أحدث المقالات

د. الشيخ علي مظهر قراملكي(*)

أ. فاطمة قدرتي(**)

ترجمة: حسن علي مطر

 

مقدّمة

لا شكّ في أنّ تحديد الحكم داخلٌ في دائرة استنباط الفقيه، وأنّ ما يتوصّل إليه هذا الفقيه من خلال عمليّته الاستنباطيّة نافذٌ على المقلِّدين، ويجب عليهم العمل في ضوئه. بيد أنّ السؤال الذي يفرض نفسه هنا: ما هو معوَّل الفقيه في تحديد عنوان الموضوع وتشخيص متعلَّق الموضوع؟ وفي الخطوة التالية: ما هو الأساس الذي يمكننا من خلاله تطبيق مفهوم الموضوع على المصاديق الخارجيّة؟؛ وذلك لأنّ تطبيق هذه المفاهيم على الأفراد والأفعال والأشياء الموجودة في الخارج أمرٌ لا علاقة لتفسير المفهوم به. وعليه فإنّ هذا السؤال يطرح نفسه في كلا المساحتين، بمعنى: هل من الواجب على المقلِّد اتّباع الرأي الشخصيّ للفقيه في هذه المراحل أم يجب على المقلِّد العمل على طبق تشخيصه أو تشخيص الجهات المختصّة، من قبيل: الخبراء أو العرف؟

هناك اختلاف في الآراء بين العلماء حول قدرة العرف وتطبيقاته في كلتا المساحتين؛ أي: المساحة النظريّة (تحديد المفاهيم)، والمساحة العمليّة (تحديد المصاديق). وحيث لم نشهد تحقيقاً شافياً حول هذه المسألة نجد اختلافاً في عمليّة الاستنباط حتّى من قبل الفقيه الواحد، بحيث تنبئ بعض آرائه عن اعتبار العرف، بينما تشير آراؤه الأخرى إلى عدم اعتبار العرف. فمثلاً: نجد الفقيه الشهير السيّد محمد كاظم اليزدي يقول في كتابه الفقهيّ: «لو نقصت المسافة عن ثمانية فراسخ ـ ولو يسيراً ـ لا يجوز القصر، فهي مبنيّة على التحقيق، لا المسامحة العرفيّة»([1]). وقال في بيان حكم آخر: «إذا كان الماء أقلّ من الكرّ ـ ولو بنصف مثقال ـ يجري عليه حكم القليل»([2]).

هذا في حين أنّه يقول في موضع آخر: «بل قيل: إنّ عروض الجنون آناً ما يقطع الحول. لكنّه مشكِلٌ [من هنا تجب الزكاة على مثل هذا الشخص]، بل لابدّ من صدق اسم المجنون، وأنّه لم يكن في تمام الحول عاقلاً. والجنون آناً ما ـ بل ساعة وأزيد ـ لا يضرّ؛ لصدق كونه عاقلاً»([3]).

فإذا صحّ الرجوع إلى العرف في تطبيق المفاهيم على المصاديق، كما نجد ذلك في المسألة الثالثة، وجب أن يكون الرجوع إلى العرف في الموردين الأوّلين صحيحاً أيضاً.

من هنا يبدو أنّ دراسة مساحة إمعان النظر وتوظيف العرف إلى جانب رأي الفقيه وسائر الأدلّة التي يرجع إليها في الدائرة النظريّة لأصول الفقه، والدائرة العمليّة للفقه الموضوعيّ، وما يكون لذلك من التأثيرات المختلفة على مسار استنباط الحكم، مسألةٌ هامّة، وجديرةٌ بالبحث والتحقيق.

وفي هذا السياق من البحث في التوظيف غير الاستقلاليّ للعرف سيكون العرف مؤثِّراً في دائرتين:

1ـ عندما يكون العرف مستنداً ودليلاً إلهيّاً (طريقيّة العرف).

2ـ عندما يكون العرف مفسِّراً ومنقِّحاً لظهور الدليل، أو موضوعاً للحكم، وعندما يكون النصّ والدليل الشرعيّ معلَّلاً بالعرف أو قائماً عليه، أو أنّه صدر بالالتفات إليه (الموارد التي يجب فيها اتّباع العرف، ويكون للعرف موضوعيّة).

وفي هذه المقالة نسعى إلى البحث في طريقة إعمال نظر العرف في موضوعات ومتعلَّقات الحكم بالالتفات إلى عنصرَيْ: الزمان؛ والمكان، ممّا يؤثِّر في تغيُّر موضوعات الحكم الشرعيّ والعرف الاجتماعيّ.

وبعبارة أخرى: إنّ تحديد مساحة تأثير العرف سوف تبيِّن لنا ما إذا كان الاجتهاد يختصّ بـ (معرفة الحكم) فقط، أو أنّه يشمل (تحديد الموضوع) أيضاً؟ وما إذا كان الاستنباط عبارة عن نشاط علميّ يتألَّف من معرفة كلٍّ من الحكم والموضوع؟

 

مفهوم العرف في الفقه الإسلامي

بالالتفات إلى محوريّة دليل العرف في هذه المقالة؛ استناداً إلى تحديد مساحة تطبيقاته في بيان موضوع القضايا الفقهيّة، يجب قبل كلّ شيء إيضاح مفهوم العرف نفسه، وبيان اختلافه عن الآداب والتقاليد وما يتسالم عليه العقلاء.

لقد ذكر السيّد محمد تقي الحكيم تعريفين للعُرْف: أحدهما عن الجرجاني؛ إذ قال: «العرف: ما استقرّت النفوس عليه بشهادة العقول، وتلقَّته الطبائع بالقبول…»؛ والآخر نقله عن الأستاذ علي حيدر؛ إذ قال: «وعرّفه الأستاذ علي حيدر قائلاً: هو الأمر الذي يتقرَّر بالنفوس، ويكون مقبولاً عند ذوي الطباع السليمة، بتكراره المرّة بعد المرّة»([4]).

وقد أشكل على كلا التعريفين؛ لاشتمالهما على قيد العقل والعرف الصحيح؛ إذ بناءً على ذلك فإنّ هذين التعريفين لا يشملان العرف الفاسد([5]). يُضاف إلى ذلك أنّ هذين التعريفين قد اعتبرا جنس وماهيّة العرف أمراً مركوزاً في نفوس الناس، وليس أمراً له تحقُّق في الواقع الخارجيّ.

كما جاء في بعض التعريفات الأخرى ما مضمونه أنّ العرف «هو ما يقوم به الناس مراراً وتكراراً بملء إرادتهم، دون إحساس بالنفور والكراهة، وهو ما يسمّى أحياناً بالسيرة العمليّة»([6]).

وهذا التعريف أيضاً لم يؤكِّد على عنصر الإلزام في العرف، الذي يميِّزه عن الآداب والتقاليد. ومن هنا لا يكون هذا التعريف مانعاً.

وأحياناً يعبِّر الفقهاء عن العرف ببناء العقلاء. كما صرَّح العلاّمة النائيني& بعدم الفرق بينهما؛ إذ يقول: «وليس بناء العرف شيئاً يقابل الطريقة العقلائيّة»([7]).

هذا في حين أنّنا إذا بحثنا في هذين المفهومَيْن سنجد الكثير من مواطن الاختلاف والافتراق بينهما، مع إقرارنا بوجود نقاط التقاءٍ بينهما أيضاً. وبذلك فإنّ النسبة القائمة بين هذين المفهومَيْن هي نسبة العموم والخصوص من وجه.

ومن باب المثال: يمكن بيان مواطن افتراق العرف عن بناء العقلاء في الأمور التالية:

1ـ إنّ سيرة العقلاء ـ كما هو واضح من عنوانها ـ تنحصر في البناء والسلوك، في حين أنّ مساحة العرف أوسع من السلوك والأقوال.

2ـ في ما يتعلَّق ببناء العقلاء يعتبر وجود الصلاح والفائدة في العمل أمراً لازماً، في حين لا يوجد مثل هذا الاشتراط في العرف، فقد يكون العرف مستَحسَناً وقد لا يكون مستحسناً.

3ـ إنّ بناء العقلاء إنّما يدخل في دائرة إثبات الحكم، كما التفت بعض الفقهاء إلى هذه المسألة. ومن باب المثال: جاء في كتاب (مصباح الأصول)، في هامش قوله تعالى: ﴿فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ﴾(البقرة: 232)، ما مضمونه: «لقد ترك تحديد حكم الإمساك… إلى العرف السائد في كلّ عصر، والمتعارف بين الناس، أي الأمر الذي يمارسه الناس في عصرهم، ويتَّخذ صبغة عامّة. ولكنْ حيث إنّ المسألة صغروية، وليست من الأحكام الكبرويّة، فإنها تُعدّ جزءاً من مصاديق العرف، دون سيرة العقلاء»([8]).

