أحدث المقالات

الشيخ نعمة الله صالحي النجف آبادي(*)

ترجمة: السيد حسن علي الهاشمي

وصلتني قبل فترة رسالةٌ من أحد الإخوة المؤمنين، وقد تحدّث فيها عن آية التطهير، وأثار فيها بعض الأسئلة حول هذه المسألة. وحيث لم تكن الرسالة ذات طابع شخصي فقد قرأتُها على مسامع بعض الإخوة المؤمنين، ثم قرّرت بعض المطالب حول مفاد هذه الرسالة وآية التطهير، وتمّ تسجيل هذا التقرير. ثمّ أخذ أحد الزملاء على عاتقه مهمّة تدوين مطالب تلك الجلسة، وكان حريصاً على الحفاظ على الصيغة الشفوية والمقولة لكلامي. وفيما يلي نضع بين أيديكم حصيلة ما قرَّرناه بدافع بحث هذه الرسالة. وأرى من الواجب عليّ أن أتقدم بجزيل الشكر لكاتب الرسالة، والأخ كوشائي الذي تولّى تدوين كلماتي.

الرسالة الباعثة إلى كتابة هذه المقالة

بسم الله الرحمن الرحيم

1ـ يقول تعالى: ﴿إِنَّ الظَّنَّ لاَ يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً﴾ (يونس: 36)([1])، أي إنه حتّى الظنّ الغالب لا يكفي لبيان الحقيقة، ناهيك عن الاحتمالات والأشياء التي لا نعلمها أصلاً. ومن هنا أقول: إني ـ خلافاً لما ادّعيتموه ـ قد قرأت الآية وما قبلها وما بعدها من الآيات، وقد توصّلتُ إلى نتائج أنقلها لكم فيما يلي. إن القرآن الكريم ليس كتاباً قرأتموه وحدكم، دون سواكم، فقد قرأناه نحن بدَوْرنا أيضاً.

2ـ من خلال التدبُّر في الآيات (28 إلى 35) من سورة الأحزاب نحصل على فوائد كثيرة، ومنها:

أـ لقد بدأت الآيات بمخاطبة نساء النبي الأكرم|. وقد تمّ في هذه الخطابات استعمال لفظ «الأزواج» أو «نساء النبيّ»، وهو أمرٌ صريح وفي غاية الوضوح، ثمّ فجأة تحوّل الخطاب إلى «أهل البيت»، وتحوّل التصريح بـ «نساء النبيّ» إلى مصطلح «أهل البيت».

ب ـ إن جميع الضمائر المستعملة في هذه الآيات تَرِد بصيغة الجمع المؤنَّث، ثم وفي منتصف الطريق يتحوَّل السياق إلى الجمع المذكَّر، ثم تعود صِيَغ الجمع المؤنَّث مرّةً أخرى!

ج ـ إن خطابات القرآن الموجَّهة إلى نساء النبيّ، وهنّ معدوداتٌ، خطاباتٌ قاسية وعنيفة، تنطوي على الكثير من اللوم والتقريع، وكأنّ احتمال الفاحشة المبيّنة، أو التبرُّج على شاكلة ما كُنَّ عليه في الجاهلية الأولى، أو الخضوع في القول وترقيق الصوت، كان موجوداً أو كانت له سابقةٌ (والعياذ بالله)، بل قال الله تعالى: أعدّ الله للمحسنين منهنّ أجراً عظيماً. ثمّ وفي منتصف الآيات ـ وليس في نهايتها ـ نجد خطاباً في غاية التبجيل، يؤكِّد على تطهير أهل البيت، وإذهاب جميع أنواع الرِّجْس والأدران والرذائل والسيّئات عنهم، وهو أمرٌ يخالف السياق بشكلٍ كامل.

بالنظر إلى ما تقدَّم يظهر بوضوحٍ أنه ليس هناك متكلِّمٌ عاقل يغيِّر خطابه في الأثناء بالنسبة إلى النساء دون سبب، ويذكر خطاباً يختلف من الناحية المفهومية عن السياق، ثمّ يعود بخطابه على نحوٍ واضح وصريح إلى ذات النساء اللاتي كان الخطاب موجَّهاً إليهنّ في بداية الآيات. فما الذي حدث حتّى اضطرّ الله سبحانه وتعالى إلى تغيير خطابه فجأةً من «يا نساء النبيّ» إلى «أهل البيت»، وتحويل الضمائر المؤنَّثة إلى ضمائر مذكَّرة، ثم ينتقل بعد إتمام هذا الجانب من الآيات ـ بواو العطف ـ إلى الحوار مع نساء النبيّ| (الآية 34 التي لم يكن لها حضورٌ في أبحاثكم). إذا كنّا نعتقد أن الله سبحانه وتعالى يتكلَّم بشكلٍ عقلائي فلا بُدَّ لنا من القول بأن الله كان يريد في هذا القسم مطلباً خاصّاً يختلف عن مدلول الآيات السابقة واللاحقة. ولذلك فإنه بالنظر إلى سياق الآيات، والاعتقاد بأن الله حكيمٌ في كلامه، يجب علينا القول: إن المراد من «أهل البيت» طبقاً لقواعد فهم الكلام يجب أن يكون مختلفاً عن المراد من «نساء النبي»، فهما شيئان، وليسا شيئاً واحداً. لذلك فإنكم حيث تذهبون ـ خلافاً للسياق والبحث الشامل للآيات ـ إلى القول بأن المراد من «أهل البيت» هم نساء رسول الله| عليكم أن تبيِّنوا ما هو سبب هذا الاختلاف الجادّ والأساس في الكلام الحكيم لله سبحانه وتعالى؟

ثمّ قال الله سبحانه وتعالى بعد آية التطهير: ﴿وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ﴾ (الأحزاب: 34).

