أحدث المقالات
ترجمة: حيدر حب الله

 

المنهج الكلامي ووظائف المتكلّم  ـــــــ

ما هو المنهج الكلامي؟ وهل يُستفاد في علم الكلام من المنهج العقلي الفلسفي، والتجربي العلمي، والنقلي التاريخي أم أن بعضها فقط هو المستخدم في هذا العلم؟ ولماذا؟

سبحاني: المبدأ الأولي هو الاستفادة من العقل، فالمتكلّم راغب في توظيفه والانتفاع به، لكن كان الغرض ـ على الدوام ـ ذا دورٍ رئيس في تعيين المنهج، وكان غرض علم الكلام الدفاع عن الدين، لذا فقد يستفيد ـ أحياناً ـ من التجربة، بل قد لا يجدُ بُدّاً في أحيانٍ أخرى من الرجوع إلى التاريخ والأخذ منه، مثل بحث الإمامة، حيث لا يمكن إثبات مقولاتها بالعقل وحده، اللهم إلاّ المبدأ العام، ومن الواضح أن تاريخ الإمامة والسقيفة إنما يستندان إلى التجربة والتاريخ، لكن مع ذلك يتحدّد ذلك بدائرته الخاصّة.

ملكيان: نظراً لوجود الأنواع الثلاثة من القضايا في النصوص الدينية المقدّسة، وهي القضايا التجربية، والقضايا العقلية الفلسفية، والقضايا النقلية والتاريخية، فإن المتكلّم الذي تقوم وظيفته على الدفاع عن الدين سيستخدم ـ بل يجب عليه ذلك ـ المناهج الثلاثة وتلقائياً، وهي: المنهج التجربي، والعقلي، والتاريخي.

فمثلاً، جاءت في القرآن الكريم جملة قضايا تجربية مثل: >وَالله خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِن مَّاء< النور: 45، و>وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ< الحجر: 32، كما جاءت مجموعة قضايا عقلية فلسفية، من قبيل: >لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلا الله لَفَسَدَتَا< الأنبياء: 22؛ و>كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلا وَجْهَهُ< القصص: 88، وجاءت قضايا نقلية تاريخية، من نوع: >غُلِبَتِ الرُّومُ * فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُم مِّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ * فِي بِضْعِ سِنِينَ< الروم: 2 ـ 4.

فالمتكلّم الذي يقف على منصّة الدفاع عن صوابية القضايا الدينية وحقانيتها يلزمه معرفة مناهج العلوم التجريبية، والعقلية، والفلسفية، والنقلية، والتاريخية، ثم استخدامها في عمله وتوظيفها.

لغنهاوزن: هدف علم الكلام في التراث الإسلامي، كما في الكلام الفلسفي أو اللاهوت العقلي في الغرب، هو تدوين نظام عقلاني، وخلق انسجام منطقي بين القضايا الدينية، فيما تفهم فلسفة الدين عادةً أنها على ارتباط بأساسيات وكلّيات المدّعيات المسيحية التي يشاركها فيها كلّ من الإسلام واليهودية، وربما ينظر في بعض الأوقات لبعض القضايا الجزئية على أنها جزء من فلسفة الدين، مثل الدفاع عن مقولة التثليث المسيحي، رغم أن الأنسب بمثل هذا النوع من الموضوعات أن يدرج ضمن مباحث الكلام الفلسفي.

والمنهج السائد في معطيات الكلام الفلسفي واللاهوت العقلي ـ كما هو ظاهرٌ منهما ـ هو المنهج الفلسفي العقلي، فعندما ينشغل المتكلّمون بتكوين نظام كلامي منسجم ومنظم فإن ما نفهمه من صفة bمنظمv إنما هو ذاك التناغم العقلاني الواقع ما بين القضايا الداخلة في دائرة البحث والعمل. وعندما نطالع علم الكلام ندرك أن ثمة مناهج متشابهة قد تمّ توظيفها، فلكي يجري إثبات ادعاءٍ مفروض تُقام مجموعة من البراهين، كما تخضع الملاحظات المسجّلة عليها للدرس والملاحظة، وتدوّن الأجوبة، فيما تشاد ـ في الوقت عينه ـ براهين أخرى لصالح الطرف الآخر، فيقوم المتكلّم بنقدها أيضاً.

أما المتكلّمون المسيحيون فينشغلون ـ في الأعم الأغلب ـ بتأليف نتاجات كلامية لا يمكن حسابها على الكلام الفلسفي، ومن باب المثال أذكر علاقتهم الشديدة بدارسة الأهمية الأخلاقية للتعاليم المختلفة، أو رغبتهم بنقد نظرية فلسفية خاصة انطلاقاً من مضمونها الأخلاقي، وهو ما يسمّونه الكلام الأخلاقي.

نعم، لا يصحّ أن نعتبر الفرق بين الكلام الأخلاقي والكلام العقلي كامناً في عدم توظيف المتكلّم الأخلاقي المناهج العقلانية، بل على العكس من ذلك تماماً، إذ يشيد هذا المتكلّم أدلّةً وبراهين لإثبات وجهة نظره أيضاً، كما يسجّل ملاحظات ناقدة على وجهات نظر الآخرين، إلاّ أن هدفه ليس عرض نظام عقلاني للعقديات، بل رصد جوانبها الأخلاقية فحسب.

من ناحية أخرى، لا يعني انشغال المتكلّم العقلي ـ بشكل أساسي ـ بخلق انسجام عقلاني داخل مجموعة من المفاهيم والتعاليم أنه لا علاقة لعمله إطلاقاً بالمناهج التاريخية والتجربية، فقبل كل شيء تُستنبط تلك التعاليم التي يهدف المتكلّم الدفاع عنها من التراث التاريخي عادةً، فالذي يريد بلورة لاهوت عقلاني للتشيّع عليه أن يكون مطلعاً على البيانات الرئيسية التي جاءت على لسان الأئمة المعصومين.

الجانب الآخر الذي يتصل بعلاقة المنهج التاريخي بعمل المتكلّم العقلي هو أن على هذا المتكلّم رصد التحوّلات التاريخية لكل مفهوم ديني مع نقده، فلكي نفهم السبب في تركيز أحد المتكلّمين على دليل خاص، علينا أن ندرس الادعاءات المقابلة التي كان يواجهها، وفي سياق الأرضيات التاريخية المختلفة من الممكن أن نطّلع على وجود آراء مضادة للبداهة العقلية، بحيث إن ادعاءً ربما يراه متكلّم بديهياً فيما يراه الآخر موضع جدل ومناقشة.

بل حتى المعطيات التجريبية من شأنها الارتباط باللاهوت العقلي، فقد مرّ عهد كانوا يتصوّرون فيه أن مدارات الكواكب السيارة يجب أن تكون دائريةً، لأن الحركة الدائرية أكمل الحركات، من هنا كانوا يحسبون السيارات واحدةً من أوائل المخلوقات الإلهية، ولذا اعتقدوا أن ذلك يفرض دائرية حركتها، وهو ما كشفت التجربة فيما بعد عن خطئه.

فالذي كان يحصل أن مجموعة من الادعاءات كانت تقدّم بوصفها عملاً عقلياً، فيما لا يمكن ـ بأيّ وجهٍ من الوجوه ـ إثباتها على أساس العقل، من هنا، ففهم دائرة الفعل العقلي ونطاق نشاطات العقل فهماً أفضل وأكمل يُلزم الإنسان الاطلاعَ على نتائج المعطيات التجربية، ودون ذلك يظلّ الخطر قائماً في أن يناقض معطى عقلي من هذا النوع يبدو لنا واضحاً، أفضلَ تفسير متوفر للمعطيات التجربية.

وعليه، فحتى لو قبلنا بالعلاقة القائمة بين العلوم التجربية والتاريخية مع اللاهوت العقلي، فلا يعني ذلك أن المنهج الرئيس في الكلام الفلسفي وعلم الكلام مغاير للمنهج العقلي.

داوري: المنهج الذي يقوم عليه علم الكلام منذ بدو تكوّنه هو المنهج الجدلي، إلا أن المتكلّمين المتأخرين ـ لا سيما منهم البروتستانت ـ وظفوا مناهج وصفية تقريرية وبيانية، وكان مقصدهم الرئيس من ذلك تحديد علاقة الإنسان بالدين، وما هو الذي يفهمه منه أو يأخذه؟

وطبقاً لهذا الوضع الجديد يتلاشى من البين كلياً التقسيم المعروف لعلم الكلام إلى كلامٍ عقلي وآخر نقلي، على أساس أنه لابد أولاً من معرفة النقل وفهمه، لكن ذلك لم يعد مناسباً لوضع العصر، ففي زماننا لم يعد الإنسان مبالياً كثيراً بالبحوث العقلية، ولا مبدياً حساسية واهتماماً بالنقل، وهذا ما يجبر المتكلّم على الانشغال بالفهوم الإنسانية، ليرى هل يمكن التوصل إلى تكوين لغةٍ تقع موقع الرضا في أسماع الناس؟

وخلافاً لما يتصوّر، لا يغدو الناس متديّنين عبر المنطق، كما لا يعرضون عن الدين بسبب المنطق أو العلم، من هنا يلزم تحصيل الأنس بالكلمات الدينية، حتى يحصل استنطاق للكتاب الديني في موضوعٍ ما، لنرى ما يقوله الكتاب نفسه، لا أن نقوم بتطويعه وفرض الأفكار عليه.

إن هذه هي وظيفة المتكلّم في فهم عصره وزمانه، أن يكتشف السبيل التاريخي للوصول إلى الدين، وإلاّ فإن تطبيق الأحكام الفرعية على متطلّبات العصر والزمان وإصدار فتاوى متناسبة مع ذلك أمر يعود شأنه إلى الفقيه، وليس من وظائف المتكلّم، فالمتكلّم لا يطابق الدين مع علوم عصره ومعطياته، إنما يكتشف في علوم العصر وعي الناس وعقلها وفهمها لا ليتكلّم على وفقها، بل ليعرف ما هي الزوائد الموجودة في فهمنا والتي نبغي استبعادها؟ وهنا، تبدو للعقل والنقل والتاريخ أدوار ووظائف.

