أحدث المقالات

أ. د. محمد كمال الدين إمام(*)

 

تمهيد

شهدت بداية القرن الماضي اعترافاً بعلمٍ قانوني جديد ـ وإنْ كانت له إرهاصاته ومجالاته في القرن التاسع عشر ـ اختير له عنوان القانون المقارن. وسرعان ما تبلورت مباحثه وتنوّعت مناهجه، وأصبح جزءاً من هموم أهل القانون الفكرية في كتاباتهم ومؤتمراتهم. ولا شَكَّ أن دعوة «أهرنج» للبحث عن روح القانون، من خلال نقده الصارم للمدرسة التاريخية، وما لقيه هذا النقد من ترحاب وإعجاب، أعطى الداعين إلى فلسفة التشريع جسراً يعبرون عليه لمغادرة جزر «الشكاك»، إلى أرض المؤسِّسين لعلم القانون المقارن. وهذا العلم ليس موضوعه الأوامر والنواهي بقصد إنزالها وتحكيمها، وإنما غايته النظر في ما وراء الأوامر والنواهي بقصد تقويمها، والبحث عن إمكان تعميمها، من خلال الإنسان الذي هو العامل المشترك في أيّ خطابٍ تكليفي، شرعياً كان أو وضعياً.

وهكذا يكتسب «القانون المقارن» حياة مدركها الروح الاجتماعية لكلّ أمة. والقانون المقارن بهذا المعنى ليس وجهة علمية خالصة مجردة، وإنما هو حركة لها أبعادها السياسية والاجتماعية. والمنهج المقارن في القانون ليس مجرّد طريقة بحث ووسيلة فهم، فمداركه أوسع مدى، ووظائفه تستجيب ـ أو هكذا ينبغي أن يكون ـ للتشريع القانون الداخلي؛ من أجل تفعيله وتطويره، والقوانين العالمية؛ بغية الوصول إلى العناصر المشتركة، إنْ لم يكن من أجل توحيدها. فأضعف الإيمان السعي نحو التقريب بينها؛ لأن القانون المقارن يختلف عن القانون الوضعي الذي من سماته المحافظة والسكون، بينما الحركة هي أبرز خصائص القانون المقارن، وهي حركةٌ في الفكر، وحركة في الواقع. حركة في الفكر وجهتها المبادئ الكلية، وحركة في الواقع ميدانها العالم الإنساني الرَّحْب، رغم حدوده الجغرافية، وموانعه السيادية.

ومنذ عام 1900م، أي بداية القرن الفائت، ومع انعقاد أوّل مؤتمر للقانون المقارن كتبت فيه شهادة الميلاد لهذا الفرع الوليد، برز الأستاذان «إدوارد لامبير»، و«ريمون سالي» كأهمّ المدافعين عن القانون المقارن، وأبرز الداعين إلى جعله علماً قائماً بذاته في الموضوع والمنهج والغاية. أما الموضوع فهو القوانين المختلفة زماناً ومكاناً. وأما المنهج فهو الطريقة المقارنة. وأما الغاية فهي البحث عن القواعد العامة والمبادئ الكلية بين الشرائع والنظم.

والرأي عندي أن ولادة القانون المقارن لا تعني انحسار المدرسة التاريخية، بل إنها مستدعاة بالضرورة؛ لأن البحث في عمومية القوانين لا يعني استبعاد الخصوصية أو التنكُّر لها. فالقانون ـ كما قال «كابيتان» بحقٍّ ـ ثمرة من ثمرات عصره، قد عمل على إنضاجها الزمان والمكان والحال الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، وهي عوامل تختلف من بلدٍ إلى بلد، ممّا جعل قوانين كلّ أمّة مستقلّة بذاتها؛ لأن ما يوافق أمة قد لايوافق أمة أخرى، ولا يتفق مع روحها الاجتماعية. فضرورة القانون في كل مجتمع لا تعني استنساخه لكلّ بيئة، وتطابق مكوّناته لدى مختلف الجماعات.

وينقسم هذا البحث إلى مطلبين:

الأول: في القانون المقارن ووظائفه.

الثاني: في مقاصد الشريعة وصلتها بالقانون المقارن.

 

المطلب الأول: في القانون المقارن ووظائفه

ولد القانون المقارن في أوروبا، واحتلّ مكانةً في منظومة العلوم القانونية بجهود «سالي» و«لامبير»، وإليهما يعود الفضل في ذاتيّته واستقلاليته، وهما يختلفان في الغرض والغاية.

فالغاية عند «سالي» توظيف القانون المقارن في «تطوير» القانون الوضعي في بلدٍ ما في عصرٍ معين.

والغاية عند «لامبير» التقريب بين النظم القانونية في البيئات المتجانسة، لتصبح هذه المبادئ التشريعية العامّة زاداً مشتركاً، لكلّ أمّةٍ في إيجاده نصيب، ولكلّ أمّةٍ في الاعتماد عليه حقٌّ.

 

أوّلاً: نظرية إدوارد لامبير

لـ «إدوارد لامبير» مكانه في المطلب الثاني من هذا البحث؛ لأهميته في دراسة الاتجاه المقارن في القانون المصري الحديث بأبعاده الإسلامية. والرجل صاحب نظرة إيجابية للفقه الإسلامي. فقد كتب أحد تلاميذه المصريين، وهو «محمد لطفي جمعة» في مذكَّراته، وهو يتحدَّث عن الأستاذ «لامبير»: وقد تكلَّمنا عن الشريعة الإسلامية فأثبت لي بالأدلّة العقلية والنقلية أن ديننا هو دين تطوّر وترقٍّ. وخلاصة رأي «لامبير» أن غاية القانون المقارن محورها الوصول إلى مبادئ تشريعية عامة، هدفها التقريب بين القوانين في البيئات الاجتماعية التي تجمعها وحدة المصادر في التشريع، وهو ينفتح على الشرائع الأجنبية بقصد اكتشاف منابعها، وتحليل مكوّناتها وأصولها؛ لعلنا نصل إلى قانون عالمي.

