أحدث المقالات

نظرة إلى التعددية في الأديان

عبد الحسين خسرو بناه

 

سعة ساحة الحوار والنقاش العلمي من العوامل المؤثرة في إغناء العلم والمعرفة في المجتمع، وإن النمو الكمّي والكيفي لأي فكر هو وليد تضارب الآراء، وتبادل الأفكار. وتكامل علم الكلام أيضاً ليس إستثناءً من هذه القاعدة. وقد أتيح هذا المجال – بلطف الله – لمجتمعنا بعد انتصار الثورة، فاتسعت المساحة بشكل أكبر من خلال طرح الآراء والعقائد المختلفة في مجال علم الأديان وعلم الكلام الإسلامي، وخرجت هذه العلوم من حالة الخمود والجمود. وهذا النوع من التحرك العلمي أدى إلى التعمق أكثر في أدلة وبراهين معرفة الله، وإلى دخول مسائل جديدة إلى ساحة علم الكلام الإسلامي مثل: الوحي والإيمان، ومعيار الصدق في القضايا الدينية، ومسألة اللغة الدينية، وتعددية الأديان، وغير ذلك.

وهذه المقالة تحاول باختصار توضيح وتبيين ونقد الآراء المختلفة في مجال  الوحدة والكثرة في الأديان، رغم أن تفصيل ذلك يحتاج إلى فرصة أخرى، ومقالات متعددة.

إنّ التعددية (Pluralism) مذهب واتجاه يعتبر أن أساسه، ومبناه هو التعدد، والميل نحو الكثرة، والتعدّدي (Pluralist) هو الشخص الذي يؤمن بالكثرة، ووجود أكثر من حقيقة مطلقة، في مقابل من يعتقد بالوحدة، ويميل نحو نوع من الحصرية الدينية. وقد قسّم مذهب التعددية هذا إلى: تعددية أخلاقية، وسياسية، ودينية.

التعددية الأخلاقية تعتبر أن هناك أكثر من مبدأ، ومعيار للحسن والقبح. مما يعني نسبية الأخلاق، وتبعاً لذلك ضرورة التسامح والمداراة في ساحة العمل الفردي والجماعي. والتعددية الإجتماعية هي إحدى مباحث فلسفة العلوم الإجتماعية، وهي تعتقد أن المجتمع قائم على أساس مجموعات قومية، أو عرقية. والتعددية السياسية هي أحد المبادئ الأساسية للديمقراطية الليبرالية، وهي تؤمن بتقاسم السلطة السياسية بين الجماعات والمنظمات المستقلة عن الحكومة لتشارك في الساحة السياسية.

في العصور الماضية لم تكن الأديان والمذاهب تتعرف إلى بعضها، وإذا كان هناك فعل أو ردّ فعل فيما بينها كان عادة قائماً على نوع من التعارض والصراع الديني، وقلّما كان هناك بحث وحوار بينها للوصول إلى معرفة عميقة أو للوصول إلى تفاهم. لكن القرن الأخير شهد بحوثاً علمية من أجل الوصول إلى معرفة أدق بالأديان، وكان أول دواعي هذه البحوث وجود الدعاوى المتعارضة بين الأديان، وفي النتيجة دخلت إلى فلسفة الدين مسألة جديدة.

وإذا أردنا أن نتكلم بشكل ملموس أكثر، فإننا نواجه هذا السؤال: مع وجود فرضية قبلية هي الحصرية (Exdusirism) في الأديان السماوية وغيرها، كيف يمكن أن نفتح طريق الفلاح بالنسبة لسائر الأديان؟

 

فمن البديهي، أن أي شخص يولد في أي بلد، سيختار الدين والمذهب السائد هناك ويتبعه، وآراء جميع الأديان تختلف في باب غاية البشر وسعادتهم، وفي تبيان الحقائق المتعلقة بالله والإنسان.

يقول جون هيك (Jhon Hick): "يعتقد البعض، أن كل دين يستدل بعدة أدلة يثبت صحته، وهكذا يحكم بعدم صحة الدين الآخر، وبالنتيجة، فإن كل دين يمتلك دوماً أدلة أكثر من أجل إثبات عدم صحة ذلك الدين"([1]).

والأهم من كل ذلك، أن أي متكلم يدرك بشكل بديهي حقيقة أن هناك أديان، ومذاهب أخرى غير دينه ومذهبه، وعليه أن يبدي وجهة نظره تجاهها، وأن يعرف خصائصها المميزة لها والمشتركة مع غيرها، وأن يوازن بينها من خلال تحديد صحتها، وسقمها، وأن يستخدم الأساليب الحكيمة المقبولة للدفاع العقلائي عن المعتقدات الدينية الموجودة في النصوص المقدسة لدينه، وأن يجيب بشكل منطقي على الشبهات والاعتراضات التي يطرحها أتباع سائر الأديان والمذاهب، وعليه أن يجيب على هذه الأسئلة: هل هناك طريق محدد للفلاح والسعادة وبلوغ الحقيقة من خلال جميع الأديان أم لا؟ وهل يمكن افتراض وجود جوهر واحد لجميع الأديان؟ وهل يمكن التوفيق بين الآراء المتضاربة للأديان من خلال الحوار أو النسبية، أوما شابه ذلك؟

والأمر الذي يستحق الاهتمام هو أنهم قسّموا التعددية الدينية إلى قسمين: داخل الدين، وخارج الدين. التعددية داخل الدين الواحد تعتقد أن جميع التفاسير المختلفة للدين الواحد والتي أدت إلى ظهور مذاهب، وفرق مختلفة كلها حقيقية وتؤدي إلى السعادة. ومثل هذا الكلام ما جاء في نظرية التصويب عند الأشاعرة والمعتزلة، والتي تؤدي إلى نوع من الجمع بين النقيضين أحياناً.