 

كم هي مراحل عمل المتكلّم؟ هل توافقون على تقسيمها إلى ثلاث: bدرس معالم النظام العقديv و bشرح هذا النظام وبسط البيان فيهv و bالدفاع عنه أمام مخالفيهv؟ ولماذا؟

سبحاني: يتأثر هذا السؤال بما فعله الغربيون، فلمتكلّمهم مثل هذه المراحل الثلاث؛ ذلك أن العقيدة المسيحية لم تكن عقيدةً واضحة، الأمر الذي دفع علماء الكلام المسيحي لاكتشاف هذه العقيدة أولاً، ثم شرحها وبيانها، ثم الدفاع عنها في المرحلة الثالثة، إلاّ أن الوضع كان مختلفاً تماماً في الإسلام، لذا فلا معنى لهذه الخطوات عند المتكلّم الإسلامي، فما شأن هذا المتكلّم بكشف العقيدة ثم بيانها ثم الدفاع عنها! فمن اليوم الأول للإسلام كانت العقيدة الإسلامية قد بيّنت بوضوح في القرآن الكريم، والسنّة الشريفة، وفي نهج البلاغة وأحاديث أمير المؤمنين %.

فعلى من تقع إذاً مسؤولية تفسير هذه النصوص؟

سبحاني: الفعل التفسيري متعلّق في قسم منها بالقرآن ونهج البلاغة، لهذا نحن نرى أن المتكلّم معنيّ ـ بالدرجة الأولى ـ بالدفاع عن المعتقد الإسلامي، نعم إن كلامكم هذا يغدو صائباً عندما نطبقه على التجربة السلفية في الإسلام، فالسلفية السنّية عمدت ـ أولاً ـ إلى تنظيم بناء العقائد، كما فعل أحمد بن حنبل في كتاب السنّة، وأبو الحسن الأشعري في كتاب الإبانة، لقد كتب السلفيون نظاماً كاملاً للعقائد الإسلامية، ثم شرحوه وبيّنوه، ثم ـ بعد ذلك ـ هبّوا للدفاع عنه.

وواقع الأمر، أن السلفية السنّية حيث لم تعتمد منهج المتكلّمين الشيعة، اضطرّت للمرور بالخطوات الثلاث المذكورة، كما كانت الحال مع المتكلّمين المسيحيين، أما المتكلّمون الشيعة فكان الوضع مختلفاً عندهم، فقد أخذوا عقائدهم ـ منذ البداية ـ من النبي 2 والإمام علي % وسائر الأئمة الأطهار ( وقد اتضحت هذه العقائد عندهم منذ القرن الأول الهجري، نعم الكلّيات العقدية لا الجزئيات.

حاولوا الآن مراجعة كتاب الإبانة للأشعري أو كتاب مقالات الإسلاميين له، تجدون أنه قد ذكرت فيه سلسلة من العقائد السنّية كل واحدةٍ منها ردّ وتفنيد للمذهب الآخر، وكأن العقائد الإسلامية إنما نشأت في ثنايا الردود والنقوض المتبادلة، وهذا عيب يُعاب عليه الإسلام، فمن المفترض أخذ العقائد الإسلامية من القرآن والأئمة ونهج البلاغة، ولا يمنع ذلك من الشروع ـ فيما بعد ـ بتنظيم بناء عقدي متكامل، تماماً كما فعل الشيخ الصدوق (381هـ)، فلا إشكال في هذا التنظيم عندما يهدف تفهيم الآخرين، دون أن يعني ذلك أن فقدانه يدخل عقائدنا في ظلمات العتمة والإبهام والضبابية، كما كانت الحال مع المسيحية والسلفية والأشعرية.

داوري: على المتكلم المعاصر ـ أولاً ـ أن يدرس علاقتنا بالدين، ولماذا غدا هذا الدين مهمّشاً في الحياة العصرية والحديثة؟ وهل يمكن ـ من الأساس ـ إيجاد متدين في مثل هذا الزمان أم لابد من صنع عالم جديد مختلف؟

من الممكن أن يشعر المعتقدون بالدين بالزهو والسعادة في عمليات الإثبات العقدي والجدل الكلامي ـ ردّاً وإثباتاً ـ كما هو المتداول، إلاّ أن ذلك لا يترك تأثيراً على حال الدين اليوم، سيما مع ذاك العقل الآتي من القرن الثامن عشر الميلادي، والذي غدا محوراً للأشياء جميعها، إذ لا يمكن بهذا العقل الوصول إلى حقائق الدين أو الدفاع عنها، ذلك أنه غدا ـ في جوهره وذاته ـ مقابلاً للنقل، ولهذا لم يعد سهلاً أو ميسوراً بناء نظام عقدي معه.

نعم، لقد جرى ـ فيما سبق في علم الكلام ـ تنظيم بناء عقدي، بل قدّم مشروحاً ومبسوطاً من جانب المتكلمين، لكن السؤال هو: ألم يهجر في عصرنا ذاك النظام العقدي ويُمنى بالانزواء والعزلة؟ وإذا حصل ذلك فلماذا؟ ربما يلزم إعادة فهم هذا النظام وفقاً لصورةٍ جديدة.

ملكيان: يمكن جعل عمل المتكلّم على مراحل هي:

أ ـ فهم معاني الألفاظ الواردة في النصوص الدينية والمذهبية ومفاهيمها مع بيانها وشرحها، مثل: الإيمان، العلم، الغيب والشهود، التوبة، الموت والحياة، الرجوع إلى الله.

ب ـ كشف النظام العقدي الديني والمذهبي، ثم عرضه وتقديمه للآخر.

ج ـ شرح هذا النظام، بمعنى إثبات معقوليته.

د ـ الدفاع عنه أمام نقّاده والمعترضين عليه.

لغنهاوزن: الإشكال المسجّل على عمل المتكلّم لا يتناول المناهج المذكورة أعلاه، وإن أمكن أن يضمّ إليه انتقاد النظريات المنافسة، إلاّ أنه لا بد من الالتفات إلى أن الأعمال التي ننجزها في المراحل اللاحقة قد تترك تأثيرات على المراحل السابقة، فمثلاً: إذا عجز شخص عن الدفاع بشكل جيد عن سلسلة الانتقادات المسجّلة على نظامه العقدي وفكره الكلامي، فإن عليه أن يعيد النظر في بُنية هذا النظام وترتيبه ونظمه، فما أكثر ما نتوصّل ـ وبسبب الملاحظات النقدية الجديدة ـ إلى أننا لو قمنا بإعادة هيكلة منظوماتنا العقدية لأمكن لنا تقديم أجوبة على تلك الانتقادات.

وبناءً عليه، فهناك تأثيرات متبادلة ودائمة لفعل المتكلّم في المراحل الثلاث المشار إليها، فبدل أن نشبّه عمل المتكلّم بعمل البنّاء ربما يكون من الأفضل تشبيهه بالمُصارع، إذ عليه أن يتخذ وضعاً، ثم يحمل على منافسه، وفي الوقت عينه يطالَب بالدفاع عن نفسه أمام هجمات الخصم، إلاّ أنه لا ينجز كلّ مرة هذه الأعمال الثلاثة، فإن ردّة فعله على الهجوم الذي يحمله عليه منافسه قد تلزمه بتغيير وضعه، كما وتترك أثراً على حملته المضادّة عليه، وهذا نوع من النظام الحراكي الحيوي.

وهذا ما يحوز على أهمية فائقة؛ إذ إن هذا اللون من السير الحيوي التحوّلي يعمل إزاء أيّ نوع من الفعل العقلاني، فإذا أردنا الدفاع عن نظرية فيزيائية فعلينا ـ بدايةً ـ أن ننظم نظريتنا، ثم نثبت صحّتها، ثم ندافع عنها أمام انتقادات الآخرين، لنكشف ـ عبر ذلك ـ عن تقدمها على النظريات المنافسة، ومنذ بداية هذا العمل وحتى نهايته علينا أن نعرف أنه من الضروري إعادة النظر في الصورة الأولى التي وضعناها للنظرية، والامتياز هو أن النظرية الفيزيائية تدخل في دائرة المعطيات التجربية، أما الكلام أو اللاهوت فإنه يتحرّك ضمن الضوابط التي يقدّمها الوحي الإلهي.

 

جدوائية الدفاع العقلاني عن الدين  ـــــــ

ما هو الدليل الذي تملكونه على أن الدفاع العقلانيّ عن الدين سوف يكون ـ في نهاية المطاف ـ في نفع الدين نفسه؟

ملكيان: إذا كان المراد من bالدفاع العقلاني عن الدينv إثبات حقانية القضايا الدينية والمذهبية، ذاك الإثبات الذي يقصدونه في علمي المنطق والرياضيات، فلا شك في أنه لم يحصل ـ حتى الآن ـ مثل هذا النوع من الدفاع بحيث يشمل تمام المقولات الدينية، بل إنه لم يستوعب أكثريتها الساحقة أيضاً حتى نتحدّث عن نفعيته أو عدمها، أما إذا كان المقصود الحديث عن وجه رجحان الاعتقاد بالمقولات الدينية والمذهبية، بأن ندلل ـ مثلاً ـ على أنه لماذا كان الاعتقاد بهذا المقول الديني أو ذاك أرجح من الاعتقاد بنقيضه أو من تعليق الأمر وعدم إصدار حكمٍ فيه، فلا ريب في أن هذا النوع من الدفاع سيعود بالنفع الأكيد على الدين نفسه، ذلك أننا ـ نحن البشر ـ مركبون تركيباً نفسياً يقضي بسلوك مثل هذا الطريق، بأن ندلّل على أنّ الإقرار بقضيةٍ ما أرجح من الأخذ بضدّها أو حتى السكوت عنها، ولا شك في أن بيان وجه الرجحان لقضية دينيةٍ ما رهين بنوعية تلك القضية من حيث انتماؤها إلى المنهج التجريبي أو الفلسفي أو التاريخي.