3ـ في إطار قولكم بعدم وجود إشكالٍ في التعبير بـ «أهل البيت»، وكذلك الجمع المذكَّر، قد أشرَتُم إلى آية النبيّ إبراهيم×. فقد ذكَرْتُم في استدلالكم أن هذه الآية تدلّ بوضوحٍ على أن المراد من أهل البيت هو النساء، وقد استفَدْتُم هناك أن الخطاب موجَّهٌ إلى النساء، وأن الضمائر مؤنَّثة أيضاً. وهذا التغيير في اللفظ يفيد معنى النساء أيضاً، وقد استفَدْتُم منه في هذه الآية أيضاً.

أوّلاً: إن المشكلة في تفسير الآية السابقة لآية التطهير؛ إذ ورد قبلها الخطاب لإحدى نساء رسول الله، ثمّ انتقل الخطاب فيها إلى أهل البيت وبضمير الجمع المذكَّر! ولذلك فقد شرحتم الآية المبهمة وسؤالها قبل آية التطهير! ويَرِدُ السؤال هناك أيضاً، وهو: مَنْ هم أهل البيت؟ وبالمناسبة فإنّ هذا في حدّ ذاته يثبت أن «أهل البيت» عبارةٌ عن مصطلح.

وثانياً: حتّى لو افترضنا أن المراد من أهل البيت هناك واضحٌ فما هو الدليل الذي يدعوكم إلى القول بهذا التفسير بالنسبة إلى هذه الآية أيضاً؟

4ـ في عصر نزول الآيات كان هناك حضورٌ لبنتٍ واحدة فقط، وهي السيدة فاطمة الزهراء÷ في بيت رسول الله|، ولا شَكَّ في أن عموم لفظ «أهل البيت» يشملها، وعليه فإن إظهار الشكّ في هذا المورد عجيبٌ للغاية.

5ـ في الاستعمال اللغويّ لا يُعتَبَر الأفرادُ جزءاً من أهل بيتهم. فإنهم لا يعتبرون لفظ أهل بيت النبيّ شاملاً للنبيّ| نفسه، ولو أرَدْنا هذا المعنى وجب القول: إن «أهل البيت» مصطلحٌ. ومن هنا فإن ما قيل من «أن الآية قد اعتبرت إبراهيم× من أهل بيته» لا يستند إلى دليلٍ، وهو مصادرةٌ على المطلوب. وأما قاعدة التغليب فهي إنما تصحّ فيما لو كان هناك رجلٌ واحد بين النساء في الحدّ الأدنى، وبالنظر إلى أن النبيّ| لا يُعَد في ظاهر اللغة جزءاً من أهل بيته يبقى وجود الضمير المذكَّر من دون حلٍّ.

6ـ وأما بالنسبة إلى قوله تعالى: ﴿وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ﴾ (الأحزاب: 34) فقد ورد ذكر لفظ البيوت بالنسبة إلى نساء النبيّ|، وليس «البيت». وهذا أمرٌ طبيعي؛ لأن نساء النبي كنّ يقمن في بيوتٍ متعدّدة، وأما البيت المعروف والمشهور فهو خصوص بيت رسول الله|، وهو المجاور لمسجد النبيّ|، وليس في هذا البيت غير ابنته الوحيدة وصهره وأسباطه.

والآن حيث تقول الآية: إن أهل البيت لا تعني أهل البيوت، وإنما هم أهل بيتٍ خاصّ، فعليكم أن تجيبوا: مَنْ هم أهل هذا البيت؟ هل المراد بهم نساء النبيّ|؟

7ـ إذا كان المراد من أهل البيت نساء النبيّ الأكرم| فسوف يثبت لهنّ؛ بمقتضى هذه الآية، مقامٌ أسمى وأعلى من جميع الناس؛ إذ تمّ تطهيرهنّ من جميع أنواع الرِّجْس والخبائث. إذن لماذا لم يخرج النبيّ الأكرم| نساءه معه في المباهلة مع نصارى نجران، واكتفى بإخراج عليّ بن أبي طالب×، والصدِّيقة الكبرى÷، والحسنين’، ودعا الأوّل نفسه، والثانية نساءه، والثالث والرابع أبناءه؛ قال تعالى: ﴿فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ اللهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ﴾ (آل عمران: 61)؟ وبالتالي كيف يمكن لنا أن نحدِّد مَنْ هم أهل البيت؟ هل المناط في تحديد هوية أهل البيت قول وفعل رسول الله| أم المناط هو مزاجكم وما يشتهيه تفكيركم؟

8ـ في آياتٍ من قبيل: ﴿إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي﴾ (هود: 45) تمّ اعتبار الابن من الأهل صراحةً؛ في حين أنكم لم تدخلوا بنت رسول الله| في الأهل، إلاّ على نحو الاحتمال.

9ـ حتّى في المعاجم اللغوية التي ألَّفها علماء أهل السنّة ورد صراحةً تفسير أهل بيت النبيّ| بـ «نسائه وبناته وصهره عليّ×»([2])، واستند في ذلك إلى آية التطهير.