والتعددية خارج الدين هي الاعتقاد، بأن جميع الأديان المختلفة تشتمل على الحقيقة، وتؤدي إلى السعادة.

والتقسيم الآخر للتعددية هو اعتقاد البعض بأن الهدف والحقيقة متعددان، بينما اعتقد البعض الآخر أن الهدف واحد، لكن طرق الوصول إلى ذلك الهدف وتلك الحقيقة متعددة…

بعد طرح المسألة وشرحها، نبدأ بتوضيح الاتجاهات والاستنتاجات المختلفة التي قدمها فلاسفة الدين والمتكلمون، وقد تناول البروفسور ريتشار غلين – (Richards Gyln) رئيس مركز الدراسات الدينية في جامعة سترلينغ- معظم هذه التفسيرات في كتابه (نحو إلهيات تعدديةالأديان)([2]). وقد قدم أحد أساتذة الحوزة والجامعة عرضاً لهذا الكتاب في العدد الأول من فصلية (الحوزة والجامعة) وما نورده هنا يركز على تلك المقالة، رغم أنه يعرّج على آراء بعض علماء إيران أيضاً.

 

الاتجاه الأول

وهو اتجاه الحوار بين الأديان، ومن أنصار هذه النظرة: جون هيك، نينيان سمارت(Ninian Smart) وويلفرد كنت وول سميث (Wilfred CantWell Smith) ورايموند وبانيكار(Raimund and Panikkar)، وتعتقد هذه الجماعة بلزوم عدم دعوى الحصرية لمصلحة أي دين من الأديان. ولابد من الانتباه إلى أن المشاركة الوجدانية في الحوارات ليس فقط لن تؤدي إلى زوال الصفاء العقائدي لأتباع الأديان، بل سوف تزيد ثقافتهم الدينية غنى وعمقاً([3]).

ويبدو أن هذا الإتجاه أقرب إلى التسامح والتساهل منه إلى البحث الفلسفي والكلامي. وبعبارة أخرى فإن هذه النظرة هي نوع من اتجاه أخلاقي نفسي، وليس نتاجاً فلسفياً وكلامياً.

إن مشكلتنا هي: هل سيتمكن جميع المؤمنين والمتدينين من نيل السعادة الحقيقية؟ أم أن السعادة الحقيقية حكر على دين أو مذهب خاص؟ إن إتجاه الحوار بين الأديان لن يقضي على الاختلافات القائمة في ميدان المعرفة الدينية مطلقاً، بل كل ما يؤديه هو إفادة بعض المتدينين، وإغناء المعرفة الدينية، والتقريب بين الأديان والمذاهب، وخلق نوع من التفاعل وسعة الصدر لدى الباحثين، وإزالة التوتر الإجتماعي لدى المتدينين، وفي النهاية يبقى سؤالنا دون جواب.

والجدير بالذكر أن أئمة الدين الإسلامي – وخاصةً أئمة المذهب الشيعي – كانوا يولون المناظرة أهمية خاصة، وكانوا يحاورون ويناقشون معارضيهم بسعة صدر، وكانوا يؤنِّبون أصحابهم إذا واجهوا معارضيهم بتصرّف فظ أو غليظ. وبناءً على ذلك ظهر علم المناظرة في التاريخ الكلامي الشيعي، عرضت فيه الآداب الأخلاقية، والمنطقية للحوار والمناظرة.

خلاصة الكلام، أنه ينبغي عدم الخلط بين التعددية، والتسامح الديني؛ فالتسامح هو طريق حل عملي من أجل التعايش المشترك، والسلم الإجتماعي، وبعبارة أخرى هو نوع من الحرية، واحترام حقوق أتباع سائر الأديان، وهذا الحل يختلف عن التعددية. نعم الإنسان التعددي ينجر في مقام العمل إلى نوع من التسامح أيضاً، وذلك لوجود الترابط النفسي بين المعتقد والسلوك.

 

الإتجاه الثاني

ويطرح هذا الإتجاه جوابه عبر النسبية، فهذه الجماعة تخالف الإطلاق والإضطراد من جهة، ومن جهة أخرى تبعاً لمعرفتها بالتحولات التاريخية،  تعتقد بأن كل شيء عرضة للتحول التاريخي بما في ذلك الظواهر الثقافية، والآراء الدينية، والأخلاقية. وبعبارة أخرى، فإن جميع الأديان بأشكالها المختلفة تؤمِّن وسيلة النجاة، والفلاح للبشر؛ وعليه، ليس على البشر أن يبحثوا في الخلافات، بل عليهم أن يهتموا بالقواسم المشتركة فيما بينهم، واجتناب ما يفرّقهم.

هذا الجواب الذي طرح من قبل جماعة منهم: أرنست تروليتش (Ernst Trroeltsch) عالم الكلام والفيلسوف الألماني (1865-1923) وآرنولد توينبي(Arnold Toynbee) المؤرخ، وفيلسوف التاريخ البريطاني (1889-1975) واجه إشكالات علم – معرفية وكلامية:

الإشكال الأول: إذا كانت هذه الفئة تميل إلى التحول التاريخي لكل الظواهر، وكذلك إلى النسبية الواقعية والخارجية؛ عندئذٍ يجب عدم الأخذ بمقولة تدعى النجاة والفلاح، في حين أن هذه المفاهيم هي الهدف النهائي لجميع المتدينين، لأن هناك تصوراً ثابتاً عن مفهوم الهدف النهائي، لا يتناسب مع التحول الشامل لدعاة النسبية.

