القيم الأساسيّة الخادمة للعدالة من المصادر الدينية والعقلية، والنظر إلى النظم الحقوقية على أنها قشورٌ وظيفتُها حماية القيم، لذا تتسم بالمرحليّة وتكون مؤقتةً، ولذلك لابدّ لنا ـ تبعاً لتبدّل الأحوال ـ من استبدال هذه القشور بغيرها، ممّا يكون بإمكانه حفظ هذه القيم الرئيسة.

قد تكون حقوق المرأة من وجهةٍ اجتماعية موجبةً لفرض قيود على المرأة، لكنّها سوف تكون أسهل من القيود المجعولة عليها في سلسلة القوانين الحقوقية، وفي عقيدتي فإنّ أهمّ موضوع ينبغي بحثه هو تأسيس تصوّر عن حقيقة الرجل وحقيقة المرأة، حيث إن التداخل الاجتماعي الموجود في الوقت الحالي يشهد على كون هذه الحقوق والأحكام غير وافية بتلبية الحاجات الاجتماعية والدور الملقى على عاتق الرجل والمرأة، أي أنّ هذه الحقوق والقوانين لا تصلح جواباً عن العلاقات القائمة حالياً بين الرجل والمرأة في المجتمع، أمّا ما يقف حائلاً فهو التصوّر التقليدي للرجل والمرأة؛ لذا كان من الأفضل أن يتركّز جهد الباحثين حول هذا التصور بالذات.

من هذا المنطلق، نجيب عن الاسئلة المتراكمة: هل لدينا حقوق خاصّة بالمرأة؟ هل لدينا قيم نسائية؟ هل لدينا قيم رجالية؟ وغير ذلك.

ما أراه أنّ المسائل الفقهية والحقوقية قد بُحثت بشكلٍ كاف، والتنافي بين هذه الأحكام وبين واقع هذا الزمان ظاهرٌ للعيان، فلا بد من جرّ البحث باتجاه البحث الفلسفي العلمي الكلامي الواسع.

● تحدّثتم عن النسوية، فما هو تصوّركم عنها؟

إنّ الإجابة عن هذا السؤال أمرٌ صعب للغاية، فلنفترض أنّه لا يوجد جدل حول مسألة المرأة، ووجّه إلينا سؤال عن تعريف الرجولة، أو عن الإنسانية، لكان الجواب ـ أيضاً ـ أمراً صعباً، إنّ صعوبة تعريف الإنسانية تظهر من وجود تعاريف عديدة للإنسان، فقد قيل: الإنسان حيوان ناطق، وقيل: إنّه حيوان أخلاقي، وقيل: هو الفنان وصانع الآلة، وغير ذلك، إنّ الخروج بتعريف مستدلٌ عليه للرجل والمرأة أمرٌ صعب، لكن ما هو مسلّم أنّ المشكلة اليوم بارزةٌ للعيان أكثر من أيّ وقت مضى.

أذكر مرةً أنّ شخصاً ممّن كان في موقع المسؤول عنّا في المرحلة الثانوية، نقل لنا روايةً عن السيدة الزهراء، مضمونها أنّ شخصاً أعمى جاء إلى النبي، فقامت السيدة الزهراء واستترت، ولما ذهب ذلك الرجل سأل النبيُّ ابنته عن سرّ قيامها واستتارها مع أنّ الرجل كان أعمى، فقالت &: خيرٌ للنساء أن لا يراهنّ أحد ولا يرين أحداً، فأجابها النبي: نفسي لك الفداء، ومن ذلك اليوم جاء إلى ذهني هذا السؤال: هل يمكن أن يكون ما قامت به الزهراء هو الأنموذج الذي يحتذى للمرأة؟ إذا كان كذلك فكيف ذهبت هي نفسها إلى المسجد لتطالب بحقّها المسلوب؟!