10ـ حيث اتّضحت المسألة أقول: إن تحليلكم لهذه الآيات ينتفي بما قرأتموه، فهو في غاية البُعْد عن الآية، وكان عليكم في الحدّ الأقصى أن تدَّعوا أن هذا مجرّد احتمالٍ يُضاف إلى الاحتمالات الأخرى في معنى «أهل البيت». وفي مثل هذه الحالة، مع أخذ الاحتمالات الأخرى بنظر الاعتبار، تكون الآية مجملةً ومبهمةً، وعندها لا بُدَّ من الرجوع إلى السنّة والحديث، وأنت خبيرٌ بأننا إذا رجَعْنا إلى مُحْكَمات الحديث والسنّة النبوية المطهَّرة فسوف نجد أن المراد من أهل البيت ليس سوى رسول الله| وابنته والأئمّة الأطهار^.

الرسالة الجوابيّة، وقفاتٌ وتساؤلات

بعد التحيّة والسلام، وصلتني رسالتكم، وقرأتُها بدقّةٍ، وقد أسعدني أن بدأتموها بقوله تعالى: ﴿إِنَّ الظَّنَّ لاَ يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً﴾ (يونس: 36)([3]). ولكنْ كما تعلمون ـ بطبيعة الحال ـ يجب الحَذَر في هذا النوع من النصائح أن لا نكون من الذين تشملهم هذه الآية الكريمة؛ فإن الله سبحانه وتعالى يقول: ﴿أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ﴾ (البقرة: 44).

وأما قولكم: «إن القرآن الكريم ليس كتاباً قرأتموه وحدكم دون سواكم، فقد قرأناه نحن بدَوْرنا أيضاً» فهو ممّا يدعونا إلى السرور والاغتباط، ونحن نهنّئكم على ذلك. ولكنْ لا بُدَّ من الالتفات في الوقت نفسه إلى وجوب رعاية حقّ التلاوة عند قراءة القرآن الكريم أيضاً، وعدم الاكتفاء بمجرّد التلاوة؛ فإن الله سبحانه وتعالى يقول: ﴿الَّذِينَ آَتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاَوَتِهِ أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ﴾ (البقرة: 121).

ومن الجدير بالذكر أننا في مناقشة رسالة هذا الأخ المحترم، بالإضافة إلى المسائل التي أثارها، لن نتجاهل الأمور الأخرى التي يثيرها الآخرون بشأن آية التطهير أيضاً، وفي البداية سوف تكون لنا جولةٌ إجمالية على الآيات، من الآية 30 إلى الآية 34 من سورة «الأحزاب»، وهي الآيات المستهلّة بعبارة «يا نساء النبيّ»:

﴿يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيراً * وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ للهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحاً نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنَا لَهَا رِزْقاً كَرِيماً﴾ (الأحزاب: 30 ـ 31).

وفي معرض الحديث عن سبب مضاعفة العذاب لهنّ على أعمالهنّ على نحوٍ مغايرٍ للتعامل مع الآخرين يبدأ الخطاب مرّةً أخرى بعبارة «يا نساء النبيّ»:

﴿يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ﴾ (الأحزاب: 32).

ثم قال بعد هذه المقدّمة: ﴿فَلاَ تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلاً مَعْرُوفاً * وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلاَ تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلاَةَ وَآَتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللهَ وَرَسُولَهُ﴾ (الأحزاب: 32 ـ 33).

وبذلك من المناسب أن نبيِّن هنا ما هو سبب تذكيرهنّ بهذه الأوامر ـ المطلوبة من الجميع دون استثناءٍ ـ مرّةً أخرى؟ ولماذا يتوقّع منهنّ العمل بالأوامر واجتناب النواهي؟ ومن هنا فإننا نراه في ذات الآية، وليس في الآية التالية، يعقِّب مباشرة([4]) بالقول: ﴿إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً﴾ (الأحزاب: 33).

لا بُدَّ من الالتفات إلى أن لفظ «أهل» في هذه الآية منصوبٌ على النداء، بمعنى: «يا أهلَ البيت». ويكون معنى هذه الآية في الحقيقة هو: «يا أهل هذا البيت، إنما يريد الله ليُذهب عنكم الرِّجْس ويطهِّركم تطهيراً».

ثم قال في الآية اللاحقة: ﴿وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آَيَاتِ اللهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللهَ كَانَ لَطِيفاً خَبِيراً﴾ (الأحزاب: 34).

نلاحظ أن صدر الآية 33 قد اشتمل على لفظ «البيوت»، وفي وسط الآية ورد لفظ «البيت»، وفي الآية 34 هناك عودةٌ إلى لفظ «البيوت». ومن الجدير بالذكر أن نعلم أن النبيّ الأكرم| كان له في المدينة المنوّرة بيتٌ كبير إلى جوار المسجد، وكان هذا البيت يحتوي على عددٍ من الحجرات([5])، وكان| يُسْكِن في كلّ واحدةٍ من هذه الحجرات واحدةً من زوجاته.