الإشكال الثاني: إن ذلك يستلزم عدم التناسب بين التحول الشامل، وقبول القواسم المشتركة بين الأديان. ولو كانت جميع ظواهر العالم متحولة ومتغيّرة، فيكف يمكن إيجاد أمر أو عدة أمور مشتركة وثابتة في جميع الأديان، حتى نوصي المتدينين بها، ونلفت نظرهم نحوها.

الإشكال الثالث: وهو إشكال مبنائي: وهو أن التحول العام بين الظواهر، مرفوض من قبل جميع المفكريين الواقعيين، لأن أول ضحايا هذا التحول، ستكون نظرية النسبية لأصحاب هذا الإتجاه، وسوف يتبدّل التحول الشامل إلى ثابت.

الإشكال الرابع: حتى الآن لم يثبت وجود أمر مشترك بين جميع الأديان، رغم وجود أوجه مشتركة بين بعضها، كالإعتقاد المشترك إلى حد ما، بوحدانية الله تعالى الموجود في الدينين اليهودي، والإسلامي، لكن هذا الفهم للوحدانية لا يتناسب مع الفكر المسيحي، فتفسير المسيحيين لوحدة الله يتناسب مع فكرة التثليث أو الثالوث.

 

الإتجاه الثالث

وهو إتجاه جماعة منهم: شلاير ماخر (Schleier Macher) وكارل غوستاف يونغ (Carl Gustav Jung) وهو جواب جوهري. حيث قبل أولئك بضرورة الدين في وجود جوهر الدين.

يقول شلاير ماخر: إن تعدد الأديان أمر ضروري من أجل إظهار شمولية وكمال الوحدة السامية للدين، لأن كل دين خاص يجسّم جزءاً من ذات وجوهر الدين الأزلي الأبدي.

بينما اعتقد بعض آخر مثل: هوكينغ (W.E/ Hocking) بأن جوهر الدين هو العناصر المشتركة بين الأديان، دون أن يؤكد على خصائص الأديان.

ويونغ أيضاً الذي كان له موقف إيجابي من الدين خلافاً لفرويد، اعتبر أن جوهر الدين هو الصحة النفسية للإنسان، واعتبره من العناصر الطبيعية للحياة البشرية.

الإتجاه ترد على هذا عدة إشكالات أيضاً: أولها: ما هو الدليل على وجود جوهر واحد للأديان؟ وبأي طريق يمكن اكتشاف الجوهر الواحد لجميع الأديان؟

والإشكال الثاني هو: إذا كان وجود الصَّدَف (الصدف في مقابل الجوهر) غير ضروري للأديان، فجوهر الدين لا يمكن أن يدوم أيضاً. وبعبارة أخرى، حتى لو قبلنا بالتمايز بين صَدَفِ الأديان وجوهرها، لكن لا يمكننا إنكار وجود الصَّدَف، لأن كل إنسان متدين إذا أراد أن ينال جوهر دينه، فليس له مفر من نيله عن طريق الصَّدَف؛ لذا فإن هذا الإتجاه لا يحقق ما تريده التعددية أيضاً، لأن كل دين يفتي بانحصار الصواب بما في أصدافه.

وقد ظن البعض أن معنى نفي ضرورة وجود الأصداف هو أن أيّ واحدة من أصداف الأديان توصل الإنسان المتدين إلى الجوهر المشترك. مثلاً: بإقامة العشاء الرباني، وبالصلاة، والسير والسلوك البوذي، وبإقامة الأعمال الدينية يمكن الوصول إلى الجوهر المشترك للأديان؛ لذا فإن التأكيد على هذه الأصداف أمر غير صحيح، بل إنه لغو لا طائل من ورائه.

لكن هذا القول ليس فقط لا يتناسب مع خاتمية الأديان التي هي من ضروريات الدين الإسلامي، بل أيضاً لا يتناسب مع نسخ الشرائع الذي تقرّه معظم الأديان. لأن أحد معاني نسخ الشرائع هو نسخ الأصداف لا نسخ الجوهر المشترك، ونسخ الأصداف هذا نابع من مقتضيات الزمان، لذا فإن زعماء المذهب الكاثوليكي وإن كانوا يرون أن النجاة تكون في الأديان غير المسيحية أيضاً، لكنهم كانوا يرون أن اللطف الوافر والنجاة الكاملة لا تكون إلا في اللجوء إلى التقليد المسيحي.

الإشكال الآخر هو: أن تفسير بعض المعتقدين بهذا الإتجاه المبني على فرض وحدة جوهر الأديان، كان مبنياً على أساس علم المعرفة، وأن التمايز بين الواقعية الذاتية، والواقعية الظاهرية بمعنى أن الواقعية الذاتية واحدة، إلا أن الواقعية التي تظهر في الذهن ذات كثرة، وعلى هذا الأساس يمكن اعتبار جوهر الدين واحداً ومشتركاً، وإن كانت طرق الوصول إليه متفاوتة، بسبب اختلاف التقاليد، والثقافات، ومجالات المعرفة المختلفة.

واستناداً إلى هذا المبدأ العلم – معرفي، فإن مذهب التعددية – القائم على افتراض وحدة جوهر الأديان – يأخذ منحى مثالياً ونسبياً، لأن المذهب الواقعي مبني على شرطين: التمايز بين الذهن والواقع المحسوس، والتطابق العام للذهن مع الواقع المحسوس. وفي النتيجة، فإن التمايز العام والكلي بين الواقعية الذاتية والواقعية الظاهرية لا يؤدي إلا إلى النسبية.

