أحدث المقالات

تفكيك المقولات ورصد عناصر التطبيق

حوار مع د. الشيخ علي رضا الأعرافي(*)

ترجمة: علي الوردي

وحدة الحوزة والجامعة وحدة مبادئ لا مناهج وطرائق ـــــــ

_ يبدو أن مصطلح «الوحدة» من المصطلحات التي يلفّها الغموض بعض الشيء، فما المراد منه برأيكم؟ ويا ترى أيّ نوع من الوحدة يراد له أن يكون بين الحوزة والجامعة، الوحدة على مستوى الهيكل العام أم الوحدة على مستوى القيم أم الوحدة على صعيد المناهج والأساليب؟ بعبارة ثانية: أليس من الأفضل استخدام مصطلح بديل عن الوحدة كالتقريب أو التوفيق؟ وألا ترون أننا قد أخفقنا في توظيف شعار الوحدة عبر 22 عاماً من استخدامه، وألا يكون من الأجدر بنا إعادة النظر في تعريفنا للوحدة وما تنطوي عليه؟

^ أولاً: هذا صحيح، فهناك بحوث عديدة حول مثل هذه المصطلحات كالوحدة والاتحاد؛ ففي الفلسفة يراد بالوحدة غير ما يراد من الاتحاد؛ فالوحدة تعني أنّ هناك شيئاً واحداً موجوداً ومتحققاً ـ وجود واحد لا وجودين ـ بينما يشير مصطلح الاتحاد إلى أمرين مختلفين لكن تجمعهما جهة مشتركة. وعندما نستخدم مصطلح الوحدة فنحن لا نريد به ما يريده الفلاسفة، وإنما مرادنا من الوحدة هو الاتحاد بالمعنى الذي تقدم.

ثانياً: إنّ الوحدة المستخدمة في الفلسفة ـ أي صيرورة الأمرين شيئاً واحداً ـ ليست المقصودة في استخدام أيّ شخص عندما يقحم مصطلح الوحدة في حديثه (نستثني من ذلك نزراً يسيراً أراد بها المعنى الفلسفي)؛ فإذا سحبنا المصطلح بغية تطبيقه على بحثنا سنجد أن المؤسّسات المزدوجة ـ أي ثنائية الهدف ـ لا يمكن اعتبارها متوحّدة بالوحدة الفلسفية؛ فيقال: بين المؤسستين يوجد اتحاد تمخّض عنه مؤسّسة واحدة مزدوجة الأهداف، وإنما الذي يجمع المؤسّستين اقترابهما واشتراكهما في بعض الخصوصيات التي تساعد على الوصول إلى الأهداف المبتغاة.

وعليه؛ فمرادنا من الوحدة بين الحوزة والجامعة ليس الوحدة في الهيكل والبُنية ولا حتى في المناهج؛ لأننا لا نبتغي ـ بأيّ حال من الأحوال ـ صيرورة المناهج المتبعة في كلّ من هاتين المؤسّستين منهجاً واحداً؛ وذلك لأن المواد التي يتمّ تدريسها في الحوزة تتبع منهجاً محدداً يختلف عما هو متّبع في تدريس المواد الجامعية؛ فلكل كيان أسلوبه ومنهجه الخاص، إضافةً لذلك فإن الطابع العام الغالب على الكيان الحوزوي هو اختصاصه بالعلوم الدينية في حين تختصّ الجامعة ـ غالباً ـ بالعلوم التجريبية، وقد تكون هناك مشتركات بين الكيانين، لكن بشكل إجمالي لكلّ كيان طابعه الذي يتميّز به.