لا أظنّ أنه يخفى على أحدٍ أن النبيّ الأكرم| لم يمتلك الكثير من البيوت في المدينة المنوّرة، وإنما كلّ ما كان يملكه «بيتاً» كبيراً محاذياً للمسجد، وكان هذا البيت الكبير يحتوي على العديد من الحجرات والغُرُفات، وكانت كلّ واحدةٍ من زوجاته تسكن في واحدةٍ من تلك الحجرات([6]). إن سبب استعمال لفظ «البيوت» في صدر الآية، والانتقال بعد ذلك وفي الأثناء مباشرةً إلى «البيت»، والعودة بعد ذلك مباشرةً في الآية التالية إلى «البيوت»، هو أنه باعتبار كلّ المكان الذي يقطنه رسول الله|، وباعتبار أن مالك مجموع البيت هو شخص النبيّ الأكرم|، ورد استعمال لفظ «البيت»، حيث ينتسب بأجمعه إلى رسول الله، وفي الموارد الأخرى باعتبار إقامة جميع النساء فيه ورد التعبير بـ «البيوت». وعلى هذا الأساس فإن نساء النبيّ الأكرم|؛ بسبب انتسابهنّ إلى النبيّ، يعتبرن من أهل بيته، بمعنى أن حجرة وبيت «أمّ سلمة» ـ على سبيل المثال ـ هو بيت النبيّ الأكرم|، وأن غرفة «جويرية» هي الأخرى بيت النبيّ|، وهكذا…؛ وحيث تشكِّل كلّ واحدةٍ من نساء النبي| مجموع أسرة النبيّ الأكرم يَرِد استعمال لفظ «البيوت»، دون أن يكون هناك اختلافٌ أو تباينٌ بين التعبيرين.

وعلى هذا الأساس فإنه بالاعتبار الكلّي يكون مسكن النبيّ| ونسائه «البيت» (أي بيت النبيّ الأكرم|)، كما ورد في القرآن الكريم قوله: ﴿كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ﴾ (الأنفال: 5).

وفي الوقت نفسه، باعتبار كلّ حجرةٍ وغرفةٍ، يمكن إطلاق لفظ «البيوت» أيضاً، كما ورد في قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لاَ تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلاّ أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ﴾ (الأحزاب: 53).

ولهذا السبب قال الله تعالى لنساء النبيّ| في الآية 34 من سورة الأحزاب: ﴿وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آَيَاتِ اللهِ وَالْحِكْمَةِ﴾ (الأحزاب: 34). وبطبيعة الحال فإن تلاوة آيات الله في «بيوتهنّ» إنما كان لأنهنّ من نساء النبيّ|، وكانت «بيوتهنّ» هي «بيت النبيّ»؛ حيث كانت كلّ واحدةٍ من نسائه تقطن في واحدةٍ من حجراته، ولم يكن لكلّ واحدةٍ منهنّ بيتٌ مستقلٌّ ومنفصلٌ عن سائر نساء النبيّ وزوجاته. وإن المطَّلع على سيرة النبيّ الأكرم|، يعلم أن رسول الله| لم يكن يملك بيتاً لا تسكنه واحدةٌ من زوجاته.

1ـ الإرادة الإلهيّة بين التكوينيّة والتشريعيّة

والآن علينا أن نرى ما هي الإرادة الإلهيّة المذكورة في قوله تعالى: ﴿إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ﴾؟ فهل المراد من هذه الإرادة الإرادة التكوينية أم الإرادة التشريعية؟([7]).

لو نظرنا إلى هذه الآيات دون حكمٍ سابق فلن يكون هناك إشكالٌ في إدراكنا بأن هذه الإرادة المذكورة في الآية ليست هي «الإرادة التكوينية»، بمعنى أن الله لم يُرِدْ تطهير «أهل البيت» بالإرادة التكوينية، على غرار ما جاء في الآية 82 من سورة «يس»؛ حيث لا يمكن لهذه الإرادة أن تتخلَّف، وتستوجب العصمة؛ وذلك لأن هذه الإرادة قد ورد استعمالها بعد مجموعةٍ من النواهي، من قبيل:

ـ ﴿فَلاَ تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ﴾ (الأحزاب: 31).

ـ ﴿وَلاَ تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى﴾ (الأحزاب: 31).

وبعد مجموعةٍ من الأوامر، من قبيل: ﴿وَقُلْنَ قَوْلاً مَعْرُوفاً * وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلاَ تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلاَةَ وَآَتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللهَ وَرَسُولَهُ﴾ (الأحزاب: 32).

ليقول بعد ذلك: ﴿إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً﴾ (الأحزاب: 33)، بمعنى أن تحقُّق التطهير الذي يريده الله إنما يكون من طريق العمل بالأوامر، واجتناب النواهي (فتأمَّلْ).

ومن الجدير معرفته أن بداية الكلام إذا كانت تتحدَّث عن الظواهر الطبيعية والمسائل التكوينية، ثمّ ورد التعبير بـ «الإرادة»، كان المراد منها بداهةً «الإرادة التكوينية». وأما إذا كان الحديث عن الوجوب والحرمة والأمر والنهي الشرعيّ، ليرد ذكر «الإرادة» بعد ذلك، فيكون المراد بها «الإرادة التشريعية».

وبعبارةٍ أخرى: إذا كانت «الإرادة» معطوفةً على الأمور التكوينية كان المراد منها هو «الإرادة التكوينية»، التي لا تتخلَّف، وتكون هي العلة التامّة لتحقُّق المراد([8]). وأما إذا كانت «الإرادة» معطوفةً على الأحكام والأوامر والنواهي الشرعية والقوانين الإلهيّة فلا شَكَّ في أن المراد منها هو «الإرادة التشريعية». ومن ذلك، على سبيل المثال، يمكن لنا أن نشاهد «الإرادة التشريعية» في الآية 6 من سورة «المائدة»؛ إذ يقول الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاَةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لاَمَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ مَا يُرِيدُ اللهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾ (المائدة: 6).