ومن بين موارد افتراق بناء العقلاء عن العرف يمكن الإشارة إلى عدم اشتراط المجعول القانوني في العرف. وفي هذا السياق إذا اكتسبت طريقة ـ مثل: كفاية المعاطاة في المعاملات ـ شكلاً قانونيّاً فإنّه وإنْ صدق على هذه الطريقة تسمية بناء العقلاء، ولكنْ لا يمكن إطلاق اسم العرف عليها.

والحقيقة أنّ البعض ذهب إلى القول بأنّ نقاط الالتقاء بين العرف وبناء العقلاء إنّما تكون في العرف العامّ، ويرى أنّ العرف العامّ هو نفسه بناء العقلاء؛ وذلك إذ يقول: «وقد يُعبَّر عن الطريقة العقلائيّة ببناء العرف، والمراد منه العرف العامّ، كما يقال: إنّ بناء العرف في المعاملة الكذائيّة على كذا»([9]).

ومع أنّه يمكن القول في نقد هذا الكلام: إنّ (العمومية) و(المقبولية) وإنْ كانت موجودة في سيرة العقلاء، وفي تعريف العرف العامّ، ولكنْ علينا أن لا ننسى أنّ العرف العامّ لا ينشأ دائماً عن الإدراك العقليّ لدى العقلاء، بل هناك الأعراف الناشئة عن الفطرة والغرائز الشعورية، أو الأعراف العامّة التي تشتمل على ذات الخصائص العمومية أيضاً. وذلك من قبيل: الخضوع أمام الكامل، وتجنُّب الوقوع الاختياريّ في الضرر، التي تدخل في الأعراف الناشئة عن الفطرة والغرائز الشعوريّة؛ أو في ما يتعلَّق بالأصوات والنغمات يمكن القول: إنّ بعض الأصوات والنغمات تكون بمعنى واحد عند جميع الأفراد على اختلاف أعراقهم ولغاتهم. وعلى هذا الأساس فإنّ كلّ عرف عامّ لا يعني بالضرورة أن يكون داخلاً في سيرة العقلاء، وإنْ كانت كلّ سيرة عقلائيّة داخلة في العرف العامّ، شريطة أن تتَّخذ شكلاً قانونياً. من هنا فإنه على الرغم من أنّ النسبة القائمة بين السيرة العقلائيّة والعرف هي نسبة العموم والخصوص من وجه، إلاّ أنّ نقطة الالتقاء لا يمكن أن تكمن في العرف العامّ؛ وذلك لأنّ الكثير من الأعراف العامّة لا تنشأ عموميتها من كونها عقلائيّة.

وعلى هذا الأساس، وبالالتفات إلى مجموع ما ذكر، يمكن القول في تعريف العرف: إنّ العرف سلوكٌ مستمرّ أو سلوكٌ عامّ ناشئ عن فهم وبناء متواصل من الناس في ما يتعلق بفعل أو ترك أمرٍ ما، سواء أكان قولاً أو فعلاً، ورأى الناس أن الالتزام بذلك الفعل أو الترك فرضاً عليهم، وأنّه شاع بينهم على نحو تدريجي، دون أن يصبح قانوناً تمّ جعله أو تشريعه. وبهذا التعريف يكون العرف عبارة عن سلوك فعلي أو قولي له تحقُّق خارجيّ ومبادئ خاصّة، ويفرض على أتباعه نظاماً سايكولوجياً خاصّاً.

ومن الجدير بالذكر أن الفقهاء قد عمدوا إلى تقسيم العرف وفقاً لاعتبارات مختلفة. ومن ذلك تقسيمه باعتبار أهل العرف إلى: (العرف العامّ؛ والعرف الخاصّ)، وباعتبار الدقّة في تطبيق المفاهيم على المصاديق إلى: (العرف الدقيق؛ والعرف المتسامح)، أو (العرف التخصّصي؛ والعرف غير التخصّصي)، وباعتبار الزمان إلى: (العرف السابق؛ والمقارن؛ والمتأخِّر)، وما إلى ذلك. الأمر الذي يثبت توجُّه الفقهاء وسعيهم إلى تنقيح مفهوم العرف.

 

أقسام الموضوعات الفقهيّة

إنّ الموضوعات التي تشكِّل رافعةً للأحكام تنقسم إلى قسمين:

1ـ الموضوعات الشرعيّة، التي هي من اختراع الشارع، والتي قد تكون لها جذور في العرف، ولكن تتجلّى في لسان الشارع بصيغة وشكل خاصّ، من قبيل: الصلاة، والحجّ، والخمس، وما إلى ذلك. حيث تصرّف الشرع في معانيها اللغويّة، وأخذ يستعملها في مفاهيم ومعاني جديدة. وأحياناً نجد ذات المعنى العرفيّ يكتسب شكلاً جديداً متناسباً والمصطلح الشرعيّ. ومن هذا النوع موضوعات من قبيل: مفهوم (الوطن) في باب الصلاة والصوم، ومفهوم (الفقير) في باب مَنْ يستحق الزكاة، ومفهوم (البلوغ) في باب الواجبات، ومفهوم (المسافر) في باب الصلاة والصوم، أو مفهوم (الزوجيّة) في باب النكاح، وما إلى ذلك.

والمسألة الملفِتة للانتباه هي أنّ بعض الفقهاء يُدرج هذا القسم الثاني ضمن الموضوعات العرفيّة؛ لأنّ الشارع لم يزِدْ على أنْ تصرَّف فيها، دون أن تكون من مخترعاته([10]). وفسَّر موقف الشارع في سياق تنقيح المعنى العرفيّ؛ وذلك بسبب أنّ المساحة المفهوميّة للمعنى العرفيّ لهذه المفردات مشكوكٌ فيها، لا أنّ الشارع بصدد بيان معنى عرفيّ له (عرف الشارع) في ما يتعلَّق بالموضوع([11]). من هنا فإنّهم أدرجوها في هامش الموضوعات العرفيّة، وفي قبال الموضوعات الشرعيّة، كما قال صاحب الجواهر في شرح عبارة المحقِّق الحلّي في تعريف الجار: «ولعلّه [تحديد معنى الجوار بأربعين ذراعاً] غير مناف [للمعنى] الأوّل؛ ضرورة أنّه تحديدٌ للعرف بذلك، كما هي عادة الشارع في مثل ذلك، كالوجه والمسافة ونحوهما، ممّا يُشكّ في بعض الأفراد منها، بعد معرفة التحقيق في العرف على وجهٍ يُعلم الداخل فيه والخارج عنه، فيضبطه الشارع الذي لا يخفى عليه الشيء بما هو حدٌّ له في الواقع، وليس ذلك منه معنىً جديداً، ولا إدخالاً لما هو معلوم الخروج في العرف، وبالعكس»([12]).

وقد أدّى هذا التوجُّه إلى فتح بابٍ عنوانه توجّه الشارع تجاه الموضوعات العرفيّة([13]). وتمّ تعريف أربعة توجّهات للشارع، وهي: الإمضاء؛ النفي؛ الإصلاح؛ السكوت. ودراسة وبحث هذه المصطلحات المذكورة في هامش عنوان: (اتّجاه تصحيح الشارع للموضوعات العرفيّة).

ولكنْ يبدو أنّ الشارع عندما يتصرَّف في مفهوم أو مصداق موضوع عرفيّ فإنه في الواقع لا يرى العرف واجداً لصلاحيّة الحكم والبتّ في ذلك الموضوع والباب الخاصّ. وعليه، وكما تقدّم في ما يتعلق بدائرة المصطلحات الشرعيّة أيضاً، عندما يكون للموضوع الشرعيّ جذوراً في العرف، من قبيل: موضوع «الوجه» في الوضوء، فإنّ الشارع عندما يتصرّف فيه، ويعمد إلى بيان حدوده وقيوده، يكون في الحقيقة قد أدخله في عرفه. وبالالتفات إلى الأصل القائل بتقدُّم عرف الشارع على سائر الأعراف لن يكون العرف واجداً لصلاحيّة البتّ والقضاء في ذلك الباب الخاصّ، أي في باب الوضوء مثلاً في ما يتعلَّق بمعنى «الوجه». ولكن هل يسري هذا المعنى الشرعيّ في «الوجه» إلى سائر الأبواب أيضاً أم لا؟ يجب القول: إنّ التعبُّد بعرف الشارع بالنسبة إلى سائر الأبواب يحتاج إلى قرينةٍ ودليل.