نعم، هنا أمر لا ينبغي إغفاله وهو أنّ المجتمع المحافظ يعتبر هذا العمل أنموذجاً يحتذى به، أي أنّه يعتقد بأفضليّة عدم الرؤية المتبادلة قدر الإمكان، بل وحتى عدم سماع أحدهما صوت الآخر، ويظهر التنافي واضحاً كالشمس بين مثل هذا التفكير وما تعيشه المرأة في هذا العصر حتّى في الدولة الإسلامية؛ فهي تذهب إلى الجامعة، وتتولّى الوظائف، وتشارك في المظاهرات، بل تشارك في النشاطات العسكرية، وهذا كلّه لا ينسجم مع هذا النمط من التفكير، بل إنّ التنافي بينهما واضح إلى الحدّ الذي لا يُفتي علماء زماننا بهذا الأمر، ولا يعتبرونه ذا قيمة أخلاقية، ولا يقولون حتّى باستحبابه، فهم لا يحبّذون للمرأة عدم الذهاب إلى الجامعة والمصنع، وعدم الخروج والاستتار عن الأنظار بنحو لا يراها الرجال ولا تراهم.

إنّ الحياة المعاصرة تقضي بتبدّل هذه القيم، وبتبع هذا التغيير سوف يتغيّر تصوّرنا وتعريفنا للعفّة والحياء، ويتبدّل كلّ ما كان في الماضي مما اختلط بالأساطير، فإذا دار حديثٌ ما بين شابٍّ وفتاة كان يعتبر ذلك مخالفاً للعفة والحياء، أمّا الآن فهو أمرٌ عادي، فقد أوجدت المرأة لنفسها حضوراً مختلفاً لا يمتّ إلى الماضي بصلة.

التاريخ النسوي والإسهام في تكوين صورة عن المرأة ـــــــ

نعم، لابد لنا ـ للخروج بتعريفٍ عام وسريع عن المرأة ـ من مراجعة التاريخ، بالإضافة إلى العلوم التجربية؛ فقد كان للمرأة دورها على مرّ التاريخ، ولا يمكنني إغفال هذا الدور، أي لا يمكنني أن أضع كلّ تاريخ المرأة في إطار النسيان، وأنكر هذه الحياة الطويلة لها، فذلك ليس بالعمل العلمي، بل سيوصلنا إلى نتائج غير واقعية، وقد ذكرت في مقالةٍ لي حملت عنوان: فلنتعلّم من التاريخ، هذا الأمر وشرحته بالتفصيل، ورأيت أنّ التاريخ مختبر لمعرفة حقيقة الإنسان، والمرأة، والرجل، وغير ذلك، وإذا كان من الممكن للإنسان أن يخفي نفسه في أيّ مكان فلن يتمكّن من إخفائها في التاريخ العام؛ فإذا كان مخلوقاً وحشياً مفترساً فستظهر آثار ذلك في مجموع تاريخه، وإذا كان مَلاكاً فستظهر آثار ذلك أيضاً.

وعلى أيّة حال، إذا فُتحت صفحة التاريخ فُتحت معها صفحة الوجود الإنساني، صحيح أنّ الإنسان يتلوّن بلون المجتمع الذي يعيش فيه والثقافة التي يحملها، ولا نستطيع أن نجد في المجتمع الفردَ المجرّد، لكننا قادرون على العثور عليه في التاريخ العام، لأنّنا في التاريخ العام لن نجد حجاباً أمام الحقائق، بل سوف نظهر نحن أيضاً في التاريخ بشكل مجرّدٍ غير مستور.

لذا يعتقد المؤرّخون أنّ عهود الصلح والسلام عبارة عن العهود التي تخلّلت حربين، أي أنّ الحروب كانت قد ملأت حياة البشر إلى الحدّ الذي تظهر فيه فترات الهدوء والسلام بوصفها فترات هدنةٍ بين حربين، فإذا كان تاريخ البشرية يحكي الحرب بين أبناء البشر، فلا يمكن لنا أن نصل إلى النتيجة القائلة بأن الحروب كانت مفروضةً على البشرية، بل الصحيح أن نقول: إنّ الإنسان مخلوق عدائي، أي أنّ الحرب والقتال جزءٌ من طبيعته، لا أنّه أمرٌ مفروض عليه وعارض على طبيعته، فإنّ شيئاً ما إذا أصبح قاعدةً في التاريخ فلابد أن يكون له جذوره في طبيعة الإنسان وتركيبته البيولوجية.