 

الإتجاه الرابع

وهو إتجاه التجربة الوحيانية والدينية. وقد طرح تفسير هذا الإتجاه بول تيليش (poul Tillich) الفيلسوف وعالم الكلام البروتستانتي الألماني (1886-1956) تستند هذه الرؤية إلى التجارب الوحيانية العامة التي لا تختص بشخص واحد أو دين محدد، فهو يعتقد أن هناك ثلاثة عناصر أساسية في التجارب الدينية للبشر، وهي: عنصر السرّية والخفاء والغيب، والعنصر العرفاني، وعنصر النبوة. بحيث إذا تناسقت واتحدت العناصر الثلاثة المذكورة أظهرت ما يسمّى بدين الروح العينية، وهو ما تطلبه الأديان، ولم يظهر في كل دين تاريخي سوى جزء منه. إذاً، فالحجيّة مطلقة، وغير منحصرة في فرد أو دين معيّن([4])

وتوضيح الإتجاه المذكور هو أن التجربة الدينية تعني ارتباط الإنسان بالله، وبمعنى أعم تعني مواجهة الإنسان لأمر قدسي. هذا النوع من التجربة يشبه تماماً التجارب الحسيّة، ولها ثلاثة أركان هي: المجرّب، ومتعلّق التجربة، وتحليل المجرّب للتجربة.

وقبل تقييم هذا الإتجاه نستعرض التفاوت بين التجربة الدينية والتجربة الحسيّة.

أولاً: إن التجربة الدينية بعيدة المنال، وفي أكثر الأحيان تظهر على يد النوادر من البشر وبتعبير أفضل لا يدركها إلا القليلون، وأما التجربة الحسّية فهي ميسورة لعامة الناس.

ثانياً: تفسير التجارب يختلف من حالة لأخرى، ولا توجد وسائل مشتركة ومتفق عليها بين جميع الأديان، ليتبين بها صحة هذه التفسيرات من عدمها. وسرّ هذا الأمر هو أن محللي التجارب الدينية يعيشون داخل إطار ثقافات، وتقاليد خاصة بمنطقتهم، وتؤثر العوامل الإجتماعية وعوامل المحيط تأثيراً خاصاً في تحليلهم، وهذا ما يجعل تحليلاتهم مختلفة.

ثالثاً: إن التجارب الحسّية هي نوع من العلوم المكتسبة، وحسب بعض النظريات المقبولة في فلسفة العلم، فإن العلوم التجريبية، أو التطبيقية لا تنتج للمجربين سوى الظن. أما التجارب الدينية، فهي معلومات شهودية، ويرتبط العالم بها بشكل مباشر، وتعطي المجرّب يقيناً حقيقياً.

بينما تحليل وتبيين هذين النوعين من التجربة هو من صنف العلوم المكتسبة ومن هنا ليس هناك أي تفاوت بينهما.

رابعاً: كثير من التجارب الدينية تواجه مشكلة العجز عن الوصف، أي أنها لا تؤطر بإطار التعبير العادي، وهذا هو سبب وسرّ وجود الشطح في التصوف. أما التجارب الحسّية فهي لا تعاني من هذه المعضلة.

خامساً: إن السكينة والسعادة والصفاء وكثير من الأوصاف الروحية الإيجابية هي ثمرات التجارب الدينية التي ينالها صاحب التجربة، ولا ينال صاحب التجارب الحسّية أياً من هذه الخصائص.

سادساً: إن بعض التجارب الدينية تفرّ من الأمور العقلية؛ أي أن العقل لا يطيق إدراكها وتحليلها، وإذا دخل العقل في تلك الساحة، فيكون كما يطلق عليه المتصوفة "أبو الفضول". أما التجارب الحسّية، فهي عادة إما استنتاج عقلي وإما معقولات.

مع الأخذ بنظر الاعتبار وجوه الإشتراك والاختلاف بين التجربة الدينية والتجربة الحسّية([5]) فهل يمكن إجراء تجربة واحدة، ومشتركة بين الأديان؟ وهل يمكن القبول بنوع من التعددية الدينية، أو وحدة جوهر الأديان؟ يبدو أن هذا الطريق لا يؤدي إلى النتيجة المتوخاة. فكما أن التحليلات المختلفة للتجربة الدينية تتأثر بالثقافة، والتقاليد، والأوضاع الإجتماعية، والأوضاع الروحية للأفراد، فإن حقيقة التجربة الدينية التي تبدو للمجرب ستتأثر بالعوامل المذكورة آنفاً؛ وفي النتيجة، فإن التجارب الدينية مختلفة كما أن تفسير هذه التجارب مختلف أيضاً.

وإذا كان الأمر كما قال "بول تيليش": "كل دين ينال جزءاً من الروح العينية فقط"، فكيف وبأي أسلوب سيتم إثبات وجود تلك الحقيقة؟ ليقال: بأن أي دين بلغ جزءاً من الحقيقة؟ في الواقع لعل كل دين من الأديان حصل على واقعية مستقلة عن الأديان الأخرى. إذاً، فإدّعاء أن جميع الأديان قد بلغت أجزاءاً مختلفة من حقيقة واحدة هو إدعاء لا دليل عليه.

 

الإتجاه الخامس

وهو اتجاه "محورية الإنسان" أو "محورية المسيح"، وهي عقيدة شرحها طوماس(M.M. Thomas) وستانلي سامارثا(Stanley J. Samartha) وبول أوفانادان(Paul Oevanadan). وهذا الاتجاه يهتم بالمشتركات بين الأديان في الشؤون المتعلقة بعالم الناسوت، وبالمشاكل المتعلقة بأنسنة الظروف الحياتية في العالم الحالي. وبتعبير آخر يجب أن نبحث عن وجوه الاشتراك بين الأديان في الشؤون الدنيوية، دون الاهتمام ببحوث علم اللاهوت والحياة في عالم الآخرة([6]).

