أحدث المقالات

الشيخ حسن بدران(*)

1ـ تمهيدٌ

بعض الأشخاص كالتربة الخصبة، مهما أُلقي فيها من شيءٍ فإنها تعيد إنتاجه على أحسن ما يمكن. هكذا تميَّز شريعتي في شخصيته بفرادةٍ، يمكن القول معها: إنه كان واحداً من النماذج الرائدة للنشطاء على مستوى الاجتماع البشري. ولا شَكَّ أن للظروف المواكبة تأثيرها الذي يحدِّد مسارات الشخصية، إلاّ أنه ليس كلّ مَنْ يسلك في مسار الدراسة الحَوْزِية سوف يخرج إلينا بصورة مرتضى مطهَّري، كما أنه ليس كلّ مَنْ يسلك في الدراسة الأكاديمية سوف يخرج إلينا بصورة علي شريعتي. لقد حظي الكثير من العلماء بصفة العبقرية العلمية، إلاّ أنها لم تكن الميزة التي يدعو إليها شريعتي، فقد جعل كلّ هاجسه في تحقيق عنصر النباهة الواقعية. كان شريعتي ناشطاً، فاعلاً، مؤثِّراً، يسعى ـ بجرأةٍ وفصاحة نادرتين ـ إلى إحداث تغييرٍ في ملامح الواقع الاجتماعي والسياسي والثقافي، يحدوه إلى ذلك إيمانٌ عميق بقدرة الإنسان على القفز بالعقل والروح والوجدان إلى منطقة الوَعْي القصوى.

المؤشِّر الشخصي لسيرة شريعتي كان يعكس على الدوام منسوباً فائضاً من الضمير الاجتماعي الحيّ على مستوى المسؤولية والهَدَفية والتبصُّر. وفي اللحظة التي غادر فيها بلده متأبِّطاً منحةً دراسية، وخلافاً لما كانت تعتقده السلطة آنذاك، فقد أدار ظهره تماماً لكلّ شيء، مفرِّغاً جُلَّ اهتمامه لمتابعة أوضاع مجتمعه وبلده. كان يستهويه الأدب والفلسفة على المستوى الشخصي، إلاّ أن شعوره بالمسؤولية أوجب عليه أن ينصرف إلى دراسة الاختصاص الذي يرى فيه حاجةً فعلية لشعبه، ولذلك سوف ينصرف إلى التخصُّص في مجال الأديان والعلوم الاجتماعية والإنسانية. وهذا الضمير الحيّ، الذي واكبه طيلة حياته، أتاح له تبصُّراً كبيراً في تحديد اختياراته، كما يتّضح في النماذج الرائدة التي اتّخذها قدوةً لفكره، وجعل منها مشعلاً يضيء طريقه، من أمثال: جمال الدين الأفغاني؛ ومحمد إقبال؛ و…، وهي نماذج مهجوسة بواقع النهضة، وتعبِّر عن طموح شريعتي في تحقيق الهويّة الحضارية للمجتمع الإسلامي على أرضية العلوم الاجتماعية والإنسانية.

الدين ظاهرةٌ اجتماعيّة

تنصرف الإنسانيات الحديثة إلى دراسة الإنسان في أبعاده النفسية والاجتماعية والثقافية والدينية، ويتحدَّد وضع الدين وفق هذا السياق باعتباره ظاهرةً إنسانية تمّ تحييد المقدَّس عنها. وتمتدّ جذور هذا التوجُّه إلى ردود الفعل الدينية التي عرفت بحركة الإصلاح الديني في أوروبا. والذي جرى التنظير له عشيّة انبثاق فرع العلوم الإنسانية كمدخلٍ إلى التنوير.

ولأسبابٍ تاريخية معروفة، سادَتْ نزعةٌ سلبية في الموقف من الدين، بحيث كانت ريادة أيّ نشاطٍ تجديدي آنذاك تتحدَّد على أساس الموقف من الدين. هكذا استهلّ سان سيمون وضعيّته المبكرة من خلال إرساء الدين على قاعدة الظاهرة الاجتماعية في كتابه «المسيحية الجديدة». وشيئاً فشيئاً ترسَّخ هذا المنزع في تحليل عملية الإصلاح الديني كمدخلٍ تربوي لإصلاح المجتمع، ولكنْ من خارج الدين هذه المرّة.

لسنا بصدد التوثيق التاريخي لعلم الاجتماع، ولا شَكَّ أن هذا المسار قد خضع لتطوّرات وتعديلات، واصطبغ بأطياف البنى النظرية المختلفة… إلاّ أن البذرة الأوّلية للتشكيل الوضعي حكمَتْ مسار هذا العلم على مستوى الظاهرة الدينيّة، ورسمت معالم هويّته المعرفية على الدوام.

وسوف يظلّ الدين لصيقاً بالمعالجة الاجتماعية، والتي تظهر ملامحها العامّة في فلسفات التغيير على تنوُّعها، منذ أطروحة «الأمّة العاملة»، مروراً بـ «أخلاق العمل البروتستانتية» و«لاهوت التحرير»…، وصولاً إلى المراجعة العلمانية للدين على ضوء المستجدّات العالمية، والتي كشفت عن زَيْف دعوى التناسب بين عملية التحديث وتراجع دَوْر الدين، ودعَتْ إلى استبدالها بنظرية خصخصة الدين.

إزاء هذا التحوّل انفتح المجال أمام الاجتماعيات الإقليمية، وبات لزاماً على الباحثين الاجتماعيين عدم الاكتفاء بمحاكاة تجارب الغير، والانصراف إلى العمل على الموائمة المحلّية في التأسيس للنهج الاجتماعي الأصلح، والذي يتلاءم مع الخصوصية الثقافية الذاتية.

في هذا السياق تأتي جهود شريعتي، القادم من أوروبا، في التأسيس للوضع الديني المحلّي، وقد جلب معه أدواته الفكرية التي استقاها من كُبْرَيات المدارس النظرية الفاعلة في أوروبا آنذاك، بعد أن أخضعها للنقد والتمحيص، متخيِّراً منها ما هو لصيقٌ بمشروعه التنويري، أي إعادة بناء الاجتماع الديني المحلّي في ضوء أيديولوجيا التغيير.

2ـ معالم المنهج عند شريعتي

تناول شريعتي في بعض كتبه البحث في أهمّية المنهج بوصفه أسلوب المعرفة الصحيحة لكشف الحقائق. إلاّ أنه يظهر في مجمل ما دوَّنه أن التأثير الذي يمكن أن يُحْدِثه المنهج على مستوى التحوّلات الاجتماعية والتشكيلات الثقافية هو الذي حاز على اهتماماته، وأن هاجس التغيير لديه يغلب على واقع التفسير ومنهج كشف الحقائق.

ومع إيمان شريعتي بأسبقية التفسير في تحديد كيفيات العمل، وأن البحث في التغيير هو مرحلة لاحقة نظرياً، إلاّ أنه يبدو في أبحاثه وكأنّه يجعل مرحلة التفسير على عهدة التاريخ، وما علينا سوى أن نكشف عنها في إطار التجربة التاريخية الحيّة.

يقترن علم الاجتماع لدى شريعتي بفلسفة التغيير، التي يشدِّد عليها كمدخلٍ إلى الأيديولوجيا. ولا يقتصر التغيير عنده على حركة المجتمع والتاريخ، بل هو جزءٌ من طبيعة الإنسان أيضاً، ينزع به نحو الحركة والكمال أو السكون والتوقُّف، وهو يعتبر أن الحركة فيه هي الأصل، فالذات الإنسانية تنطوي على حالة صيرورةٍ وتحوّل دائمة، وهي في هجرةٍ لانهائية من الحمأ المسنون إلى الله([1]).