ويتضح مما تقدّم أنّ الوحدة المعنية ببحثنا لا يمكن سحبها على المنهج المتبع في كلا الكيانين الحوزوي والجامعي، إذاً فليست هي الوحدة في المنهج والأسلوب. فما هو مرادنا ـ يا ترى ـ من الوحدة؟ هل هو الوحدة العلمية؟

إذا قصدنا بالوحدة العلمية إدغام المواد الدراسية لكلا الكيانين ضمن دائرة واحدة فهذا مما لا يمكن التسليم به. وأما إن أريد بها تحديد مسار كل من الكيانين ليلتقيا عند نقطة محدّدة تشكل المبادئ المشتركة لهما بحيث تكون هذه الوحدة المبدئية مساهمة في إيجاد سبل للتعاون والعمل المشترك والمنسّق، فعند ذلك يمكن التسليم بصوابها؛ وعليه، فالوحدة على صعيد المبادئ هي المعنية في عنوان الوحدة بين الجامعة والحوزة، أي العمل على تحقيق مبادئ مشتركة، ولن يكون هناك للوحدة في الهيكل التعليمي مستوى أدنى من الذي ذكرنا، وإنما تعني التعاون والتنسيق وتبادل وجهات النظر فحسب.

أما في ما يتعلق بالمجال الإداري والثقافي للمجتمع، فإن كل كيان ـ حوزوي أو جامعي ـ يعمل بوظائفه ومهامه، ولا سبيل للوحدة بينهما إلا في حال أصبح أحدهما في عرض الآخر بحيث أصبحت هناك أهداف مشتركة تدفعهما للعمل المشترك.

المناخات المساعدة على تحقق وحدة الحوزة والجامعة ـــــــ

والذي يجدر ذكره هنا، أن عناصر الوحدة والتعاون والعمل المشترك بين الحوزة والجامعة لا يمكن لها أن تتحقق إلا من خلال عدّة أمور:

الأمر الأول: الإعداد النفسي للوحدة، ومعنى ذلك أولاً: أنّ هذه الطبقة ـ الحوزوية والجامعية ـ تمثل النخبة والصفوة الاجتماعية، وثانياً: أن الأمّة التي تجمع كافة الطبقات الاجتماعية تشارك النخبة في إيجاد التحولات الاجتماعية، لكن للأخيرة الدور الأهم ـ على رغم الاختلاف في تفسير طبيعة الأدوار لدى علماء الاجتماع ـ وهذه النخبة التي تكون على رأس الهرم الاجتماعي إذا منيت بالخلافات المستعصية التي يصعب إيجاد الحلول لها فإنّ هذه الأزمة ستنتقل ـ مباشرةً ـ لتصيب الهيكل الاجتماعي، ومن ثمّ تصبح النفسية الاجتماعية مصابة بأمراض كالانفصام والازدواجية، كما هي الحال في الأمراض النفسية التي تصيب الأفراد، وذلك لأنّ النخبة التي تحدّثنا عنها إنما تتألّف من أهم وأبرز الشخصيات الاجتماعية من حيث الأداء وتحمل المسؤوليات، فإذا ما لاحظنا المسألة من زاوية علم النفس الاجتماعي سنجد أن الوحدة والتعاون والانسجام بين أفراد النخبة من شأنه الحفاظ على سلامة المجتمع. هذه ناحية، ومن ناحية أخرى فإن التأريخ السياسي والاجتماعي يقدّم شواهد وقرائن متعدّدة على أن الانشقاق والفرقة بين أطراف النخبة يؤثر سلباً على المجتمع ويصيبه بذات الأمراض التي أصابت النخبة، في حين أنّ الوفاق والانسجام بين أطراف النخبة يؤثر إيجاباً على المجتمع ويقوده باتجاه النموّ والازدهار.

النتائج الإيجابية لسلامة العلاقة بين المثقف والفقيه ـــــــ

_ طبعاً هذا إذا كان التقارب بين الكيانين ـ الحوزوي والجامعي ـ تقارباً جذرياً وبنيوياً، لا صورياً ونفعياً؛ لأننا شاهدنا في أحايين كثيرة أن التقارب بينهما لم يحقّق انسجاماً وإنما اختلافاً وتناحراً عرّض المجتمع لأزمات وشدائد عسيرة.