وخلاصة القول: إنّه في ما يتعلَّق بالموضوعات التي لا تدخل في نطاق اختراعات الشارع، ولكنّه حصل فيها نوع من التعبّد والاعتبار الخاصّ من قبل الشارع ـ خلافاً لظاهرها العرفيّ ـ، يجب اعتبارها موضوعاتٍ شرعيّة. إنّ موضوعاتٍ من قبيل: «الفقير»، و«الغني»، و«استبراء الحيوان الجلاّل» ـ الذي يقتات على النجاسات ـ، وما إلى ذلك من الموضوعات، داخلةٌ في العناوين التي أضحت في شريعة الإسلام موضوعاً لبعض الأحكام. وقد تعرّض الكثير من الفقهاء إلى تعيين حدود هذه العناوين. وإنّ التبرير الوحيد الموجود بشأن هذا السلوك من جانب الفقهاء هو تعبّدية هذه العناوين في تلك الأبواب الفقهيّة([14]).

2ـ الموضوعات العرفيّة، التي تكون في قبال الموضوعات الشرعيّة، والتي تكون منبثقة عن العرف العامّ أو الخاصّ، دون أن يوجد الشارع مصطلحاً خاصّاً في ما يتعلَّق بها، ويستعملها في المعنى الخاصّ لمحاوراته، من قبيل: عناوين المعاملات، التي لم يعمد الشارع إلى تبيينها، وإنّما اكتفى بشرح حكمها.

إنّ الموضوع العرفيّ قد يكون بسيطاً وواضحاً، من قبيل: الدم، والمسكر، وما إلى ذلك؛ وقد يكون معقَّداً ومتشابكاً مع مفاهيم أخرى، من قبيل: مفهوم المطرب، والربا، والعسر، والحرج، والغرر، وما إلى ذلك. وإن الكثير من المفاهيم المدرَجة في القضايا والمسائل الشرعيّة هي من نوع الموضوعات العرفيّة من القسم الثاني. وهذا هو مكمن الاختلاف في الآراء حول مرجعيّة العرف أو فهم المقلِّد أو المجتهد والحاكم في تعيين موضوعات الأحكام.

الآراء في باب دائرة إمعان نظر الفقيه والمقلِّد والعرف في الموضوعات العرفيّة

طبقاً لبعض الآراء يعتبر العرف مجرَّد مرجعٍ صالح لتحديد وتعريف الموضوعات العرفيّة فقط. كما نجد ذلك عند المحقِّق الأردبيلي؛ إذ يقول في بيان الموضوعات العرفيّة ما مضمونه: «إنّ أكثر الموضوعات الفقهيّة هي موضوعات عرفيّة، وعليه لابدّ في تحديد معناها من الرجوع إلى العرف»([15]).

مضافاً إلى ذلك فإنّ الكثير من القواعد الأصوليّة والفقهيّة هي أحكامٌ شرعيّة تستند إلى ظاهر الآيات والروايات، وإنّ خير مرجع لتحديد الظاهر هو العرف. وهذا ما يؤكِّده صاحب جواهر الكلام أيضاً؛ إذ يقول: «إنّه [العرف] المرجع في كلّ ما ليس له حقيقيّة شرعيّة»([16]).

كما قال السيّد محمد كاظم اليزدي في بيان موارد وجوب التقليد: «محلّ التقليد ومورده هو الأحكام الفرعية العمليّة، فلا يجري في أصول الدين، وفي مسائل أصول الفقه، ولا في مبادئ الاستنباط من النحو والصرف، ونحوهما، ولا في الموضوعات المستنبطة العرفيّة أو اللغويّة، ولا في الموضوعات الصرفة، فلو شكّ المقلِّد في مائع أنه خمر أو خلّ مثلاً، وقال المجتهد: إنّه خمر، لا يجوز تقليده. نعم، من حيث أنّه مخبِرٌ عادلٌ يُقبل قوله، كما في إخبار العامّي العادل»([17]).

في حين يذهب رأي آخر إلى القول بأنّ مرجع التحديد والفهم في الموضوعات العرفيّة هو الفقيه. قال المحقِّق الثاني في مسألة تحديد وتمييز شرط مخالفة الكتاب والسنّة، ومخالفة مقتضى العقد من غير المخالف: «يجب الرجوع في هذا الشأن إلى الفقيه، واتّباع رأيه»([18]). ولكن السيّد الخوئي قال في ردّ هذا الكلام: «لا شأن للفقيه في هذه المسألة [فلا يكون رأيه معتبراً]، وإنّ مرجعيّة الفقيه إنّما تقتصر على الأحكام التي يجب أن تستنبط من الأدلة»([19]).

كما اعترض الشيخ الأنصاري على ترك تحديد ضابط للمفهوم المحصور وغير المحصور ـ في ما يتعلق بموضوع لزوم الاجتناب وعدم لزوم الاجتناب عند الشكّ والشبهة ـ للعرف، وقال: «لا يوجد في هذا الترك سوى مزيد من الحيرة والتشويش»([20]).

ثمّ سعى الشيخ الأنصاري بنفسه إلى بيان ضابطة للمحصور وغير المحصور، دون أن ينجح في هذا المسعى، أو يقدِّم ما يمكن الركون إليه. وفي الموارد التي تردَّد فيها بين المحصور وغير المحصور عمد إلى إلحاق غير المحصور بالمحصور، ورأى ضرورة الاجتناب؛ طبقاً لمقتضى إدراك العقل وحكم العقلاء([21]).

يعتبر بيان مساحة وحدود مرجعيّة الفقيه والعرف والمقلِّد واحداً من أعقد وأدقّ المسائل الداخلة ضمن فلسفة الفقه. يبدو أنّ الشارع إذا استعمل موضوعاً دون أن يتصرَّف في معناه العرفيّ فإنّ الأصل الأوّليّ يقتضي أن يكون العرف هو المرجع في تحديد حدوده ومساحته المفهوميّة. ولكنْ أحياناً نجد بعض الموضوعات العرفيّة التي سكت الشارع عنها، وعندما تقع موضوعاً أو متعلَّقاً لحكمٍ تستدعي أسئلة لا يمكن الإجابة عنها إلاّ من خلال الرجوع إلى الأدلة الشرعيّة التي تشتمل على هذه الكلمة وهذا المفهوم بوصفه موضوعاً أو متعلَّقاً فيها. وبعبارة أخرى: أحياناً يكون موضوع ومتعلَّق الحكم مصطلحاً لا يحتوي على إبهام أو إجمال في نفسه، غير أنه بالالتفات إلى وقوعه موضوعاً ومتعلَّقاً يوجِد ـ بما هو موضوع أو متعلَّق ـ بعض الأسئلة، وحيث إنّ هذه الأسئلة إنّما نشأت بسبب لحاظ هذا المصطلح في الدليل الشرعيّ والحكم الإلهيّ فلابدّ من الرجوع إلى الاستنباط الفقهيّ؛ بغية الإجابة عنها، ومرجع هذا النشاط (بيان حدود الموضوع والمتعلَّق وتفاصيلهما) هو الفقيه، دون أن يكون للعرف والشخص المقلِّد أيّ دور في ذلك.

من باب المثال: ورد في العديد من الروايات أنّ السجود لا يصحّ على غير الأرض وما أنبتت ممّا لا يؤكل أو يُلبس([22]). إنّ مفهوم الأرض ونبات الأرض، سواء ما يؤكل ويلبس أو غير ذلك، هو من أدقّ وأوضح المفاهيم العرفيّة. كما أنّ تحديد مصاديق هذا العنوان أيسر وأسهل قياساً إلى تحديد مصاديق الكثير من المفاهيم العرفيّة الأخرى. ومع ذلك نجد الكثير من الفقهاء، من أمثال: السيّد محمد كاظم اليزدي، قد خاض في تشخيص وتطبيق هذه المفاهيم على مصاديقها من خلال التعرُّض إلى بيان هذه المسألة في إطار العديد من الفروع([23]). وهذا في حين أنّه في الكثير من الموارد من هذا القبيل يكون رأي الفقهاء في تعيين حدود هذه المفاهيم من خلال الالتفات إلى الأدلة الموجودة في هذا المجال، ومن باب المثال: هل المراد من الأرض المذكورة في هذه الأدلة هو سطح الأرض أو هو يشمل المعادن أيضاً؟ وهل هناك إطلاق في الأدلّة من هذه الجهة أم لا؟ وهل المراد من المأكول في هذه المسألة هو خصوص ما يأكله الإنسان أم يشمل ما يأكله الحيوان أيضاً؟

النقطة الأخرى أنّه يحدث في بعض الموارد أن يكون نظر العرف الدقيق معارضاً لحكم العقل، ففي مثل هذه الحالة لمَنْ تكون المرجعيّة؟ ومن باب المثال: عندما يُغسل الثوب الذي لاقى دماً يتمّ غسله أحياناً بحيث لا يبقى عليه أيّ أثر للدم، ولا يبقى هناك لونٌ ولا رائحة؛ وأحياناً تبقى عليه آثار من لون الدم أو بعض الذرّات الصغيرة التي لا يمكن مشاهدتها بالعين المجرّدة، ويصدق عليها عنوان الدم.