داوري: كما رأيتم، لم أتحدث عن الدفاع البرهاني عن الدين، وهل أن هذا الدفاع ينفع الدين أو يضرّه؟ والذي أعلمه أنه ما دام علم الكلام لازماً وموجوداً ما دام من الضروري استخدام منطق الدفاع عن الدين، فإذا طالبتَ متكلّماً: لماذا انشغلت بعلم الكلام؟ وماذا ينفع هذا العلم؟ فإن هذا السؤال سيدفعه إلى ممارسةٍ فلسفية؛ ذلك أنك أقحمته وادي فلسفة علم الكلام، ومع ذلك يمكنه أن يقول لك: كان ذلك منّي بغية إثبات الدين برهانياً، وإذا كنت برهانياً تشيد علومك على البرهان، فلماذا لا تأخذ به في إثباته لقضايا الدين؟! هل تعتقد مثلي أن البشر اليوم لا يعتمدون على يقينات المنطق، فإذا كان كذلك لزم أن نغيّر كتبنا الدراسية الدينية من رأس؛ لأنها ولدت في إطار كلامي، لا أقلّ من ضرورة تغيير لغة نصفها في الحدّ الأدنى.

لغنهاوزن: يعدّ العقل مرشداً لتقويم المعتقدات جميعها، إننا نوظفه لتجنب الأخطاء المتوقع حصولها في سياق انسجام العمل والتجربة، والسؤال: أليس هناك من فائدةٍ ترتجى من وراء الدين إذا ما آمن به الناس إيماناً غير عقلاني؟

يُشكِل أغلب أنصار النزعة الإيمانية بأن استخدام المناهج العقلية في المعتقدات الدينية أمر مضرّ وغير صحيح، إلاّ أن هذا الادعاء قائم على فهمٍ خاص للعقل يحدّه في إطار منهاج العلوم التجربية والرياضية، والحال أن العقل ـ منذ الأوّل وحتى الآن ـ ظلّ يكتسب معنى أكثر سعةً وجامعيةً، بحيث يستوعب هذه المناهج المشار إليها مع الكثير من الأمور الأخرى.

ربما يدّعى أحياناً أن العقل جاف تحليلي جامد، فيما الأجوبة التي تنفع الدين يجب أن تكون فياضة حراكية غضّةً نضرة ومثيرة، إلاّ أننا نجد هنا ـ أيضاً ـ أن المنتقدين الذين يسجلون مثل هذا الاعتراض يحملون ـ سلفاً ـ تصوّراً محدوداً قصير النظر، ذلك أن الدين جامع كافٍ يعطي مجالاً لكلّ من التقويمات التحليلية والظواهر الإيمانية الجيّاشة، وإنكار منافع هذين الأمرين أو أحدهما سوف يؤدي إلى تلقي الدين ضربةً مهلكة، إن الإيمان الديني الفاقد للحرارة والهياج لا يمكنه أن يدفع المؤمنين للإيثار والتضحية، كما أن الدين القائم ـ فقط ـ على المشاعر والأشواق والاندفاعات النفسية بحيث لا يسمح للعقل بالنفوذ إليه سوف يقع ـ بسرعة ـ عرضةً للأحاسيس والعواطف، وأحياناً لألوان التعصّب والعصبية، فينحطّ أمره ويتسافل.

إن الدفاع العقلاني عن كلّ واحدة من المعتقدات الدينية المثيرة للدراسة أمر مفيد ونافع؛ ذلك أننا نكوّن فهمنا للدين ونكتسبه عبر الدفاع العقلاني عنه، وهذا الدفاع يستلزم دراسة وملاحظة العلاقات المتبادلة المنطقية بين معتقداتنا، من حيث ما تحويه، ومن حيث ما يسجّل عليها من ملاحظات نقدية، أليس البقاء في الجهل في مسائل من هذا النوع يعني عدم احترام الساحة الإلهية المقدّسة؟! ألا تستدعي الحركة الإلهية حمدنا وشكرنا على موهبة العقل العظيمة التي منحنا إيّاها؟! إذا كان دفاعنا العقلاني عن المعتقدات الدينية مصاحباً لتأملات عميقة في العقل نفسه ـ بالمعنى الذي يقصده الحكماء والعرفاء ـ فإن بإمكاننا نيل الحكمة.

نعم، يمكن أن يكون الدفاع العقلاني عن الدين، كأيّ جهد بشريّ آخر، ممزوجاً بحساسية وبصيرة في حال أو مضحكاً مخجلاً بدائياً في حالٍ أخرى.

فإذا ما كان على صورة تمرينٍ محض للتحليل المفرط ولتعريف المصطلحات العلمية فإنه ـ في هذه الحالة ـ لن يكون في نفع الدين، بل سيلحق الضرر به أيضاً، حتى لو لم ننسب التقصير هنا إلى العقل نفسه، بل نسبناه إلى توظيفه واستخدامه.

سبحاني: للدين مرحلتان، يمكن للعقل في إحداهما فهمه وإدراكه، فالدين مطابق ـ بالتأكيد ـ للفطرة والخلقة، وإذا ما تمكّن العقل من مطابقة الدين مع الفطرة كان ذلك إنجازاً حسناً ورائعاً، ومن الواضح أنه لا يبدي أحد جهوزية للتكلّم في أمرٍ مخالفٍ لفطرته، وإذا ما صدر منه ذلك فإنه يكون مجرّد لقلقة لسان لا غير، وعليه فالعقلانية تصبّ في مصلحة الدين إلى ذلك الحدّ الذي تحكي فيه عن الفطرة.

أما عقلنة الدين ـ كما فعله المعتزلة ـ بمعنى وضع الدين بتمامه داخل الإطار العقلي، بحث لو خالف هذا الدين العقلَ في موقف من المواقف أو موضع من المواضع لزم رميه جانباً.. فلن تصبّ في صالح الدين، فما يُقال من: bإن دين الله لا يُصاب بالعقولv أو bإن السنّة إذا قيست محق الدينv مؤشر على وجود مواضع لا يتسنى للعقل النفوذ إليها، فنحن غير قادرين على تبرير تمام الأحكام عقلياً، فما أكثر ما يبرهن العقل الناقص على شيء ثم يثبت فيما بعد خلافه.

من هنا، نرى أنه من الضروري تبنّي نظرية التبعيض في عقلنة الدين ووضعه ضمن إطار عقلي، فالمقدار الذي يحمل بُعداً عقلانياً، مطابقٌ للفطرة، وقائم على الحسن والقبح، على خلاف الحال فيما يقوم على بُعد إلهامي أو وحياني.

 

يبدو أنه منذ ظهور فلسفة كانط وحتى عصرنا الحاضر برز سؤال يضع علامة استفهام كبيرة على قدرة العقل على أن يغدو سبيلاً لإثبات القضايا الميتافيزيقية، من هنا لم يعد حسناً ممارسة دفاع عقلاني، بل إنه سوف ينجرّ إلى الهزيمة، ذلك أن القضايا العقلية والميتافيزيقية جدلية الطرفين، بمعنى أنها قابلة لإقامة الدليل عليها من كلّ طرف، كما أنها تقبل إقامة الدليل على نفيها كذلك، ما هو رأيكم في هذا المضمار؟

سبحاني: كان كانط معتقداً بأن الدين غير قابل للإثبات، فإذا كان المقصود تلك القضايا والمفروضات القبلية التي يفرضها العقل فإننا نقول بالتفصيل؛ فإن قسماً من الدين يمكن تعقّله وصيرورته عقلانياً، وهو ما يرجع إلى الأصول، أو بعض ما في الفروع مما يرجع إلى تلك الأصول نفسها كالوفاء بالعهد والعمل بالاتفاف، واحترام الوالدين و.. أما بقية ما في الدين مثل: لماذا جعلت الزكاة في أربعة وعشرين مثقالاً، لا ثلاثة وعشرين، فإننا غير قادرين على إدراكها.

أما ما يخصّ نظرية كانط التي ينظر إليها الآخرون بوصفها نظرية واقعية، فنحن نراها نظريةً سوفسطائية؛ حيث إنه لا يرى الإدراكات مطابقةً للواقع، ذلك أن الذهن فُرضت له مفروضات قبلية عنده، وهي عشرة مفروضات، يراها كانط أطراً مصنوعة سلفاً، بمعنى أن أي شيء تأخذه من الخارج فإنه سوف يتقولب داخل هذه الأطر المفروضة، ولن يكون ـ قهراً ـ حاكياً عن الخارج.

هل هناك فلسفة إسلامية؟!  ـــــــ

هل تعتقدون بوجود شيء اسمه bالفلسفة الإسلاميةv؟ وإذا كان الجواب بالإيجاب فما هو فرقها عن bالكلام الإسلاميv؟ وهل يعدّ الافتراض المسبق القاضي بوجود bفلسفة إسلاميةv نوعاً من القول بأن لكلّ دين انسجاماً مع نظام فلسفي محدّد؟ وإذا كان الجواب بالإيجاب فكيف يمكن الدفاع عن ذلك؟ وما هو الدليل على صحّته؟

داوري: أسئلة هامة، أما عن القسم الأول منها فأجيب: إذا كان مرادكم من الفلسفة الإسلامية، فلسفة المسلمين، تلك الفلسفة المطابقة تماماً للإسلام، فإنني لا أعتقد بفلسفةٍ كهذه، أما الفلسفة التي عرفها العالم الإسلامي، وهي الفلسفة التي يجب علينا أن نميّزها تماماً عن الفلسفة اليونانية والفلسفة الحديثة، فهي فلسفة تنتمي إلى العالم الإسلامي وتتناسب معه.

أما قولكم: bوهل يعدّ الافتراض المسبق القاضي بوجود فلسفة إسلامية نوعاً من القول بأن لكلّ دينٍ انسجاماً مع نظام فلسفي محدّد؟v

فإن الجواب عنه يكون بالإيجاب عندما تكون الفلسفة من لوازم الدين، فيما الأمر ليس كذلك، فالدين في حدّ نفسه لا يحتاج إلى الفلسفة، كما أنها مستقلّة عنه تمام الاستقلال، وعليه فما هو المانع الذي يمنع عن ظهور فلسفة متناسبة مع مقتضيات العالم الإسلامي، فقد ظهرت في العالم البوذي والشنتوي فلسفات متوافقة مع الديانة البوذية..، وبعبارة أخرى، إذا اعتبر شخص أن أمثال الفارابي وابن سينا والسهروردي ونصير الدين الطوسي والمير داماد والملا صدرا فلاسفةً إسلاميين فلا يلزم من قوله انحصار كلّ دين في انسجامه مع نظام فلسفي محدّد.