ويرى «إدوارد لامبير» ـ كما يعرضه عبد المنعم البدرواي في دراسته الرائدة في أصول القانون المدني المقارن ـ أن القانون المقارن ليس علماً واحداً، بل يضمّ في الواقع فرعين من العلوم، يتمايزان هدفاً وموضوعاً، ولا يشتركان إلاّ في المظهر الخارجي، وفي استعمال الطريقة المقارنة في كلٍّ منهما. ويجب، وفقاً لرأي «لامبير»، التمييز بينهما:

فالأول هو علم الظواهر القانونية. والغرض منه الكشف عن الظواهر القانونية في نشوئها وتطوّرها. ولهذا فهو يبحث في جميع الشرائع، القديمة منها والحديثة، المتمدينة منها وغير المتمدينة. ويطلق عليه «لامبير» اسم «التاريخ المقارن»، وهو لونٌ من الدراسة يمكن أن نجد أصولاً له في مقدّمة «ابن خلدون»، ونظنّه ليس جديداً على العقل العربي، وإنْ أراده علماء القانون المقارن منتجاً غربياً، ينفرد الغرب بوضعه وتسويقه.

والثاني هو ما أطلق عليه «إدوارد لامبير» اسم «التشريع المقارن»، وهو عنصر من عناصر القانون الوضعي، ويبحث في مجموعة من القواعد القائمة فعلاً، والتي بينها وشائج قربى تاريخية واجتماعية وسياسية. وهذا التصور أيضاً ليس بعيداً عن فقه العلوم الإسلامية ومناهج البحث فيها، فـ «أبو الحسن العامري» ـ أحد أعلام القرن الرابع الهجري ـ في كتابه «الإعلام بمناقب الإسلام» يولي أهمّية خاصة لدراسة التشريع وأركانه ومقاصده في دراسة مقارنة بين الأديان السماوية والوضعية السابقة على الإسلام.

التاريخ المقارن: وغايته علمية خالصة، هي البحث عن الحقيقة، والكشف عن الأواصر والعلاقات التي تربط بين الظواهر القانونية في النشأة والتطوّر، وفي التراجع والذوبان، مستهدفاً غاية قد يعسر الوصول إليها، وهي معرفة القوانين الطبيعية التي تحكم العلاقات الاجتماعية، وفي مقدمتها العلاقات القانونية.

وفي هذا السياق يتعيَّن على رجل القانون المقارن أن يبسط آفاق دراسته، فيجعلها تمتدّ إلى النظم القانونية في كلّ الشرائع، وفي جميع الأزمان، وعند جميع الشعوب، حتى يتمكّن من بناء نَسَقٍ عامّ يفسِّر به نشوء النظم القانونية وتطورها واختفائها، ويستنبط المعايير التي تحدِّد درجات النمو الحضاري الكامنة وراء نصوص القانون.

2ـ التشريع المقارن: وله في نظر الأستاذ «لامبير» غاية عملية نفعية وتطبيقية، هي البحث في الشرائع المتقاربة عن الأساس المشترك بين نظمها القانونية، والإفادة من هذا الأساس المشترك في تطوير القوانين الوطنية واستكمالها. و«إدوارد لامبير» بهذه الطريقة يعتبر متمرِّداً على مناهج عصره عند «أوبري»، و«رو»، و«كابيتان»، و«بلانيول». ويبدو أن مبادئ القانون الطبيعي التي امتلكت عقول رجال القانون في القرن التاسع عشر جعلتهم يؤمنون بقوانين ثابتة أقرّها العقل البشري، وهي من العصمة والصواب بحيث يصبح الأخذ بغيرها لوناً من الضلال، في ظلّ ثقةٍ بالنفس، وإيمانٍ بالعقل، يصبح في ضوئهما ـ كما قال البعض ـ وقوع النقص في قوانينهم ممتنع، ونسبته اليهم جرمٌ كبير.

ولا شَكَّ في أن «إدوارد لامبير» بذل جهداً كبيراً في صياغة نظريته، لعلّه يعلو بها فوق النقد والتجريح.

ولكنّ نقّاده كانوا على حقٍّ في توجيه النقد إلى ما أسماه القانون المقارن بقسمَيْه. فالتاريخ المقارن أقرب ما يكون إلى علم الاجتماع القانوني، وكان «ابن خلدون» أصدق وأسبق في التنظير له، مع احتراسٍ يليق بعبقرية «ابن خلدون»، ويحميه من المعارضة والردّ.

أما علم التشريع المقارن فما أعطاه له «لامبير» باليمين قد سلبه منه باليسار، عندما اعتبره فنّاً لا علماً. وكما يقول أستاذنا الدكتور عبد المنعم البدراوي: إن الكثير من الشرّاح ينتقدون «لامبير» في هذا الخصوص، ويعتبرون ما أسماه «التشريع المقارن» علماً، وليس مجرّد فنّ؛ ذلك أن لامبير لم ينظر إلى القانون المقارن إلاّ من زاوية واحدة، وهي إمكان تطبيق الحقائق التي تستفاد منه، ولم ينظر إليه من حيث الحقائق القانونية التي تستخلص عن طريق المقارنة. ويبدو أن «لامبير» يقصد بالفنّ الصياغة أو الصنعة، والقانون المقارن قبل أن يكون صياغةً وصنعة فهو علمٌ غايته البحث عن الحقيقة.

والرأي عندي أن هذه «التجزئة» من جانب «لامبير» للقانون المقارن أفسدت صياغته النظرية. وكان الفقيه الألماني «جوزيف كوهلر» محقّاً في رفضه هذا التقسيم؛ لسببٍ علمي، وآخر واقعي. أما السبب العلمي فمحوره اختلاط القانون المقارن اختلاطاً تامّاً بالتاريخ العام الشامل للقانون، وهو تداخلٌ يحول دون نشأة تناسق معرفي في بِنْية العلم، ممّا يصعب قواعد فهمه ودرسه.