واللافت للانتباه هنا هو أن معظم الأديان، وخاصةً الأديان السماوية، تولي حياة ما بعد الموت وعالم اللاهوت أهمية قصوى، حتى أن بعضها اعتبرها جوهراً للدين. فكيف يمكن الغفلة عن ركن كهذا، وكيف تقبل به الأديان؟

ثانياً: إن الأديان نفسها تختلف إختلافاً أساسياً وأصولياً في قضايا عالم الناسوت والإنسان، بحيث يندر أن نجد وجهاً مشتركاً بين الأديان في هذا الباب. وبعبارة أخرى، فإن لكل دين رؤية كونية خاصة به تختلف عن نظرات باقي الأديان بشكل كامل، وأهم من ذلك كله، فإن تحليلات محللي الدين الواحد من الناحية التاريخية وفي مجال المعرفة الدينية ليست واحدة، فيعتبر البعض أن الحياة الأخروية هي غاية الدين وجوهره، ولا يولون أهمية لجعل الدين دنيوياً؛ أي أنهم لا يميلون إلى علمنة الأديان، بينما يعارضهم آخرون في نظرتهم تلك.([7]) وفي النتيجة، فإن هذا الاتجاه وتوصاياته لا تؤدي إلى اقتران الأديان أو توحدها.

 

الإتجاه السادس

ويليام كريستين(W.A. Chrstain) في كتابه المعنى والحقيقة في الدين (Meaning and truth in Religion) حيث بين الفرق بين الإيمان والمعرفة فقال: إن معتقدات الإيمان الديني مثل "المسيح هو المخلّص" و"الله غفور"، و"جميع البوذيين واحد" رغم كونها مختلفة مع بعضها، لكن لا مانع من توحيدها. وبطبيعة الحال، فإنه يوجد اختلاف ديني صريح بين الأديان في بعض الأخبار والأمور. فالمسيحية تقول إن عيسى هو المخلّص، في حين يقول اليهود خلاف ذلك، لكن عندما ندقق في ما يريده الاثنان يتّضح لنا أنهما لا ينقضان كلام بعضهما البعض، لأن ما يقصده اليهود من المسيح هو الموجود غير الإلهي، وما يقصده المسيحيون من المسيح هو مخلّص البشر المذنبين.

إذن لدينا هنا مفهومان متغايران عن المسيح، وبناءاً عليه ثبت حكمان مختلفان أيضاً.

وحسب تعبير "فيتغشتاين" يمكن القول: إن لكل دين نوعاً من الصورة الحياتية الخاصة وبتلاعب لغوي خاص، فالمسيحي والبوذي من فريقين مختلفين، ويتّبعان مجتمعين وتقاليدهما الدينية مختلفة، وينطقان بلغة دينية مختلفة. وكلا اللغتين لها معناها الخاص في إطار صورة حياتية دينية خاصة. وبهذه النظرية تحل المسألة المثيرة للألم القائلة بوجود الاختلاف بين الأديان.

لكن "وليم كريستين" اعتبر أن هذا الحل ظاهري، لأن هناك بين اليهود والمسيحيين نوعاً من عدم التوافق الجدّي حول حقيقة عيسى، إذ اعتبر البعض أن تلك الحقيقة هي التي تنجي بني اسرائيل، بينما رفض البعض الآخر ذلك، وبشكل عام، فإن هذا هو السبب الأول لانفصال المسيحية عن اليهودية. وبعبارة أدق، فإن "كريستين" يرى أن الإختلافات الدينية تنقسم إلى مجموعتين من الاختلافات:

المجموعة الأولى من الاختلافات الدينية هي من نوع المحمولات المختلفة على موضوع واحد.

والمجموعة الثانية من الاختلافات الدينية هي موضوعات مختلفة ترتبط بمحمول واحد. كالاختلاف الموجود بين مقولتي "الله هو مبدأ الوجود" و"الطبيعة هي مبدأ الوجود". وهو ما يقسّم المعتقدين بهاتين المقولتين إلى موحدين وغير موحدين. أما نتيجة نظرية "كريستين" وإشكاله فهي أن هذا الاتجاه لا يحل المشكلة([8]).

 

الإتجاه السابع

هو نقد فكرة الدين الواحد التي طرحها ويلفرد كانت ويل سميث (W. CantWell smith) في كتابه معنى الدين وغايته. حيث عارض بدقة مفهوم الدين الواحد، وقال: إنه إنحراف جديد أن يظن أحد بأن المسيحية على حق، أو الإسلام على حق؛ وذلك لأن المسيحية، والبوذية، والهندوسية، والإسلام، وغيرها من الأديان هي من إبداع وخلق البشر. لذا بدل أن نفكر في الأديان على قاعدة أنها أنظمة يمتنع إجتماعها، من الأفضل أن نعتبر الحياة الدينية للإنسان سلسلة قوية، توجد داخلها اختلافات عظيمة، ومقومات جديدة للقوة، أوجدتها بقوة أقل أو أكبر.. فقد تحولت المسيحية وتكاملت من خلال الفعل ورد الفعل المعقد للعوامل الدينية وغير الدينية، وتشكلت الأفكار المسيحية ضمن الجو الثقافي الذي أوجدته الفلسفة اليونانية. والكنيسة المسيحية كمؤسسة وقعت تحت تأثير امبراطورية الروم ونظامها القانوني… وذهنية البروتستانت كانت انعكاساً لطبيعة العرق الألماني الشمالي، وهذا يعني أنه لا يمك الحديث عن صوابية أي من الأديان. أو عدم صوابيته؛ لأن الأديان هي حركة دينية ثقافية محددة، ومميزة داخل التاريخ الإنساني، وصدى لاختلاف الأجناس البشرية والطبائع والصور الفكرية.