إن الفلسفة التي ندعوها بالفلسفة الإسلامية ذهبت في القرون الوسطى إلى أوروبا، وخضعت أمّهات موضوعاتها لدراسات مركّزة من جانب فلاسفة الحقبة القروسطية ومتكلّميها، وكان لها تأثير على قيامة الفلسفة وبُنيتها هناك، تلك الفلسفة التي يدعونها بالفلسفة المسيحية، نعم ثمة من لا يوافق على إطلاق تسمية الفلسفة المسيحية عليها، ويرى ذلك غير صائب، إلاّ أن بحثهم مركّز على أنه هل هناك معنى لفلسفةٍ إسلامية أو مسيحية؟ وبتعبير أعم: هل هناك معنى لفلسفة دينية؟

من وجهة نظري، أعتقد بوجود فلسفة إسلامية، بمعنى الفلسفة التي ظهرت في العالم الإسلامي ولم تكن تكراراً أو تقليداً للفلسفة اليونانية، لكن هل هذه الفلسفة هي الفلسفة العالية الرفيعة للإسلام أم لا؟ فهذا بحث آخر.

سبحاني: إذا كان المراد من الفلسفة ما يقال عن حمل شخص ما لأيديولوجيا خاصة، ما يلبث أن يشرحها فيما بعد عن طريق الفلسفة، كما لو فرضنا لماركس رؤيةً أو تصوّراً ما ثم قام بتفسيره فلسفياً… إذا كان هذا هو المراد فليس عندنا فلسفة إسلامية؛ ذلك أننا لا نرى أن القرآن والنبي أتيا بدينٍ ثم عقدنا نحن ـ أتباع هذا الدين ـ جلسات فيما بيننا لوضع فلسفةٍ لتبيينه وعرضه.

ما زلت أذكر تلك الأيام التي أسّس فيها أحد الأحزاب، وبدأ عمله، حيث عقدت نخبه جلسات لكتابة فلسفته.. وهذا معناه أنهم كوّنوا ادعاءات ما، ثم اتجهوا نحو الدليل عليها، وإذا كانت الحال كذلك، بمعنى أن الفلسفة الإسلامية تتجه نحو البرهنة على ادعاء فُرض سلفاً، فليس هناك من فلسفةٍ إسلامية أساساً.

أما إذا كان المراد مجموعةً من القضايا التي اكتشفها علماء الإسلام أثناء بحثهم العلمي، أو قاموا بتكميلها، فيمكن حينئذٍ القول بوجود فلسفة إسلامية.

 

لكن معنى هذا وجود فلسفة للمسلمين لا للإسلام!!

سبحاني: نعم، لكن بمعنى الإسلام الذي كشف الحركة الجوهرية، نعم، هنا تغدو فلسفة إسلامية، أما إذا كانت بالمعنى الأوّل فلا أوافق على تسميتها بالإسلامية، وإننا لنتجنّب أن يدّعي شخص مدعيات ما ثم يسير نحو البرهنة عليها، ومن التلقائي حينئذٍ أن يكون لكلّ شخص أيديولوجيا خاصّة به يقوم بفلسفتها فيما بعد.

 

بناءً عليه، أنتم لا تعتقدون بأن للإسلام نظاماً أو بنية فلسفية خاصّة.

سبحاني: نعم، ليس للإسلام بنية فلسفية أو جهاز فلسفي خاص به، إنما عنده مجموعة من المسائل التي يعود بعضها إلى فترة ما قبل الإسلام، مثل برهان الحركة الأرسطي، والذي تمت الاستفادة منه لإثبات وجود الصانع تعالى، تماماً كما نستفيد من أفكار العلماء الآخرين، فكم يمكن أن تظهر مكتشفات جديدة اليوم سرعان ما يستفيد منها الإسلام والمسلمون!

لغنهاوزن: الفلسفة الإسلامية والكلام الإسلامي الموروثان عن البحث والتحقيق، شهدا تحوّلات هامة طوال التاريخ الفكري والعقلاني للمجتمعات الإسلامية، إن وجود أيّ واحدٍ منهما لا يفرض افتراضاً مسبقاً يقضي بوجود نظام فلسفي أو كلامي خاص هو الذي ينسجم الإسلام معه أو حتى التشيّع، بل لا يصحّ القول بأن الدين ـ أيّ دين ـ ينسجم ـ فقط وفقط ـ مع نظام فلسفي محدّد، ذلك أنه وعلى امتداد التاريخ الديني العام كانت هناك موروثات فلسفية وكلامية، في الوقت الذي شهدت الحياة الدينية فيه اختلافاً في الرؤى الفلسفية والكلامية بيّناً.

ومع وجود بعض التداخل ما بين الفلسفة والكلام، وكون bالوجودv هو المحور الرئيس الذي تدور عليه الفلسفة الإسلامية لابن سينا، والسهروردي، وصدر المتألهين، إلاّ أن هؤلاء الفلاسفة وغيرهم سعوا لابتكار أنظمة فلسفية تنسجم مع العقائد الإسلامية، كي يغنوا هذه العقائد ومضمونها، ويقدّموا لها تفسيراً عقلانياً.

في المقابل، يقع علم الكلام ـ بشكل أساس ـ على تماس مع عمليات تنظيم المفاهيم والتعاليم والدفاع عنها، من هنا يقع التعارض بين الفلسفات الدينية والنظم الكلامية كذلك، وإنما بتطوّر العلمان عبر الصياغات العقلانية والحلول المنطقية التي يقدّمانها لرفع أشكال الاختلاف بينهما، وهذا ما لا يصدق على خصوص الفلسفة والكلام، إنما يسري أيضاً إلى تمام العلوم الدينية؛ ذلك أن الجهود العقلانية الإنسانية برمتها إنما تحظى بخطواتٍ نحو الأمام عبر المصادمات والاختلافات التي تقع بينها، مما يدفعها لتقديم حلول ومقترحات ترفع الأزمة وتحلّ المعضل العالق.

وترتبط نوعية الأسئلة الواردة في السؤال أعلاه بموقف الإسلام وما يحويه، من المعطيات التجربية والإنسانية، لا سيما الفلسفة، ذلك أن بإمكان مثل هذه الموضوعات المثارة أن تغدو بنفسها موضوعاً لدراسة ما نسميه: الفلسفة الإسلامية، ففلسفة الإسلام تمتاز ـ بوضوح ـ عن الفلسفة الإسلامية، ذلك أن المصطلح الأخير يطلق على الموروث الفلسفي الذي نما وتكامل على يد المفكّرين الإسلاميين، مثل السهروردي، وصدر المتألهين، والحكيم السبزواري، أما فلسفة الإسلام فهي دراسة لرؤية الإسلام الفلسفية ومضامينه.

وهكذا تمتاز فلسفة الإسلام عن علم الكلام المعنيّ بتنظيم وبلورة التعاليم الإسلامية والدفاع العقلاني عنها، فهذه الفلسفة لا تعنى بتعاليم الدين والدفاع عنها، بل تنشغل في استنباط الفروع الفلسفية وحدودها.

ملكيان: إذا كان المقصود بالفلسفة الإسلامية مجموعة الآراء والنظريات الفلسفية المطروحة للتداول مما كان أصحابها من المسلمين، فلا ريب في وجود فلسفةٍ إسلامية، لكن:

أولاً: هذه الفلسفة تعني ـ أيضاً ـ وجود منطق إسلامي، ورياضيات إسلامية، وجغرافيا إسلامية، وتدوين رحلات إسلامية، وشعر إسلامي، ونثر إسلامي و..

ثانياً: إن هذه المجموعات لا تملك أيّة قداسة أو صواب لانتسابها للإسلام، حتى يدّعى أنه لا يصحّ مخالفتها أو أبعاضها وأضلاعها، هذا فضلاً عن أنها لا تتمتع ـ في حدّ نفسها ـ بانسجام داخلي، حيث ينفي بعض أجزائها البعض الآخر.

أما إذا قصد بالفلسفة الإسلامية تلك الجهود من النفي والإثبات، والأخذ والردّ التي تقوم ـ في بعضها ـ على الاعتماد على النص القرآني أو على السنّة، فلا بدّ من القول بأن هذه الفلسفة، وطبقاً لتعريف الفلسفة نفسها، ليست بفلسفةٍ حقيقة؛ ذلك أن المراد من الفلسفة علم لا يتّبع فيه سوى البرهان، كما لا تؤخذ الآراء والنظريات أو تردّ إلاّ عبر سبيل الاستدلال البرهاني، تماماً كالمنطق والرياضيات، أما إذا كان المقصود تلك الفلسفة التي تقع في خدمة الدفاع عن المعتقدات الدينية والمذهبية للمسلمين، فإن أقلّ ما يُقال بشأنها: أنها ليست سوى الكلام الإسلامي عينه، وفي الحدّ الأدنى، هي القسم العقلي من علم الكلام، لا شيئاً آخر منفصلاً عنه.

نعم، ثمة احتمال رابع يمكن تصوّره، ولإيضاحه نقول: يمكن دراسة أيّ موجود أو ظاهرة عبر المنهج العقلي والبرهاني، ومعنى ذلك أنه يتسنّى لنا تناول أيّ قضية تناولاً برهانياً، لكن حيث كان عمر الإنسان وطاقاته محدودة، كان لزاماً عليه ممارسة انتقاء للموضوعات، لكي ينشغل بهذا البعض ويذر الباقي، وهنا إذا قام فيلسوف ما ـ وهو يمارس انتقاءه هذا ـ بالرجوع إلى الآيات والروايات، أي أنه انتقى الموضوعات التي سوف يسقط عليها الفعل البرهاني من القرآن والحديث ليدرسها ويخرج بنتائج حولها، نفياً أو إثباتاً، ففي هذه الحالة ستكون الجهود العقلية لهذا الفيلسوف مركّزةً على ملفات قرآنية وحديثية، مما يعني أن القرآن والحديث قد لعبا دوراً في تحريك هذا الفيلسوف نحو جهة محدّدة، مما جعل موضوعات فلسفته ومحاورها إسلاميةً، هنا: هل يمكن وفق ذلك تبلور علم نسميه بالفلسفة الإسلامية؟

ثمة أمران هنا:

الأول: لايستلزم أخذ صورة المسألة من الكتاب والسنّة أن تكون حلولها معترفاً بها من جانب الكتاب والسنّة نفسيهما، ولذلك من الممكن ظهور فلسفة إسلامية، بالمعنى الرابع، تكون موافقةً للتعاليم الإسلامية، كما من الممكن ظهورها مخالفةً لها، وعلى أية حال فلا معنى لاكتساب هذه الفلسفة صحةً أو قداسة من مجرّد نسبتها إلى الإسلام، بعيداً عن أن أحداً لا يبرّر ولا يصوّب تسمية فلسفةٍ ما بالإسلامية مع كونها مخالفةً لتعاليم الإسلام.