وأمّا السبب الواقعي فمحوره أن العناصر اللازمة لدراسة هذا التاريخ الشامل في جميع العصور والأقوام أمرٌ متعذِّر…، وينبغي لكتابة مثل هذا التاريخ العامّ تدوين تاريخ خاصّ بكلّ قانون، تمهيداً لذلك التاريخ العامّ، وهو أمر يكاد يكون متعذِّراً؛ لما ذكرناه، ولكون التشريع كثيراً ما يخضع في وضعه وسنّه لعوامل عرضية وللفجاءات والأحداث السياسية.

 

 ثانياً: نظرية «سالي»

على الرغم من أن جوهر نظرية «سالي» تستهدف توظيف القانون المقارن في تطوير القوانين الوطنية، إلاّ أنه في رحلة البحث عن قواعد قانونية جديدة أصبح حالماً بقانون عالمي يصبح القانون المقارن أداة الوصول إليه، وهو يريده بديلاً للقانون الطبيعي الساكن، ويكون قانوناً عاماً تتّجه نحوه التشريعات الوطنية المختلفة تدريجياً. وعلى الرغم من استحالة الحلم بقانون وضعي عالمي، إلاّ أن نظرية سالي تكاد تسبق عصرها بالإشارة إلى «برادايم» أو «نموذج» شديد السيولة والحركة، لم تستخدمه المعرفة الإنسانية على هذا النحو إلاّ في «عصر المعلوماتية».

ويرى «سالي» أن هدف القانون المقارن ـ باعتباره علماً متميِّزاً عن غيره ـ يمكن إجماله في نقاط ثلاث، بتلخيص الدكتور البدراوي:

1ـ دراسة الشرائع المختلفة من ناحيتها الاجتماعية.

2ـ دراسة الشرائع المعتمدة عبر تنظيمها في طوائف متعدّدة، وذلك بالطبع بعد دراسة كلٍّ منها على حِدَة.

3ـ استخلاص نموذج واحد أو نماذج متعدِّدة للنظم القانونية المختلفة، ويكون هذا النموذج هو الهَدَف الذي يسعي نحوه تدريجياً كلّ تشريعٍ خاصّ.

ووجهة نظر «سالي» لا تخلو من جميع أوجه النقد التي وُجِّهت إلى فكرة القانون الطبيعي، كما صوَّرته المدرسة القديمة. وقد انتقدت من ناحيتين:

الأولى: إنّها قالت بقانون طبيعي ثابت في الزمان لا يتطوَّر.

والثانية: إنّها زعمت بأن القانون الطبيعي ثابت أيضاً في المكان، أي إنه قانون عالمي.

وعلى الرغم من أن بعض الفقهاء المعاصرين لا يزالون يتحدَّثون عن قانون عالمي، وربما أعطت «العولمة» دعماً لهذا الاتجاه، إلاّ أن الرأي عندي أن التفكير في قوانين عالمية موحّدة ليس مجرّد حلم غير مأسوف عليه، كما قال «كارل فيلند»، بل هو «كابوسٌ» يراد به تذويب الهويات المتعدِّدة، وتنحية «الخصوصيات»، وهي بطبيعتها سياج مقاوم، في عالم يريد «هيمنة المركز»، وتدفُّق أفكاره وقِيَمه إلى الأطراف؛ بهدف «خلخلة» أبنيتها الثقافية؛ لتكون أكثر قابلية للتَّبَعية، وأبعد عن التفكير في الاستقلال.

والذي يمعن في قراءة «سالي» يرى عنده رؤية متعصِّبة لا تتحدَّث إلاّ عن قوانين دولٍ متحضِّرة، هي الغَرْب في نظره، دون تحديد لمعايير المدنية، ومقاييس التحضُّر. وقد أجمع ـ كما قال البعض ـ أهل العلم بفلسفة القانون وبمقارنة الشرائع على أنه لا يصح في فنّ التقنين هدم القوانين الوطنية، بل يجب احترامها. وكما يقول د. محمد صادق فهمي بحقٍّ: «إن تشريع كلّ أمّة هو من خصائصها، وله ارتباطٌ وثيق بأخلاقها وتقاليدها وجوّها وأرضها، وما هو إلاّ مظهر من مظاهرها الاجتماعية، ومرآة لحالتها الاقتصادية. وإذا ألقينا نظرة على مختلف الأمم التي لها مجدٌ في الحياة، وشخصية تعتزّ بها، وجدنا أن قانونها هو منها، وهي مصدره الأوّل».

 

 ثالثاً: وظائف القانون المقارن

حاول البعض أن يربط القانون المقارن ووظائفه بما هو كائنٌ، لا بما ينبغي أن يكون.

والرأي عندي أن القانون المقارن غائي في مواجهته للواقع القانوني بقصد تغييره وإصلاحه، فلا تتوقّف مهامه عند الوصف والتفسير، بل إن جوهر وظيفته في التقويم والتغيير. وذلك ينطبق على الأصول والفروع. وبدافعٍ من الوعي بأهمّية التصنيف العلمي يمكن إيجاز وظائف القانون المقارن في ما يلي:

1ـ للقانون المقارن أهمّيته الخاصّة في توحيد القوانين في داخل البلاد التي لا تجمعها وحدة قانونية. فالقانون المدني السويسري مثلاً مَدين بوجوده لدراسة قام بها الفقيه السويسري «أوجين هوبر» في كتابه «نمط القوانين الخاصّة السويسرية وتاريخها»، جمع فيه النظم القانونية التي كانت مرعية في كانتونات سويسرة، وأخضعها للموازنة، فمهَّد السبيل لتوحيد القانون المدني في بلاده. وقد سبقت حركة توحيد القانون في داخل أكثر الدول الأوروبية حركة تجميع وموازنة بين النظم القانونية، مهَّدت السبيل لتوحيد أجزاء هامّة من القانون الخاصّ…، والمجالات التي أدى فيها القانون المقارن خدمات لا تنكر في إصلاح القوانين الوطنية.