ولا يستنكف شريعتي أن يكون متأثّراً بمدرسة التناقض من الناحية الاجتماعية، إلاّ أنه يلجأ إلى جَدَل التناقض كأداةٍ معرفية، وتأتي معالجاته مشفوعةً بملاحظاتٍ نقديّة، تكشف عن عدم تقيُّده بتطبيقات الجَدَل السائد آنذاك لجهة تحديد العوامل المؤثِّرة في التغيير، والكيفيّة التي يحصل بها هذا التأثير.

كما يتبنّى مبدأ السببيّة المتبادلة، والذي يستند إلى أن العامل المؤثِّر في الظاهرة الاجتماعية قد يكون ـ أيضاً ـ معلولاً لها بنحوٍ من أنحاء التأثير؛ وعلى ضوء هذا المبدأ يرفض أن يكون تغيير النظام الاقتصادي سبباً حصريّاً لتغيير أساليب التفكير بحَسَب ماركس، أو أن يكون تغيير أساليب التفكير سبباً حَصْريّاً لتغيير النظام الاقتصادي بحَسَب ماكس فيبر. شريعتي؛ ومن خلال السببيّة المتبادلة، سوف يأخذ بعين الاعتبار كلا السببين معاً([2]).

ويترتَّب على ذلك ضرورة أن تدرس الظاهرة وفق مبدأ تعدُّد الأسباب والأبعاد والجوانب؛ أي إن هناك عوامل أساسية في التغيير الاجتماعي، يعدِّد شريعتي أربعةً منها بوصفها ذات أهمّية استثنائية، وهي: شخص القائد؛ وجمهور الناس؛ والقوانين والتقاليد الاجتماعية؛ وقانون التاريخ والصدفة([3]).

وعلى ضوء ذلك، لا يرى شريعتي ترتيباً معيّناً لصراع الطبقات كما يفعل ماركس، وإنما يتبنّى التفسير الثنائي للتغيير: الحركة؛ والجمود، والذي يتحكَّم بمسار التاريخ منذ هابيل وقابيل، ويظلّ عنصراً ثابتاً رغم تبدّل أشكاله واختلاف صوره وطبقاته. ويتمثَّل الجمود في النظام القابيلي بالطبقة الحاكمة التي تفرض سيطرتها من خلال رابطة الاستبداد والاستغلال والاستحمار أمداً طويلاً، إلى أن تتوفّر شروط النهضة أو الثورة أو يظهر قائدٌ أو نبيٌّ لإنقاذ الناس، ويستلم الشعب مقاليد الأمور لفترةٍ قصيرة حيث يتسنّى لأعداء الثورة التسلُّل داخلها، والانقضاض عليها بالخداع والشعارات الجديدة، فيرتدّ الحكم إلى النظام القابيلي القائم على الاستبداد والاستغلال والاستحمار. وهذا المبدأ، الذي يسمّيه مبدأ الخلافة الغاصبة، هو سنّةٌ من سنن التاريخ، إلاّ أنه ليس حَتْميّاً، بل يصل بالنهاية إلى غايته من خلال ثورة العدل والمساواة، الآتية لا محالة لتغيِّر مسار التاريخ البشري، فيسود الاتّحاد أرجاء المعمورة([4]).

إذن الرؤية العلمية الصحيحة المنسجمة مع مبدأ التوحيد تكمن في الاعتقاد بأن التاريخ يمتلك مساراً محدّداً، أي إن له وجهةً معينة. وبذلك يعتبر شريعتي من أنصار النزعة الارتقائية التكاملية في فلسفة التاريخ. وهذا بغضّ النظر عن إيمان شريعتي بعدم إمكان التنبّؤ بهذه الوجهة التاريخية في كلّ مفصلٍ زمنيّ على نحو التحقيق؛ ذلك أن فرع الإنسانيات لا يمتلك لغاية الآن أن يحتكم إلى قطعية القوانين([5]).

وعلى الرغم من تأثُّره بالفكر العلمي، والذي ساهم في تشكيل العقل الأوروبي على قاعدة الرقيّ الاقتصادي وغيره، إلاّ أن شريعتي يصرّ على إيمانه بأصالة الإنسان، وتقديره للجهد البشري.

إن مرجعية الإنسان وأصالته في التغيير تجعل شريعتي على حافّة الميتافيزيقا؛ الأمر الذي يخشاه، وهو ابن العلم الذي تأسَّس على قوانين عصرية، تضع الإنسان أمام مسؤوليّاته التاريخية والجغرافية والطبيعية والغريزية والاجتماعية والإلهية، وسائر العناصر التي تظهر على أرضية الثقافة المعاصرة بوصفها حتميّاتٍ قانونية، لا يملك معها الإنسان قدرةً التغيير، إلاّ على أرضية الأيديولوجيا / الصحوة العقائدية / الوعي الذاتي. ولكي يجرِّد الأيديولوجيا من طابعها الميتافيزيقي، ويحقِّق شرطها التنويري، سوف يرتِّب شريعتي أولويّاته لانتخاب المنهج الأصلح، من خلال إقامة الأيديولوجيا على قاعدة الاستبدال القانوني (استبدال قانون بقانون)، باعتبارها السقف الثقافي الأعلى للإنسان، كفاعلٍ وناشط في مجرى التاريخ([6]).

المنهج لا غير ـ كما تلقّفه شريعتي من النموذج الأوروبي ـ هو العلامة الفارقة بين الأزمنة الثقافية. والنهضة الأوروبية تبعث على الوَعْي، لا بصفتها نهضةً أوروبية، بل بصفتها نهضةً وفق سنن التاريخ. وشريعتي شكَّل استجابةً لهذا الوَعْي، من خلال تشديده على ضرورة أن ينبع المنهج من واقع المجتمع نفسه، بعيداً عن سياق التقليد والمحاكاة والاغتراب؛ وإنْ كان يُؤخَذ على هذا الوَعْي ارتهانه إلى مرجعيّاته، من خلال كثرة الاستشهاد بالمسار الأوروبي للنهضة، بنحوٍ يدلِّل على معياريّة الجدوى التاريخية والاجتماعية كاختبارٍ صدقيّ لديه.

وقد انعكس ذلك في اشتراطات المنهج لديه، فهو لا يتطلَّب نبوغاً معرفياً أو عبقريات على طراز أفلاطون وأرسطو، بل يكفيه عنصر البساطة والاقتصاد الفكري. ولا يحقِّق المنهج كفاءته المعيارية إلاّ إذا كان هو نفسه من طبيعةٍ تاريخية؛ فإن ما يحقّق عنصر الجدوى، ويؤدّي إلى نتائج عملية مهمّة، ويقود نحو الحركة وكسر الجمود، هو التغيير نفسه، بشرط أن ينظر إليه كجزءٍ من مضمون الفكر، ولا يقدح بعد ذلك تفريغ الإنسان من المحتوى العميق؛ فالمنهج عند شريعتي أهمّ من الفلسفة والعلم والموهبة.

إن تأسيس الفلسفة الاجتماعية على قاعدة أيديولوجيا التغيير، أي على الحركة والسكون؛ النفي والإثبات…، من شأنه أن يقود إلى خياراتٍ حادّة في مقام التطبيق والتصنيف. في هذا السياق يأتي تقسيم التشيُّع إلى: صفوي؛ وعلوي! وسوف لن يقارن شريعتي بين التشيُّع الصفوي والتسنُّن العثماني كمنظومتين وُجدتا في سياقٍ حضاري مشترك، ولن يسعى إلى تقييم الوضع على ضوء الظروف الثقافية الخاصّة بتلك المرحلة كما يفعل علم الاجتماع التحليلي. وإنما يسعى لمقارنةٍ رؤيوية بين سياقٍ عمل على ترميمه على ضوء الحاضر الثقافي([7])، تتحدَّد فيه معالم التشيُّع العلوي من خلال ترجمة المفاهيم الدينية في أبعادها الاجتماعية، ووفق منظومة السلطة والمعارضة، وبين واقعٍ منظوميٍّ قائمٍ بالفعل، يشكِّل موضوعاً للإسقاط المبدئي. ويمكن أن نلحظ بوضوح نتيجة هذه الحدّية، كيف أن النظرية عنده كانت تضغط لجهة تدوير زوايا الواقع بما يتناسب والرؤية المنظورة. إلاّ أن حدّة النظرية هذه قد تتكيَّف لتظهر في مواضع أخرى كنسخةٍ معدّلة، في عقلانية الطرح وعلى ضوء إسلاميّة شريعتي.