الثاني: إذا أردنا اعتبار ما نتج منذ عصر الكندي حتى اليوم فلسفةً إسلاميةً بالمعنى الرابع، فلابدّ لنا من البحث في أن الموضوعات التي تناولتها هذه الفلسفة قد جاء الحديث عنها في الكتاب والسنّة أم لا؟ وهل كان هناك اهتمام ديني بها؟

أعواني: ثمة فلسفة مستقلّة باسم الفلسفة الإسلامية، مع الفلاسفة ومدارسهم الخاصّة، والفرق بين الفلسفة الإسلامية والكلام الإسلامي إنما هو ـ كما أشار إلى ذلك القدماء ـ في المبادئ نفسها، بمعنى أن المتكلّم في أيّ دينٍ من الأديان ملتزم بمبادئ الوحي والشريعة في ذلك الدين، أما الفيلسوف، فهو غير ملتزم بذلك رغم اعتقاده بتلك المبادئ.

في الوقت عينه، هناك اشتراك في عدد كبير من المسائل بين الفلسفة والكلام، إلاّ أن العلمين مختلفان في المنهج وفي استقاء المبادئ، فالمتكلّم حيث كان ملتزماً بأساسيات الوحي، صار مضطرّاً للدفاع عنها، وحيث كانت للدين ـ أيّ دين ـ عادةً مذاهب مختلفة، كان المتكلم ـ أحياناً ـ مضطراً كذلك لمتابعة نظريات فرقته الخاصة وعقائدها، فالمتكلّمون في المسيحية مثلاً إما بروتستانت أو كاثوليك أو أرثوذوكس، وكلّ واحدة من هذه الفرق تنشطر بدورها إلى مئات الفرق الأخرى، وأكثرية المتكلّمين يتبعون فرقةً من هذه الفرق، وكثيراً ما يُطبع الكلام عندهم بذاك الطابع العام الذي تحمله فرقهم ومذاهبهم، علاوةً على أن المتكلّم البروتستانتي مرفوض من جانب الكاثوليك والعكس هو الصحيح، وهذا هو تماماً ما يحصل داخل هذه الفرق نفسها.

أما الفلسفة، فحيث لا تشرط نفسها بالالتزام بالوحي، لا تكتسي ثوب المذاهب والفرق، ولا تعتورها الأحداث التي تحدّثنا عنها، فالحكمة تدرس علم الحقائق أعمّ من كونها مشروطةً بأخذ أو رفض فرقةٍ أو أخرى.

أما السؤال عن كيفية اكتساب الفلسفة وصف الإسلامية، وكيف يمكن لنوعٍ من الفلسفة أن يسمّى بالفلسفة الإسلامية؟ أليس في هذا الوصف تعارضاً وتناقضاً؟ فالجواب عنه: إن الفلسفة ـ من وجهة نظر الحكماء المسلمين ـ علم مطلق في نفسه عارٍ عن كلّ قيد أو شرط، عدا الوصول إلى حقائق الأمور، فهذا هو القيد الوحيد الذي قبله الحكماء المسلمون لها، إلاّ أن الفلسفة ـ مع ذلك ـ قد تكتسب قيوداً وحدوداً أخرى ناتجة عن حيثيات واعتبارات مختلفة، فنحن نقول مثلاً: الفلسفة اليونانية، والفلسفة التحليلية، والفلسفة الصينية، والفلسفة المسيحية، والفلسفة الانغلوسكسونية، والفلسفة التجربية و..، وإضافة هذه القيود إنما كانت لأمور تتصل بظهور تلك الفلسفة لا بحقيقتها وماهيتها، وهذا تماماً كالقيود التي نضيفها إلى الإنسان فنقول: إنسان أبيض، وإنسان أصفر، وإنسان آسيوي، وإنسان ما قبل التاريخ و.. إلاّ أن أيّاً من هذه القيود والأوصاف لا تأثير له على حقيقة الإنسان، بل تنظر هذه التقسيمات إلى الظواهر فقط.

فإضافة قيد الإسلامية إلى الفلسفة إنما جاء من حيث كان المفكّرون فيها مسلمين، وأنها ظهرت في الحياة الإسلامية والحضارة الإسلامية، وهناك نمت وترعرعت، حتى صارت من مفاخر هذه الحضارة.

من جانب آخر، الحكمة بمعناها المطلق، لا المقيد، هي إسلامية بذاتها، وبناءً عليه، فإضافة قيد bالإسلاميةv إلى bالفلسفةv لا يفضي إلى أيّ تعارض.

 

هل التعرّف والاطلاع على النظم الفلسفية والكلامية الأخرى إنما ينفع ـ فقط ـ لدفع الشبهات الواردة منها أم أنه أمرٌ ضروري لفهم ديننا نفسه ومذهبنا؟

أعواني: إذا كانت هناك شبهات فمن المسلّم أن هذا الاطلاع سوف ينفعنا في الردّ عليها، إلاّ أنّه من الممكن أن يكون نافعاً أيضاً في فهم الدين أو المذهب، والموضوع يختلف في النظم الفكرية والكلامية المتنوّعة.

ملكيان: أعتقد أن هذا الاطلاع على النظم الفلسفية والكلامية الأخرى لن تقف فائدته عند دفع الشبهات وردّ الاعتراضات، بل سيكون له نفع أيضاً في حصول فهمٍ أكثر عمقاً لديننا ومذهبنا، بل هو من هذه الناحية أمر ضروري.

قد نكتشف بمواجهتنا لآراء أخرى ونظريات بعضَ نقاط الضعف في آرائنا ونظرياتنا، كما قد نكتشف نقاط القوّة في الرأي الآخر، ولا شك في أن دفع نقاط الضعف في رؤيتنا، وجذب نقاط القوّة التي يتمتّع بها الفكر الآخر، ليس فقط حقاً وصواباً، بل هو وظيفة وتكليف ملقى على عاتقنا، قال تعالى: >فَبَشِّرْ عِبَادِ * الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ< الزمر: 17 ـ 18، وكلّما ازدادت عملية الدفع والجذب هذه، زاد وعينا للدين عمقاً، بل وقرباً إلى الواقع، سيما الاطلاع على الآراء الدينية والمذهبية لأتباع الديانات الإبراهيمية الأخرى، إذ هو فرض واجب علينا نحن المسلمين، ذلك أن الكثير من الآيات والروايات ناظر إلى آراء هذه الأديان، ومن دون معرفتها لن نحصل على فهم أوضح أو مفهوم جليّ للآيات والروايات نفسها.

داوري: إن معرفة النظم الفلسفية والكلامية أمر لازم لفهم العالم الذي نعيش فيه ووعي الإمكانات التي نملكها، فلا يمكن لأيّ إنسان أن يعرف ردّ أيّ قولٍ أو قبوله قبل الاطلاع عليه والدراية به، لكي يوظف ذلك في دعم آرائه ونظرياته ومنحها القوّة والاستحكام.

لا ينبغي تعلّم العلم بوصفه وسيلة، إنما بهدف الفهم، لكي نحصل على فوائد منه عندما يكون مفيداً، ونتجنّب أضراره عندما يكون مضرّاً، من هنا لا بدّ من فهم الفلسفة والكلام وأن تقوم عملية الأخذ به أو الردّ على أساسٍ من الفهم نفسه، فالذي يدرس الفلسفات ونظم المتكلمين الفكرية بهدف ردّ الشبهات يمكن أن يغدو عالماً فاضلاً، أو أن يوظف ما تعلّمه في إطار الجدل والمناظرة، إلاّ أن التضلّع في الدراسات الكلامية والفلسفية إنما يحصل عندما لا يحمل المتعلّم في قرارة نفسه أيّ غرض خاصّ له من وراء تعلّمه.

وفق هذا الأساس، ستقوم دراستنا للفلسفات وعلوم الكلام في العصر الحديث والمعاصر، إذ ذلك واجب وضروري كي نفهم العالم الذي نحيا فيه أو نعيش في سجنه، ومن دون ذلك سيغدو ترويج الدين أمراً عسيراً بالغ الصعوبة، فلابد أن يكون هناك فريق في الحدّ الأدنى مهمته القيام بمثل هذه الخطوة.

لغنهاوزن: من البديهي أن تغدو معرفتنا بعقائدنا عميقةً عندما نضعها في سياق الأخذ والردّ وفي إطار المعمعة الجدلية، ثم نهبّ للدفاع عنها، إضافةً إلى ذلك لمقارنة النظم العقدية المختلفة قيمةٌ علمية وتربوية خاصة، إلاّ أن الدراسات المقارنة تحوي خطر الانحراف عن ديننا أيضاً.

إنه ادعاء معقول ومنطقي أن يقال: ثمة عالم قضى عمره في درس الإسلام ومطالعته إلاّ أنه لم يفهمه بعدُ حتى اللحظة، مع أنه جاهل تماماً بالأديان المقارنة، وبعلم الكلام والفلسفة الغربيين، مع ذلك يحصل على نوع من المعرفة يقدر على الوصول إليها عبر الدراسات المقارنة للإسلام، فمثلاً، هناك الكثير ممن كان يعتقد وما زال يدّعي أن الآراء والأفكار المتخذة من التراث اليوناني والسامي القديم غير منسجمة مع بعضها، ومهما كان واقع الحال فإن هذا الأمر لم يتم اكتشافه إلاّ عبر سبيل البحث الفلسفي والكلامي، من هنا لا نجد ضرورةً للدراسات المقارنة بالمعنى المطلق للكلمة بغية فهم الإسلام، إنما نرى ذلك لازماً للإجابة عن بعض المسائل الخاصّة المتصلة بالإسلام.