تلاحظون أن الله تعالى يقول في هذه الآية، بعد بيان الأحكام التشريعية، من قبيل: الوضوء والتيمُّم: إن الله لا يريد أن يجعل عليكم حَرَجاً، وإنما يريد أن يطهِّركم ويتمّ نعمته عليكم. وانظروا إلى صدر الآية تجدون أنها تبدأ بعبارة: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا﴾، فهل يمكن القول بأن جميع المؤمنين معصومون بحكم هذه الإرادة الإلهيّة؟!

وهنا يمكن أن نجري مقارنةً بين هذه الآية والآية 33 من سورة «الأحزاب»، فما هي النتيجة التي يمكن أن نحصل عليها؟

قال تعالى في سورة المائدة: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاَةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ… فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً…﴾، بمعنى أن الله سبحانه وتعالى يريد أن يطهِّركم ويتمّ نعمته عليكم من خلال قيامكم بهذه الأعمال، وامتثالكم لهذه الأحكام؛ وقال في سورة «الأحزاب»: ﴿وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ… وَأَقِمْنَ الصَّلاَةَ وَآَتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً﴾.

إن هذه الآية بدَوْرها تشبه الآية 6 من سورة «المائدة»؛ فكلتا الآيتين قد نزلت في مقام تعليل الحكمة من تشريع القوانين، وقد ورد الكلام فيهما عن العلّة الغائيّة لتشريع الأحكام، وليستا بصدد بيان مقامات ومنازل الأشخاص وخصائصهم التكوينية! فكما أن عبارة: ﴿وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ﴾ في سورة «المائدة» لا تشكّل دليلاً على الطهارة التكوينية وعصمة المؤمنين، كذلك فإن «إرادة التطهير وإذهاب الرِّجْس» في سورة «الأحزاب» إنما هي في الحقيقة والواقع «إرادةٌ تشريعية»، ولا يمكن أن تكون دليلاً على العصمة والطهارة التكوينيّة لشخصٍ. وكما أن الآية 6 من سورة «المائدة» تفيد أن الغاية من تشريع الوضوء والغسل والتيمُّم هي «طهارة المؤمنين»، كذلك فإن الغاية من الأوامر المذكورة في الآية 33 من سورة «الأحزاب» هي «طهارة أهل البيت» أيضاً؛ إذ كما نعلم فإن الأوامر والنواهي الإلهية في الآيات التشريعية والقانونية للقرآن (أي في الأحكام) ناشئةٌ من «الإرادة التشريعية» لله سبحانه وتعالى.

يُضاف إلى ذلك أن سورة «الأحزاب» (من الآية 28 فما بعدها) قد اشتملت على أحكامٍ وتكاليف، من قبيل: قَرْنَ في بيوتكنّ، ولا تبرَّجْنَ، وأقمْنَ الصلاة، وآتين الزكاة، وأطعْنَ الله ورسوله، و…، ومن الواضح جدّاً أن هذه الأمور ترتبط بـ «الإرادة التشريعية» الإلهية، دون الإرادة التكوينية. وبعبارةٍ أخرى: إن إرادة الله لإذهاب الرِّجْس وتطهير أهل البيت الواردة في سورة «الأحزاب»، حيث قال تعالى: «ويطهِّركم»، هي مثل الإرادة الواردة في سورة «المائدة» خطاباً لجميع المؤمنين ـ بمَنْ فيهم النبيّ الأكرم| والإمام عليّ× وفاطمة الزهراء÷ و… ـ، حيث قال تعالى: ﴿يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ﴾.

كما قال الله تعالى لرسوله|: ﴿خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا﴾ (التوبة: 103)، فهل تعني هذه الآية أن كل مَنْ أعطى الزكاة لرسول الله| كان طاهراً ومعصوماً بالضرورة؟!

من البديهي أن المراد هو أن الغاية من تشريع الزكاة هي تصفية الناس من التلوُّث بأدران الدنيا وحبّ الأموال، وإن هذه الطهارة إنما تحصل من طريق العمل بقانون الزكاة([9]).

ونلفت انتباهكم إلى هذه النقطة، وهي: أن الأفعال الواردة في الآية 6 من سورة «المائدة» هي من الأفعال المضارعة، مثل: «يريد» و«يتمّ»، كما أن الأفعال: «تطهّر» و«تزكّى» في الآية 103 من سورة «التوبة» من الأفعال المضارعة أيضاً؛ لأن تحقُّق هذه الأفعال مشروطٌ باجتناب النواهي وامتثال الأوامر المذكورة قبل هذه الأفعال؛ بمعنى أن تحقُّق هذه الأفعال إنما هو نتيجةٌ للأفعال والأعمال السابقة لها. وبالنظر إلى هذه النقطة نرى أن آية التطهير تقول بدَوْرها: «أذهب الله عنكم الرِّجْس وطهَّركم…»؛ إذ كما تقدَّم أن ذكَرْنا فإن هذا «الإذهاب للرِّجْس وهذا التطهير» إنما هو مشروطٌ بامتثال الأعمال والأفعال المذكورة قبلها. وبعبارةٍ أخرى: إن الأعمال والأفعال المذكورة مقدّمةٌ وأرضيّة لتحقُّق التطهير وإذهاب الرِّجْس. وغنيٌّ عن التوضيح أن هذا الموضوع لا يتناسب مع الإرادة التكوينيّة الإلهية، التي هي غير مشروطةٍ، ولا تحتاج إلى مقدّمةٍ وتمهيدٍ (فتأمَّلْ)([10]).