وفي نطاق المنهج التاريخي نفسه يتحوَّل الدين إلى ثقافةٍ (ظاهرة بشرية)، ويترتَّب على ذلك أن تحييد المقدَّس عن الدين ليس مجرّد إجراءٍ منهجي مؤقّت، يساعد على تناول الدين من خارجه؛ فالدين في الوضع التاريخي هو الدين، وقد تلاشى من الداخل، وحلّ محلّه الخارج. وإذ لم يَعُدْ من المجدي تناول الدين في غير أبعاده الثقافية فإن دراسة الدين في أبعاده الثقافية أيضاً سوف يقود إلى الخواء. من هنا فإن شريعتي ـ الهارب دائماً من آفة الميتافيزيقا، والمتمحور دائماً حول مركزية الدين ـ يبدو كالقابض على الجمر، وهو سوف يعمل على صياغة رؤيةٍ جديدة للدين على ضوء علم الاجتماع، يتحوَّل فيها المقدَّس ـ الداخل إلى أيديولوجيا، يمكن أن تأخذ مسارها في مجرى التاريخ.

وسوف نأخذ بالاعتبار أن المقدَّس الذي اختلقه شريعتي على شكل أيديولوجيا اجتماعية يحتفظ بصفة الداخل مؤقّتاً؛ كونه يرمز إلى أقرب نقطةٍ من النقاء الديني بحَسَب ما هو متاحٌ في سياق التجربة الثقافية الحيّة. وبهذا المعنى تأتي تلميحاته المتفرّقة إلى أن الله في قوله تعالى: ﴿مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضاً حَسَناً﴾ يُراد به الناس؛ أي إن المقدَّس يتمثل في التاريخ، أي إن الإقراض ممارسةٌ تنبع من بعد أيديولوجي، وعلى مستوى حركة التاريخ نفسها.

3ـ إصلاح الدين في منظور شريعتي

يبحث شريعتي في الدين من الناحية الثقافية، وليس الفلسفية. و«يظهر الدين في بدايته كدعوةٍ تقوم على أساس أيديولوجيا بسيطة جدّاً وشفافة ومنزّهة عن كلّ شائبة، حيث تمثّل الرسالة جوهر هذه الدعوة، لكنْ تكتنف هذه الدعوة شيئاً فشيئاً هالةٌ من الثقافة… وحينذاك لا يبقى الدين في إطار دعوةٍ خالصة فحَسْب، بل يتحوّل إلى مدنية، إلى مجموعة ثقافية. وهنا نرى كيف يستولد الدين الثقافة، ليتحوَّل بعد ذلك هو نفسه إلى ثقافة»([8]).

الدين حركة ورسالة وأيديولوجيا، وهو إذ يتموضع في المجتمع يتحوّل إلى ثقافة. والأيديولوجيا هنا كخفقة ماءٍ في بحر الروح، لا يتذوّقها إلاّ مَنْ اختبر روحانيّتها في اندفاعاتها الأولى. مثل هذه الأيديولوجيا لن تكون جزءاً من الثقافة، بل يجعلها شريعتي في رتبةٍ متقدّمة؛ فما يصنع الثقافة والمدنيّة هو الأيديولوجيا نفسها. ومع أن الأيديولوجيا ليست جزءاً من الثقافة عند شريعتي؛ لكنها تظهر في فكره كجزءٍ مُسْتَلهم من الثقافة الشمولية السائدة آنذاك.

لماذا يتخلَّف الدين عن الوضع الأيديولوجي؟

تضغط العوامل التاريخية بفعل تراكم الزمن للتخفيف من فعالية الطابع الحيوي للأيديولوجيا بنحوٍ تلقائي، وتعمل على تحويل الدين؛ بتأثيرٍ من الخصوصيات المحلية للمجتمع، إلى ثقافةٍ دينية. ولأن الحقائق الدينية خالدةٌ بطبيعتها فهي تتطلّب تجديداً مستمرّاً، يواكب حركة الزمن، ويراعي مقتضيات المرحلة، وما لم تتحقَّق عملية التجديد فإن الدين يفقد معناه، ويتحوَّل إلى طقوسٍ شكلية لا تؤدّي الغرض المرجوّ من وجوده: «عندما نضع حقيقةً من الحقائق الخالدة في ظرفٍ متغيِّر معرَّضٍ للزوال ستتمظهر بعد مرور عدّة أجيال في صورة تقاليد موروثة، حينئذٍ لا تستطيع الأجيال التالية تمييز المحتوى عن الظرف، فتعتبر هذين الاثنين ـ خطأً ـ سبباً ونتيجة. ولأن هذه الظروف لا تستطيع الصمود في جميع الأزمنة، وهي زائلةٌ لا محالة، لذا فإن الظرف والمظروف سيندثران معاً، إذا لم تقُمْ الأجيال بإحياء الدين واكتشافه، وإذا لم تقُمْ بتجديده وطرحه من جديدٍ في ظروفٍ لغوية علمية متناسبة مع عصرها… ما عدا العوامل التي تدخل عليه من الخارج، توجد قضايا هي جزءٌ من حقيقة كلّ دينٍ، ولكنّها مع مرور الزمن وتغيُّره تتحوَّل إلى قضايا عَبَثية، فيصبح الدين بعد ذلك مجموعةً من التقاليد والمراسم والطقوس العَبَثية. إذن الإصلاح المقصود هنا هو القضاء على هذه القضايا العَبَثية، وطرحها جانباً، ومن ثمّ استخراج تلك الروح وذلك التوجُّه المدفون تحت ركام تلك القضايا العَبَثية، وتحويله إلى طاقةٍ خلاّقة تبعث على الحركة»([9]).

يؤمن شريعتي بأن الدين ـ في الوضع الأيديولوجي ـ هو الأساس الفكري والثقافي الذي ينبني عليه أيّ مجتمعٍ في التاريخ. ويستشهد على ذلك بحالة الازدهار التي شهدها الاقتصاد الياباني، والتي يعزوها إلى زهد الفرد الياباني في الاستهلاك، وإلى تطبيق نظام الرعاية الأبوية في الإدارة، والذي يُعَدّ جزءاً من عقيدة الدين الرسمي في اليابان… لقد أدخل الياباني القِيَم المعنوية إلى منظومة الإنتاج الاقتصادي، ما أدّى إلى بلوغه هذه المستويات من التقدُّم([10]).

على أن إيمان شريعتي بالدين كعاملٍ للتقدُّم والكمال لا يجعل الدين في مستوى المنهج الفاعل والمؤثِّر، بل يظلّ يحتفظ بوضعيّته كموضوعٍ، وكمجالٍ خصب يعمل عليه؛ «يُعتبر الدين هنا أحد العوامل المؤثِّرة في هذه البلدان، التي لا تزال تعيش في صورة مجتمعاتٍ تاريخية. وعليه لا بُدَّ من الحلول، من خلال الدين، في الضمير الفردي والجَمْعي للمجتمع الديني وإيقاظه»([11]).