الفائدة الأخرى للدراسات المقارنة في فهم الإسلام ترتبط بموضوع التحوّل المفاهيمي، فمن الممكن أن تقع المفاهيم ـ وعلى امتداد الزمن ـ تحت تأثير التحوّل والصيرورة على مستوى المعنى، حتى أن بعض أولئك الذين يستخدمون هذه المفاهيم لا يعرفون أنها خضعت لتحوّلات، فمثلاً كلمة bالتقوىv الواردة في القرآن والحديث لها معنى خاص، قد لا يتساوى أو يتّحد مع الفهم العام لآحاد الناس في بلدٍ ما لها، وهنا ثمة خطر يظهر متمثلاً في احتمال أن يخرج الباحث باستنتاج يفهم الكلمة عبره وفق الفهم العرفي العام لها، وهو لا يشعر بخطئه هذا، ومن الباب عينه أولئك المتأثرون بالليبرالية الغربية، حيث يسقطون المعنى الغربي للعدالة تدريجياً عليها، والحلّ الوحيد لتجنّب مثل هذه الأخطاء والبقاء بمأمن عن ألوان الصيرورة هذه هو عبارة عن الدراسات الجادة لمصطلحات وألفاظ النصوص الدينية الإسلامية.

إنه لخطأ فاحش أن نظن أن بإمكاننا تجنّب التأثيرات السيئة للبناءات الفكرية للطرف الآخر عبر التغافل عنها أو التعامي؛ ذلك أن هذه الأفكار والآراء المنافسة من الممكن أن تُخضع عدداً من الناس لتأثيراتها من حيث لا يشعرون، وذلك عندما تنتشر على المستوى العام بين الناس، وتلامس شرائح المجتمع الثقافية المتعدّدة.

 

تفسير مناهضة الكلام في التراث الديني  ـــــــ

كيف تحلّلون مناهضة بعض المفكرّين وعلماء الدين لعلم الكلام؟

سبحاني: في الحقيقة، لمخالفة هذا الفريق جذور تاريخية تعود بداياتها إلى مدرسة أصحاب الحديث، فمنذ أواسط القرن الأول الهجري ظهرت هذه الجماعة، وغالباً ما كانت مناصرةً لعثمان بن عفان، وقد ساهم بنو أمية في تقوية هذا التيار، فصار مانعاً عن ممارسة أيّ لون من ألوان البحث العقلي، بل إن المقولة القاضية بطرح العقل جانباً، وملازمة ظواهر القرآن والحديث، إنما نشأت من مدرسة أصحاب الحديث نفسها، وروّجها بنو أمية، لهذا كانوا معارضين للقدرية، فظلّوا ـ على امتداد التاريخ القدري ـ مهتمّين بنفي القدر فيما لم يكن الحال كذلك، فقد كانوا يذهبون للقول بحرية الإنسان وهو ما رفضه بشدّة بنو أمية بل حاربوه، من هنا عرّفوا القضاء والقدر بالمعنى الذي يسلب الاختيار، وكان هناك بسطاء ظنوا أن هذه هي حقيقة الدين.

لديّ كتاب اسمه bالعلاقة بين الإثبات والتفويضv طبع مؤخراً في مكّة المكرّمة، جمعت فيه كلمات للسلفيين تدلّ على ضرورة قراءة القرآن، إلاّ أننا لا نملك الحق في التفكير بمسائله، من هنا جاؤوا عند مالك بن أنس وقالوا: ما معنى >الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى<؟ فأجابهم: bالاستواء معلوم، والكيفية مجهولة، والسؤال عنه بدعةv.

وقد تطوّر الوضع أن اكتسب الإعراض عن البحث في الموضوعات العقلانية طابعاً خاصّاً، كان مقدّساً ذلك الذي لا يهتمّ بهذه الأمور، من هنا لا تجد للصحابة ـ غير أمير المؤمنين وأهل البيت وابن عباس ـ بحثاً معرفياً، لا في الطبري ولا في الكتب الأخرى.

أما منشأ هذا الفكر، فقد كان مرجع بعضه إلى بني أمية، وبعضه الآخر استمدّ من مجموعة من الروايات التي استقيت من الأحبار والرهبان، فقد كانوا غير متوالفين مع العقل، إلاّ أن واقع الحال فرض العقل داخل البحث الديني، فقد أثيرت مسألة رؤية الله، وهل يضع الله رجله في جهنّم فتهدأ؟ وحيث كانوا غير متفاعلين مع العقل ـ فيما كان المعتزلة عقلانيين، ولهذا ردّوا هذه الروايات ـ وقف أهل الحديث ضدّ الاعتزال، ونادوا بضرورة قراءة القرآن فقط، كما أعلنوا أن وظيفتنا هي العبودية لا فهمها.

وهذا الأمر ظهر بين الشيعة أيضاً على صورة المدرسة التفكيكية، فإذا كان المقصود من التفكيكية أن اللازم علينا أخذ عقائدنا من المعصوم دون غيره، فلا أحد ينكر هذا الكلام، فإذا دار الأمر بين أن آخذ عقائدي من الإمام الصادق % أو آخذها من الملا صدرا الشيرازي (1050هـ)، فإنه من الإهانة للإمام الصادق % أن نذكر معه اسم الملا صدرا، فإذا كان هذا هو طرحهم فإننا نرى الحقّ تماماً معهم.

أما إذا طرحت نظريتهم بشكل آخر، وهو أن الآيات والروايات ليست برهانيةً، وأنّ علينا تعطيل العقل والاقتصار على فهم الآيات، كأن يدّعي شخص بأنني أفهم نهج البلاغة من دون العقل فإنه يقول كاذباً، فنهج البلاغة لا يمكن فهمه دون البراهين العقلية، لا أقول: دون فلسفة الملا صدرا، بل أقول: دون البراهين العقلية. إن الخطبة الأولى من نهج البلاغة، والتي جاء فيها: bحقيقة التوحيد نفي الصفات عنهv ستغدو غير صحيحة إذا ما أصرّت المدرسة التفكيكية على ضرورة عدم تحويل قضايا الدين إلى قضايا برهانية، وعدم إعمال العقل فيها، وأننا لا نملك عقلين: أحدهما فلسفي والآخر غير فلسفي.

سمعت مؤخراً أن الميرزا مهدي الإصفهاني ) قد عدل عن هذه النظرية، وهذا ليس إلاّ مجرّد سماع، لكن على أيّ حال نحن نترحّم ونسلّم على روح هذا الرجل الكبير وأرواح تلامذته، وهم من الرجال الكبار والعلماء البارزين، إلاّ أننا نرى أن المدرسة التفكيكية لابد أن توضّح أكثر من هذا القدر.

لغنهاوزن: ثمة أسباب عديدة لمناهضة المفكّرين وعلماء الدين لكلّ من الفلسفة والكلام، كما أن الأسباب متشابهة لدى الفريقين، فبعض علماء الدين ـ ليس في الإسلام فحسب بل في سائر الأديان أيضاً ـ إنما ناهضوا علمي الفلسفة والكلام انطلاقاً من كونهما يؤكّدان على تحليل محتوى القضايا الدينية، فيما يرون أن العقائد الأساسية للدين بسيطة وواضحة، والمهم ـ عندهم ـ هو العمل بالدين عن طريق الطقوس والشعائر، وإطاعة القوانين، والجهاد وغيره.

ويذكّرني هذا الموضوع بقصة مع الأستاذ لن. أي. غود من مدرّسي فلسفة اليهود والإسلام في جامعة هاواي، فكلّما كان يريد العثور على رسائل هامة أو هي الأهم، كتبت في الديانة اليهودية حول الدين، كان يتجه ناحية حاخام يهودي معروف، ليقول الحاخام له: إن مثل هذه المصادر غير موجودة في دين اليهود.

الشكل الآخر للمناهضة الدينية للفلسفة والكلام يتبلور عبر وجود فهم محدودٍ نسبياً عن هذين العلمين، حيث يصبحان ـ طبقاً لهذا الفهم ـ متقارنين مع مجموعة عقائد خاصة، وكأنه لا يمكن التفكيك بينهما وبين تلك الأفكار والآراء، وهذا ما حصل مع الغزالي (505هـ) في كتاب bتهافت الفلاسفةv، ليردّ عبره علم الفلسفة.

أبرز مواجهة بين الفلسفة والكلام نجدها في موقف الغزالي، كما أن أشهر دفاع عن الفلسفة ضدّ هجوم الغزالي كان جوابات ابن رشد الأندلسي الفيلسوف، ويمكن العثور على الكثير من المواقف التي تدافع عن الفلسفة وتنتقد طريقة التفكير الكلامية، ومن أبرز النماذج الراقية في سياق الدفاع عن الفلسفة والعرفان ما جاء عند صدر المتألهين في رسالة الأصول الثلاثة التي دوّنها باللغة الفارسية، فقد عزا مناهضة العرفان والفكر الفلسفي إلى الجهل بالذات، وحبّ الدنيا، وتضليل النفس واستغبائها.

يلفت ريتشارد فرانك (الجامعة الكاثوليكية في أميركا) نظرنا بالقول: bيمكن تلخيص مركز الاختلاف والتعارض بين الكلام والفلسفة وأسبابه في أن المفهوم العام التقليدي الأرسطي، الذي ارتضاه الفلاسفة، ]ثم بعد ذلك العرفاء[ قائم على أن كلّ ذات تميل إلى الكمال في تحقيق فعليّتها ووجودها، كما أنّها تبحث عنه وتتجه إليه، وفعليّتها هي التي تجلّي وجودها، وكلّما صار أيّ وجودٍ أكثر كمالاً قلّت الغيرية والصيرورة فيهv ([1]).

وهكذا الحال في العصر الراهن؛ إذ نجد من يناهض الفلسفة والكلام الإسلاميين، ومبرّرهم في ذلك أن جماعة قد انحرفت بسبب الآراء الفلسفية اليونانية، إن أولئك الذين درسوا الفلسفة الغربية المعاصرة ربما شعروا بالخجل أحياناً عندما يجدون أن الفكر الإسلامي في إطار منفلت عن القيود والشروط أكثر التصاقاً بالأفلاطونية المحدثة منه بمناهج الفلسفة الغربية المعاصرة التي يرتضونها ويرغبون بها.

وأجد ـ من جهة الاحتياط ـ ضرورة الإشارة إلى نقاط:

أولاً: من الضروري الالتفات إلى عدم الخلط بين التراث الكلامي والفلسفي الإسلامي من جهة وآراء متكلّمٍ ما أو فيلسوفٍ ما ترجع إليه، وهذا بالضبط ما وقع فيه الغزالي في سياق ردّه للفلسفة.