في الحالة الأولى هناك اتّفاق من العقل والعرف على عدم وجود الدم على الثوب. وعليه فإنّ الحكم في مثل هذه الحالة سيقوم على زوال الدم عن الثوب، سواء أكان التعويل على حكم العقل أو على حكم العرف (الأعمّ من العرف الدقيق أو المتسامح).

أمّا في الحالة الثانية فإنّ العرف ـ رغم كلّ ما يبذله من الدقّة ـ لا يرى دماً على الثوب، وإنّما كلّ ما يراه لا يعدو أن يكون لوناً أو رائحةً للدم، والعرف لا يعتبر اللون والرائحة دماً. وحيث إنّ الحكم بالطهارة يتوقَّف على هذا الحكم العرفيّ فإنه يتمّ القول بطهارة الثوب. أمّا العقل فيحكم بشكلٍ مغاير، فهو يقول: إنّ بقاء العَرَض (اللون والرائحة) دون المعروض (ذات الدم) محالٌ، وعليه فإنّ وجود العرض يحكي عن وجود المعروض. وفي الفرضيّة الثالثة لا يُحكَم بعدم وجود الدم عند العرف إلاّ من باب التسامح. وعليه لا يمكن الحكم بطهارة الثوب، سواءٌ اتَّبعنا حكم العقل أو العرف الدقيق.

وعلى هذا الأساس فإننا في مورد واحدٍ فقط ـ وذلك عندما يتعارض حكم العرف الدقيق مع حكم العقل ـ سنواجه السؤال المتقدِّم حول المرجعيّة المتَّبعة في تطبيق المفاهيم على المصاديق؟

وفي غير مورد العرف الدقيق (العرف المتسامح) يعمد الجميع إلى رفض الرجوع أو التعويل على العرف في تطبيق أو قبول الاحتكام إلى الناس على ما يبدونه من التسامح والتساهل. وأمّا في ما يتعلَّق بالعرف الدقيق فإننا من خلال التتبُّع في أقوال الفقهاء نجد أنّ بعض الفقهاء، من قبيل: المحقِّق الآخوند الخراساني([24])، والسيد أبي القاسم الخوئي([25])، والغروي التبريزي([26])، ينكرون هذه الصلاحيّة والقابلية للعرف، ويقولون بعدم وجود دليل معتبر على مرجعيّة العرف في هذه التطبيقات. يضاف إلى ذلك أنّ تعلق الأحكام إنّما يكون على واقع الموضوعات، دون المصاديق المنظورة لدى العرف([27]). ومن الجدير بالذكر أنه عندما لا يكون للعرف دور الدليل على الحكم فإنّ مجرّد عدم وجود الدليل لا يصلح مانعاً من عدم توظيف العرف. كما أنه وإن كانت الأحكام تتعلَّق بواقع الموضوعات، بيد أنّه ينبغي أن يكون هناك مصداق عينيّ لحقيقة الموضوعات، كي يعدّ للمكلَّف أرضيّة لتطبيق الحكم. وعليه لا مندوحة لنا من أخذ مفهوم الحكم، وتطبيقه على موارده.

وفي قبال هذه المجموعة من الفقهاء هناك مجموعة أخرى تذهب إلى القول بأنّ العرف هو المرجع في تطبيق المفاهيم على المصاديق. ومن باب المثال: يقول صاحب جواهر الكلام في مورد حفظ الوديعة: «تحفظ الوديعة بما جرت العادة بحفظها به، كالثوب والكتب في الصندوق، والدابّة في الإصطبل، والشاة في المراح، أو ما يجري مجرى ذلك في الحرز لمثلها…، كما هو الضابط في كلّ ما لا حدّ له في الشرع… نعم، الظاهر اختلاف الحرز باختلاف الأزمنة والأمكنة»([28]).

كما قال صاحب الجواهر في معرفة «الكلب المعلَّم»: «المرجع في صدق ذلك إلى العرف»([29]).

كما صرّح الشهيد الثاني في بحث تحديد مصداق «الإقرار» بدور العرف في العديد من الموارد([30]).

كما يمكن ملاحظة الكثير من الموارد الأخرى، ومن بينها مفهوم «التلف»، و«إحياء الموات»، و«النفقة»، و«السفه والرشد»، وما إلى ذلك من المفاهيم في النصوص الفقهيّة التي تحدّث فيها الفقهاء عن دور العرف في تحديد مصاديقها، وعمدوا إلى تأييدها وإثباتها([31]).

وقال الإمام الخميني في ما يتعلَّق بالمراد من التلف في الرواية القائلة: «كلّ مبيع تلف قبل قبضه فهو من مال بائعه»: هو التلف العرفيّ، وبذلك يكون الحديث شاملاً للغرق والسرقة أيضاً؛ لاعتبارهما من مصاديق التلف عرفاً([32]).

يبدو أننا إذا أرجعنا تطبيق المفاهيم على المصاديق إلى حكم العقل فإننا في ما يتعلَّق بالأحكام الشرعيّة سنضطر إلى الابتعاد عن الأسلوب المتَّبع في الحياة الاعتيادية، وسيؤدّي بنا ذلك في الكثير من الموارد إلى الوقوع في العسر والحرج. في حين أننا لم نحصل من الشارع على أسلوب خاصّ في تطبيق الموضوعات العرفيّة.

ومن هنا يبدو أنّه من الأنسب هنا تحكيم العرف في هذا المجال، وخاصّة أننا نتحدث عن مرجعيّة العرف الدقيق والمتخصِّص (في تفسير المفاهيم المعقَّدة)، وليس العرف المتسامح والمتهاون وغير المتخصِّص، والذي يجهل التعاطي مع المفاهيم والموضوعات المعقَّدة.

 

العرف المتَّبع في تحديد مفهوم ومصداق الموضوعات العرفيّة

بناءً على ما تقدّم فإنّ العرف العامّي غير جدير بالاعتماد، ولا قيمة له. وقد تمّ التعبير عن هذا العرف في مصطلح الفقهاء بـ «العرف المتسامح»، في قبال «العرف الدقيق». قال مؤلّف جواهر الكلام حول موقع العرف المتسامح في تحديد معاني موضوعات الأحكام الشرعيّة: «والتسامح العرفيّ في الإطلاق لا تحمل عليه الخطابات الشرعيّة؛ ضرورة عدم صيرورته حقيقة عرفيّة»([33]).

وهنا يطرح هذا التساؤل نفسه: ما هو الطريق إلى تحصيل رأي العرف الدقيق حول تحديد المفهوم والمصداق؟ وبعبارة أخرى: ما هو الطريق إلى اكتشاف رأي العرف وطريق الوصول إليه من خلاله المصاديق من دون تسامح، على ما لذلك من الأهمّيّة في النصوص الأصوليّة والفقهيّة؟

إنّ حصيلة ما توصَّل إليه بعض المحقِّقين في هذا الشأن هي:

«إنّ البحث في النصوص الدينيّة والفقهيّة لا يؤدّي بالمحقِّق إلى طريق خاصّة أو تعبّد خاصّ في كشف المفاهيم العرفيّة. من هنا فقد ارتضى التشريع الإسلاميّ طريقة العقلاء وعرفهم في الوصول إلى مفاهيم الألفاظ التي يتعاطونها… طبيعيّ أنّ وضوح وغموض المفاهيم العرفيّة ليس على وتيرة واحدة. من هنا فإنّ الشريعة الإسلاميّة وعلم أصول الفقه قد حدَّد بعض القواعد والضوابط لمعالجة عدم وضوح المفاهيم وإجمالها»([34]).

ويمكن الوقوف على هذه القواعد والضوابط في بحث الشبهات المفهوميّة والمصداقية. علاوة على ذلك ينقسم العرف في بعض تقسيماته إلى: العرف المتخصِّص؛ والعرف غير المتخصِّص. إنّ مفاهيم، من قبيل: «الربح»، و«الخسران»، و«الضرر»، و«العسر»، و«الحرج»، تشتمل أحياناً على بعض الغموض الذي يستدعي التدقيق. وهنا لا يمكننا تحكيم العرف غير المختصّ، لحسم الجدل، وجعله ملاكاً في تحديد المراد في موضع النزاع. ففي ما يتعلَّق بالاقتصاد الفاسد الذي يتسبَّب بحدوث التضخّم مثلاً يصعب على عرف العامّة تحديد الربح والخسارة في النظام الاقتصاديّ السليم، من هنا سنكون بحاجة ماسّة إلى رأي وعرف عموم المتخصِّصين والخبراء في المجال الاقتصاديّ.

وعليه فعلى الرغم من عدم اعتبار العرف المتسامح في أيّ من موارد الغموض، إلاّ أننا نضيف هنا بأنه في بعض الأحيان قد لا يفي عرف عامّة الناس من العقلاء المدقِّقين بالغرض، ولابدّ حتماً من الرجوع إلى الخبراء والمختصِّين.