وسوف يكرِّر شريعتي رزمة التوصيات التي نعهدها في سياق مشاريع الإصلاحات والإحياءات، والتي تتكوَّن من مجموعةٍ كبيرة من العوامل الداخلية والخارجية. وكما جَرَت العادة فإن التركيز على العوامل الخارجية سوف يفوق على أيّ اهتمامٍ آخر؛ والسرّ في ذلك هو أن استراتيجيات النَّمَط الغربيّ، التي شكَّلت مجمل البناء التحتي لفكر شريعتي، فرضت على تأسيساته الدينية أن تأتي كاستتباعات لاستكمال البناء الفوقيّ للفكر لديه. وهذا لا يضيره في شيءٍ طالما أنه يسعى لتمثُّل الإسلام في قالبٍ حضاري، عبر منهجيةٍ تسمح له بإنتاج كتلةٍ من البارود البشري، وليس بالضرورة نوابغ وعباقرة.

4ـ استراتيجيا التغيير في منهج شريعتي

يعيد شريعتي تقييمه لمجمل الوضع الديني المحلّي وفق منظومة التغيير والثورة والأيديولوجيا. فقد احتوى الدين على كافّة العناصر التي تخوِّلنا القيام بهذا الدَّوْر التجديدي. وبالإضافة إلى العوامل الديناميكية المعهودة في الدين الإسلامي لناحية الثبات والتحوّل ومواكبة الزمان والمكان، يضفي الدين بنظر شريعتي على لغته طابعاً رمزيّاً، بحيث يراعي التفاوت في المستويات الفكرية، والتي يتوزّع عليها مخاطَبوه على امتداد التاريخ؛ فيرى «أن متشابهات القرآن المهمّة والعجيبة تبين بوضوحٍ أن الإسلام قد أخفى عمداً الكثير من المعاني… في بطون البيان المعجز المتعدِّد الأغوار، إلى أن يصل المسار التكاملي للإنسان، عبر الزمن، إلى الحدّ الذي يستطيع فيه من الناحية الفكرية والعاطفية أو العملية استيعاب تلك المفاهيم، وكشفها، ووضعها في خانة المُدْرَكات»([12]).

وعلى ضوء ذلك سوف يعمل شريعتي على تشكيل مفاهيمه الدينية والاجتماعية جنباً إلى جنبٍ، وعلى أرضيّةٍ موحّدة. ويتطلّب توحيد هذا المسار إجراء تعديلاتٍ دلالية؛ بغية تظهير المفاهيم الدينية في أبعادها الاجتماعية، ومن ثمّ وضعها على سكّة الأيديولوجيا، والتي تتشكَّل لديه وفق ثنائية الحركة والجمود.

والحركة التي ينشدها شريعتي تضاهي الكمال، وإلاّ فمرجعها إلى السكون. من هنا نجده يميِّز بين الرقيّ والتكامل؛ فالرقي يعبِّر عن تقدُّم المجتمع كمّياً، بينما التكامل يجسِّد نضج الإنسان نوعيّاً. وبناءً عليه يعتبر النظام الحالي في الغرب نظاماً متقدّماً، وليس متكاملاً، والحال أن النهضة الحقيقية تتطلّب تحقيق الرقيّ والتكامل كلَيْهما معاً([13]).

ووفق ثنائية الحركة والجمود أيضاً يحدِّد شريعتي مفهومه عن النهضة والمؤسّسة؛ النهضة بوصفها حركةً سائرة باتجاه هدفٍ ما، والمؤسّسة باعتبارها ركيزةً اجتماعية لا تقبل التغيير. ويترتَّب على ذلك أن المؤسّسة تحتاج إلى ما يحفظ حركيّتها، ويمنعها من السقوط الحضاري. والطريق إلى ذلك بحَسَب شريعتي هو «الثورة الدائمة»، والتي تقوم على مبادئ ثلاث:

1ـ الاجتهاد الحُرّ والمستقلّ: في مجال الفلسفة والفكر والأيديولوجيا.

2ـ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: أي الشعور بالمسؤولية تجاه المجتمع، والقيام بعملية هدم البنى، وإعادة بنائها من جديدٍ.

3ـ الهجرة: أي الانفكاك من القيود الدائمة للسكون والتوقُّف، من خلال التحرُّك المستمر([14]).

الاجتهاد، الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، الهجرة، تسمياتٌ إسلامية تنبع دلالتها عند شريعتي من كونها تشكِّل رؤى مفاهيمية على صعيد الاجتماع، ترتفع بها فوق مستوى الحَدَث التاريخي، وتستحضرها على شكل قوانين وسُنَن. ففي كتابه (منهج التعرُّف على الإسلام) يلحظ شريعتي، ومن خلال لهجة القرآن، وتكرُّر الإشارة إلى الهجرة وأمور أخرى، أن الهجرة ليست مجرّد حادثةٍ تاريخية، وإنّما هي قانونٌ وسُنّة. وهو يدرج هذه المفاهيم في سياقاتٍ دلالية غير مألوفة، فيشترط في عنصر الاجتهاد أن يكون حُرّاً ومستقلاًّ. ويأتي هذا النوع من الاشتراط وفق منهجيته في التغيير. مثل هذه الإضافة ينبغي أن تُلْحَظ في دائرة مشروعه عن علم اجتماعٍ ديني على أساس الإسلام.

وانطلاقاً من مفهومه عن الهجرة سوف يعمل شريعتي على تفكيك البنى الدينية، وإعادة بنائها وفق منظورات رؤيوية تلحظ ما ينبغي، وتتجاهل ما هو كائنٌ؛ ذلك أن الفَهْم الديني النابه على مستوى الوَعْي والتوظيف والطموح سوف يشكِّل إضاءةً على مجمل الشرط الحضاري لديه. تدور ثنائيات الدِّين عنده ما بين:

ـ أيديولوجي / تقليدي.

ـ توحيد / شرك.

ـ ما فوق العلم / ما دون العلم.

يميِّز شريعتي بين مرحلتين تاريخيتين في الدين: مرحلة الدين التقليدي؛ ومرحلة الدين الأيديولوجي. الدين التقليدي هو الدين كتراثٍ يتضمّن مجموعةً من الشعائر والطقوس والعقائد الموروثة على النحو الذي يتناوله تعريف دوركهايم لعلم الاجتماع. إلاّ أن اهتمامات شريعتي تنصبّ على الدين الأيديولوجي، أي الدين كعقيدة ينتخبها الإنسان عن وَعْيٍ، ويسعى من خلالها لتحقيق المُثُل العليا([15]).

والأصل في الدين عند شريعتي هو التوحيد، وليس الشرك؛ فالدين التوحيدي قائمٌ على الوَعْي والبصيرة، وهو يعمل على تبرير وحدة البشر وتآلفهم في الطبقة والعِرْق والوجود، ووحدة اتّجاه مصير الإنسان وقوى ما وراء الطبيعة. أما دين الشرك فهو وليد النظام الطَّبَقي غير العادل، وهذا الدين ظهر لتبرير نظام اللامساواة، والاستغلال([16]).

وممّا يلفت النظر في تقسيماته للدين تقسيمه إلى: ما دون العقل والعلم؛ وما فوق العقل والعلم؛ فالدين عند بعض الأفراد والشعوب في مرحلةٍ معينة هو ما دون العلم، وتقريباً هو أمرٌ غريزي، يأتي نتيجة الجهل والخوف والمصلحة، ويحمل طبيعةً انحرافية؛ وعند بعضٍ آخر يتجاوز الدين مستوى العقل والعلم أيضاً، وهو كالنار التي توقد العقل، وتمنح أشعة نوره المعرفة بالدنيا والبصيرة([17]).