^ تشير بعض الدراسات الأكاديمية إلى أنّ التعاون والتنسيق في ما بين الكيانين: الحوزوي والجامعي، إبان الحركة الدستورية والفترة التي شهدت تأميم النفط وأثناء الثورة الإسلامية، أحرز نجاحات وحقّق نتائج هامة. لكن كلما ابتعد الطرفان وزادت الهوّة بينهما انتقلت تبعات ذلك إلى المجتمع وجعلته عرضةً للشدائد والأزمات. والسر في هذا الابتعاد والفُرقة بعد التعاون والتقريب أن التعاون لم يكن تعاوناً جذرياً والوحدة لم تكون وحدة متماسكة.

وعلى أية حال، إذا لاحظنا المسألة من زاوية علم النفس الاجتماعي والتاريخي والسياسي، سنجد أن هذا التعاون والتقارب كلّما كان وثيقاً وعميقاً سيكون إيجابياً ومفيداً، ومن سمات المجتمع الناجح نجاحه في التعاون والتقريب بين النخب؛ إذاً، نحن نحتاج إلى الوحدة التي تعني التعاون والتنسيق، وهذه الحاجة موجودة لدى كل من المتدينين وغير المتدينين، لكنّه في الطائفة الأخيرة أقل رسوخاً وتمركزاً؛ فالمتدين يرى الوحدة تتجلّى في القيم الدينية التي تشترك بها معظم الأديان، وهي نظرة لا يتمتع بها كل متدين، فهناك من المتدينين مَن تطغى على تدينه بعض التوجهات كالقوميين على سبيل المثال. وتكتسب هذه المسألة أهميتها من نسيجنا الاجتماعي الذي يمتاز معظمه بطابع ديني، وهذا النوع من المجتمعات تصعب إدارته بحكومة غير دينية.

وعكس هذا الأمر صحيح؛ فإذا سحبناه على الحوزة العلمية سنجد أنّ فراغها من الطابع الأكاديمي وانزوائها بعيداً عن الجامعات الأكاديمية سوف لن يضعها على طريق النجاح؛ إذاً نحن بحاجة إلى التعاون والتنسيق على مستوى عال، وإن لم يتوفر هذا المستوى من التعاون فلا بأس باليسير منه، لكن على كل حال يجب الحرص على إيجاده.

تقّدم الأسباب المعرفية الثبوتية على الأسباب الاجتماعية في التأثير على العلاقة والوحدة ـــــــ

_ نواجه اليوم على الصعيد الاجتماعي والمعرفي آراء وتوجّهات معاصرة.. بتقديركم ما مدى تأثيرها على الحوزة والجامعة من جهة، وعلى العلاقة التي تربط الإثنين من جهة أخرى؟

^ قبل الحديث عن الموانع والعقبات لابد من التنويه إلى نقطة هامة، وهي أنّ الحديث عن العلاقة بين الحوزة والجامعة يمكن طرحه ضمن مستويين: المستوى الأول يمتاز بسطحيّته، ويشمل البحوث الاجتماعية والسياسية وما إلى ذلك. فيما يشمل المستوى الثاني جوهر الموضوع والبعد المعرفي له. وهذا المستوى ينتهي بنا إلى موضوع واسع ومعقد وتأريخي، وهو موضوع الصلة بين العلم والدين.

فمعرفة قضايا من نوع: دور كلّ من الحوزة والجامعة وطبيعة العلاقة بينهما، والمناهج العلمية والتربوية التي يملكانها، ومستوى التأثير الاجتماعي لهما، وما إلى ذلك من المسائل التي تصب في السياق ذاته، لها جذور ممتدّة في الأسس المعرفية التي تستند إليها مسألة الصلة بين العلم والدين. ولا يخفى عليكم أنّ الفرد إن لم يمنح الدين وزناً في المعيار القيمي وكانت نظرته للدين دونيةً فسيختلف تأثير المؤسّسة الدينية ـ برأيه ـ (طبعاً هذا بناءاً على أدنى مستويات الصلة بين المعقول واللامعقول)، لكن فيما لو مُنح الدين الوزن الأكبر وكان التمسّك به بأعلى مستوياته فسنجد هناك 10 إلى 12 نظرية تدور جميعها حول الصلة بين العلم والدين، وكل واحدة من هذه النظريات البنيوية كفيلة ببيان طبيعة الصلة بين العلم والدين وتحديد مهام كل من المؤسّسة الدينية والجامعة الأكاديمية، وكفيلة أيضاً بشرح آليات التعاون بين المؤسّستين.