ومن هنا فإنّ التفكيك بين هذين العرفين: (عرف الخبراء والمختصّين؛ وعرف غير الخبراء)، وتوظيف كلّ واحدٍ منهما في موضعه المناسب، أمرٌ ضروري في عمليّة الاستنباط والاجتهاد للغاية.

 

كيفيّة اختلاف الموضوعات العرفيّة باختلاف الظروف الزمانيّة والمكانيّة

بعد بيان أنواع الموضوعات الفقهيّة والمعرفيّة لدى العرف الواجد للصلاحيّة في إبداء الرأي في ما يتعلَّق بالموضوعات الفقهيّة يجب القول: إنّ دور العرف في ما يتعلَّق بموضوعات ومتعلَّقات الحكم يكون على نحوين:

1ـ توظيف العرف في تطبيق مصاديق الموضوع على المفاهيم المستعملة.

2ـ اعتبار العرف في تحديد الموضوع، وفهم معنى الموضوع.

وبالالتفات إلى هذين المنحيين يجب القول بأنّ تغيير حكم مصاديق الموضوعات العرفيّة يكون على نحوين أيضاً:

النحو الأوّل: بعد تغيير العرف قد يتحوَّل المصداق ـ الذي كان حتّى الأمس مندرجاً تحت موضوع بعينه، ويعتبر واحداً من مصاديقه ـ، ليكون اليوم خارجاً عن مصاديق ذلك الموضوع. ومن باب المثال: في القضيّة القائلة: «بيع السلاح لأعداء الدين حرام» واضحٌ أنّ مصاديق السلاح تختلف باختلاف الأزمنة والأمكنة. وعليه فإنّ الأدوات التي كانت تعتبر في السابق سلاحاً تخرج اليوم عن تصنيفها في عداد الأسلحة، وتأخذ طريقها إلى المتاحف الأثرية، وعليه لن تبقى مشمولة لحرمة بيع الأسلحة([35]). علاوة على ذلك فإنه في ذات هذه القضيّة واضح أنّ الموضوع هو في حدّ ذاته المصداق العامّ لعنوان تقديم العون والمساعدة لأعداء الدين، وإنّ بيع السلاح إنّما هو واحد من مصاديق ذلك العنوان العامّ، وعليه كلّ ما يصدق عليه أنه إعانة ونصرة لأعداء الدين يكون محرّماً طبقاً لهذه القضيّة، وقد تختلف مصاديق إعانة عدوّ الدين باختلاف الأزمنة والأمكنة.

قال السيّد الخوئي ما مضمونه: «إنّ الأحكام دائرة مدار العناوين المأخوذة في موضوعاتها، فعندما يزول العنوان يزول الحكم بزواله. فإذا زال عنوان الخمر عمّا سبق أن تعلَّقت الحرمة به، واكتسب عنواناً آخر، حكم بعدم حرمته ونجاسته»([36]).

النحو الثاني [لتدخُّل العرف في تغيير الحكم]: أن يكون تغيُّر مصداق الموضوع بسبب تغيُّر فهم العرف وحكمه بشأن معنى الموضوع ومفهومه. كما يقول المقدّس الأردبيلي حول تحديد مفهوم الغناء: «وردّه [معنى الغناء] بعض الأصحاب إلى العرف، فكلّ ما يُسمّى به عرفاً فهو حرام، وإنْ لم يكن مشتملاً على الترجيع، ولا على الطرب؛ دليله: إنه لفظٌ ورد في الشرع تحريم معناه، وليس بظاهرٍ له معنى شرعيّ مأخوذ من الشرع، فيُحال إلى العرف»([37]).

إلى جانب كيفيّة تأثير العرف في استنباط الأحكام، وكذلك حدود الأدوار التي تلعبها المتغيِّرات والتحوُّلات العرفيّة في تغيير الأحكام، نجد أنّ الكلام عن العرف إذا كان في الإطار المحدَّد له لن يؤدي إلى صيرورة الأحكام عرفيّة، وضياع الأحكام الشرعيّة التي أرادها الله سبحانه وتعالى أبداً.

 

1ـ الرجوع إلى العرف في مفاهيم الموضوع ومتعلَّقات الحكم

إنّ العرف لا يختصّ في الفقه بالعمل، وإنّما يشمل الكلمات والأقوال أيضاً، وهو ما يُعبَّر عنه بـ (العرف اللفظيّ). إنّ مرجعيّة العرف في تفسير المفردات والألفاظ المستعملة في الأدلّة والنصوص الشرعيّة ـ إذا لم يتصرَّف الشارع في دلالتها ـ من جملة التطبيقات العرفيّة التي لا يختلف عليها اثنان. كما يُعدّ العرف مرجعاً معتمداً في تفسير مجموع الجمل والهيئات التركيبية للكلام أيضاً، كما هو ملحوظ من مصطلح «الجمع العرفيّ» أو «الجمع المقبول»، الوارد في كتب أصول الفقه بكثرة. إنّ الفقهاء يضعون الدليل العامّ والخاصّ، والمطلق والمقيّد، إلى جانب بعضهما دون تردُّد، ويعملون على حلّ التعارض الابتدائي بينهما من خلال طريقة العرف في حمل العامّ على الخاصّ، والمطلق على المقيّد.

وقد تمسّك بعض الفقهاء بقوله تعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ﴾ (إبراهيم: 4) لإثبات حجّيّة العرف([38]).

قال المحقِّق الأردبيلي في بحث خيار «الغبن»: «والحدُّ في ذلك إلى العرف؛ لما تقرَّر في الشرع أنّ ما لم يثبت له الوضع الشرعيّ يُحال إلى العرف، جرياً على العادة المعهودة في ردّ الناس إلى عرفهم»([39]).

وإنّ بعض الفقهاء، مثل: السيّد صاحب مفتاح الكرامة، وإنْ كان يرى العرف ملاكاً في تحديد المفاهيم الموجودة في الدليل، ولكنّه يعتقد بأنّ المعتبر في ذلك إنّما هو العرف العامّ السائد في عصر المعصوم×. وفي ذلك قال ما مضمونه: «إنّ الذي يُستفاد من بحوث وقواعد الفقهاء هو أنّ الألفاظ الجارية على ألسن المعصومين^ يجب تفسيرها في ضوء عرف عصرهم، فإذا أدركنا عرف ذلك العصر وجب علينا الركون إليه، وأما في الموارد التي لم يتَّضح لنا ما عليه العرف في عصر الشارع وجب علينا الرجوع إلى العرف العامّ في فهم اللفاظ المستعملة في كلمات الأئمّة^»([40]).

والذي يبدو هنا أننا إذا ذهبنا إلى القول بأنّ فهم معنى الدليل يتوقَّف على العرف اللفظيّ، فعندها يجب علينا عدم حصره بعرف زمنٍ معيّن؛ وذلك لأنّ ذلك الدليل لا يُعتبر دليلاً على الحكم لأناس ذلك العصر فقط؛ لأنّ التحوُّل والتغيُّر من خصائص العرف، وإذ اعتبر الشارع العرف ملاكاً، وأقام الحكم الشرعيّ على الموضوعات العرفيّة، يكون حتماً قد أخذ هذه الخصائص العرفيّة بنظر الاعتبار. مضافاً إلى أنّ مقتضى كلام صاحب مفتاح الكرامة هو أنّه إذا لم يكن عرف زمن المعصوم متعيِّناً سيكون الدليل مجملاً، في حين أنه يجوز في هذه الحالة الرجوع إلى العرف العامّ.

أجل، إنّ الأصل الأوّليّ في القضايا والمسائل التي وصلت إلينا من الشارع هي «التشريع» و«بيان الحكم» الإلهيّ، وإنّ أيّ احتمال آخر، من قبيل: «بيان العرف»، يحتاج إلى قرينة. ولكنْ حيث لا يكون هناك مصطلحٌ خاصّ مجعول من قبل الله لمفردةٍ ما، وتُرِك تحديد معناها إلى العرف، ومع ذلك نرى العرف العامّ في زمن المعصوم مغايراً للعرف العامّ في عصرنا، فإنّ أقصى ما يمكننا قوله في هذه الصورة، كما يقول بعضٌ([41])، هو أنه إذا كان هناك دليلٌ على معياريّة عرف زمن الصدور، وعدم اعتبار العرف الجديد، بحيث يمكن القول بعدم صلاحيّة العرف الراهن عند الشارع في تحديد الموضوع، ففي مثل هذه الصورة يكون المعيار هو عرف الصدور، وأما في غير هذه الصورة فيكون المعيار والمرجع هو العرف والفهم العرفيّ الجديد.