ويمكن إرجاع تقسيمات الدين عنده إلى تقسيمٍ معياري وحيد (تقدُّم؛ تخلّف)، وينظر إليه من زوايا متعدّدة (الوَعْي، التوظيف، الطموح)، ويتمّ التعبير عنه بتعابير دينية: (توحيد، شرك)، بعد توحيد سياقها الدلالي مع المفهوم الاجتماعي (أيديولوجي، تقليدي)، (ما فوق العلم، ما دون العلم).

من جانبٍ آخرٍ يميِّز شريعتي بين الثورة والإصلاح؛ فالثورة تغييرٌ في البنى التحتية، والإصلاح تغييرٌ في البنى الفوقية. وهو يعيد بناء هذه المفاهيم على أرضية الدَّمْج (إصلاحٌ ثوري)، بحيث ينتج الدلالة الخاصة التي تؤدّي غرضه، والتي تكمن هنا في أن عملية التغيير سوف تتطلَّب إجراء تعديلاتٍ جوهرية من داخل القالب نفسه. وبحَسَب شريعتي هذا هو أسلوب النبيّ| في تعامله مع السُّنَن التي كانت سائدةً في المجتمع آنذاك؛ إذ غالباً ما كان الرسول| يأخذ بتقاليد وسنن مجتمعه ـ وإنْ كانت جاهليةً ـ إلاّ أنه يضفي عليها محتوى علمياً وثورياً وإنسانياً. يطلق شريعتي على حركة النبيّ| هذه اسم «الثورة من داخل السُّنَن مع الاحتفاظ بالقالب المعدّل». وهذا الأسلوب بنظره يمثِّل ثورةً ثقافية كبرى منزوعة النتائج السلبية([18]).

وفيما يشبه الواقعية المعقّدة لمبدأ تعدُّد الأسباب عنده، معطوفاً على مبدأ السببيّة المتبادلة، يطرح شريعتي مبدأ الإصلاح الثوري على قاعدة التطبيق الجزئي، مفكِّكاً صلاته بمبدأ التناقض التاريخي، والذي يسري على كافّة الوقائع الجزئية بنحوٍ صارم، لا يقبل الاستثناء.

وسوف يحرص على أن يسوِّق لأفكاره في قالبٍ من القضايا الخَبَرية بظاهرها، المؤجَّجة بالقِيَم المرسلة من حيث المضمون؛ وعلى إدخال عنصر الزمان كبُعْدٍ رابع، يلازم مفاهيمه على الدوام، ويشطرها إلى ثنائياتٍ متقابلة؛ إذ غالباً ما يمرِّر أفكاره عبر مسارب تاريخية، توقظ وَعْي القارئ على الفجوات الخطيرة التي أحدثَتْها إغفالات التاريخ، وتستفزّه لمقارنة الهوّة الفاصلة بين التاريخ وواقعه.

5ـ جهود شريعتي في إضاءة صفحة الوَحْي من جديدٍ

لا يخفي شريعتي رغبته في تكوين معرفةٍ بالإسلام تتوفَّر على عنصرَيْ: الدقّة؛ والعصريّة. وفي سبيل ذلك هو يلحظ الإسلام كدينٍ متعدّد الجوانب، ولا بُدَّ أن تعكس المنهجية هذا التنوُّع والتعدُّد في الدين.

ويحدِّد شريعتي هذه الجوانب العامّة في أربعة:

ـ جانب العرفان والأحاسيس الروحية وعلاقة الإنسان بربّه، ويجب أن نعتمد المنهج الفلسفي والتفكير الحُرّ ما وراء العلم.

ـ جانب الحياة الإنسانية وطريقة المعيشة على الأرض، ويجب اعتماد المناهج المطروحة في العلوم الإنسانية.

ـ الجانب المدني والحضاري، ويجب أن نراجع المناهج المعتمدة في الدراسات الاجتماعية والتاريخية.

ـ جانب الطبيعة، أي جانب المسائل الكونية والطبيعية التي تندرج تحت علوم الطبيعة والكائنات الطبيعية، ويجب أن تبحث بالمنهج الطبيعي.

فالإسلام بطبيعته متعدِّد الأبعاد. وهذا النوع من التعدُّدية يجد مسوِّغه من داخل الإسلام نفسه، ولا يحتاج معه إلى تبريرٍ من خارج.

وفي كتابه «منهج التعرُّف على الإسلام» يكشف شريعتي عن رغبته بتأسيس علم اجتماعٍ ديني على أساس الإسلام، على أن يكون ذلك بمصطلحاتٍ مقتبسة من نصوص القرآن الكريم والمصادر الإسلامية. ويتحدَّد طموحه هنا في الكشف عن الكيفية التي بها يقارب الدين قضايا الاجتماع من الناحية القانونية، ولا سيَّما في البُعْد العملي. ولتوضيح هذا الأمر يميِّز شريعتي، في أسلوب قراءته للنصّ الديني وفهمه له، بين طريقتين:

1ـ الطريقة العامة المتَّبعة في فهم النصوص الدينية والسيرة، وذلك من خلال تحليل أبعادها الاجتماعية والسياسية والأخلاقية على ضوء العلم الحديث.

2ـ الطريقة الخاصة القائمة على مطالعة القرآن والتحقُّق والتتبُّع فيه بما يؤدّي إلى استكشاف واستنباط قضايا جديدةٍ في علم التاريخ والاجتماع والعلوم الإنسانية، وذلك بالاستعانة بلهجة القرآن، ومراقبة أسلوبه وتعبيراته، وأوامره المستمرّة وأوامره العامة…، ومن ثم مراجعة التاريخ وعلم الاجتماع على ضوء ما توصَّل إليه من مبادئ وقوانين قرآنيّة.

إن علم الاجتماع الديني في الإسلام يقوم على أساس كشف القوانين واستنباطها نتيجة الفهم المعمَّق والتحليل الدقيق؛ إذ يمكن لنا عن طريق الاصطلاحات القرآنية أن نستخرج كثيراً من المسائل العلمية المطروحة في أحدث العلوم الإنسانية المعاصرة. وكما يصرِّح شريعتي؛ إن هذه الطريقة ساعدَتْه في استنتاج أن الهجرة ليست مجرّد حادثةٍ تاريخية، وإنما هي قانونٌ فلسفيّ واجتماعيّ عميق.

يؤكِّد شريعتي على أن القرآن والمصادر الدينية تلقي الضوء على القضايا القانونية والعلمية بمقدار ما يمتلك الباحث من رصيدٍ علمي في مجال اختصاصه، بحيث يُتاح له التقاط إشارات النصّ حول القضايا التي تتعلَّق باختصاصه العلميّ.

ولا شَكَّ أن الإسنادات الدلالية التي يضفيها شريعتي على المفاهيم والمصطلحات الإسلامية؛ بملاحظة أبعادها الاجتماعية، وإعادة صياغتها على ضوء المبادئ العملية وسُنَن التغيير، والتي تجلَّتْ بوضوحٍ في مجمل نظريّاته وأفكاره، سوف تندرج في دائرة جهوده لتأسيس علم اجتماعٍ ديني على أساس الإسلام.

وإذا ابتعَدْنا عن التمهيدات والتفريعات، وأرَدْنا أن نكون في قلب المشروع الشريعتي على نحوٍ سريع ومفاجئ، سوف نجد أنفسنا أمام ثلاثة مقترحات، تشكِّل الدعائم الرئيسية للمنهج عنده:

ـ دراسة القرآن كأَثَرٍ مبدعٍ، وباعتباره المتن الكامل للفكر الإسلامي؛ للتوصُّل إلى المبادئ والآثار الفكرية والعلمية للإسلام. فالكتاب الديني هو الدين مكتوباً بالكلمات.

ـ معرفة التاريخ الإسلامي باعتباره السجلّ الكامل لأحداث الإسلام في مراحله المختلفة.