2ـ وللقانون المقارن أهمّية في استعراض تطوُّر النظم القانونية المعاصرة؛ لكي يتّضح للمشرِّعين مدى هذا التطوُّر وخطوطه العامة، فيصبح علم القانون المقارن بذلك علم التطوّر القانوني العامّ للقوانين المعاصرة. والواقع أن هذه المهمة تقرب القانون المقارن من كلٍّ من: فلسفة القانون؛ وعلم الاجتماع.

3ـ وللقانون المقارن أهمّية خاصّة تتجلى في إسعاف القاضي والحاكم للتعرف على أدنى الحلول إلى العدالة. ويضرب الفقه المقارن لتبرير هذه الحقيقة بالمادّة الأولى في القانون المدني السويسري، والتي استعارها القانون المدني التركي بدوره، فنصّا على أنه عند شغور النصّ وشغور العُرْف على القاضي أن يحكم وفقاً للقواعد التي لو كان شارعاً لشرَّعها.

إن هذا النصّ يدعو إلى التساؤل عن كيفية قيام الشارع بمهمّته التشريعية ليحتذيها الحاكم عندما يجابهه اللبس، فيتساءل عن الحكم، ويتذكّر أنه مدعوٌّ للتشريع.

وهنا يجيب أحد فقهاء القانون المقارن: «إن القانون المقارن هو المرجع الأول للشرع، وهو إذن مرجع القاضي في مثل هذا المأزق».

والرأي عندي أنه سؤالٌ لا يجد طريقه إلى الفقه القانوني الإسلامي، حيث أذن الشرع للقاضي الفقيه بالاجتهاد؛ للوصول إلى ما يراه حقّاً في كلّ ما يعرض عليه من قضايا. فالعقل، وليس القانون المقارن، هو وجهة القاضي عندما يغيب النصّ. فغيابه إحالةٌ، لا إقالة.

4ـ وللقانون المقارن مهمته التثقيفية. وهذه المهمة المنتظرة من القانون المقارن على جانب من الأهمّية؛ لأن هذا القانون يزيد من حدّة الشارع حتّى يلمّ بالحلول المرعية في القوانين الأجنبية، ويوسّع من أفق رجل القانون حين يعلم بالقوانين الأجنبية، ويعلم أن ثمة حلولاً أخرى ونظماً مغايرة، فتزداد ملكته الانتقادية والتحليلية، ويتّسع أفق تفكيره وخياله… والحاصل أنّ دراسة القانون الموازن تصل أسباب العالم ببعضها، دون افتئات على الروح القومية والوطنية. وبذلك يتمّ التعاون بين رجال القانون من جميع البلاد.

5ـ وللقانون المقارن مهمته التشريعية، حيث لا تخفى أهمّية القانون المقارن في حركة التقنين، حيث لوحظ أن أسوأ القوانين صياغة وحلولاً هي تلك القوانين التي شرعتها سلطة تجاهلت الإفادة من الحلول الواردة في أمثال تلك القوانين في البلاد الأجنبية…. ويوصي رجال القانون المقارن بالتزام الحيطة عند استعارة القوانين الأجنبية؛ لئلاّ يزجّ في التشريع قواعد يعوزها الانسجام، ولئلاّ يقحم في بلدٍ تشريعاً أجنبي العروق، فيحدث فيها من النتائج ما لا تُحْمَد عقباه.

 

المطلب الثاني: في المقاصد الشرعية وصلتها بالقانون المقارن

للأستاذ «أرمانجون» وزميلاه تعريف للقانون المقارن يعتبر مدخلاً لعلاقة وثيقة بين المقاصد الشرعية والقانون المقارن، فهو «علم دوغماطيقي»، أي كلّي القواعد. وهو في نظر هؤلاء فرعٌ من فروع القانون الحيّ، يدرس لغايةٍ، هي أن يمدّنا بقواعد منظمة للسلوك البشري، ويستخدم في العمل والحياة العملية. وهدف هذا القانون استنباط قواعد العدالة التي تحكم مجتمعاتنا العصرية حكماً كلّياً، من خلال قواعد عامّة.

وهذا التصوير الذي ذهب إليه «أرمانجون» ـ كما يقول «صلاح الناهي» ـ يغيِّر في الحقيقة وضع المسألة، ويعيد إلى القانون المقارن صفة القانون؛ إذ يجعل موضوعه البحث عن قواعد العدالة التي تخضع لها المجتمعات البشرية المعاصرة، إضافة إلى كونه دراسة انتقادية تحليلية تركيبية تقيمية. والقانون المقارن على هذا النحو له مقابله في الفقه الإسلامي، في ما أطلق عليه الفقهاء علم الخلاف، وله مناهجه وتقسيماته، وأعلامه وروّاده، ومكتبته ومصنّفاته. وللأهمّية التي احتلّها «إدوارد لامبير» في تأسيس القانون المقارن، ولصلته الوثيقة بالفقه الإسلامي ـ دراسة وتدريساً ـ، ولصلته بالمصريّين أساتذةً وطلاباً، نعتبره همزة وصل لا يرقى إليها الشكّ بين مقاصد الشريعة والقانون المقارن.