المسألة الأخرى هي أنّ الاقتضاءات الزمانيّة والمكانيّة في الحقيقة ليس لها إلا تأثير واحد، وهو تغيير المصاديق، أو توسعة وتضييق مصاديق موضوعات الأحكام. وإنّ هذا التغيّر في المصاديق قد يكون ناشئاً عن تغيُّر حكم العرف في تطبيق المصاديق على موضوعات الأحكام([42]). وقد يتغير فهم العرف وحكمه بالنسبة إلى مفهوم الموضوع العرفيّ، وبتبع ذلك تتغيَّر مصاديق الموضوع أيضاً. وطبعاً إنّ هذه الطريقة الأخيرة يمكنها أن تفتح طريقاً خطيراً للغاية نحو التأسيس لفكرة عرفيّة الدين، والتي يعبّر عنها بـ «الهرمنوطيقا»، و«علم فهم النصوص». ولكنْ من خلال البيان الدقيق والتخصُّصي لشرائط حجّيّة العرف، ومساحة إبداء العرف لرأيه، ومعنى العرف الذي يمتلك صلاحيّة المرجعيّة، وما إلى ذلك، يمكن الوقوف في وجه هذا الانحراف بنحو من الأنحاء. كما أنّه يجب التدقيق في الأمور الثلاثة التالية:

1ـ إنّ الأصل يقوم على تقديم عرف الشارع على العرف العامّ.

2ـ في ما يتعلَّق بالموضوعات العرفيّة التي ذهب الشارع نفسه إلى إقامتها على فهم العرف للموضوع فإنّ المستَنَد في فهم معنى الموضوعات هو فهم العرف العامّ من قبل العقلاء، وفي بعض الموارد لا يُكتفى بذلك، بل لابدّ من الاستناد إلى عرف الخبراء والمتخصِّصين.

3ـ ليس مجرّد الانتقال من حقبة زمنيّة إلى أخرى هو الموجب لتغيُّر العرف؛ إذ إنّ الذي يتغيّر في هذه الصورة ليس هو العرف، بل مذاق الناس ومشاربهم، في حين أنّ تغيُّر العرف سيكون متأثِّراً بتغيُّر الاقتضاءات الزمانيّة والمكانيّة، ويكون له تعريفه الخاصّ. ومن باب المثال في القضيّة القائلة: «بيع السلاح لأعداء الدين حرام» واضحٌ أنّ مصاديق السلاح تختلف باختلاف الأزمنة والأمكنة، ولكن هذا ليس بسبب انتقال الزمن من حقبة إلى حقبة، بل بسبب أنّ الأداة التي كانت تعتبر سلاحاً في الماضي لم تعُدْ سلاحاً في العصر الراهن بفعل التقدُّم التكنولوجي. وعليه إذا لم تتغيَّر الاقتضاءات الزمانيّة والمكانيّة فإنّ مجرّد تغيُّر المذاق والمشرب لن يصلح ليكون هو الميزان والمعيار.

وبالنظر إلى ما تقدّم إذا تغيَّر فهم العرف حول المفهوم العنواني الذي انصبّ عليه الحكم الشرعيّ فعندها سيكون لهذا العنوان مصاديق جديدة، وسيتمّ إعمال الحكم المذكور في شأن هذه المصاديق الجديدة.

ويمكن القول: إنّ إجماع الفقهاء على صلاحيّة العرف في فهم معنى المفردات والألفاظ والهيئات التركيبية للموضوع في الدليل يقوم على ثلاث فرضيّات لا تقبل الإنكار، وهي:

1ـ إنّ إرادة المشرِّع مفهومة لنا؛ فالشارع في المفاهيم والتعاليم السماويّة يلتزم بأصول وقواعد الحوار والمفاهيم السائدة بين الذين يروم مخاطبتهم. وإنّ حصيلة هذا الإدراك العقليّ تُفضي بنا إلى الفرضيّتين التاليتين:

2ـ ليس للشارع المقدَّس أسلوبٌ خاصّ لتفهيم شيعته. وعليه فإنّ الفهم السائد بين المخاطَبين هو المعيار والحجّة.

3ـ إنّ المصطلح الشرعيّ مقدَّم على العرف، أي إنّ الأصل الأوّليّ على الدوام في القضايا والمسائل التي وصلت إلينا من قبل الشارع هي «التشريع» و«بيان الحكم»، وإنّ أيّ احتمال آخر، من قبيل: «بيان العرف»، يحتاج إلى قرينة.

 

دائرة تطبيق المصطلح الشرعيّ

طبقاً لما تقدم من كون الأصل الأوّليّ يقضي بتقدُّم المصطلحات الشرعيّة على العرف يجب الإجابة عن السؤالين التاليين:

1ـ هل يختصّ التعريف الاصطلاحي الشرعيّ لمفردة ما في الآيات والروايات بالباب الذي تمّ فيه تعريف تلك المفردة اصطلاحياً، أم يمكن تسرية ذلك التعريف الاصطلاحي لتلك المفردة إلى الأبواب الأخرى؟

2ـ هل يجب التعبُّد بالأحكام المترتِّبة على أمور، مثل: المكيل والموزون والمعدود (الأمور التي تختلف باختلاف الأزمنة والأمكنة، والعادات والحالات، وتكون المناشئ لاختلافها كثيرة)؟ وإذا رأى الشارع الوزن بشأن بضاعة مثلاً فهل يكون حكم تلك البضاعة هو الوزن أبداً، أم يكون الشارع في هذه الموارد في موقع مَنْ يسوق أمثلة معاصِرة فقط؟

 

مناقشة السؤال الأوّل

هل يمكن تسرية مفهوم المصطلح الشرعيّ في شأن كلمة في باب معيَّن إلى سائر الأبواب الفقهيّة الأخرى أيضاً، أم يجب الرجوع ـ في ما يتعلَّق بتلك المفردة في سائر الأبواب الفقهيّة الأخرى ـ إلى العرف؟

إنّ الآراء في هذا المجال مختلفة. فإننا من جهة في ما يتعلَّق بالنصوص الفقهيّة في هذا الشأن لا نحصل على توجُّه واحد؛ إذ يذهب البعض([43]) في هذه الحالة إلى الرجوع في غير مورد النصّ إلى العرف العامّ، إلا إذا فهمنا التوسعة من تفسير الشارع للمفردة في الباب الخاصّ. فمثلاً: عندما يحدِّد الشارع المقدَّس مفهوم (الوجه) بالنسبة إلى الوضوء فهل يمكن تعميم هذا المفهوم إلى ما يجوز للمرأة إبرازه وعدم وجوب تغطيته عن الأجنبيّ؟ يقول: إذا فهمنا أنّ المفهوم العامّ لـ «الوجه» عند الشارع ثابتٌ في جميع الأبواب أمكننا تعميم المفهوم المحدَّد في باب الوضوء إلى جميع الأبواب الأخرى بما في ذلك النظر. وإلاّ ففي غير هذه الصورة يجب حبس المصطلح على مورده، وفي ما يتعلق بالموارد الأخرى يكون العرف هو المتَّبع، كما هو ديدن بعض الفقهاء. ومن باب المثال نجد الشارع المقدَّس في ما يتعلَّق بصدق عنوان المسافر في باب الصلاة والصوم يشترط المسافة المحدَّدة والقصد. ويقول الشهيد الثاني في باب المضاربة: «المراد بالسفر العرفيّ، لا الشرعيّ، وهو ما اشتمل على المسافة المعيَّنة»([44]).

يبدو أنّ وظيفتنا الأوّليّة هو أن نحمل النصوص الشرعيّة على العرف الشرعيّ وحصره في مورده؛ إذ لا يمكن تعميم عُرف الشارع إلى الموارد الأخرى، إلا عند وجود القرينة، وإذا لم تكن هناك مثل هذه القرينة وجب الرجوع إلى العرف العامّ. وفي الموارد التي يكون هناك اختلاف بين عرف الشارع والعرف العامّ يكون إعمال التعبُّد بالنسبة إلى عرف الشارع بحاجة إلى قرينةٍ.

مناقشة السؤال الثاني

ورد في النصوص الفقهيّة ترتيب أحكامٍ على المكيل والموزون والمعدود، فقيل مثلاً: يجب بيع المكيل كيلاً، والموزون وزناً، والمعدود عدّاً. أو قيل: إنّ الربا يجري في المكيل والموزون، ولا يجري في المعدود. ومن جهة تمّ بيان البضائع المكيلة والبضائع الموزونة في بعض الروايات، فهل يجب التعاطي مع هذه النصوص بشكلٍ مطلق يتخطى زمان النصوص، بحيث يكون الذهب والفضة من الموزون أبداً، والحنطة والشعير من المكيل أبداً، أم نقصر هذه الروايات على عصر النصّ فقط؟

إننا في هذا المورد ـ من خلال التأمُّل في النصوص الدينيّة ـ نجد ممثِّلين لكلا الرأيين. فمثلاً يُصرّ صاحب كتاب (جواهر الكلام) على فكرة التعبُّد بالتطبيقات الشرعيّة، وحفظها في جميع الأزمنة؛ إذ يقول: «فينبغي أن يعلم أن الاعتبار في ذلك بعادة الشرع، فما ثبت أنّه مكيل أو موزون في عصر النبي| بُني عليه حكم الربا، وإنْ تغيّر بعد ذلك»([45]).