ما أريد الوصول إليه هو أنه لا يمكننا أن نعتبر المرأة ـ وببساطة ـ مظلومةً في حياتها وتاريخها عموماً، بحيث لم تتمكّن من أن تُظهر ما تتمتّع به من قدرات، وسعت لخمسين عاماً خلت كي تخرج من تحت الظلم، إننا إذا شرعنا بمثل هذه الدعاوى فلابدّ أن نصل إلى أنّها مخلوق من طبعه أن يعيش على الظلم، وأنها إذا كانت إلى الآن كذلك فستكون كذلك في المستقبل، إلا أن تخرج المرأة عن كونها امرأة.

وعلى أيّة حال، ما أريد أن ألفت النظر إليه أمر تحليلي نفسي هو أنّه لأجل الحذر من الوقوع في الإفراط والتفريط وللوصول إلى حكمٍ عادل بحقّ المرأة، لابد وأن نأخذ بعين الاعتبار بناءها البيولوجي ـ النفسي، ولا يمكننا الاعتماد على القراءة المقطعية لتاريخها الطويل.

● نعم، هذه المقطعية التاريخية الطويلة قد تكون جزءاً من تاريخ البشرية الطويل.

صحيح، إن أحكامنا مؤقتة، أي أنّ كلّ ما نذكره حول المرأة أو الرجل أو الإنسان أمر يتّسم بالعجلة والآنية؛ لذا ذكرت في بداية الحديث أن ما نقوله ونصل إليه يصلح للزمن الذي نعيش فيه، ومن يأتي بعدنا عليه أن يقول ويصل إلى شيء آخر.

لكنني أؤكد ثانيةً على أنّنا ـ ومن وجهةٍ أكاديمية ـ لا يمكننا إغفال المقطع التاريخي الطويل من حياة المرأة، ولا أن نقول: إنّ كلّ ما عاشته إلى الآن كان أمراً مفروضاً عليها، إنّني أرى هذه النظرة، من وجهة منهجية ـ ميتدلوجية، خطيرة جداً، لهذا ما نترقّبه من الرؤية القاصرة علمياً والحكم المؤقت المرحلي الآني أكثر من الحدّ الطبيعي، لقد جرت العادة بأن تلحظ الدراسات التي ترتبط بموضوع المرأة الوضع القائم وما يقتضيه، والحاجات التي يقتضيها هذا الزمان، دون نظرٍ إلى مستقبلها، بل التاريخ إنّما يقع في صراط استحضار ما يثبت المظلومية التي كانت تعيشها، إنّ للمرأة تاريخها سواء كانت ربّة بيت، أو كانت عاملةً في الزراعة، أو زوجةً صالحة أو سيئة، متعلّمةً أو جاهلة، فهي تحكي عن نفسها في تاريخها هذا؛ فلابدّ لنا أن ننظر في السبب الذي جعلها درجةً ثانية في المجتمع؟ لماذا كان التاريخ تاريخَ سيادة الرجل؟ لماذا لم يحكم في التاريخ النظام الذي يعتمد على سيادة المرأة؟ هل السبب الوحيد في ذلك كونها موجوداً ملائكيّاً لا تريد أن تمارس ظلماً على الرجل؟ فيما ظلّ الرجل كائناً وحشياً يمارس الظلم ولا يتورّع عنه؟ هل كان نظام حكومة الرجل محض صدفةٍ؟