 

أولاً: «إدوارد لامبير» المدير والأستاذ

«إدوارد لامبير» أحد أعلام القانون الفرنسي في جامعة ليون، ومن الروّاد الأوائل الكبار في تأسيس القانون المقارن. وله تأثيره البارز على المدرسة المصرية في القانون في مرحلة مبكرة وحاسمة من تاريخ تطوّرها. تولّى إدارة مدرسة الحقوق السلطانية في القاهرة أواخر القرن التاسع عشر، ورحل عنها مُرْغَماً بتدبيرٍ بريطاني، فعاد إلى ليون أستاذاً في كلية الحقوق، عاكفاً على إنجاز كتابه الهامّ «عن وظيفة القانون المقارن»، وكوَّن بعد عودته المجمع العلمي المصري، متَّخِذاً من منزله في ليون مقرّاً، ومن تلاميذه المصريين أعضاء. واستطاع من خلال رسائلهم العلمية وكتاباتهم القانونية أن يقدِّم للعقل القانوني المقارن في الغرب نموذجاً فذّاً ـ وعصيّاً على التكرار ـ في الفهم المقارن بين عائلتين قانونيتين، هما: العائلة اللاتينية؛ والشريعة الإسلامية. وهو جهدٌ له ثمراته على القانون المقارن من جانبين:

الأوّل: تعريف المجموعة اللاتينية بوجهٍ خاص، والفقه القانوني الغربيّ بوجه عام، بثقافة قانونية حيّة، هي الفقه الإسلامي، استفاد منها الغرب عبر طرق اتصال مختلفة في الأندلس وصقلية وغيرهما من مسالك انتقال الحضارة الإسلامية إلى الغرب. وعندما تحرَّكت هذه الثقافة عبر جهود أبنائها في رسائل علمية محكّمة، وبلغة فرنسية رصينة، أصيب العقل القانوني الغربي بالدهشة والانبهار، ولم يستطع إنكار تأثيرها أعلامٌ كبار، في مقدّمتهم: «ليفي أولمان»، و«جوسران»، والألماني «كوهلر»، وغيرهم. وأتوقَّف قليلاً أمام واحد من أنبغ تلاميذ «لامبير»، والمعيد المشارك لأستاذه في تدريس علم أصول الفقه والفقه الإسلامي بجامعة ليون، وهو الدكتور «محمود فتحي»، صاحب رسالة «التعسف في استعمال الحقّ في الشريعة الإسلامية»، والتي تقدَّم بها إلى جامعة ليون عام 1912، وفيها عرضٌ للنظرية باستخدام الطريقة المقارنة بين المذاهب السنية الأربعة. وفي الرسالة جهدٌ نالت به الدرجة العلمية بتفوُّقٍ، ونالت الرسالة تقديراً خاصّاً من «إدوارد لامبير» المشرف على الرسالة، فاختارها لتكون العدد الأول من سلسلة أبحاث المركز الشرقي للدراسات القانونية والاجتماعية. وكانت ـ كما يقول «إدوارد لامبير» ـ بداية ناجحة، ونفذت طبعتها الأولى فور صدورها، وقد صدرت بمقدّمة من الأستاذ «لامبير» تجاوزت صفحاتها المائة. وحَسْبُ هذه الرسالة أثراً في القانون المقارن بفرنسا أن «جوسران» الفقيه الفرنسي الكبير أضاف في الطبعة الثانية من كتابه «روح الحقوق ونسبيتها» صفحات عن نظرية التعسُّف في استعمال الحقّ في الفقه الإسلامي، واقتدى به آخرون من أتباعه ومواطنيه. ورغم الدعوة المبكِّرة من «عبد السلام ذهني» إلى ترجمة الكتاب إلى العربية عام 1915، وعزم «عبد الرازق السنهوري» على ترجمة الكتاب، كما ورد في مذكَّراته التي كتبها في مدينة ليون عام 1923، إلاّ أن الرسالة لا تزال حبيسة الفرنسيّة لغةً، ويندر وجودها في مكتبات العالم العربي.

وأهمية رسالة «محمود فتحي» تأتي من كونها دراسة في المقاصد على مستوى التنظير والتطبيق. اعتمد بنيانها على قواعد المقاصد، وقدَّم صاحبها «نظرية التعسف في استعمال الحقوق» متكاملة الجوانب، واضحة الملامح والسِّمات، بمجالاتها الواسعة التي تتحرّك عليها، وبما تنطوي عليه من أبعاد اجتماعية وأخلاقية، في وقتٍ تحاول فيه نظرية التعسُّف أن تجد فرجةً تنفذ منها إلى عالم الفكر القانوني الغربي، وقد شقَّتْ ـ كما قيل ـ طريقها بصعوبةٍ، وفي اتّجاه معاكس لتيار النصوص القانونية، فلم تظهر في الفقه الفرنسي إلا باعتبارها بدعة قضائية. وانحصرت في أضيق مجال، رغم محاولات «جوسران» الرامية إلى توسعة نطاق النظرية، ومحاولة تعميم تطبيقاتها. وهي في الفقه الإسلامي مبنيّة على النصوص، ومقاصد الشارع معتبرة فيها في المقام الأول، وهي تتناول جميع الأفعال التي يصدق أنها استعمال لحقوق، ولا يوجد ـ كما يقول بحقٍّ «سعيد الزهاوي» ـ حقٌّ مطلق في الشريعة، فلا حدّ لاتّساع النظرية في الفقه الإسلامي.