ـ تصنيف القضايا المحورية في كلّ دينٍ، ومقارنتها بالجوانب المقابلة لها في الأديان الأخرى.

إن معرفة القرآن كأَثَرٍ مبدعٍ في الإسلام، ومعرفة التاريخ الإسلامي، والمقارنة التطبيقية، هي المفاتيح الأساسية التي تشكِّل أقصى مَدَيات المنهج عند شريعتي، والتي يتمثَّل بها اختصاصه العلمي.

في سبيل تنشيط هذا المنهج يقترح شريعتي أموراً، منها:

1ـ تفعيل الدراسات التي تهتمّ بالقرآن في نصّه، ودراسة التاريخ الإسلامي دراسةً تحليلية؛ نظراً لنُدْرة هذا النوع من الدراسات.

2ـ العودة إلى متن القرآن والتحقيق فيه أصلاً، وترك التحقيقات الدينية المختلفة في الهوامش والحواشي.

3ـ إعداد برنامج التوعية الجماهيرية بالاستناد إلى القرآن والتاريخ، من خلال تحويل المساجد إلى مراكز فعّالةٍ للبحث والتحقيق.

تقوم هذه التوصية على استحضار الدراسات العصرية في بُعْدها النصّي والتاريخي؛ والتمركز حول الأصول، بَدَل التلهّي بالقشور والفروع؛ وتحويل الثقافة من ثقافة نخبةٍ إلى ثقافة جماهير.

ثمّ إن إحراز المعرفة العلمية الدقيقة بالدين يتطلَّب إخضاع الأديان لمنهج المقارنة، وتطبيق هذا المنهج على المحاور الأساسية في كلّ دينٍ.

وهو يعدِّد القضايا المحورية على النحو التالي:

1ـ معرفة إله كلّ دينٍ: تتعدَّد طرق معرفة الله، إلاّ أن شريعتي يقترح اعتماد منهج (المقايسة والاستنتاج)، أي استقصاء صفات الله في القرآن والسنّة النبوية وأحاديث الصفوة. ثمّ مقارنتها بصفاته المذكورة في المذاهب الدينية الأخرى.

2ـ معرفة كتاب كلّ دين: وهو المنهاج التشريعي الذي يأتي به كلّ دينٍ، ويأمر أتباعه بالعمل به. ولا شَكَّ أن معرفة المسائل التي تعرّض لها القرآن الكريم، ونوعية تلك المفاهيم، من دنيويةٍ أو أخروية، فرديةٍ وأخلاقية أو اجتماعية، مادّيةٍ أو معنوية، طبيعيةٍ أو إنسانية، وحجم الاهتمام الذي تحتلّه تلك المفاهيم، وكيفية الطَّرْح…، ثم مقارنتها بما في سائر الكتب الدينية، سوف يزوِّدنا برصيدٍ معتدّ به في معرفتنا للإسلام.

3ـ معرفة نبي كلّ دينٍ: كأنْ نتطرّق إلى الجوانب الإنسانية العادية في حياة الرسول الأعظم، ونلاحظ أسلوب حديثه، وطريقة عمله، وعلاقاته مع العدوّ والصديق، وندرس انتصاراته وهزائمه، وكيفية معالجته للقضايا الاجتماعية، وكذلك أبعاده المعنوية وقدراته المستمدّة مما وراء الطبيعة. ومن ثمّ نقارنه بأنبياء الأديان الأخرى.

4ـ معرفة كيفية ظهور نبيّ كلّ دينٍ: وبخصوص نبيّ الإسلام: هل كانت بعثته مفاجئةً له وللناس أم كانت متوقَّعةً مسبقاً؟ كيف بدأ دعوته؟ مَنْ هم أنصاره ومع مَنْ كانت المواجهة؟ ثمّ نقارن ذلك بسائر الأنبياء: هل كان يبثّ دعوته على مستوى القاعدة، كما هو الحال لدى سائر أنبياء السلالة الإبراهيمية، أم كان يتملَّق للسلطان في سبيل نشر الدعوة؟

5ـ معرفة تلامذة وحواريّي كلّ دينٍ: أي النماذج التي أنتجها هذا المصنع الإنسانيّ (الدين) وقدَّمها للتاريخ والإنسانية. فلو درَسْنا شخصيّات هذه النماذج ومواقفهم لعرَفْنا قيمة وحقيقة المبدأ الذي كانوا ينتمون إليه، وتخرجوا منه([19]).

التعرُّف على طبيعة الإسلام وجوهره بالمنهج العلمي الصحيح يتلخَّص في تقديم الإسلام كأيديولوجيا، من خلال الفهم العلمي والتحليلي والمقارن لخمسة عناصر، وهي: الله؛ القرآن؛ محمد|؛ النموذج المثالي؛ والمدينة.

6ـ الإصلاح في ظلّ الأفكار القرآنية

يشدِّد شريعتي في كتابه «الإمامة والأمّة» على الدراسة القرآنية باعتبارها نقطة الارتكاز في مشروعه الإصلاحي. ويرى أن القرآن يشبه الطبيعة، وأن الله تعالى دوَّن هذا الكتاب السماوي على أساس وشكل القوانين الطبيعية التي أبدع العالم على أساسها. في هذا الضوء لا بُدَّ لنا من أجل معرفة الأفكار القرآنية، بل حتّى من أجل معرفة خصوصية نزول القرآن وكونه وَحْياً، من استخدام المنهج السليم الذي سلكه الباحثون في العلوم الطبيعية والإنسانية، ووصلوا من خلاله إلى حقائق كبيرة.

لقد استخدم مصطلح الوَحْي في القرآن استخداماً متميِّزاً. والوَحْي كلمةٌ مشتركة توضِّح علاقة الله تعالى ـ الأعمّ من القولية والفعلية ـ مع الطبيعة: النبات والحيوان والإنسان. فالعلاقة الأولى أنتجت قوانين الطبيعة، والعلاقة الثانية أنتجت قوانين الحياة، والثالثة الدين، وعلى وجه التحديد الكتاب. وبناءً على ذلك فالقرآن ظاهرةٌ تشبه تماماً الطبيعة والحياة، ولا بُدَّ أن يلحظ القرآن كمنظومةٍ شمسية كاملة، كالطبيعة، في توفُّر شكله وتركيبه على قوانين وعلاقات محدّدة ومنظّمة ومدروسة وعلمية.

إن فهم الكثير من الحقائق القرآنية ـ بنظر شريعتي ـ لا يستدعي كثيراً من النبوغ؛ إذ يمكن عبر المنهج السليم اكتشاف الكثير من حقائق القرآن، دون الحاجة إلى اطّلاعٍ واسع وكبير.

وهو يقدِّم نموذجاً لذلك، يستند فيه إلى أن تصنيف أسماء السُّوَر القرآنية بحَسَب معانيها يكشف لنا عن المجالات المعرفيّة التي تتوزَّع اهتمامات القرآن على أساسها. وهو يرتِّبها بالتدريج وفق التالي: الطبيعة، الاجتماع، التاريخ، الميتافيزيقا، الاقتصاد، الأخلاق.

وتأتي هذه النتائج على التضادّ مع ترتيب السَّلَف، حيث يلزم بمقتضى نظرهم المتمحور حول هدائية القرآن، أن تتسلسل اهتماماتهم وفق الترتيب التالي: العبادات، ثمّ الأخلاق، فمسائل المجتمع، وأخيراً الطبيعة.

ويرجع هذا التضارب بين الرؤيتين ـ بحَسَب شريعتي ـ إلى أسبابٍ منهجيّة؛ أي اختلاف منهج السَّلَف، القائم على أساس العقل والقياس والحَدْس والظنّ والذوق…، عن المنهج العلميّ، القائم على الاستقراء وتحليل المفردات الجزئية([20]).