اسمحوا لي أن أقدّم هنا جواباً مختصراً وعميقاً، إنّني أرى أن شرح السيرورة التاريخيّة لابد وأن يتمّ على أساس المسير العلمي والمعرفة الإنسانية، ولتوضيح الأمر أكثر نذكر المثال التالي: لقد كان النظام الحاكم في العهد الزراعي هو النظام الإقطاعي، وكانت الناس تستفيد من الطبيعة، والأرض، والعشب، والبذر، والماء، وأمثال ذلك بمقدار ما يسمح به العلم والمعرفة، ومع تطوّر العلم تحوّل الإنسان من الزراعة إلى الصناعة، أي أنّ تحوّل المعرفة الإنسانية أوجب تحولاً في معيشة الإنسان نفسه، فلطريقة العيش ارتباطاً وثيقاً بمستوى المعرفة البشريّة، بحيث إذا تبدّلت إحداها تتبدّل الأخرى، والعلاقات الإنسانية تابعة لهذا النظام.

وتبعاً لذلك، نستنتج أنّ الصورة الموجود لدى المرأة عن نفسها وتصوّر الرجل لها وتصوّرها له، كانت من العوامل التي استتبّ في ضوئها حكم الرجل، لا أريد القول: إنّ المرأة قد ظُلمت أو لم تظلم، بل ما أهدفه هو أنّ مجرّد بيان ظلم هذا النظام لا يكفي، بل مفتاح المسألة إنما يكون بالبحث عن أنّه لماذا حصل هذا؟ أي البحث عن الأسباب الحقيقيّة، فلم يكن هذا التصوّر مختصّاً بالرجل وحده، فحتى لو فرضناه تصوّراً خاطئاً لكنّه كان موجوداً في وعي المرأة أيضاً، إنّ تصوّرها لنفسها كان كتصوّر الرجل لها، أي إن الذي صنع تاريخها هذا هو طريقة تعامل أربعة أطراف معها: أ ـ تصوّرها لنفسها. ب ـ تصوّرها للرجل. ج ـ تصور الرجل لها. د ـ تصور الرجل نفسه.

هذه الأطراف الأربعة أوجدت في الجوّ التاريخي العام نظام سلطة الرجل، وفي هذا النظام مورس الظلم على المرأة، نعم، قد لا يصح ـ بناءً على هذا التحليل ـ تسمية ذلك ظلماً، فإذا حصل أمرٌ ما نتيجة تحقّق أسبابه فلا يقال له: ظلم، واليوم إذا أردنا القيام بعملية تغيير في العلاقة القائمة بين الرجل والمرأة، فلابد لنا أن نقوم بتغيير هذه الأطراف الأربعة.

مسألة المرأة والاختلافات النفسية والبيولوجية ـــــــ

● ذكرتم ـ وبشكلٍ تفصيلي ـ في كتابكم (دانش وأرزش ـ العلم والقيم) أنّ العلاقة بين المعرفة والقيم علاقة إنتاجيّة منطقية؛ بناءً على ذلك ألا تؤثر الاختلافات البيولوجية والنفسية الموجودة بين الرجل والمرأة، والتي يقرّ بها العلم، على النظام الأخلاقي الحقوقي؟

سؤالٌ جيد، ما قلته في ذلك الكتاب أنّ الواقع الطبيعي والتاريخي لا ينبغي أن لا يحمل أيّ نوعٍ من القيم؛ لأنّه إذا فرضنا ذلك فسوف نستخرج (الما ينبغي) من (الما وُجِد)، لكنني ذكرت في موطنٍ آخر من الكتاب أنه لابد للأخلاق ـ في الوقت نفسه ـ من أن تلحظ الواقع، أي أنّ الما ينبغيّات لا تستنبط من الواقع و(الما وجد)، لكنّ لابد أن لا تتعارض معه، فإن الما ينبغي إذا كان غير عمليّ لا يكون أخلاقيّاً، وبعبارةٍ أخرى: إنّ (الما ينبغي) أيّ القيم الأخلاقية والحقوقيّة لابد وأن تنسجم مع الواقع، لا أن تُتّخذ منه أو تُستنبط من خلاله، وبعبارةٍ ثالثة: إنّ جزءاً من الماينبغيّات يستنبط من قلب الواقع لا من ذاته نفسه، نعم لابد لهذا الـ (ما ينبغي) وبشكل منطقي أن لا يكون غير قابل للتطبيق.