الثاني: حضور الفقه الإسلامي في معاهد القانون العالمية، في جدلية فرضت الفقه المقارن في كثيرٍ من قاعات الدرس، ودراسات الباحثين. وبدا الفقه الإسلامي أكثر ثراءً وتقدُّماً ممّا يظنّه أصحابه، ومن خلال مناهج تتّسم بالعمق والجدة، فاستعيدت ثقةٌ كانت مفقودة، وأسفرت أصالة ظلَّتْ محتجبة. فكان وجود هؤلاء الفتية النابهين ـ من أبنائنا الذي ارتحلوا من أجل العلم، وبه عادواـ إيذاناً بانتصار القلم على السيف، وكانت عودتهم بداية نهضة في دراسة الشريعة والقانون طال انتظارها. وتدفَّقَتْ في هذه الحقبة أعمال «محمد صادق فهمي»، و«عبد السلام ذهني، و«عبد الرازق السنهوري»، و«محمد عبد الجواد»، و«محمد فؤاد مهنّا». وفي أعمال كلّ واحدٍ منهم اجتهادات تلاحمت فيها مقاصد الشريعة مع اتّجاهات حديثة في القانون المقارن، وهي لا تزال تتوهَّج كلّما صافحتها يدٌ مُحِبّة، أو عانقتها عين تعشق الفكر المتوثِّب، والعطاء المتدفِّق. وهي أعمال تحتاج إلى رصدٍ يلملم شتاتها، وجهد يحلِّق في آفاقها، ويستنطق سرّ تميُّزها وبقائها. خلاصة القول: إن الإنصاف يقتضي الاعتراف بإسهام «إدوارد لامبير» في الدراسة المقارنة في مصر، ولفت الأنظار إلى أهمية الشريعة الإسلامية في تأسيس النظام القانوني في مصر، وكانت له يدٌ طولى في توجيه مؤتمرات القانون المقارن إلى التسليم بأن الشريعة الإسلامية هي نظامٌ قانوني مستقلّ. وثمرات ذلك تمثَّلت في تزويد المكتبة القانونية في مصر بدراساتٍ مقارنة بين الشريعة والقانون، أقنعت الفقه والقضاء في دوائر الفكر الوضعي بأهمّية ما لدينا من ثروة، وما نمتلكه من تراث قانوني، الأمر الذي دعا بعض أعلام القانون المقارن في مصر إلى القول بـ «أنها ينبغي أن تكون مركز هذا النوع من المقارنة».

 

ثانياً: المقاصد الشرعية والقانون المقارن

تعلي المقاصد الشرعية من أفكار ثلاث: التعليل باعتباره أداة لضبط الحكم وربطه بالمعاني؛ والمصالح باعتبارها غاية للحكم بها تعرف موارده ومصادره؛ ومآلات الأفعال باعتبارها القاعدة الرئيسة في فقه التنزيل، ولم توضع الشرائع إلاّ لتحقيق مصالح العباد في العاجل والآجل. وإذا كانت «العدالة» هي روح القانون المقارن عند «أرمانجون» فإن العدل هو روح الشريعة عند المسلمين. وبلغة ابن القَيِّم فإن «كلّ مسألةٍ خرجت عن العدل إلى الجور، وعن الرحمة إلى ضدّها، وعن المصلحة إلى المفسدة، وعن الحكمة إلى العبث، فليست من الشريعة، وإنْ أُدخلت فيها بالتأويل». ومفهوم العدل عند المسلمين ـ كما يقول د. «فتحي الدريني» ـ ليس مفهوماً فلسفياً مجرّداً، بل هو مجسد في «المصلحة» التي يتغيّاها الحكم الشرعي العملي في فروعه أو جزئيّاته أو قواعده العامة، وبهذا كان الفقهاء المسلمون عمليّين، بحكم طبيعة العمل نفسه الذي نهضوا به لمواجهة مقتضيات حياة الناس، وتدبير حالهم باستنباط الأحكام الشرعية في هذا المجال. و«أوامر الشرع ـ كما يقول «ابن القَيِّم» ـ تتبع المصالح الخالصة أو الراجحة، ونواهيه تتبع المفاسد الخالصة أو الراجحة». والمقصود بالمصالح ـ كما قال أبو حامد الغزالي: «المحافظة على مقصود الشرع». ومقصود الشرع من الخلق خمسة، وهو: أن يحفظ عليهم دينهم، ونفسهم، وعقلهم، ونسلهم، ومالهم. فكلّ ما يتضمّن حفظ هذه الأصول الخمسة فهو مصلحةٌ، وكلّ ما يفوت هذه الأصول فهو مفسدة، ودفعها مصلحة».

والمقاصد بهذا المفهوم الواسع للمصلحة تعطي مشروعية لتوظيف القانون المقارن في فقه التنزيل، واستقبال حلوله باعتبارها خبرة بشرية في ميدان تتلاقى فيه العقول. فالقانوني المسلم ليس بحاجةٍ إلى «فكرة النظام العام» لقبول القانون الأجنبي أو رفضه؛ لأن مقاصده الكلية تقرِّر أنه «حيث توجد المصلحة فثمّ شرع الله»، وربط الحلول الجزئية بأسبابها وموجباتها من مزايا قواعد الشرع الإسلامي؛ لأن «طيّ بساط الأسباب والعلل ـ كما يقول «ابن القَيِّم» في «مدارج السالكين» ـ تعطيل للأمر والنهي والشرائع والعلل…؛ لأن الأسباب والعلل محلّ ادّكار المتفكِّرين، واعتبار الناظرين، ومعارف المستدلين: ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ﴾ (الحجر: 75). وكم في القرآن من الحثّ على النظر والاعتبار بها، والتفكُّر فيها، وذمّ مَنْ أعرض عنها؟! «ولا يخلو باب من أبواب الفقه ـ القانون ـ، من عبادات ومعاملات وجنايات وغيرها، من رعاية هذه المصالح، وتحقيق هذه المقاصد، بتأكيد «الإمام الشاطبي». ومعرفة أسرار التشريع ومقاصدها هي منهج رجل التشريع في تجاوز الأدلّة الجزئية والحلول المفردة؛ للوصول إلى القواعد العامة والقواسم المشتركة. فعليه النظر في «الكلِّيات» ليدرك سرّ التشريع، وإلاّ تضاربت بين يدَيْه الجزئيات ـ كما يقول «صلاح الناهي» ـ، وعارض بعضها بعضاً في ظاهر الأمر، إذا لم يكن في يده ميزان مقاصد الشرع؛ ليعرف به ما يأخذ منها وما يَدَع.