يضاف إلى ما تقدم، أنّ للآراء المطروحة حول علاقة الدين بالسياسة نصيباً من التأثير على الموضوع الذي نحن بصدده، أي التعاون بين المؤسّسة الدينية والجامعة الأكاديمية.

ولابد من الإشارة هنا إلى أن ما نتحدث عنه يستند إلى نظرية متوازنة إلى حدّ ما؛ وذلك أن منطلق حديثنا السابق لا يجعل الدين هامشياً مما يترتب عليه حصره في العلاقة بين الإنسان وربه، أو كون الدين أمراً نفسياً وشخصياً مفصولاً عن باقي المجالات. ولا نصوّب النظرية القائلة: إن الدين يسعى لتقويض سائر العلوم البشرية والحلول محلّها، إنما نعتقد بأن العلم والدين يلتقيان في مواطن عديدة؛ فيشكّل أحدهما سنداً للآخر.

إن منشأ جملة من المعوقات التي نواجهها نفس هذا البحث البنيوي، أي إن الفرد الذي يتبنّى الدين بصورة هامشية سوف يختلف فهمه وكذلك تفسيره لكثير من الأمور والظواهر، ومن ثمّ سيؤدي ذلك إلى إيجاد حالة من التنافر والتباعد. وطبعاً إن الآراء البنيوية المتقدم ذكرها، ليست هي الوحيدة المسؤولة عن إيجاد المعوقات والعقبات، وإنما العديد منها منشؤه جملة من العوامل والأسباب الاجتماعية (الهامشية).

_ هل نفهم من ذلك أنكم تسطّحون الأسباب الاجتماعية وتولون الأهمية القصوى للمسائل والقضايا الإبيستمولوجية المعرفية؟

^ نعم، ففي رأيي تعتبر هذه المسائل أكثر أهمية، طبعاً لا ينفي ذلك تأثير العوامل والظواهر الاجتماعية، لكن التأثير الأهم والدور الأبرز إنما تتميز به القضايا المعرفية.

هل طبيعة المؤسستين الحوزوية والجامعية متنافرة أم متقاربة؟ ـــــــ

الأمر الآخر الذي أودّ أن أشير إليه هو أن هذا الموضوع قد يطرح طرحاً فلسفياً عبر السؤال التالي: هل أن طبيعة هاتين المؤسّستين (الحوزة والجامعة) توافقية أم تنافرية؟ وعلى حد قول الحوزويين: هل التقارب بين الكيانين يقتضي التوافق أم التنافر أم ليس بشيء من هذا ولا ذاك؟ كما أن هذا الموضوع قد يطرح في علم الاجتماع على نحو آخر وخلاصته: إنّ الأساليب والمناهج العلمية المختلفة ينتج عنها أيديولوجيات مختلفة. بل إن كل حقل علمي ينتج أيديولوجيا خاصة به تتكفل بمنح المتخصّصين بذلك الحقل هويتهم وكيانهم الخاص. وهكذا تتعدّد الهويات والكيانات بتعدّد الحقول العلمية، والذي يؤدي إلى التنافر والتزاحم هو هذا التعدّد الحاصل في الهويات، والناجم عن تعدّد الأيديولوجيات.

من المشهور اليوم أن كثرة الفروع العلمية وتراكمها في البلدان المتقدّمة أدى إلى نوع من التمزق والتفكّك الاجتماعي، وهو أمر ينسحب على موضوعنا، أي التقارب بين الحوزة والجامعة. فعلى سبيل المثال ـ وفي هذا السياق ـ هناك قول للغزالي في كتابه إحياء العلوم: إنّ من طبع الفقهاء التفكير على هذا النحو ومن طبع الفلاسفة التفكير على ذاك النحو. والحقيقة إن هذا الاطّراد بين التعدّد في الفروع العلمية والتفكّك الاجتماعي ليس عليـّاً (معللاً) وإنما اقتضائياً.