ثانياً: لا يمكن رفع الأضرار الناجمة عن الفكر اليوناني عن طريق الإطاحة بموروثنا نحن المسلمين، إنما يحصل ذلك ويتسنّى عن طريق عمل دقيق وجهد مضنٍ لاكتشاف الآراء الخاطئة، والتدليل على كيفية ردّها أو استبدالها بغيرها، وهو ما يحسب بسطاً للموروث لا حدّاً منه.

ثالثاً: يجب الاهتمام بالحقيقة القائلة: إن الكلام والفلسفة الإسلاميين يختلفان أو ينفصلان عن الفكر الغربي الحاضر، واعتبارها حقيقة مسلّمة؛ إذ ذلك ما يمكن أن يؤمن لنا طريقاً بديلاً للنظريات الغربية المعاصرة، من هنا تمنحنا هذه المعرفة بالآراء المختلفة فرصةً كبيرة للكشف عن منشأ الأخطاء والمغالطات، كما تعطينا مجالاً لمزيد من النضج والنموّ والصيرورة في الطرفين المتنافسين.

داوري: لا يخالف علماء الدين ومفكّروه الدفاعَ عن الدين، إنما لا يرون علم الكلام دفاعاً، وإذا ما اعتبروه كذلك قدّروا المتكلّمين وجهودهم، إن الكثير من علماء الدين ورجال الفلسفة وأصحاب المعرفة لا يجدون ثقةً بعلم الكلام تخوّلهم الاعتماد عليه، وفي أسئلتكم ملامح شك في نفعية هذا العلم.

وفي الحقيقة، لو كانت نتائج علم الكلام معلومةً، واستطعنا الوصول إلى حكم شبه قاطع حول ميزان فائدة هذا العلم بالنسبة للدين وضرره، لأمكن حينئذٍ رفع هذا الاختلاف، والذي يبدو أن الفريق المخالف من علماء الدين ـ قديماً وحديثاً ـ لا يرى فيه فائدة، أي أنه عندما طرأ خللٌ ما على دين الناس وإيمانها لم يجدوا علم الكلام جديراً بتحمّل مسؤولية الدفاع، بل رأوا أن المتكلّمين ربما عقّدوا الأمر وأشكلوه أكثر من الحال التي كان عليها.

إلاّ أن علم الكلام في العصر الحاضر اتخذ صورةً جديدة، فغدا للمتكلمين سعي حثيث لتكوين وعي جديد بالدين، ومن الطبيعي أن لا تتطابق آراؤهم ونظرياتهم وتفاسيرهم للدين مع النظريات والعقائد والتفاسير الرسمية له، من هنا يناهض علماء الدين الرسميون هذا النوع من التفاسير، ويرفضونه بشكل حاسم.

ملكيان: أعتقد أن أموراً ثلاثة ـ مجتمعةً أو مجتمعاً بعضها ـ كانت السبب وراء مخالفة جمع من المفكّرين وعلماء الدين لعلم الكلام وهي:

الأول: يَعدُ علم الكلام بأنه سوف يلعب دور الدفاع العقلاني عن الدين، إلاّ أنه من غير البعيد ]من وجهة نظر هذا الفريق[ أو من المحتمل احتمالاً كبيراً أن يعجز هذا العلم عن القيام بهذا الدور، وإذا ما حصل ذلك فسوف تكون له نتائج ومردودات سلبية جداً على تديّن عامة الناس.

الثاني: لو افترضنا أن هذا العلم نجح في تخطّي المشكل الأول، إلا أنه يضع ـ على أية حال ـ المؤمنين في إطار الكثير من البدع والشبهات، فيعرّفهم عليها، مما يزيل السكينة والطمأنينة السابقة التي كانت عندهم.

الثالث: إن الأنس بعلم الكلام والاعتياد عليه يجّر الإنسان ـ تدريجياً ـ إلى تصوّر أن وظيفته الوحيدة ومسؤوليته الفريدة التغلّب على الخصم في الدين والمذهب، أي أنه يتوهّم أنه يكفيه أن يخرج منتصراً من مسلسل المجادلات والمناظرات العقدية، وهو خيال باطل، إذ النجاة والفلاح لا يمكن أن يتمّا إلاّ عن طريق الإيمان والتقوى والورع والعمل الصالح.

أعواني: تختلف جهات المعارضة التي يبديها المفكّرون وعلماء الدين لعلم الكلام ومنطلقاتها، فقد منع بعض علماء صدر الإسلام من الخوض في القضايا التي لم يخضها الصحابة والتابعون، معتبرين ذلك نوعاً من البدعة في الدين، أما منطلق معارضة الحكماء والفلاسفة لهذا العلم فنغلّب نشوءه من اعتماد المتكلّمين منهجاً هو بالجدل أشبه منه بالبرهان، وقلّما يركّز المتكلمون هدفهم على فهم حقائق الدين فيما يصبّون قصارى جهدهم لإلزام الخصم وإسكاته وتبكيته، أو للدفاع عن موقف خاص اتخذوه، معتبرينه أصلاً مسلّماً غير قابل للإثبات.

أما الملاحظة التي يسجلها بعض العرفاء على علم الكلام فتتلخّص في اكتفاء المتكلّمين بالعبارة، وانصرافهم عن الحقائق واللطائف والإشارات المستكنّة في الوحي الإلهي، إنهم يرون أن القضايا التي يتناولها علم الكلام لا تساعد كثيراً على فهم حقائق الدين، والملاحظة الأخيرة يسجّلها العرفاء أيضاً على الفلاسفة أنفسهم، ذلك أنهم يرون أن المعرفة الحقيقة للدين إنما تأتي عن طريق التخلّق والاتباع.

إلاّ أن المشهد لا ينحصر بهذا الشكل، فللمتكلمين ملاحظاتهم على الفلاسفة والعرفاء، وحقيقة الأمر أن للفئات الثلاث سهمها الهامّ في الدين، وأن لديها جميعاً إمكانات مختلفة لفهمه، لكن مع ذلك ثمة ترجيح لبعضها على الآخر، ويمكنني القول: إن المتكلّمين ـ من وجهة نظر نسبية ـ كان لهم سهم وافر وهام في الثقافة الإسلامية، وكانوا المدافعين عن فلسفة الدين أيضاً.

 

هل النزاعات الدينية قابلة للحسم؟  ـــــــ

لماذا تفتقد النزاعات الكلامية بين علماء الكلام في الأديان والمذاهب إلى حسم وفصل، فلا نجد لها نهاية؟

لغنهاوزن: لو فرضنا أن الاختلاف بين متكلّمي فرقة واحدة في دين واحد لم يعرف ولا يعرف النهاية، فلا ينبغي استغراب أن الاختلاف بين الأديان المتعدّدة لن يقبله كذلك، وما أكثر ما ترشد الأديان إلى طريقة الحقيقة، إلاّ أن الإسلام هو الذي يدلّ على الصراط المستقيم فيما تغدو الأديان الأخرى غير مستقيمةٍ بشكل أو بآخر.

عندما تصبح الخلافات الكلامية داخل الإسلام أو فيما بينه وبين الأديان الأخرى دليلاً في البحث الفلسفي والدراسات العلمية الجادّة، ستكون هذه الخلافات بالتأكيد ذات قيمة هامة، ذلك أنها تساعدنا لفهم ذاتنا بشكل أعمق، أما عندما تتحوّل إلى هراوات سياسية؛ ليتم عبرها إعلان هزيمة الخصم أو ارتداده فإنها سوف تفقد قدرتها على إرشادنا للحقيقة.

سبحاني: أولاً: الاختلاف بين البشر أمر ذاتي، فلا يمكن حلّ اختلافات الفكر بشكل واحد، ذلك أن الظروف الزمكانية والتربوية تختلف بين الناس أيضاً، فالكثير من هذه الأفكار تتبع المثل التي يحملها الناس.

ثانياً: إن ألواناً عديدة من التعصب تحول دون حلّ الكثير من القضايا الفكرية، خذ على ذلك مثال الفرقة الوهابية، إنني أعتقد أن الموضوع الوهابي موضوع قابل للحلّ في جوّ هادئ وسليم، فأكثرهم يعرفون أن ما يجري عند القبور والمراقد ليس عبادةً، كما هو الحال في الجوّ الهادئ الذي يحكم الحياة المصرية، إذ أدخلوا أربعة قوانين شيعية في الأحوال المدنية، وهذا معناه أنه عندما يكون هناك جوّ هادئ فإن الاختلاف سوف يزول ويتلاشى، لكن على نطاق جزئي لا كلّي، وحتى الخلافات الفقهية الموجودة فيما بيننا يمكن لها أن ترى الحلّ أو أن ينقص عددها وحجمها في ظلّ مناخ هادئ ومنطقي ومعقول.

أعواني: إذا وافقنا على أن إحدى وظائف علم الكلام هي الدفاع عن الدين، ولاحظنا أن كل دين يعدّ نفسه ديناً كاملاً، فمن الطبيعي أن يهبّ كلّ متكلّم للدفاع عن دينه الخاصّ مقابل الأديان الأخرى، إلاّ أن المتكلّم قد يرى نفسه ـ من جهةٍ أخرى ـ ملزماً بالدفاع عن عقائد فرقةٍ خاصة داخل هذا الدين في مقابل الفرق الأخرى، مما يفضي إلى وقوع الاختلاف وتفاقمه.

من ناحية أخرى، يعدّ فهم الدين أحد وظائف علم الكلام، إلاّ أن هذا الفهم للدين والوحي ليس فهماً مطلقاً، بل غالباً ما يكون فهماً مقيّداً، وأحياناً نسبياً، وهذا ما يسبّب الاختلاف في الآراء الكلامية داخل الدين الواحد، مما يدفع أصحاب الرأي ورجال الفكر لدى كلّ جماعة للانشغال بألوان الجدل والنقاش فيما بينهم.

ويمكن القول ـ بشكل عام بعيداً عن خصوص علم الكلام ـ: إنّ التقيد مقابل الإطلاق والكلية أحد أبرز علل الاختلاف في الدين داخلياً، كما هو أحد أسباب اختلاف المدارس الفكرية والفلسفية كذلك.