وهذه المنهجية المقاصدية تستوعب في داخلها الكثير من وظائف القانون المقارن، وحاجته إلى دراسة نشأة الأفكار القانونية وتطوّرها. وهو منهجٌ يدعم البحث الدائب الذي يتغيّى صياغة المبادئ الكلّية المتعالية في الأنظمة القانونية المختلفة. لقد أصبحت المقاصد عند فقهاء الإسلام شجرة معرفة لها أدواتها المبتكرة، وعلومها المستحدثة، وفي مقدّمتها: علوم فقه الواقع، وفقه التنزيل، وفقه الموازنات، وفقه الأوّلويات، والفقه الافتراضي. وفقه الموازنات وفقه الأولويات يقعان في قلب منظومة «القانون المقارن».

أما فقه الموازنات فقد عرفه العلاّمة «يوسف القرضاوي» بأنه «الموازنة بين المصالح بعضها وبعض، من حيث حجمها وسعتها، ومن حيث عمقها وتأثُّرها، ومن حيث بقاؤها ودوامها…، وأيُّها ينبغي أن يقدَّم ويعتبر، وأيُّها ينبغي أن يسقط ويلغى».

وفقه الموازنات بهذا التعريف هو قانون مقارن لا يتوقَّف عند الوصف والتحليل، ولكنّه يتحرّك إيجابياً «بمنهج التجريح والتعديل»، وموازين التعارض والترجيح، للحفاظ على كائن حيّ اسمه «التشريع»، لا تسلم له الحياة إلاّ بجلب المنافع ودرء المفاسد.

أما فقه الأولويات فيعرِّفه أيضاً «العلامة يوسف القرضاوي» بأنه «وضع كلّ شيء في مرتبته، فلا يؤخّر ما حقّه التقديم، ولا يقدّم ما حقّه التأخير، ولا يصغر الأمر الكبير، ولا يكبر الأمر الصغير». وهذا صدىً لقانون التناسب في الحياة والكون والإنسان.

والعلم بفقه الموازنات وفقه الأولويات ـ كما ترى أم نائل بركاني ـ يؤدّي إلى سهولة المقارنة بين وضعٍ ووضع، والمفاضلة بين حالٍ وحال، والموازنة بين المصالح والمفاسد، وبيان أيُّهما الأَوْلى في التقديم، على المدى الطويل أو المدى القصير، وسواء على المستوى الفردي أو المستوى الجماعي…، والجهل بفقه الموازنات والأولويات يؤدي إلى خلطٍ كبير بين الأحكام، وذلك من خلال عدم مراعاة مراتب الاعمال، فتقدم النافلة على الفرض…، وتقدّم فروض الأعيان على فروض الكفاية….

ومن أسباب ظهور فقه الأولويات والموازنات: سوء فهم الشريعة ونصوصها، وسوء فهم سنّة التدرُّج، والانشغال بالفروع عن الأصول، والاهتمام بالظاهر والشكل دون المضمون والجوهر، وسوء تقدير تغيُّر الزمان والمكان والأحوال.

وفي ظلّ هذه المنظومة المتكاملة من علوم التشريع يصبح الوعي بالمقاصد الشرعية من ضرورات النهوض بالقانون المقارن في عالمنا الإسلامي في النظرية والتطبيق. وفي دائرة المقاصد يفهم فقه الأولويات والموازنات؛ لأنها ـ وكما يقول بحقٍّ «طه جابر العلواني»: «من المداخل المركّبة، التي يتداخل فيها السمع والعقل، والعرف والتجربة والخبرة، وكثير من العلوم الاجتماعية والإسلامية، التي يمكن أن تعين على تحليل الماضي، وفهم الحاضر، واستشراف المستقبل». وهو من دقيق أنواع العلم، ليس كلّ مكلَّفٍ بحاجةٍ إلى معرفته، ومراتب الناس فيه على قدر إلمامهم بعلوم الشرع وعلوم العقل، حتى لا يضلّ العامة، وحتى لا يزاحم على الصدارة فيه الأدعياء. وهذا العلم مزلة أقدام وأفهام، فلا ينفتح ـ كما ألمح «القرافي» في الفروق ـ «إلاّ لمَنْ هو عالم بتفاصيل أحوال الأقيسة والعلل، ورتب المصالح، وشروط القواعد…».

ولعلّ أهمّ ما يجب الالتفات إليه في مجال علاقة المقاصد الشرعية بالقانون المقارن أنها تفتح أمامه مغاليق النصوص، فلا يصبح القانون معزولاً في مدوّنات التشريع، نفهمه بفهم ألفاظه، بل هو حركة دائبة، يتَّسع بها النصّ ويضيق، ولا يحضر ولا يغيب إلاّ بعلّةٍ. والنص القانوني ـ كما يقول «سالي» ـ «إذا أخذ القانون بألفاظه فهو هيكلٌ عظمي مجرّد عن معنى الحياة». ويقول «كابيتان»: كم يخطئ مَنْ يتصور أنّه محيطٌ علماً بالقانون المدني؟! فإن نصوص القوانين المسطورة ليس مصيرها كلاًّ سواء؛ فمنها ما يبلى ولا تصبح له أهمّية عملية، فلا يبقى له سوى القيمة النظرية؛ ومنها ما يتحوّر طبقاً لمقتضيات الحياة العملية. وفضلاً عن ذلك فإن النصوص التشريعية في أمّة مهما كانت كاملة لا تمثّل إلاّ جزءاً من قانون تلك الأمّة؛ فهناك أحكام القضاء وما تطبّقه من مبادئ، كما أن الكثير من القواعد التي وضعتها الأعراف تبقى بجانب القوانين المسطورة معمولاً بها، ولو أنها لم تدوَّن… إذن فالذي يجب معرفته هو القانون الحيّ، وهو القانون كما يعمل به الناس، وكما تطبِّقه المحاكم، وهو ما أطلقت عليه في دراساتي «القانون في حالة حركة، وليس في حالة سكون».