ومع الأخذ بنظر الاعتبار كلّ ما تقدم يبقى أمامنا السؤال التالي: أيّ من النظريات المطروحة يمكن الأخذ به؟ وذلك لوجود ثلاث نظريات حالياً، الأولى ترى عدم وجود ما يقتضي التقارب بين الحوزة والجامعة، والنظرية الثانية تقول باستدعاء التعاون بين الطرفين للتنافر. فيما تعتقد الثالثة بأن كل ما لدى المؤسّستين هو العلم، وإنما منشأ العلم واحد؛ وبذلك تفسّر إمكانية التقارب والتوافق بينهما.

لكنّني أعتقد أن هذه التعددية ليست تنافرية بحتة، طبعاً لا يخفى وجود شيء من التنافر في جوهرها، إلا أن تحويل هذا التنافر إلى وفاق وانسجام أمر ممكن من خلال التأمل والفكر والعمل الجادّ. وفي رأيي إنّ العقبات التي تقف في طريق الوفاق والانسجام، وكذلك أسباب الفرقة والتنافر، تكمن فيما يلي:

1 ـ إنّ طبيعة الأساليب والمناهج العلمية بحدّ ذاتها توجد نوعاً من الاختلاف والتنافر وشيئاً من الهوّة المعرفية والفكرية.

2 ـ عدم الاهتمام بالأسس المعرفية.

3 ـ قد لا يكون هناك في كثير الأحيان اختلاف جوهري وبنيوي بين الطرفين، لكن يغيب عن الأذهان آلية تحويل العلاقات البنيوية الكامنة بينهما إلى دواعي تقريب وانسجام.

4 ـ الخوض في المساجلات السياسية وعلاقة الدين بالسياسة، وهو ما يؤثر بشكل ملحوظ على طبيعة العلاقة والصلة بين الكيانين.

5 ـ وجود دولة دينية على رأس السلطة، والإخفاق الذي يمنى به النظام الديني والسياسي في بعض الأحيان، قد يعطي انطباعاً مختلفاً لدى الجامعات، ومن ثمّ يقرأ بقراءات مختلفة، فينعكس على طبيعة العلاقة ممّا يزيد من توترها وتنافرها.

_ بحيث يضخّمون المشاكل الروتينية ويحولوها إلي معضلات وأزمات شديدة؟

وهذا ما يفعلوه بالضبط، حتى لو كانت المشاكل بسيطة.

6 ـ إهمال الوقائع التأريخية والتجارب السابقة، فجيل الشباب لدينا، سواء الجامعي أم الحوزوي، ليست لديه أدنى فكرة عن الانتصارات التي حقّقت نتيجة التعاون، والإخفاقات والخسارات التي نجمت نتيجة الفُرقة، ونحن أيضاً قد أهملنا هذا الجانب ولم نعمل عليه بما يكفي.

7 ـ غياب اللغة المشتركة؛ وذلك لأنّ كل طرف يعمل ضمن إطار فكري محدّد ويستعين بلغة خاصة به، فمن أجل الوصول إلى لغة مشتركة لابد من توثيق العلاقات ودوام التواصل بين الطرفين.

8 ـ غياب الاستراتيجية الصحيحة؛ ذلك أنّنا إمّا نفتقد استراتيجية صحيحة أو نمتلكها لكن من دون تحديثٍ لها؛ فالعلوم الإسلامية التي تدرّس في المراكز التعليمية بحاجة ماسّة إلى تطوير دائم، وهذا ما نغفل عنه في كثير من الأحيان؛ ولا يمكن في هذا السياق تجاهل المتغيرات والمؤامرات الدولية، إلا أن هذا يجب أن لا يؤدي بنا إلى حصر الإخفاقات بها؛ فليس من الصواب توجيه كافة التهم للمؤامرة، كما يجب أن لا ننكر وجود مؤامرة وأعمال هادفة لخلق الأزمات وإيجاد الفُرقة والاختلاف.