داوري: عندما توجد الأديان والاعتقادات المختلفة فمن الطبيعي أن تظهر ألوان الخلاف والتنازع بين المعتقدين بها، سيما عندما يكون لكلّ فريق علم كلام خاص به، نعم، إذا جاء اليوم الذي يتبع فيه الناس جميعاً ديانةً واحدة فإن الخصومات والنزاعات الفكرية سوف تتلاشى، إنني أفهم من سؤالكم أنكم ترون الأصل في الاتفاق والاتحاد، فيما تقع الاختلافات عندكم داخل إطار الأمور الطارئة، ومن ثم فلا بدّ من السعي لرفع أسباب الاختلاف وإزالة العوائق أمام الوحدة العقدية والاتفاق الكلامي، ولعلّ بإمكان البعض أن يذهب إلى أن وجود الجماعات البشرية المختلفة يمكن أن يصاحبه اختلاف في الآراء والمعتقدات، ومن ثم يعترف بهذا الاختلاف، ويرى أن من اللازم على الأطراف كافة تحمّل بعضها بعضاً، ومعنى ذلك اعتبار الاختلاف هو الأمر الطبيعي حتى على المستوى العقدي، لكنه يدعو إلى مزيد من التساهل.

إضافةً إلى ذلك، من الممكن أن يتصّور بعضهم أن بالإمكان وضع معايير حاسمة لتمييز صواب العقائد عن خطئها، ومن ثم وزن تمام الأفكار والمعتقدات طبقاً لهذه المعايير، كتمييز سليمها عن سقيمها، بغية الأخذ بالسليم منها وطرح الفاسد بعيداً، ومن الواضح أن العثور على معايير من هذا النوع ليس أمراً سهلاً ولا هيناً، لكن يمكن أن يعقد الإنسان أملاً على ذلك.

فريق آخر يذهب إلى جعل العقل معياراً لوحدة العقائد، نعم، فثمة صورة للعقل يمكنها أن تكون أساساً للوحدة في بعض المسائل، كما يقال عن العقل العلمي، ومنهج العلوم المتوافق عليه عند أهل العلم قاطبةً، إلاّ أن العقل لا ينحصر بالعقل العلمي، أو ما يسمّيه برغسون بالعقل التكنيكي المتصرّف بالمادة، وإذا كان هناك عقل يمكن أن يغدو معياراً لوحدة المعتقد، فلابد من اكتشافه، وإلاّ فليس كل عقل يمكنه أن يحظى بالمكانة هذه.

والأمر الذي يوصون به عادةً هو أن التوافق في القضايا العلمية توافق تعاقدي؛ ذلك لأنه يرجع إلى الأصول الموضوعة، تلك الأصول المعترف بها في العلوم، وإذا لم يكن في نطاقٍ معرفي ما أصل موضوع البتة فليس هناك من ضمانة في حصول اتفاق في الرأي، وإذا ما وقع الاختلاف فلا يمكن رفعه، كما يحصل في العلم بمعناه الحديث.

لكن مع ذلك، لا أتغافل هنا عن قضية رفع الاختلاف، كما لا أصرّ على ضرورة إبقاء النزاع، إلاّ أنني أعتقد بأن ما نملكه من وسائل وأدوات وما نتخذه من قرارات وإجراءات لا يمكنه أن يحقق صلحاً وتوافقاً تاماً في هذا العالم، والشيء الذي نراه في اليوتوبيا التي كتبت منذ القرن السادس عشر وحتى التاسع عشر الميلادي، والتي كانت تدّعي الصلح والاتحاد ورفع التنازع.. أنها لم تقم على أسس عقدية، بل لقد كان هناك من قالها بصراحة: إن تمام اختلافات الناس ناشئة عن الأيديولوجيا والنظم العقدية، وإذا ما نجحنا في تبديد هذه الأيديولوجيات فلن يبقى ـ بعد ذلك ـ من اختلاف.

لقد أراد الغرب رفع شبح التنازع البشري عبر إسقاط العقديات الإنسانية وتهديم الأيديولوجيات، أما اليوم وبعد ضمور الأيديولوجيات وسقوط وهج النظم العقدية في العالم إثر استيلاء الغرب عليه، وبعد نهاية الحروب العقائدية في العالم الغربي الحديث، لا نقول: لم ترتفع النزاعات فحسب، بل نرى أنها ما زالت نشطة في مختلف مرافق الحياة، حتى لاحدّ ولا فصل ما بين الحرب والسلام، وهذا معناه أن النزاع لم يشهد نهايةً رغم ما حصل كلّه.

ثمّة من يقول: إن النزاعات تنتهي بالعقل والعدل، ما أجمل هذا الكلام؟!! لكن أين هو العقل وأين العدل؟! وكيف يمكن الوصول إليهما؟! إن الحديث عن الحق والعدل والعقل سهل للغاية، فكل إنسان بإمكانه الإسهاب في ذلك، إلاّ أن مجرّد الكلام لا يكفي شيئاً، كما لا يُسمن ولا يغني من جوع.

ملكيان: يبدو أن هناك أسباباً ثلاثة تحول دون وضع حدّ ونهاية لظاهرة التنازع المتواصل بين المتكلّمين في الأديان والمذاهب:

السبب الأوّل: عوائق معرفية إيبستمولوجية، إذ ثمة في النصوص الدينية والمذهبية حديث عن أشياء لا نملك عنها سوى معلومات يسيرة لا تكاد تذكر، فالله، المَلَك، الشيطان، الجنّ، عالم الغيب، الوحي، المعجزة، البرزخ، القيامة، الآخرة، الجنة، والنار و.. من جملة هذه الأمور التي لا يملك البشر أدنى إطلاع عليها تقريباً عبر السبل المتعارفة لكسب العلم والمعرفة، سيما من بينها bاللهv، وهو أصل ومركز ومحور الفكر الديني برمّته، إنه موجود يتعالى كثيراً عن حدود القوّة العاقلة والفاهمة للإنسان.

إن هذا النقص والضعف والمحدودية العظيمة في معرفتنا بهذه الأشياء تؤدي إلى ضآلة ما يمكننا قوله عنها، وهذا ما يدفع ـ تلقائياً ـ إلى صعوبة وضع حدّ للخلاف حولها، فليس ذلك بالأمر الهيّن.

السبب الثاني: وهو سبب يعدّ معلولاً ـ بمعنى من المعاني ـ للسبب الأول، ألا وهو العوائق التفسيرية (معرفة المعنى)، فالألفاظ والكلمات والمصطلحات والمفردات التي تستخدم في النصوص الدينية تختلف في المعنى الذي تعطيه عادةً عن استخدامها في نصوص غير دينية، وبعبارة أخرى، ثمة الكثير من المفردات التي تشهد تطوّراً مضمونياً ودلالياً عندما تدخل مجال النص الديني، من هنا تكتسب لنفسها معاني جديدة يصعب تحديد نطاقها بالدقة، بل قد يكون ذلك أحياناً أمراً بالغ التعقيد والعسر، حتى أن بعض هذه المعاني الجديدة يغدو الرجوع معه إلى المعاجم اللغوية أمراً عبثياً.

وعلى سبيل المثال، لم تستخدم كلمات مثل: الإنزال، التنزيل، الكتاب، الوحي، البعث، الدين، الحساب، الساعة، اليوم، الإيمان، الكفر، الظلم، التقوى، الغيب، الدنيا، الآخرة، القضاء، الكلمة، والتوبة.. لم تستخدم في القرآن الكريم بمعانيها اللغوية تماماً، ومعنى ذلك أن الرجوع إلى مصادر اللغة لا يمكنه أن يوصلنا إلى تحديد معانيها في النص القرآني، مما يلزمنا بالرجوع إلى النص نفسه لتحديد معانيها، وهذا ما يجرّ نحو بروز اختلافات أو ظهور تقارب في وجهات النظر والتفسير، تلك الاختلافات التي لا يعدّ حسمها أمراً سهلاً أبداً.

السبب الثالث: الأحكام المسبقة والرؤى الدينية والمذهبية الضيّقة، ففي الكثير من الحالات يؤدي تصوّر المتكلّم نفسه ودينه ومذهبه هو الحق فيما البقية ظلام وعتمة وضلال.. يؤدي إلى عدم ممارسة دقة ودراسة وافية في وجهات نظر الأطراف الأخرى، مما يعجزه عن فهمها ثم يذره محروماً من وعيها بصورة وافية، وحيث لا يبلغ مراد الآخرين يصرّ على وجهة نظره ويزعم أنها الحق كلّ الحق، وهذا ما يمنع حسم النزاع وفضّ الاشتباك.

ولرفع هذه الأحكام المسبقة المسقطة والأفق الضيق المحدود من الضروري ـ قبل كلّ شيء ـ معرفة أن الحقيقة أرفع وأسمى وأثمن من أيّ دين أو مذهب بعينه، وإذا ما اكتسب ديني أو مذهبي الذي أدين به قدراً ومكانةً وقيمة حتى ألزمني بالدفاع عنه، فليس ذلك سوى لاحتوائه قدراً من الحقيقة وقسطاً منها.

*    *     *

الهوامش



(*) د. مصطفى ملكيان أستاذ جامعي بارز، وأحد أكبر منظري الإصلاح الديني في إيران، يحمل نـزعةً إيمانية لا تركّز على مفردات العقيدة بقدر مبدأ العلاقة الروحية مع الله، له نقد على نظرية القبض والبسط للدكتور سروش، وهو مترجم عن اللغات الأجنبية، أما الدكتور محمد لغنهاوزن، فهو باحث أمريكي مسلم، وأستاذ في جامعة الإمام الخميني في إيران، أما الدكتور غلام رضا أعواني فهو أستاذ الفلسفة الغربية في جامعة طهران، وكانت له حوارات عدّة مع المستشرق هنري كوربان، وأما الشيخ جعفر السبحاني فهو من أبرز علماء الكلام المعاصرين في إيران، وصاحب مؤلفات كثيرة جداً، وأما الدكتور رضا داوري فهو أستاذ الفلسفة الغربية في جامعة طهران، ورئيس مجمع العلوم الإيرانية..



[1] ــــ كلام فلسفي إسلامي، ألبانيا، ALbanyi Suny press، 1979، P. 75 – 76.

Facebook
Twitter
Telegram
Print
Email

اترك تعليقاً