2ـ قاعدة التغليب مبرِّرٌ لاستعمال الجمع المذكَّر

ولنعُدْ ثانيةً إلى سورة الأحزاب، حيث عاد الخطاب بعد الآية 33 إلى ذات نساء النبيّ الأكرم|، والآية تشريعيةٌ؛ إذ يقول الله تعالى: ﴿وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آَيَاتِ اللهِ وَالْحِكْمَةِ﴾ (الأحزاب: 34).

وكما تلاحظون فإن الآيات، من الآية 28 إلى الآية 34، من سورة الأحزاب مترابطةٌ بالكامل، وليس بين فقراتها وكلماتها أيّ انقطاعٍ.

أما الغفلة هنا (أو التغافل) عن قاعدةٍ لغوية فهي التي تسبَّبت بهذا السؤال القائل: لماذا ورد استعمال الجمع المذكَّر للمخاطب في الآية 33، في حين أن الوارد في صدر ذات هذه الآية ـ وفي الآيات من الآية 28 إلى الآية 34 من سورة «الأحزاب» ـ هو استعمال الجمع المؤنَّث للمخاطَب؟!

إن القاعدة التي نرصدها هنا هي قاعدة التغليب؛ فإن جماعة الإناث ـ بناءً على هذه القاعدة ـ إذا كانت مشتملةً ولو على مذكَّرٍ واحد تكون وجوباً بحكم الجمع المذكَّر.

وبعبارةٍ أخرى: لو ألقَتْ السلام عليَّ مجموعةٌ من النساء، بينهنّ رجلٌ واحد، فإن ردَّ السلام منّي عليهنّ يجب أن يكون بصيغة الجمع المذكَّر، أي: يجب أن أقول في الجواب: «عليكم السلام».

وقد التزم القرآن الكريم ـ الذي نزل بلغة العرب ـ بهذه القاعدة([11]). ومن ذلك: عندما جاءت الملائكة إلى بيت النبيّ إبراهيم×، وبشَّروه بأنه سيولد له غلامٌ؛ فضحكَتْ زوجته متعجِّبةً، قالت الملائكة في جوابها: ﴿أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللهِ رَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ﴾ (هود: 73).

وكما تلاحظون فإنه على الرغم من أن المخاطَب في كلام الملائكة في بداية الآية لم يكن سوى امرأةٍ واحدة (وهي سارة زوجة النبيّ إبراهيم×)، ولكنْ بالنظر إلى أن النبيّ إبراهيم× كان من أهل ذلك البيت أيضاً فقد ورد استعمال ضمير الجمع المذكَّر للمخاطبين، حيث قالت الملائكة: «عليكم أهل البيت». إذن يمكن لسيّدة البيت أن تكون من أهل البيت. كما نرى ذات هذا الأمر في سورة الأحزاب أيضاً؛ حيث ورد الخطاب في بداية الآيات بقوله تعالى: ﴿يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ﴾، وحتّى في صدر الآية 33 نجد أن جميع الضمائر هي من ضمائر الجمع المؤنَّث، وأما عند الحديث عن «أهل البيت» فقد ورد استعمال ضمير الجمع المذكَّر؛ لكون النبيّ الأكرم| بدَوْره من أهل هذا البيت، بل سيّده، وكذلك الآخرون؛ باعتبار صلتهم وارتباطهم الأسريّ بالنبيّ، يُعَدّون من أهل هذا البيت أيضاً.

وقد ورد في كتب التفسير أن خطابات القرآن، من قبيل: قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا﴾، وقوله تعالى: ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ﴾، ونظائرهما، لا تختصّ بالرجال فقط، بل تشمل النساء أيضاً، ولكنْ ورد استعمالها بصيغة الضمائر المذكَّرة بناءً على قاعدة التغليب.

بَيْدَ أنّ لأخينا كلاماً عجيباً للغاية؛ إذ يُفْهَم من كلامه، في الفقرة الثالثة من رسالته، أنه يرى الآية 73 من سورة هود مبهمةً، ويراها مشكلةً أكثر من آية التطهير، ويثير سؤالاً بهذا الشأن؛ إذ يقول: مَنْ هم «أهل البيت»؟!

3ـ الشَّبَه الكبير بين آية التطهير وآية البشارة لإبراهيم عليه السلام

وأرى من اللازم هنا أن تكون لنا إطلالةٌ إجمالية على هذه الآية، فنقول: إن الملائكة ـ على ما ورد في الآية ـ قد نزلت لتبشير النبيّ إبراهيم×. وإن النبيّ إبراهيم لم يتعرَّف عليهم في بادئ الأمر، وتصوَّر أنهم من بني البشر، فطبخ لهم عجلاً، فلمّا رأى أن أيديهم لا تتناول الطعام تصوَّر أنهم يضمرون له الشرّ. وهنا لم يجد الملائكة مناصاً من التعريف بأنفسهم، فقالوا له: لا تخَفْ، فإننا رُسُل الله، وإن العذاب الذي جئنا به لا يشمل قومك، وإنما نحن جئنا إلى قوم لوط: ﴿إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ لُوطٍ﴾ (هود: 70).