فهذه الإختلافات بين الذهنيتين الشرقية، والغربية والتي تجلت بصور مختلفة، عقلية، ولغوية، واجتماعية، وسياسية، وفنّية، يحتمل وجودها أيضاً، بين الأديان الشرقية والغربية.

إن الاختلاف بين الأديان يمكن بحثه من جهات ثلاث:

1-   لاختلاف من ناحية تجربة الحقيقة الإلهية.

2-   اختلاف النظرية الفلسفية والكلامية في مجال تلك الحقيقة أو في باب نتائج التجربة الدينية.

3-   الاختلاف في التجارب الأساسية.

في الاختلاف بنوعه الأول يعتبر الأصل الغائي، أو الغاية هي الخير بشكل محدد وواضح، وتعرف الإرادة والغاية بأسماء مختلفة هي: يهوه، الرب، الله، كريشنا، شيفا. ولعل تجارب الواقعية المحددة وغير المحددة للغاية العامة يكمل بعضها بعضاً ولا مانع من الجمع بينها.

والنوع الثاني من الاختلاف أيضاً، هو جزء من التاريخ المتكامل للفكر البشري، حيث تختفي هذه الاختلافات مع مرور الزمن، لأنها مرتبطة بالجانب التاريخي والثقافي المشروط للدين، وهي عرضة للتغيير.

النوع الثالث من الاختلاف بين الأديان، يعد من أكبر العوائق التي تقف في طريق الوفاق بين الأديان ووحدتها، لأن كل دين يمتلك مؤسساً، وكتاباً مقدساً تتجلّى فيه الحقيقة الإلهية، ويعد أمراً مقدساً، ويتطلب من أتباعه إيماناً وعبادة دون تردد وتشكيك([9]).

ولهذا الإتجاه نقاش طويل، نشير إلى جزء منه:

أولاً: إن "سميث" قد خلط بين الدين والمعرفة الدينية، لأن الأمر الذي يقبل التحول والتغير ويتأثر بالعوامل الدينية الخارجية هو المعرفة الدينية، وليس الدين. فالدين كنصوص دينية وكحقائق دينية ثابت لا يتغيّر، إلاّ إذا اعتبرنا أن النص الديني قد تعرّض للتحريف.

ثانياً: إن الاختلاف بين الأديان بنوعه الثالث لا يمكن علاجه، بل إن "سميث" اعتبر الاختلافين الأول والثاني غير قابلين للعلاج، فعلاج الاختلاف بنوعه الأول غير ممكن لعدم وجود دليل على أن تجارب الأديان للحقائق الإلهية يكمل بعضها بعضاً، لوجود احتمالين في تحليل هذه التجارب: الاحتمال الأول هو أن كل دين من الأديان قد جرّب جزءاً من الحقيقة الإلهية، وفي هذه الحال يمكن اعتبار التجارب المختلفة للأديان تكمل بعضها بعضاً.

والإحتمال الثاني هو أن كل دين قد جرّب حقيقة مستقلّة، وفي هذه الحالة لا يمكن لهذه التجارب أن تجتمع.

إذن مع وجود هذين الاحتمالين، فقبول أحدهما دون الآخرادعاد دون دليل، وعلاج الاختلاف بنوعه الثاني غير مجدٍ أيضاً، لأن التاريخ يشير إلى تكامل الأفكار، وليس إلى إزالة الإختلافات فقط. وعلى العكس من ذلك، فهو يشير إلى وجود اختلافات كثيرة، وتكامل كمّي للتعارض بين الأفكار، وظهور الميول المختلفة بين العلوم دليل على المدّعى.

في الختام، فإن طريق الحل الذي طرحه المجمع الفاتيكاني الثاني والذي يقول "إن من لا يزال يجهل إنجيل المسيح خلافاً لرغبته، لكنه يطلب الله بإخلاص… يمكنه أن ينال السعادة الأبدية أيضاً" هذا الحل لا يمكنه أن يحل أي معضلة سوى المشكلة الإجتماعية؛ أي أنه لا يعالج مشكلة تعارض آراء الأديان من ناحية معرفية وكلامية؛ لأنه على فرض كونه يحاول حل مشكلة السعادة لدى بعض معارضي المسيحية، لكن مشكلة الوصول إلى الحقيقة لا تحل به، فضلاً عن أن بعض معارضي المسيحية ممن رجحوا أي دين آخر لسبب ما، لن ينالوا السعادة الأبدية حسب إدعاء هذا المجمع!

 

الإتجاه الثامن

وهو التركيز على الإيمان بدل التركيز على الشريعة.

يقول محمد مجتهد الشبستري في توضيحه لهذا الإتجاه: "الشريعة مجموعة مقولات عقائدية وآداب، وطقوس، ومناسك، وقوانين. وعندما تبرز المؤسسات والمراكز الدينية في مجتمع ما، تصبح الأنظمة العقائدية والعملية على شكل قوانين جافة، وشعائر وآداب، وتنتج مجتمعاً مغلقاً، عديم المرونة. ومن لا يعيش على أساس هذا النظام العقائدي ينفى.

أما المراد من الإيمان الديني فهو التجربة الحيّة، التي لا تقوم على رفض الآخرين. إننا في التعددية الدينية نتحدث عن إمكانية وجود حقيقة في عدة أديان، ولا نتحدث عن وجود بديهي للحقيقة في هيكل جميع الأديان. إذاً فالتعددية الدينية معناها أن من الممكن أن تتجلّى الحقيقة النهائية في أشكال مختلفة، ولا تعني مطلقاً قبول جميع الحقائق الموجودة في جميع الأديان.

