أحدث المقالات

مقاربة أولية
 إيمان شمس الدين

أغلب المعارك الفكرية والمعرفية التي تدور رحاها حول الوجود تعود في جذورها إلى مصادر المعرفة البشرية، وما يترتب على هذه المصادر ويبتنى على أساسها كل مسارات البشر في هذه الحياة، ورسم معالم عيشهم من السياسة إلى الاجتماع إلى الاقتصاد، بل إلى كل شيء يخص مسار الإنسان في هذه الدنيا.
ولست هنا بصدد استقراء شامل لكل المدارس وتفرعاتها شدة وضعفا انطلاقا من مصادر المعرفة وتصنيفات هذه المدارس ووفقها، لكنني سأسلط الضوء على المدرسة الإسلامية، التي تبنت مصادر معرفة تلفت في منطلقاتها عن باقي المصادر.
وكان محور الخلاف بين الجميع هو الله وصلاحياته و مداها، كون منطلقات تبني أي مصادر ستؤول في نهاية المطاف إما للاعتراف بوجود الله وامتداد صلاحياته للانهاية، أو نكران وجوده بالأصل، أو الاعتراف بوجوده وتضييق مساحات صلاحياته في التشريع والتوجيه.
لذلك اعتبرت نظرية المعرفة من حيث مصادرها وقيمتها من أهم مقدمات كل العلوم، بل هي قاعدة الانطلاق لكل العلوم الفوقية، وهنا تكمن خطورة الأمر وعظم مسؤولية المتصدين في مجالات المعرفة والعلم.

المدرسة الإسلامية ومصادر معرفتها:
تبنت المدرسة الإسلامية بكل تفرعاتها خمس مصادر للمعرفة، لكنها تباينت شدة وضعفا في مراتب تلك المصادر وأهميتها وقيمة كل مصدر ، وتقدم أحدها على الآخر.
وما يهمنا هو فقط مصادر المعرفة التي اعتمدتها المدرسة الإسلامية.
اعتبرت هذه المدرسة أن مصادر المعرفة البشرية هي:
– الحس
– التجربة
– العقل
– النقل( القران والسنة التي يمثلها الحديث)
– الوجدان

حجية الحديث : توثيق وتصنيف:

و سأسلط الضوء على مصدر المعرفة المتمثل بالتقل وبالذات الأحاديث الشريفة التي تنقل لنا سنة النبي ص من قول وفعل وتقرير. وحجية الحديث تعتمد على سنده ومتنه، بمعنى أن يجتمع فيه صحة السند والمتن.
وقد خاض علماء الإسلام لأجل موضوع السند معارك رجالية طويلة خاصة كلما ابتعدنا عن عصر التشريع، وظهرت وفقا لذلك مدارس كثيرة ومناهج كثيرة وأدوات كثيرة، وثقت رجالا وضعفت آخرين، ثم مع التقادم ظهرت وثائق تاريخية جديدة وثقت بعض الضعفاء وضعفت بعض الأقوياء، هذا فضلا عن تطور العلوم وعلم الآثار و مناهج قراءة التاريخ، والتي كشفت للباحثين ثغرات كبيرة في طرق النقل ورجالها وملابسات تلك العصور ، وهو ما جعل هذا المصدر المعرفي طريقا شائكا طويلا للحصول على يقين أو علم مفيد للاطمئنان.
وهذه التجربة التقلية وما رافقها من صعوبات عاشها الباحثون بأنفسهم تكشف لنا عن أهمية ليس فقط دراسة التوثيق، بل أهمية توثيق كل هذه الدراسات توثيقا محكما يمنع أي محاولات مصادرة وتحريف وسرقة أو حتى طمس، مع تعدد وسائل التقل والتوثيق والحفظ اليوم، خاصة أن دراسة هذه التوثيقات كشفت للباحثين الصعوبات التي تواجههم من حيث البحث والتحقق، أو حتى من حيث احراز الاطمئنان بالصدور، أي في بعدها الخارجي التحقيقي أو في بعدها النفسي التوثيقي.
وهو ما يدفعنا لعدم تكرار هذه المعاناة مع الأجيال القادمة، ومحاولة تلافي كل الأخطاء المقصودة أو غير المقصودة التي وقع بها أسلافنا ، وتلافي كل المخاطر التي كانت سببا في اندثار وثائق أو محوها أو تحريفها.