ثمّ قال تعالى: ﴿وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ * قَالَتْ يَا وَيْلَتَا أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخاً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ * قَالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللهِ رَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ﴾ (هود: 71 ـ 73).

لو تأمّلنا في هذه الآيات، دون تبنّي الأحكام المسبقة، فسوف نجد أن الملائكة تجيب عن تعجُّب زوجة النبيّ إبراهيم×. ومن هنا يَرِدُ استعمال الفعل المفرد للمخاطَب المؤنَّث.

ولو قيل: إذا كانت الزوجة هي المخاطَبة بالآية فلماذا ورد الكلام في الأثناء عن الأسرة وأهل البيت؟

فإننا نلفت انتباهكم إلى هذه النقطة، وهي أن الكلام قد توجَّه في بادئ الأمر إلى امرأةٍ، ولكنْ باعتبار أنها منتسبةٌ إلى النبيّ إبراهيم×، وأنها زوجته، وأن النبيّ إبراهيم× واحدٌ من أعضاء هذا البيت، فإنه عند توجيه الخطاب بعد ذلك إلى كلا الموجودَيْن في البيت عمد إلى استعمال الضمير المذكَّر. وفي الواقع فإن الآية تقول: لماذا تعجبين؟! ألا تعلمين أنكِ واحدةٌ من أهل هذا البيت الذي أنزل الله عليه رحمته وبركاته؟ وحيث كانت هذه البركات نازلةً على النبيّ إبراهيم× وزوجته ـ بل هي في الدرجة الأولى كانت نازلةً على النبيّ إبراهيم، وفي الدرجة الثانية على سائر أعضاء الأسرة وأفراد هذا البيت ـ لم يكن هناك بُدٌّ من استعمال الضمير المذكَّر. وحيث كانت رعاية الله عند ذكر الرحمة والبركات شاملةً للنبيّ إبراهيم× أيضاً ورد التعبير بـ «عليكم أهل البيت»، في حين كان بمقدور القرآن الكريم أن يقول: «أتعجبين من أمر الله؟! رحمة الله وبركاته عليكِ»، أي كان بمقدوره التعبير بـ «عليكم أهل البيت» أو استعمال ضمير المفرد للمخاطب المؤنَّث، فلماذا لم يستعملْه؟ السبب هو أنه ـ كما ذكَرْنا سابقاً ـ كان قد شمل النبيّ إبراهيم، وهذه المرأة المرتبطة بالنبيّ إبراهيم×، وأن الرحمة والبركات كانت عليه في الدرجة الأولى، وعلى أعضاء أسرته وأهل بيته بالدرجة الثانية([12]).

وهكذا الأمر بالنسبة إلى محلّ بحثنا في سورة الأحزاب. فالغاية هي «التطهير، وأن يكون أهل البيت أسوةً لغيرهم»، والمعنيّ بذلك في الدرجة الأولى، وقبل الجميع، هو شخص النبيّ الأكرم|، ثمّ يأتي سائر أفراد أسرته ومَنْ له الارتباط الأكبر معه. وعلى هذا الأساس، حيث كان النبيّ الأكرم| هو المعنيّ بالدرجة الأولى، وكان الآخرون معنيّين في ذلك بالتَّبَع واعتبار مراتب نسبتهم إليه، ورد استعمال الضمير المذكَّر (فلاحِظْ).

نعود مرّةً أخرى إلى سورة هود، ونسأل كاتب الرسالة المحترم: حيث إنك لا تقطع بأن زوجة النبيّ إبراهيم× مخاطَبةٌ بهذه الآية، ولا ترى النبيّ إبراهيم× من مصاديق «أهل البيت»، فهل لك أن تجيبنا ـ بالنظر إلى أن ولده لم يُولَد بَعْدُ([13]) ـ مَنْ هو المخاطَب بهذه الآية؟!

إنْ قلتُم: رُبَما كان هناك، بالإضافة إلى النبيّ إبراهيم× وزوجته، أشخاصٌ آخرون في ذلك البيت، وإنّ كلام الملائكة كان خطاباً لهم!

قلنا: حتّى لو سلَّمنا بهذا الفرض، الذي لا يستند إلى دليلٍ، فلا شَكَّ في أنه بناءً على أسلوب الكلام الحكيم (أو العقلائيّ، على حدّ تعبيركم) عندما تبدأ الملائكة كلامها في الجواب عن تعجُّب زوجة النبيّ لا يعود من المعقول والمقبول أن يتمّ الإعراض عنها في أثناء الكلام، ودون إتمام الجواب، ويصيرون إلى ذكر أمرٍ لا تكون زوجة النبيّ من مصاديقه إطلاقاً؛ بمعنى أن يُقال: أيّتها المرأة، هل تعجبين من أمر الله، في حين أن رحمة الله وبركاته إنما تنزل على أشخاصٍ آخرين غيركِ؟! فما هذا الجواب لهذه المرأة؟! ولماذا يتمّ إعطاء مثل هذا الجواب، ويُستهلّ بوصفه خطاباً موجّهاً إلى تلك المرأة؟! فإذا لم تكن الرحمة والبركات شاملةً لتلك المرأة لن يكون كلام الملائكة جواباً عن تعجُّب المرأة أصلاً! وفي الأساس كيف يصحّ أن تتعجّب المرأة وتضحك، وتقوم الملائكة بتوجيه الجواب والتعليل إلى أشخاصٍ آخرين لم يتعجَّبوا ولم يضحكوا؟!