وفي النتيجة لا بد من وجود نقد مستمر يصاحب التعددية الدينية، لأن الحقيقة خافية، ومن واجب الإنسان المتديّن أن يعيش مع النقد دوماً.

وبعبارة أكثر صراحة إن الشريعة التي أصبحت آداباً وشعائر ونظماً عقائدية واجتماعية هي شريعة مرفوضة. أما الشريعة التي تعيش بحيوية التجليات التاريخية والإجتماعية والجسمانية واللغوية لتلك التجربة الدينية الحيّة فهي الشريعة المقبولة. لأن هذا النوع من الشريعة يبقى حياً ويتلاءم مع التجربة الإيمانية.

المسألة الأخرى هي أن مفهوم القانون، والنظام الإجتماعي لم يكونا يعنيان في صدر الإسلام علم الاجتماع وفلسفة الحقوق. فإذا استعمل تعبير حكم الله أو حلاله وحرامه فلم يكن ذلك يعني نظام الأسرة أو النظام الاجتماعي، بل كان يعني تحديد العلاقة بين الله والإنسان؛ أي أنه إذا أراد  الإنسان في أي مجال أن يقوم بعمل يرضاه الله كعلاقته بزوجته وابنه، فعليه أن يعمل على ذلك الشكل المحدد. وفي الحقيقة، فإن أداء مثل هذه الأعمال تؤدي إلى تقوية الإيمان والعكس صحيح، ولا بد من وجود أنظمة حقوقية لتنظيم العلاقات الدنيوية للأفراد مع بعضهم ومع الحكومة، لكن اتباع هذا النظام الحقوقي ليس ديناً ولا تديناً. إن ما يرتبط بالدين والتديّن هو توضيح هذا العمل، وهو ما يقوي التجربة الدينية أو يضعفها. وإن الاختلاف بين البروتستانت والكاثوليك قائم بشأن هذا الأمر أيضاً، حيث تولي الفئة الأولى التجربة الدينية أهمية أكبر، أما الفئة الثانية فتركز على قانونية الدين.

ونتيجة الكلام هي، يجب أن تخرج الشريعة من حالة الركود لتصبح نظاماً حقوقياً، واجتماعياً، وآداباً وسنناً، وبذلك تتجلّى عملياً التجربة الدينية الإيمانية. عندئذ تكون الشريعة عبارة عن معايير لتصرف الإنسان التي تتغذى من التجربة الدينية، وتشمل جميع جوانب حياة الإنسان. وعندها لا تقف الشريعة في مواجهة الإيمان، بل تكون مكملة له"([10]).

الحل الذي طرحه مجتهد الشبستري وإن كان في ظاهره ساحراً وجميلاً، لكن ترد عليه عدة إشكالات أيضاً:

الأول: إن هذه النظرية لا تحل مشكلة تناقض الآراء والعقائد، فلو سلّمنا أن الشريعة يجب أن لا تقدم على أنها آداب وسنن منظمة عقائدية، واجتماعية، وأنه يجب أن تكون حيوية ومتناسبة مع التجربة الإيمانية والدينية. وهذه الحيوية يحصل عليها الدين من ناحية ملاءمته للمجتمع والثقافة السائدة، بالطبع، فإن ذلك الدين سيكون متناسباً مع المجتمع والثقافة، ومتأثراً بهما وسوف يكون متناسباً مع التجربة الدينية التي ولدت في ذلك المجتمع، وبما أن المجتمعات والثقافات مختلف،ة فلا مفر من حدوث اختلاف في أديانها وتجاربها الدينية، وعندها سنعود مجدداً إلى النزاع؛ أي إلى الحديث عن السعادة والوصول إلى الحقيقة، وعبر أي تجربة دينية، ودين يمكن نيلها؟

الثاني: قال في فرضيته إننا في التعددية نتحدث عن إمكانية وجود حقيقة في الأديان المتعددة، ولا نتحدث عن وجود بديهي للحقيقة في الأديان، ويبدو أن هذا الكلام لا يحل مشكلة التناقض بين الأديان، لأن المراد من "الإمكان" هو الاحتمال العرفي أو الإمكان المنطقي. والإمكان لا ينفي العدم، ثم إن هناك مقولات إخبارية كثيرة في النصوص الدينية للأديان تبدو متناقضة، وإمكانية وجود الحقيقة في جميع هذه القضايا يستدعي إجتماع النقيضين، فالمسيحيون مثلاً يعتبرون أن المسيح المعهود هو مخلّص البشرية، بينما ينكر ذلك اليهود والمسلمين. فهل يمكن تصوّر إمكان وجود حقيقة في هذه الأديان رغم تناقض هذين الإدعائين؟

وكأنه يرى وجود التنافي بين العلاقة بالله، وعلاقة البشر ببعضهم، وبين وجود نظام عقائدي وحقوقي ينمي التجربة الدينية. والصحيح عدم وجود هذا التعارض، فلا مانع من كون الحلال والحرام في مجال الأسرة، محققاً لأمور هي، نظام الأسرة، وإنشاء علاقة مقبولة مع الله، وكذلك تقوية التجربة الدينية.

 

الإتجاه التاسع

وهو نظرية "جون هيغ" في معرض ردّه على سؤال كيف يمكن أن تكون جميع تصوّرات الأديان وتصديقاتها المختلفة عن الحقيقة الإلهية صادقة؟ أجاب بأن هناك فرقاً بين ما هو واقع في ذاته، وبين ما هو واقع عندنا. وسرّ هذا الفرق يكمن في أن الحقيقة الغائية والإلهية لا متناهية؛ لهذا، فهي أوسع من إدراك الفكر والتعبير البشري.