وقد يكون هناك تسطيح وسذاجة فكرية لدى بعض النخب من الطرفين، كالميول المنحرفة والاتجاه اللاديني والرغبة في التحلّل الذي نشاهده لدى بعض الجامعيين وعلى الضدّ منه التقوقع والتحجّر الذي يصيب طائفةً من الحوزويين. كل ذلك يلعب دوراً خطيراً في تأزم العلاقات وتركيز ظاهرة الاختلاف والتنافر بين الحوزة والجامعة.

وبرأيي تعتبر هذه من أهم الأسباب وأكثرها تأثيراً. وجدير بالمسؤولين والمتصدّين العمل على معالجتها والحدّ منها.

الاختلاف المنهجي بين الحوزة والجامعة، أزمة التعبدية والتجريبية! ـــــــ

_ كثيراً ما يطرح هذه الأيام موضوع قد يبدو مهماً بعض الشيء وله صلة وثيقة بالتقارب والتعاون البنيوي والمعرفي بين الحوزة والجامعة، وهو موضوع المنهجية؛ برأيكم ألا يوجد تعارض بين المنهجيّتين، أي المنهجية المتبعة في الحوزة والأخرى المتبعة في الجامعة؟ لأننا نعلم أنّ المنهج المتبع في الحوزة العلمية هو منهج تعبّدي في أغلب الأحيان، إلا ما ندر في بعض العلوم حيث يكون للمنهج التجريبي مدخلية في التعاطي مع مسائل ذلك العلم. بينما نجد الجامعات تعتمد بشكل رئيس على التجربة والدراسات الميدانية، أي تتبع منهجاً تجريبياً محضاً؛ فما هو تقييمكم لهذا الاختلاف المنهجي؟ وهل تجدون من الممكن التقريب بين المنهجيّتين؟

^ كما أسلفنا منذ لحظات، فإن التعددية في المنهج تؤدّي إلى نوع من الاختلاف والتنافر، ومن ثمّ فالمنهج الذي يعتمد على التعبّد لا يمكن أن يجتمع مع الذي يتكأ على التجربة.

لكن على ما يبدو، تنتج هذه الرؤية عن نظرة غربية محضة للموضوع؛ فلو أمعنا النظر سنكتشف أن المنهج التعبدي الذي نحن بصدده ليس تعبدياً محضاً وإنما تقوم أسسه على العقل، وبما أنه ينتهي إلى أسلوب عقلي يتلائم والفكر البشري، فسوف تسهل معالجة التنافر بينه وبين المنهج التجريبي وتصبح إمكانية اجتماعهما متاحة. وتتعزّز هذه الإمكانية كلما كان فهمنا للمنهج التعبدي وموقفنا منه أقرب للصواب.

_ برأيكم ما مدى صحّة المقولة القائلة: إن فلسفة التعبد هي تعبدية بحدّ ذاتها؟

^ هناك اختلاف بين قولنا: إن هذه المقولة عقلية يمكن فهمها والتعاطي معها على أساس العقل، وبين قولنا: إن المقولة تنتهي بسلسلة عللها إلى العقل؛ وبرأينا إن التعبد يعني استقلالية المقولات الدينية، أي ليس من الضروري أن تكون فلسفتها مفهومةً لنا؛ لأنها قد تفهم أحياناً وقد لا تفهم أحياناً أخرى؛ بل قد تكون جلية وشديدة الوضوح في بعض الأحيان أو خافية شديدة العتمة في أحايين أخرى.

وعليه، نحن لا نعتبر التعبد مقولة عقلية يمكن التعاطي معها وفهمها على أساس عقلي محض. وبالتالي فإن قولك بأن «فلسفة التعبد تعبدية» إن كان المراد منه عدم انتهاء فلسفة التعبد ومعطياتها ـ من خلال سلسلة العلل ـ إلى العقل، فهذا لن يكون صحيحاً بأيّ حال.