ولدينا هنا مرحلتين في موازاة بعضهما البعض:
1. المرحلة الأولى وهي توثيق كل الدراسات التي تمت بخصوص علم الرجال ( الأسانيد) و مناهج البحث الجديدة وكل ما طرح من إشكاليات واقعية على مناهج البحث القديمة وعلى الأسانيد، وكيفية معالجتها و الأدوات التي توصل لها الباحثون للوصول إلى أقرب قيمة توثيقية،
2. توثيق تاريخنا المعاصر وكل أحداثه العلمية، وكل تفاصيله السياسية والاجتماعية والاقتصادية، توثيقا محكما وحفظه في عدة طرق تضمن عدم تحريفه وانتقاله من جيل إلى جيل، وعمل تشفيرات توثق المصدر والصدور لتوفر جهدا على الأجيال في البحث وتوثيق الصدور. وهو ما يتطلب تخصيص مركز بحثي لتوثيق الدراسات ودراسة التوثيقات، والقيام بأرشفتها وفق أحدث الطرق التي يمكنها الحفاظ على دقة الناقل وتوثيق المنقول، وهناك نظم جديدة اليوم كالتشفير الصوتي والصوري وحتى الرقمي، يمكنها تجاوز عقبات الماضي في التوثيق، والتاسيس لمنهج توثيق متطور يتلافى كل محاولات التزوير والتحريف والاختراق، خاصة للدراسات الموثقة، و التوثيقات التي تمت على كل الدراسات الحديثية السابقة.

وهناك وسائل اليوم مبتكرة يمكنها فعليا حفظ المعلومات والدراسات بطريقة مشفرة، ووضع لكل دراسة شيفرة محددة تؤكد صدورها وحفظها من التحريف، وهو ما يتطلب جهد تكنولوجي وبحثي وكتابي باستخدام أحدث المناهج في القراءة التاريخية، لتوثيق راهننا وملابساته، وتوثيق دراستنا البحثية حول الحديث وطرق إثبات حجيته، وهو أيضا ما سيوفر جهدا كبيرا على الأجيال اللاحقة، ويقلل مساحات التشكيك في التراث التي أوقعنا في عصرنا اليوم رهينة المطالبات بها، وأدخلت كثير من جيل الشباب في تشكيكات كبيرة، نتيجة عدم منهجة التراث وإعادة بنائه وفق قواعد علمية رصينة تزيل عنه التشكيك وتوثق صدوراته الصحيحة وتغربل الغث من الثمين، دون رمي الغث ولكن دون اعتماده كحجة دون وجود قرائن تثبت حجيته حاليا.
بما يعني عمل تصنيف منهجي للتراث من حيث شدة التوثيق والوثوق، بحيث يحفظ كل ما وصل إلينا من تراث، لكنه أيضا يميز بين ما هو موثوق الصدور ، وما هو لا قرينة فيه ولا له بالتالي مشكوك الصدور.

لذلك حتى لا يقع اللاحقين فيما وقعنا به بسبب السابقين، على المختصين الالتفات لهذا الموضوع، والمباشرة في عمليات توثيقية محكمة لكلا المرحلتين، والمراكمة عليها كلما تقدمت التكنولوجيا لتنقل من جيل إلى جيل بطريقة علمية مصنفة تصنيفا منهجيا، شريطة العمل بروح إجمالية منفتحة على كل المصادر الحديثية، وما أعنيه بالروح الإجمالية، هو أن يقبل الشيعة بصحة مجمل ما جاء في مصادر السنة الحديثية، كما يقوم السنة بقبول صحة مجمل ما جاء في مصادر الشيعة الحديثية، والإجمال يحل معضلة مهمة في التوثيق والوثوق من حيث منهج الاستقراء المنطقي، وفي ذات الوقت يحافظ على كل التراث الإسلامي، ولكن وفق تصنيفات علمية تميز بين ما هو حجة وما هو ليس كذلك، خاصة مع وجود مشتركات قاعدية مهمة في نظرية المعرفة وهو اعتبار الحديث مصدرا من مصادر المعرفة البشرية عند كل المسلمين، ولكن الاختلاف يكمن في تفاصيل كل مدرسة في مصنفاتها السندية، وفي منهج التوثيق، وهو ما يمكن معالجته من خلال هذا النوع من التوثيق الذي تم اقتراحه في هذه الورقة الأولية. وقد يعالج هذا النوع من التوثيق إشكاليات كبيرة في مشروع الوحدة الإسلامية، ويقدم خطوة هامة للأمام في وحدة الصف وتقليل الفجوة بين الفرق الإسلامية معرفيا.

Facebook
Twitter
Telegram
Print
Email

اترك تعليقاً