وعلى الرغم من وقوع هذا النموذج محلاًّ للنقد من أكثر من جهةٍ([21])، إلاّ أنه لا ينبغي أن نغفل عن طبيعة المنهج الذي يقصده شريعتي هنا. فهو لا يعتمد المنهج بوصفه أداةً معرفية، تُعنى بكيفية الانتقال من المقدّمات إلى النتائج، وكشف الحقائق، بل هو يحتكم في ترجيح النتائج الاستقرائية إلى ضرورة أن يتوفَّر المنهج على عنصرَيْ الاقتصاد الفكري ونجاعة الجَدْوى. وتتمثَّل الجدوى هنا في تظهير الإنسانيات القرآنية بنحوٍ ملائم،في سبيل تقديم إسلامٍ مقبول ومعقول في السياق العصريّ. والمسوِّغ لهذه المعقولية هو الأولويّة التي يحظى بها الآخر الثقافي؛ كونه أحرز الشرط السُّنَني في الحضور التاريخي.

وعلى أهمّية تظهير العلوم القرآنية وفق النَّمَط الحديث للنظام العلمي، إلاّ أنه يُؤخَذ عليه مجاراته لما انتهى إليه العلم الحديث في سياق التلبيس على مستوى ممارسة القدماء للمنهج الاستدلالي. فهو لا يفتأ يكرِّر النقد الحداثي لمنهج القياس العقلي، كما لو أنه داءٌ ورثناه عن القدماء، على الرغم من انتفاء الدواعي التي تحمل القدماء على التفكير في تحديث منهج المطابقة، وتعديله وفق معيارية التناسب العصري؛ ذلك أن القدماء أحرزوا الشرط الحضاري لعصرهم، وحازوا بذلك على سُنَن التاريخ، فتخفَّفوا من عِبْء تمثُّل الآخر، ولا ذنب لهم سوى أنهم لم يتفكَّروا في بلورة المنهج المناسب لعصر الكَسَل الحضاري. وبمعزلٍ عن هذه القضية ما نريد أن نستخلصه هنا هو أن استنتاج شريعتي لا يتعلَّق بالنتائج المنهجية بالمعنى الحقيقي للمنهج الباحث في كيفيّات التفكير السليم، وإنما يتعلَّق بالتناسب العصري والجدوى، كشرطٍ للتحقُّق الحَضَري، على ما أسلَفْنا.

 ومع ذلك يمكن للمرء أن يقدِّر أنه لو قام الغزالي بتطبيق المنهج الاستقرائي هذا ألف مرّةٍ سوف لن تخرج الزكاة من باب العبادات وتندرج بالتالي في باب الاقتصاد، ولن تخرج سورة المنافقون من باب الأخلاق مثلاً وتندرج في باب السياسة. فالزكاة ممارسةٌ مالية عبادية، تهدف الى تطهير الأموال وتزكية الأنفس، وهي تقترن بالصلاة في كثيرٍ من الآيات: ﴿وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ﴾، وليست مجرّد توزيع ماليّ؛ والمنافقون مشكلةٌ أخلاقية على مستوى الإنسان، قبل أن تكون مشكلةً سياسية على مستوى الاجتماع.

7ـ البروتستانتيّة الإسلاميّة

في سياق حديثه عن دَوْر المثقَّف يشترط شريعتي لتأسيس الحضارة الجديدة توفُّر عاملين: أحدهما: اقتصاديّ، وهو استبدال النظام الإقطاعي الأرستقراطي بالبورجوازي؛ والآخر: فكريّ، وهو استبدال الكاثوليكية بالبروتستانتية. وهذا العامل الأخير هو ما يفسِّر رسالة المثقَّف([22]).

يستلهم شريعتي في أكثر من موردٍ من النموذج البروتستانتي. وهذا الأمر سوف يُفْهَم على ضوء مقولة: إن الدين للدنيا، أي إن البروتستانتية عملية توظيف الدين للدنيا؛ وإن الدين الذي لا جدوى منه ما قبل الموت لن يكون مُجْدِياً أيضاً بعد الموت([23]).

وبذلك يقع شريعتي في الجانب المقابل لخلاصاتٍ فكرية ردَّدها بعض المثقَّفين في سياقاتٍ بحثية مختلفة ـ بازرگان، سروش ـ، ترى أن الدين الدنيوي ليس ديناً، وأن هَدَف الأنبياء الأساس متمثِّل في الإله الواحد، والآخرة، ولا تعلُّق له بالدنيا إلاّ بمقدار الضرورة؛ وإنما لا بُدَّ دون القمح من زائد القشّ. وعليه إذا كانت الأيديولوجيا خطّةَ عملٍ صالحةً للدنيا، وكانت أدلجة الدِّين تعني حبسه في قفصٍ من المقولات الاجتماعية ـ حَسْب تعبير سروش ـ فالأيديولوجيا هي مذهبٌ دنيوي، بينما الدِّين ليس مذهباً دنيوياً.

إلاّ أن هذا النقد سوف يفقد زَخْمه إذا ما عرفنا أن قيام علم اجتماعٍ ديني عند شريعتي إنما كان يستند إلى استبدال أفقٍ تاريخي للدين بأفقٍ آخر، وفق منظوره عن قانون الجمود والحركة. ويبدو أنه يفهم أسلمة الكاثوليكية، واستبدالها بالبروتستانتية، على أنه استبدالٌ في الأفق التاريخي، كشرطٍ في التمدُّن، ولهذا كانت مقاربته عن التجربة اليابانية أكثر انسجاماً مع المنطق الإسلامي من فكرة الاستبدال اللاهوتي في البروتستانتية.

وقد جاء الفصل بين الديني والدنيوي مواكباً لنشأة المسيحية، وتطوّرها في البُعْد التاريخي، الأمر الذي دفع باتجاه إضفاء نزعةٍ لاهوتية عليه؛ تطلّب الخروج عنها تثويراً على أرضية الدين نفسه، متمثِّلاً في الحركة البروتستانتية كردّة فعلٍ.

في المقابل، لم يكن هذا الفصل معهوداً في عقيدة المسلم، الذي يرى وجوب طاعة الحاكم، والذي يفترض به سياسة الدنيا وحراسة الدين؛ كما لم يكن معهوداً في نصوصه، التي ترسم له أن مسار الفصل هو بمثابة الانحراف ونقض عُرَى الإسلام، بدءاً من رأس الهَرَم الاجتماعي والسياسي، وانتهاء بالانفصام على صعيد الدين نفسه؛ نظراً لوحدة السياق بينهما، وإنما فرض عليه مسار الفصل بحكم التاريخ، إلاّ أن مسار الوصل لم يغادر ضميره ووجدانه.

وهذا الضمير المرتكز في وجدان الأمة، والذي استلهمه شريعتي من تطلُّعات جمال الدين الأفغاني ومحمد إقبال، هو ما يفسِّر رسالته في تحويل هذا الضمير من مستوى الارتكاز العامّ إلى مستوى الوَعْي، وذلك بتظهيره عبر التنظير العلمي، وإضفاء الأُسُس القانونية عليه.

ولا شَكَّ أن شريعتي كان يحدِّق في الحركة البروتستانتية؛ ليقتبس النموذج، ويطبِّقه هنا، إلاّ أن جهوده في العودة إلى وحدة السياق الإسلامي الاجتماعي والسياسي، وإحيائه، تجعله مصلحاً ثوريّاً على أرضية التاريخ، وليس ثائراً على أرض اللاهوت.

وعلى الرغم من أن الواقع الثقافي للثورة الإسلامية في إيران، والذي شكَّل استجابةً لضمير الوصل المرتكز في الذهنيّة العامّة للمسلمين، كان قد تجاوز الأُطُر الضيِّقة للنسب الثوريّة، مستحضراً الحراك الثوريّ في أوسع مَدَياته الشعبية والإسلامية. إلاّ أن ذلك لن يحول دون تقدير إسهام شريعتي على صعيد تثوير الشباب الجامعي، بوصفه أحد المنظِّرين للثورة على الصعيد النظري والشخصي.