وقد شرح هذا الإتجاه وتكامل في الإطار الفلسفي الكانطي، حيث كان يفرق بين ما هو العالم في ذاته وبين عالم الذهن.

ويتمسك "جون هيغ" بالقصة المعروفة للرجال العميان والفيل حيث يضع كل واحد منهم وصفاً للفيل، ويقول "هيغ" إن المتدينين بالأديان المختلفة يشبهون أولئك الرجال. ويستنتج أنه لا  يحق لأي من الأديان احتكار التدين أو ادعاء حقانية خاصة، ذلك لأن كل دين قد نال جزءاً من الحقيقة بصورتها الظاهرية.

أول إشكال يرد على "جون هيغ" هو مشكلة نسبية نظريته، لأن قبول الاختلاف بين "الحقيقة كما هي" و"الحقيقة كما تبدو" وإنكار مطابقة الذهن للواقع الخارجي، وبتعبير  آخر عدم تطابق الفنومن مع النومن، هو أبرز ما في النسبية العلمية.

الإشكال الثاني: لماذا نفترض أن جميع المتدينين كالرجال العميان يصادفون حقيقة تسمى "الفيل" فلعل كل فئة منهم وجدت حقيقة خاصة قائمة بذاتها.

الإشكال الثالث: إذا كانت جميع اتجاهات التعددية تؤمن بتعدد الحقيقة، فإن مثل هذه الاتجاه سيتجه نحو نسبية الحقيقة؛ ذلك أن بعض هذه الحقائق متناقضة، وسيقع هذا الاتجاه في اجتماع النقيضين.

وإذا كانت الحقيقة واحدة، لكن طرق الوصول إليها متعددة، وهذه الطرق تحمل نوعاً من الافتراضات المعرفية المتعارضة معها، فإن قبولها جميعاً يجرّ الإنسان نحو نسبية المعرفة.

أما إذا كان المفكر يعتقد بأن الحقيقة واحدة، وأن أي طريق ولو لم ينته إلى الحقيقة الكاملة، لكنه سيحصل على مقدار منها، أي أنها ميسّرة للجميع، ويمكنهم الحصول على شكل من أشكال الحقيقة، وما دامت هذه الطرق لا تستدعي التناقض واجتماع النقيضين فلن تبتلى هذه الفكرة بالنسبية.

 

الإتجاه العاشر

البحث المبني على المعرفة بالمصير(Eschatological) القائم على أساس معايير الصدق والحقانية، والذي يفصل بين الدين الحق والدين الباطل. وبطبيعة الحال فإنه يوجد اختلاف في تحديد معيار الصدق والحق. إذ اعتبر البعض أن الأخلاق هي معيار الصدق، بينما اعتبر آخرون أن التجارب والحالات الدينية هي المعيار، وذهب آخرون إلى أن تأمين الحاجات الضرورية هو معيار الصدق، واعتبر آخرون أن المعيار هو مطابقة الواقع([11]).

يبدو أن هذا الاتجاه هو أفضل جواب على الأسئلة التي طرحت في أول المقالة. علينا أن لا نصرّ على أن جميع الأديان تسير بالإنسان نحو السعادة والحقيقة، بل علينا أن نحاول اكتشاف أحقية أي دين بالمعايير المنطقية، وعندما يثبت لنا ذلك نؤمن بأن السعادة والحقيقة تكون في اتباعه؛ أي بعد إثبات ضرورة الدين، والنبوّة العامة، نبحث في أحقية النبوّة الخاصة.

أما بعض الطرق الموجودة لإثبات أحقية نبوّة أي نبي فهي:

1-   أن تكون أقواله موافقة للعقل.

2-   أن لا يكون هناك تناقض بين أقواله.

3-   أن يصل بالإنسان – حسب ما يراه – إلى الهدف السامي، ويوفر له احتياجاته التي يتوخاها.

4-   أن يثبت علاقته بعالم الغيب بطريقٍ ما كالمعجزة.

أما كيف نعرف أحقية أي دين فهو بحث جاد، ويستحق الدراسة، ولا يسعه هذا المقام.

 

ومن ناحية أخرى، فإني أرى أن مسألة تعدد الأديان، أو وحدتها مازالت تعيش في ثقافتنا كجنين، نأمل أن نساعد في نموها من خلال طرح البحوث المختلفة.

 

نقلاً عن موقع معهد الرسول الأكرم(ص) – مجلة الحياة الطيبة – العدد: السادس والسابع.

 

الهوامش:

([1]) جون هيغ، فلسفة الدين، ترجمة بهرام راد، ص 226.

([2])   .Towards a Theology of Religions

([3]) راجع فصلية "حوزه ودانشكاه" [الحوزة والجامعة] السنة 1 العدد1، ص 62، والسنة 2 العدد 6 ص 83.

([4]) مجلة [الحوزة والجامعة] العدد 1، ص 62.

([5]) راجع فلسفة الدين لنورمان غيلر، ج1، ص 39، ترجمة آيت اللهي.

([6]) مجلة [الحوزة والجامعة] الفصلية، العدد الأول.

([7]) راجع كتاب الإسلام والدنيوية، للدكتور العطاس، ترجمة أحمد أرام.

([8]) راجع كتاب فلسفة الدين لجون هيغ، ترجمة بهرام راد، ص 226-232.

([9]) المصدر نفسه، ص 232، وما يليها.

([10]) راجع مجلة كيان، السنة الخامسة، العدد 28.

([11]) مجلة [الحوزة والجامعة] الفصلية، العدد الأول، ص 62.

 

Facebook
Twitter
Telegram
Print
Email

اترك تعليقاً