 

ثالثاً: القانون المقارن ومكانه في الفقه الإسلامي

القانون المقارن بوضعيّته القلقة ليس له ما للفقه الإسلامي من رسوخٍ في المصادر، وتنوُّع في المناهج، واستقرار يكاد يكون شاملاً في نسق قواعده الكلية والجزئية. وإذا كان علم القانون المقارن عند «ليفي أولمان» موضوعه تقريب القوانين في البلاد المتمدّنة فيما بينها بصورةٍ منسقة فهذه المهمّة هي إحدى وظائف القواعد الأصولية والقواعد الفقهية في منهجية التشريع الإسلامي، وهي منهجية معترَف بها في العائلة القانونية التشريعية الإسلامية على اختلاف مذاهبها، سنية وشيعية وإباضية، دارسة وباقية. وهي منهجية تربط الفقه بالإنسان، فمحوره أفعال المكلَّفين، بينما يرتبط القانون في مفهومه الوضعي بالدولة، وهي صاحبة السلطة في ما يتعلَّق بالأمر والنهي. فالفقه الإسلامي يُعلي من شأن الجماعة، والقانون تهيمن عليه الدولة، فيسقط بغيابها، بينما غياب الدولة في المفهوم الإسلامي يعيد سلطة التشريع من النائب، وهو الدولة، إلى الأصيل، وهو الجماعة.

 

 1ـ علم الخلاف عند المسلمين

علم الخلاف منهجاً وموضوعاً ومباحث هو إبداعٌ إسلامي خالص، يسجِّل أسبقية للفقه الإسلامي على غيره في مجال الدراسات المقارنة. والأصل في علم الخلاف أنه بحثٌ في أوجه الائتلاف والاختلاف. وهو على نوعين:

الأول: علم الخلاف العالي: وتتمّ فيه المقارنة بين المذاهب الإسلامية المتعددة. وتطبيقاته في هذا المجال لا تتّسم بالحياديّة؛ لأنها في الأعمّ الغالب انتصارٌ لمذهبٍ على مذهب.

الثاني: علم الخلاف النازل: ويتمّ بين الآراء المختلفة في داخل المذهب الواحد؛ بهدف بيان الراجح والمرجوح، وما هو اختلاف دليل وبرهان، وما هو اختلاف عصر وأوان. وقد كثر التصنيف في علم الخلاف لدى المذاهب الإسلامية المختلفة في القرن الثاني الهجري، في تراث «أبي يوسف»، و«الأوزاعي»، و«ابن أبي ليلى»، و«محمد بن الحسن» ـ وهم روّاد علم الخلاف ـ، كتابات موسوعية، وكتابات مفردة، لا يتَّسع هذا البحث القصير لبيانها وتحليلها. وربما كان علم الخلاف النازل له وشائج قربى ببعض مباحث علم القانون المقارن في صورته الحديثة.

وعلم الخلاف له وظيفتان:

الأولى: علمية، محورها معرفة مآخذ الأئمة وأدلتهم دفاعاً عن المذاهب.

والثانية: عملية تعليمية، تستهدف تكوين عقلية لديها مِران بتأصيل المسائل، وقدرة على الاستدلال والمناظرة.

وهذه كلّها من وظائف القانون المقارن في صورته الحديثة.

 

 2ـ اتّجاهات علم الخلاف

تنوَّعت مناهج هذا العلم بتنوُّع طرائق التأليف فيه، إلاّ أن ميدان عملها جميعاً هو الفقه الإسلامي بمذاهبه المختلفة. فهي في كل الأحوال حوارٌ من داخل عائلة قانونية واحدة. وكانت منهجية التصنيف تحكمها اتجاهات البحث عن الائتلاف في كتب «الأشباه والنظائر»، والبحث عن الاختلاف في كتب «الفروق»، والدمج بينهما في كتب «الاختلاف والاتفاق». وهذه الاتجاهات تحملها عناوين كتب، وأسماء مؤلفات. وهي منهجية تقترب من أدب الجَدَل والمناظرة، بقَدْر ابتعادها عن أدبيات القانون المقارن. ولا نكاد نجد إرهاصاً للقانون المقارن في التراث الإسلامي، إلاّ في مؤلّف وحيد «لأبي الحسن العامري»، وهو «الإعلام بمناقب الإسلام»، فقد تخطّى هذا المفكِّر ـ كما يقول صلاح الناهي ـ حدود علم الخلاف ما بين المذاهب الإسلامية، إلى آفاق الموازنة بين الشرع الإسلامي وبين شرائع بعض الأمم، من حيث الأسس والروح وبعض المبادئ العامة. ولعل السياسة الشرعية هي الأرض المشتركة التي تتحرك عليها مباحث القانون المقارن بحُرِّية علميّة، ترسم المقاصد الشرعية حدودها وضوابطها.

وتعتبر الدارسة العميقة لنظرية التعسُّف في استعمال الحقّ مدخلاً تطبيقياً عملياً على العلاقة الوثيقة بين المقاصد الشرعية، وعلم القانون المقارن. فالنظرية في جانبها المعنوي تقوم على حديث: «إنما الأعمال بالنيات»، وفي جانبها المادّي على حديث: «لا ضرر، ولا ضرار». وهذه النظرية؛ باتّساع مباحثها، وشمولها آفاقها، لا يملك الدارس للقانون المقارن حيالها إلاّ الاعتراف بأنّ مثل هذه النظريات العامة في القانون لا سبيل إلى رفع قواعدها وإرساء بنيانها إلاّ من خلال المنهجية المقاصدية.

_______________

(*) أستاذ الشريعة الإسلاميّة في كلِّية الحقوق ـ جامعة الإسكندريّة. من مصر.

Facebook
Twitter
Telegram
Print
Email

اترك تعليقاً