والإنصاف أنه، وبشهادة الواقع التاريخي والاجتماعي للثورة، لم يكن المجتمع الإيراني على موعدٍ مع فلسفة التغيير بأدواتها المعرفية الغربية؛ لكي يرفع مشعل الثورة، كما لم يكن على موعدٍ مع فكرة التنوير؛ لكي يندفع في مسيرة العمل. فقد تفتَّقت البروتستانتية الإسلامية ـ إنْ جاز لي التعبير، وهو لا يجوز؛ لكونه قياساً مع الفارق ـ على صعيد الحوزة الدينية متمثِّلةً بفكر الإمام الخميني الثوريّ، وما يحمله من رصيدٍ كبير على صعيد تفعيل مقولة: إن الدين للعمل، والتي هي من مرتكزات الإسلام. وانعكس ذلك في التجربة الرائدة، التي تتجلّى آثارها بوضوحٍ اليوم على الصعيد السياسي والاجتماعي الإيراني.

خاتمةٌ

تبقى أهمّية شريعتي الاستثنائية كمثقَّف يلتقط أنفاس اللحظة، بل ويستبقها، ويلتقي مع أهدافها على مستوى التنظير، ويرفدها بحسّه الثوري من معين قلمه، وينشط حيث تقتضي المسؤولية الاجتماعية في إيجاد خطابٍ علمي مؤدلج، يواكب مسار الحَدَث الثوريّ، ويجعله مفهوماً ومقبولاً ومعقولاً في السياق العصريّ، ولدى شريحةٍ اجتماعية وازنة.

ومع أنه كان يحرص على طرح أفكاره في إطارٍ عقلانيّ ومبرَّر، إلاّ أن نمطه الثقافي لم يكن معهوداً في السياق المحلّي الديني آنذاك. وإذن ليس مفاجئاً أن يبتلى بخصومٍ تقليديين، على الجبهتين: الدينية؛ والعلمانية، وبأتباعٍ تقليديين، أخذوا به إلى زوايا جَدَليّة ضيِّقة، وقاموا بتحويله إلى ماركةٍ ثقافية مبتذلة، الأمر الذي ساهم ـ دون قصدٍ ـ بضمور نشاط شريعتي على مستوى فلسفة التاريخ، والمنهج الاجتماعي الناظم لمجمل فكره.

الهوامش

(*) باحثٌ وأستاذٌ في الحوزة العلميّة. من لبنان.

([1]) علي شريعتي، الأعمال الكاملة 16: 47.

تكاد تنعدم الدراسات العربية التي تتناول فكر شريعتي، وتعمل على تظهير نظريةٍ فلسفية في مجال علم التاريخ والاجتماع من خلال تعقُّب نصوصه وتطوّرها الفكري. مع ما لاشتغاله العلمي من مجالٍ خصب ومحفِّز للدراسة الأكاديمية. ويجد الباحث صعوبةً في إعادة ترسيم فكر شريعتي، مع عدم انتظام نصوصه في موضوعاتٍ ممنهجة، تسهِّل الوصول إلى المادة العلمية التي يترصَّد لها في بحثه، وتكفيه عناء قراءة النصوص المطوَّلة، والتي تشكِّل تطبيقات عملية متناثرة، أكثر منها تنظيراً لمبادئ التحليل وكيفيّات التفسير العلمي لديه. ومع ذلك لا محيص من الغَوْص فيما خطَّه شريعتي بيده، أو ما كتب عنه، ممّا توفَّر بالعربية، ككتاب «هكذا تكلَّم شريعتي»، تأليف: فاضل رسول؛ و«علي شريعتي وتجديد الفكر الديني»، تأليف: عبد الرزاق الجبران؛ و«تطوير الثقافة»، تأليف: فيروز راد وأمير رضائي، والذي شكّل معيناً رافداً لي في ضبط وتوثيق النصوص المتناثرة؛ و«علي شريعتي، الهجرة إلى الذات»، تأليف جميل قاسم.

([2]) المصدر السابق 14: 11؛ 16: 125.

([3]) المصدر السابق 26: 137.

([4]) المصدر السابق 26: 242؛ 16: 62.

([5]) المصدر السابق 24: 194 ـ 195.

([6]) المصدر السابق 24: 91 ـ 92.

([7]) معالم التشيع العلوي كما يرسمها شريعتي كأسلوبٍ منظّم ومدروس ومبتنٍ على أيديولوجيا رصينة وواضحة: (ولاية علي) التخلّص من ولاية الجور؛ (الإمامة) الوجه الحقيقي لنظام الخلافة؛ (العدالة) تفنيد أسس نظام التمييز العنصري والطبقي؛ (الانتظار) لفضح زَيْف تمويهات السلطة؛ (المرجعية) تنسيق في العمل ومركزية في النهضة؛ (التقليد) تعبئة الطاقات وإيجاد منهجيّة واحدة في التحرّك؛ (نائب الامام) قيادة شخص مسؤول؛ (سهم الإمام) مصدر تمويل حُرّ ومستقلّ، بغية تأمين الدعم الماليّ للنضال الفكري والاجتماعي والتشكيلات والمؤسّسات العلمية والتربوية؛ (مجالس العزاء) وسيلة التذكير المستمرّ بالكفاح ضدّ محاولات التحريف وتشويه المسارات؛ (عاشوراء) للتأشير إلى المنهج السليم والإجابة عن السؤال القديم الجديد (ماذا ينبغي أن نفعل؟)، وتحديد أوجه تصعيد العمل المعارض للسلطة الجائرة؛ (التقية) غطاء يجري من خلاله التعتيم على الأنشطة الثورية والتستُّر عليها ورعاية الضوابط الأمنية وأسرار الثورة. هذه كانت شعارات التشيُّع التي تجسِّد آمال وآلام الطبقة المسحوقة. علي شريعتي، التشيُّع العلوي والتشيُّع الصفوي: 28.

([8]) علي شريعتي، الأعمال الكاملة 27: 145 ـ 146.

([9]) المصدر السابق 12: 91.

([10]) المصدر السابق 22: 45.

([11]) المصدر السابق 33: 131 ـ 132.

([12]) المصدر السابق 28: 302 ـ 303.

([13]) المصدر السابق 24: 190.

([14]) المصدر السابق 17: 65 ـ 67؛ 11: 55.

([15]) المصدر السابق 23: 78.

([16]) المصدر السابق 22: 25؛ 15: 145.

([17]) المصدر السابق 35: 273.

([18]) المصدر السابق 19: 115؛ 21: 53.

([19]) المصدر السابق 20: 133؛ 28: 56.

([20]) المصدر السابق 28: 53 ـ 54؛ 31: 43 ـ 51 ـ 52.

([21]) لا دليل على توقيفية وشرعية أسماء السور، على الرغم من زعم شريعتي أن هذا الكتاب السماوي عنون سُوَره بهذه الأسماء. كما أن أسماء السُّوَر لا تعبِّر عن حجم موضوع الاهتمام في السُّوَر القرآنية؛ سواء داخل السورة الواحدة، كما في المساحة التي تحتلّها قصة البقرة مثلاً بالنسبة إلى حجم سورة البقرة، أو بين السُّوَر نفسها، كما في ملاحظة حجم سورة البقرة مقارنةً بحجم سورة الناس مثلاً.

([22]) علي شريعتي، الأعمال الكاملة 14: 48؛ 20: 323.

([23]) المصدر السابق 1: 16.

Facebook
Twitter
Telegram
Print
Email

اترك تعليقاً