لا ينبغي في مسألة الرجل والمرأة وضع حقوقٍ وتكاليف لا تنسجم مع الوجود التاريخي البيولوجي والنفسي؛ فإن مثل هذا الأمر لو فرض لأدى إلى زوال هذه الحقوق والتكاليف، فالحقوق والأخلاق جزء من الاعتباريات ـ بحسب اصطلاح الحكماء ـ والأمور الاعتبارية لا توصف بالصدق والكذب، بل تتصف بأنّها مطلوبة أو غير مطلوبة، ممكنة الحصول أو غير ممكنة، فإذا كانت طبيعة المرأة بحيث لا تتقبّل بعض الأحكام، فهذه الأحكام سوف تصبح بنفسها غير عملية، حتى لو أوردنا لذلك مئات الأحاديث والروايات، فجسم المرأة وطبيعتها البيولوجية ـ وكذلك الرجل ـ لن يتقبّل هذه الأحكام، ومن ثمّ ستلغي نفسها بنفسها.

ويؤيّد هذا قولُه تعالى: >لاَ يُكَلِّفُ الله نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا<، فلا تكليف لدينا فوق السعة والطاقة، بل إنّ مثل هذا التكليف غير شرعي أساساً، لكن لابد من الالتفات إلى أنّ الوسع والطاقة ليسا من جهة الجسم والبدن فقط، بل يشملان سعة الروح والعقل، وهذه السعة تتبدّل بحسب تبدّل الحقب والمراحل التاريخية؛ ولذا لابدّ ـ عند وضع القوانين الخاصّة بالمرأة أو الرجل، الصغير أو الكبير ـ من ملاحظة الواقع والطبيعة كي لا تكون مرفوضةً.

هل هناك قراءة نسوية للعالم وقراءة ذكورية للوجود ؟ ـــــــ

● متى اعترفنا بوجود اختلاف بيولوجي ونفسي بين المرأة والرجل، هل يمكننا أن نقول: إنّ هناك فهماً نسويّا لهذه الدنيا؟ أي هل يمكن أن يكون لدى المرأة تفكيرٌ مختلف عن الرجل وعن الحياة وعن العلاقات بين أبناء البشر؟ وما هو تأثير ذلك على العلاقة بين الرجل والمرأة؟

لا أستطيع أن أعتبر هذا الأمر غير مقبول بشكل مطلق، نعم، قد تكون لدينا رؤية خاصّة بالمرأة عن العالم تختلف عمّا لدى الرجل، لكن لابد من بيان خصوصية هاتين الرؤيتين، فهل يقتصر الاختلاف على دائرة الأمور الاعتبارية والقيم، أم أنّه يشمل غيرها أيضاً؟

المسألة معقّدة؛ فنظرة المرأة تختلف عن نظرة الرجل في بعض الأمور حتماً، وهو ما يغني الحياة الإنسانية، ولا يوجب خللاً في العلاقة القائمة بين الرجل والمرأة، فما المشكلة في أن يكون لدينا في هذا العالم رؤية فلسفية، ورؤية شاعرية، ورؤية علمية، ورؤية دينية، والى جانب ذلك رؤية ذكورية، وأخرى نسوية.

*   *     *

(*) مفكر إيراني معروف، وأشهر منظري الإصلاح الديني في إيران، طرح أواخر ثمانينات القرن الماضي نظرية mالقبض والبسطn، ليعقبها بسلسلة نظريات معرفية أخرى، أثارت نظرياته جدلاً واسعاً، استمرّ أكثر من عقد من الزمن.

Facebook
Twitter
Telegram
Print
Email

اترك تعليقاً