وفي المقابل هناك مَنْ يؤكِّد على محوريّة العرف العامّ، والتشكيك في ثبات الحالة السائدة في عصر النصّ والشارع المقدَّس، كما يقول المحقِّق الأردبيلي: «يحتمل أن يكون المراد من الكيل والوزن هو المتعارف لدى العامّ، أو كيل ووزن أكثر المدن، أو بعضها…» ([46]).

كما حمل الإمام الخميني ظاهر روايات باب الربا في المكيل والموزون على الظواهر العرفيّة، ويرى أنّ القضيّة هي على نحو القضيّة الحقيقيّة، وليس المكيل والموزون سوى عناوين مشيرة، وليست مصاديق ثابتة. ومن هنا إذا تغيّرت مصاديق العنوان؛ إثر تغيّر الأزمنة أو الأمكنة، سيتغيّر الحكم من تلقائه([47]).

وعليه في ما يتعلَّق بمساحة تطبيق المصطلحات الشرعيّة فإنّ الأصل الأوّليّ يقتضي تقدُّم العرف الشرعيّ على سائر الأعراف الأخرى، وإذا كان هناك نصٌّ من قبل الشارع في الموارد التي تختلف باختلاف الأمكنة والأزمنة، ويوجد هناك أرضيّة للتغيير، وجب أخذ الحكم الشرعيّ من هذا النصّ، لا أن نجعل الشارع في موقع الفرد الذي يذكر مثالاً مورديّاً ومعاصراً للموزونات والمكيلات([48]). ولكنْ إلى جنب هذا الأصل الأوّليّ قد لا يعثر الفقيه على تعبُّد في شأن نصٍّ من النصوص، وعندها يمكنه في هذه الحالة أن يرجع إلى العرف العامّ في عصره.

ويبدو أننا في الموارد التي تختلف باختلاف الأزمنة والأمكنة، وفي الوقت نفسه ورد نصٌّ من قبل الشارع في شأنها، لو جعلنا من موقف الفقيه المدقِّق في ما يتعلَّق بتعبُّدية أو عدم تعبُّدية الحكم المبيَّن في هذا النصّ ملاكاً نكون قد سلكنا منهجاً صحيحاً في الاستنباط.

 

2ـ تطبيق مفاهيم الموضوعات العرفيّة على المصاديق

إننا نواجه في النصوص الدينيّة آلاف القضايا التي يكون فيها «الموضوع» عرفيّاً و«المحمول» شرعيّاً. وكمثال على ذلك: معاملة السفيه والمجنون باطلة، الدم نجس، المسكر حرام، وما إلى ذلك. وعلى الرغم من إرجاع تحديد معاني هذه المفردات إلى العرف ـ كما تقدّمت الإشارة إلى ذلك ـ، إلا أنّ تطبيق المفاهيم التي يراها العرف لهذه المفردات على المصاديق والأفراد والأفعال التي هي أمور عينيّة وخارجيّة أمرٌ آخر، لا ربط لتفسير المفهوم بها.

أشرنا إلى أنّ الأثر الذي يتركه تغيُّر الظروف الزمانيّة والمكانيّة إنّما يؤدّي إلى تغيُّر حكم المصاديق (دون موضوعات الأحكام)، من خلال توسيع أو تضييق مصاديق الموضوع؛ إما من خلال اختلاف العرف تجاه مفهوم الموضوع ـ الذي بحثناه في العنوان السابق ـ؛ أو من خلال الاختلاف في تطبيق المصاديق على العنوان. وهناك أمثلة كثيرة في هذا المجال تثبت أنّ الفقهاء في استنباطاتهم كانوا ملتفتين إلى هذا الأمر، وفي ما يلي نشير إلى بعض الأمثلة على ذلك:

1ـ في عنوان الجعالة، التي هي عبارة عن تعهُّد شخصٍ بدفع مبلغ من المال إزاء عمل معين، نشاهد اليوم أنّ هذا الحكم يتمّ توسيعه إلى مصاديق، من قبيل: التعهّد باكتشاف المعادن، وتنفيذ المشاريع الخاصّة بالعمران، وهي أمورٌ لم تكن مطروحة في السابق.

2ـ في ما يتعلَّق بمسألة المنع من الاحتكار نجد بعض الفقهاء يقصرون الاحتكار ـ دون التفات إلى الاقتضاءات الزمانيّة ـ على الأطعمة، بل بضعة موارد منها، من قبيل: (الحنطة والشعير والتمر والزبيب و…) مثلاً([49]). في حين أنّه يمكن القول: إنّ الاحتكار لا ينحصر بالأطعمة؛ لأن معيار وملاك تشريع هذا الحكم هو إنقاذ الناس من الضائقة الاقتصاديّة في وقت الشدّة. وفي الحقيقة إنّ موضوع حكم الاحتكار عنوان يشمل جميع الأمور التي تضغط على الناس اقتصاديّاً، إلاّ أنّ مصاديق ذلك في العصور الغابرة كانت محصورة في الغالب بالطعام، بل على بضعة أصناف منه.

3ـ في ما يتعلَّق بحرمة بيع الدم وشرائه استند فقهاءٌ، من قبيل: العلاّمة الحلي([50])، ومحمد جواد الحسيني العاملي([51])، في فتاواهم المحرِّمة لبيع الدم وشرائه على عدم صدق الماليّة عليه. كما قال الإمام الخميني: «إنّ حرمة التكسب بالنجاسات دائر مدار عدم جواز الانتفاع. وفي الواقع فإنّ الحكم بحرمة بيع وشراء الدم الوارد في فتاوى الفقهاء إنّما هو من باب اعتباره مصداقاً للموضوعات الفاقدة للقيمة والماليّة»([52]).

في حين أنّ مصاديق الماليّة والمنفعة العقلائيّة والحلّية وعدم الحلّية تعتمد في الأساس وبشكلٍ تامّ على المتغيِّرات والظروف الزمانيّة والمكانيّة. ومن هنا يذهب بعض الفقهاء، من أمثال: السيّد الخوئي؛ بالالتفات إلى هذه الحقيقة، إلى القول بعدم وجود دليل على حرمة بيع وشراء الدم، سواء في ذلك الطاهر منه أو النجس، لا بالحرمة الوضعية، ولا بالحرمة التكليفية([53]).

ومن الجدير بالذكر أنّ الكتب الفقهيّة تذكر موارد كثيرة عن تغيُّر الموضوع، ولكنْ بأدنى تدقيق يمكن الوقوف على أنّ جميع الطرق الأخرى تدلّ على تغيُّر مصداق الموضوع. ومن باب المثال يمكن الإشارة إلى الموارد التالية:

1ـ «التغيُّر في خصائص وصفات الموضوع» من بين أنواع التحوّل، إلى جانب تغيّر المصداق. ويمثَّل له بحكم الخمر عندما يستحيل خلاًّ. في حين أنّ الخمر عندما يتحوّل إلى خلّ يكون عنوانه قد تغيَّر من الأساس، وتحوّل إلى موضوع آخر، لا أنّ التغيُّر قد طال خصائص الموضوع فقط.

2ـ «الاستحالة وتبدُّل الموضوع» من بين الأسباب الأخرى التي قيل بأنّها تؤدي، إلى جانب تغيّر المصداق، إلى تغيُّر الحكم. ويمثَّل لذلك بميتة الكلب في الأرض السبخة إذا تحوَّل إلى كتلة ملحيّة. في حين يمكن القول: إنّ تغيُّر حكم ميتة الكلب يعود في الأساس إلى تغيُّر عنوانه من الميتة إلى شيءٍآخر هو (الملح)، وحكمه هو الحلية. وعليه ففي هذا المثال لم يتغيَّر حكم الموضوع، بل إنّ حرمة ميتة الكلب ثابتة على الدوام.

3ـ «التغيُّر في ملاك الموضوع» يذكر لنحو من أنحاء تغيّر الموضوع. ويمثّل له بـ (النحت). فإنّ شكل هذا العمل وإنْ لم يختلف في حاضره عن سابقه، إلاّ أنّ الملاك قد تغيَّر، وبذلك تغيَّر موضوعه([54]). ولكنَّنا، من خلال المبنى الذي قدّمناه، نفسِّر المثال المذكور على النحو التالي: إنّ النحت مصداقٌ جزئيّ من مصاديق «إشاعة الشرك»، وإنّ إشاعة الشرك حرامٌ على الدوام. وعليه فإنّ الموضوع لم يتغيَّر، وإنّما المصداق هو الذي لم يعُدْ مندرجاً تحت عنوان الموضوع المذكور؛ بسبب اختلاف الظروف الزمانيّة والمكانيّة، ودخل تحت عنوان آخر، من قبيل: (الفنّ) مثلاً، والفنّ لا ينطبق عليه عنوان الحرام.