العلاقة بين الحوزة والجامعة أمام التفاؤل والتشاؤم ـــــــ

_ على أعتاب النهاية، أعتقد أن رأيكم تجاه الوحدة والتقريب كان مثالياً إلى حدّ ما، فهل رؤيتكم للمستقبل على الغرار نفسه، أم أن الواقع سيعكس صورةً مختلفة؟

^ على الرغم من صعوبة التنبؤ بالاتكاء على الواقع الحالي، إلا أنني أشعر بالقلق تجاه المستقبل؛ لأنّ التحولات الكثيرة تجعل الطريق شائكة إلى حدّ بعيد. لكن في المقابل لست متشائماً بالرغم من كثرة الاختلافات على الصعيد الإبيستمولوجي وجدلية العلاقة بين العلم والدين من جهة وبين الحوزة والجامعة من جهة أخرى، وأرى أنّ ما تمّ العمل عليه في هذا المجال ليس بالهيّن، والنتاجات التي تمخّضت عن ذلك ليست بالقليلة أيضاً، لكنّ غياب الاستراتيجية الصحيحة من جهة وكثرة الطلاب من جهة ثانية بالإضافة إلي العقبات الأخرى جعلت الجهود التي بذلت في هذا الطريق تبدو ضئيلة وهامشية.

وعلى أية حال، فالحكم على هذه المسألة وفق المعطيات العلمية قد لا يسعفنا في هذه المرحلة لكن مشاعرنا تجعلنا نقف بين الخوف والرجاء.

_ بين الخوف والرجاء أيهما تختارون؟

^ أنا متفائل على أية حال.

_ هل هذا شعوركم تجاه الموضوع، أم أنه تعبير عن الواقع؟

^ بحسب علمي، لقد طوينا أشواطاً صعبة ومرهقة، وقد نحقّق بعض التوازن عن قريب.

_ ما هي الأوراق التي نمتلكها لاجتياز هذه الأشواط؟

^ إن الورقة التي نمتلكها هي أن المؤسّسة الدينية لدينا تختلف عما هي في أذهان الغربيين؛ فهي عقلانية وللفكر فيها دور حاسم، بالإضافة إلى أنها تمتلك إمكانات وقدرات عالية. من جانب آخر، فإن دور مجتمعنا وأثره على الكيان الحوزوي يعتبر محورياً وهاماً؛ فلقد كان للمجتمع مساهمة حقيقية في التحولات التي شهدتها الحوزة وما وصلت إليه الآن؛ وكل هذه الأمور ـ إلى جانب أمور أخرى ـ تجعلنا نعتقد بأن المؤسّسة الدينية لدينا تعتبر مؤثرة وفاعلة إلى حدّ ما.

_ بتعبير آخر فإن منظومتنا الأيديولوجية هي التي تجعلنا قادرين على اجتياز هذه الأزمة.

^ نعم، فمن جهة الأيديولوجيا والأسس المعرفية المختلفة التي نمتلكها، ومن جهة أخرى تاريخنا الثوري الحافل بتراثه وكنوزه المعرفية يشكّلان مجموعة نقاط قوتنا، وفي الوقت ذاته لسنا غافلين عن نقاط ضعفنا وما نتعرّض له من إرهاصات فكرية غربية كبيرة في مجال الإلهيات والسياسة وعلاقة الدين بالسياسة، ولا نجلس في أروقة الحوزة مكتوفي الأيدي والعقول كأن شيئاً لا يحصل.

(*) رئيس جامعة المصطفى العالمية في إيران، ورئيس مركز دراسات الحوزة والجامعة، أستاذ الدراسات العليا في الحوزة العلمية، ساهم بشكل فعّال في تجويد العمل الإداري في حوزة قم، خصوصاً قسم الدراسات والأبحاث.

Facebook
Twitter
Telegram
Print
Email

اترك تعليقاً