4ـ تغيُّر الموضوع بسبب «تغيُّر إضافات ونسب الموضوع». ويمثّل لذلك بحكم دم الحيوان المحرَّم أكله إذا انتقل إلى جسم مأكول اللحم. وهذا أيضاً من جملة أمثلة تغيُّر مصداق الموضوع([55]).

 

النتائج

1ـ إنّ الأحكام تعلَّقت بواقع الموضوعات والمفاهيم العرفيّة، ولكنْ لابدّ لتحقُّق هذه الموضوعات من وجود مصداق خارجيّ، ليشكِّل للمكلَّف أرضيّة لتطبيق الحكم. ومن هنا فإنّنا مضطرّون لأخذ مفهوم الحكم، لكي نطبِّقه في مورده.

2ـ إنّ العرف المتسامح لا يكون مرجعاً على كلّ حال. ولكنْ يجب الالتفات إلى أنّه حتى عرف جماهير العقلاء والمدقِّقين قد لا يكون نافعاً أحياناً، بل لابدّ في بعض الحالات من الرجوع إلى عرف الخبراء والمختصّين. بل إنّ التفكيك بين هذين العرفين: (عرف الخبراء والمختصّين؛ وعرف غير الخبراء وغير المختصّين) أمرٌ في غاية الأهمّيّة والضرورة بالنسبة إلى الاجتهاد وعمليّة الاستنباط.

3ـ هناك خاصّية مهمّة للغاية في ما يتعلَّق بموضوع ومتعلَّق الحكم، وهي أنّ موضوع الحكم ومتعلَّقه أمور ثابتة أبداً، وليس للزمان والمكان تأثير عليهما. بيد أنّ مصداق الموضوع ومصداق الحكم لا يتمّ تعيينه من قبل المشرِّع بما هو مشرِّع، وإنّ الفقيه عند الحاجة إلى التعيين يجب عليه الرجوع إلى مصادر من غير الكتاب والسنّة والإجماع والعقل. فتارةً يستعين بالعرف، وتارةً برأي الخبير والمتخصِّص، وتارةً بالعلوم الإنسانيّة، وما إلى ذلك.

4ـ عندما يتعلَّق الحكم بمصداق الموضوع قد يكون هذا المصداق كلّياً؛ وقد يكون جزئيّاً. فإذا كان جزئيّاً حصلنا على قضيّة شخصيّة، يكون موضوعها جزئيّاً حقيقيّاً. من هنا لا يطلق على موضوع هذه القضايا مصداقاً. وهكذا الأمر لو كان المصداق كلّياً. فمثلاً: في القضيّة «المجسِّمة كفّار» لا يكون المجسِّمة موضوعاً، بل مصداقاً كلّياً لـ «منكري الضروريّ من الدين». ولكنّه حيث لا ينفك عن الموضوع فإنّنا نسمّيه موضوعاً.

5ـ إنّ العرف يؤدّي إلى تغيُّر حكم المصاديق (دون موضوعات الأحكام)، من خلال توسيع أو تضييق مصاديق الموضوع، سواء من خلال تغيُّر فهم العرف لمفهوم الموضوع أو من خلال التغيُّر الحاصل في تطبيق المصاديق على عنوان الموضوع. وعليه لن يكون تغيُّر الأحكام؛ بسبب الاقتضاءات والظروف الزمانيّة والمكانيّة، مستلزماً لتغيُّر الموضوعات بوصفه تالياً فاسداً.

الهوامش:

(*) أستاذٌ مساعد، وعضو الهيئة العلميّة في قسم الفقه ومباني الحقوق الإسلاميّة في كلية الإلهيّات في جامعة طهران.

(**) طالبةٌ في مرحة الدكتوراه في قسم الفقه ومباني الحقوق الإسلاميّة في كلية الإلهيّات في جامعة طهران.

([1]) اليزدي، العروة الوثقى 2: 113.

([2]) المصدر السابق 1: 36.

([3]) المصدر السابق 1: 264.

([4]) محمد تقي الحكيم، الأصول العامة للفقه المقارن: 415.

([5]) المصدر نفسه.

([6]) الآغا ضياء العراقي، نهاية الأفكار 2: 137؛ محمد تقي الحكيم، الأصول العامة للفقه المقارن: 420.

([7]) الغروي النائيني، فوائد الأصول 3: 192.

([8]) الحسيني البهسودي، مصباح الأصول (تقريرات درس السيّد أبي القاسم الخوئي) 3: 148.

([9]) فوائد الأصول 3: 192 ـ 193.

([10]) الإمام الخميني، أنوار الهداية في التعليقة على الكفاية 1: 208.

([11]) مكّي العاملي، القواعد والفوائد 1: 278.

([12]) النجفي، جواهر الكلام في شرح شرائع الإسلام 28: 42.

([13]) العلوي، عرف وعادت در حقوق إسلام وإيران: 15؛ البرجي، زمان ومكان ودگرگوني موضوعات أحكام 4: 79.

([14]) انظر: الشهيد الثاني، الروضة البهية في شرح اللمعة الدمشقية 1: 27، 359؛ المحقِّق الحلّي، شرائع الإسلام في مسائل الحلال والحرام 2: 160، 163؛ الأنصاري، المكاسب 1: 258، قم، انتشارات دهقاني، 1374هـ.ش.

([15]) المقدّس الأردبيلي، مجمع الفائدة والبرهان في شرح إرشاد الأذهان 10: 135.

([16]) جواهر الكلام في شرح شرائع الإسلام 14: 305.

([17]) العروة الوثقى 1: 24 ـ 25.

([18]) المحقِّق الثاني 4: 415.

([19]) الميرزا محمد علي التوحيدي، مصباح الفقاهة 7: 341.

([20]) الشيخ الأنصاري، فرائد الأصول: 261.

([21]) المصدر السابق: 362.

([22]) وسائل الشيعة 3: 591 ـ 593.

([23]) العروة الوثقى 1: 588، 593.

([24]) الآخوند الخراساني، درر الفوائد في الحاشية على الفرائد: 227.

([25]) مستند العروة الوثقى 1: 24.

([26]) التنقيح في شرح العروة الوثقى 1: 276.

([27]) الخوئي، محاضرات في أصول الفقه 4: 183.

([28]) جواهر الكلام في شرح شرائع الإسلام 27: 108.

([29]) المصدر السابق 36: 19.

([30]) الروضة البهية في شرح اللمعة الدمشقية 1: 28.

([31]) انظر: المكاسب 1: 258؛ مجمع الفائدة والبرهان في شرح إرشاد الأذهان 8: 139.

([32]) الخميني، كتاب البيع 5: 166.

([33]) المصدر السابق 14: 311.

([34]) علي دوست، فقه وعرف (الفقه والعرف): 395.

([35]) الخميني، المكاسب المحرّمة 1: 52.

([36]) الغروي النائيني، التنقيح في شرح العروة الوثقى 4: 191.

([37]) مجمع الفائدة والبرهان في شرح إرشاد الأذهان 8: 341.

([38]) التبريزي، أوثق الوسائل في شرح الرسائل: 467.

([39]) مجمع الفائدة والبرهان في شرح إرشاد الأذهان 8: 341.

([40]) الحسيني العاملي، مفتاح الكرامة في شرح قواعد العلامة 4: 95.

([41]) كشف الغطاء عن خفيات مبهمات الشريعة الغرّاء: 22.

([42]) سوف نبحث هذه الطريقة في المستقبل إنْ شاء الله تعالى.

([43]) فقه وعرف: 223 ـ 224.

([44]) الروضة البهية في شرح اللمعة الدمشقية 4: 216.

([45]) جواهر الكلام في شرح شرائع الإسلام 23: 362 ـ 363.

([46]) مجمع الفائدة والبرهان في شرح إرشاد الأذهان 8: 341.

([47]) الخميني، كتاب البيع 3: 255.

([48]) فقه وعرف: 230.

([49]) الروضة البهيّة في شرح اللمعة الدمشقية 6: 163.

([50]) الأسدي، نهاية الأحكام في معرفة الأحكام 2: 463.

([51]) مفتاح الكرامة في شرح قواعد العلامة 4: 20.

([52]) الإمام الخميني، المكاسب المحرمة 1: 73.

([53]) الخوئي، مصباح الفقاهة في المعاملات 1: 54.

([54]) العلوي، عرف وعادت در حقوق إسلام وإيران: 143.

([55]) المصدر نفسه.

Facebook
Twitter
Telegram
Print
Email

اترك تعليقاً