إذا لم نعتبر زوجة النبيّ إبراهيم× من «أهل البيت» فإن كلام الله سوف يكون ـ معاذ الله ـ متهافتاً تماماً؛ لأنها تعجَّبت من بشارة إنجابها وهي على مثل ما كانت عليه من التقدُّم في العمر؛ فما معنى أن يقول لها الملائكة في الجواب عن تعجُّبها: أيّتها المرأة، أتعجبين من أمر الله، والحال أن رحمة الله وبركاته نازلةٌ على زيدٍ وبكرٍ وعمرو؟!

وهكذا الأمر بالنسبة إلى سورة الأحزاب أيضاً؛ فليس من المعقول أو المقبول أن يتوجَّه القرآن بالخطاب إلى نساء النبيّ الأكرم|، ثمّ ينصرف عنهنّ فجأةً، ودون سابق إنذارٍ، ومن دون ذكر مخاطَبين جُدُد، ودون أن يختم كلامه السابق الموجَّه إلى نساء النبيّ، رغم أنهُنَّ المخاطَبات بما قبل وبعد هذه الجملة، ويتوجّه بالخطاب إلى أشخاصٍ آخرين، ويذكر أمراً لا يعني نساء النبيّ الأكرم| من قريبٍ أو بعيدٍ، ويخرجهنّ عن شموله تماماً([14]).

نسأل الكاتب المحترم: ألسْتَ أنتَ من أهل بيتك؟ أوَليسَتْ زوجتك من أهل بيتك، أم أن أولادك وأحفادك وأصهارك وحدهم من أهل بيتك؟! وهل تأمَّلْتَ في كلامك هذا مليّاً؟!

وفي ما يلي نلفت انتباهكم إلى هذه النقطة، وهي أن هناك تناظراً كبيراً بين الآية 73 من سورة هود وآية التطهير؛ فالمخاطَب في كلتا الآيتين هو المؤنَّث؛ ففي سورة هود يتّجه الخطاب إلى المفرد المؤنَّث، وفي سورة الأحزاب يتّجه الخطاب إلى الجمع المؤنَّث. والمخاطَب في صدر كلا الموردين أزواج النبيّ، وقد ورد في كلا الموردين التعبير بـ «أهل البيت» منصوباً. وفي صدر الآية 33 من سورة الأحزاب جاء ذكر أفعال الجمع للمخاطَب المؤنَّث، وفي ختام ذات هذه الآية وردت ضمائر الجمع للمذكَّر المخاطَب. وعلى هذا الأساس فإن سبب وعلّة الإتيان بضمير الجمع المذكَّر في الآية 73 من سورة هود، أيّاً كان، يَرِدُ بدَوْره في آية التطهير أيضاً([15]).

نحن نرى أن قاعدة التغليب قد تمَّتْ مراعاتها في كلتا الآيتين. ونرى من المناسب ـ قبل الخوض في المواضع الأخرى من آية التطهير ـ الإشارة إلى أن علماء النحو واللغة قد ذكروا مطالب أخرى، ومنها: ما صرَّح به «الزمخشري» في تفسير هذه الآية من سورة هود، من جواز استعمال ضمير الجمع المذكَّر للتعبير عن المفرد ـ حتّى المفرد المؤنَّث ـ؛ للتعبير عن التعظيم والتكريم. واستشهد لذلك بقول الشاعر:

فلو شئتُ حرَّمْتُ النِّساء سواكم *** وإنْ شئتُ لم أطعم نقاخاً ولا بردا

وقد استشهد بهذا البيت في الآية 249 من سورة البقرة أيضاً.

كما استشهد في الآية 32 من سورة النور، بهذا البيت الذي خاطب به الشاعر محبوبته:

فإنْ تنكحي أنكح وإنْ تتأيّمي *** وإنْ كنت أفتى منكم أتأيّمُ

وقد صرَّح المهمِّش على «الكشّاف» قائلاً: على الرغم من أن مرجع الضمير في كلا البيتين هو «المفرد المؤنَّث»، إلاّ أن المستعمل هو ضمير «الجمع المذكَّر»؛ للتعظيم.

وقال علماء النحو: «رُبَما خوطبت المرأة الواحدة بخطاب الجمع المذكَّر؛ يقول الرجل عن أهله: «فعلوا كذا»؛ مبالغةً في سترها، حتّى لا ينطق بالضمير الموضوع لها. ومنه: قوله تعالى، حكايةً عن [النبيّ] موسى×: ﴿قَالَ لأَهْلِهِ امْكُثُوا﴾ (القصص: 29)([16])، [ولم يقُلْ: امكثي]».

وعلى هذا الأساس، فإن القرآن الكريم بعد الخطابات السابقة ـ الآية 32، وصدر الآية 33 ـ قام بأمرَيْن: الأوّل: أفاد الهدف والعلّة الغائية من صدور الأحكام السابقة بصيغة الحَصْر؛ الثاني: إنه من خلال تغيير الضمير أشار إلى حرمتهنّ وعلوّ شأنهنّ وشرفهنّ بسبب انتسابهنّ وانتمائهنّ إلى أسرة وسيّد البشر خاتم الأنبياء|، وكونهنّ زوجاته ونساءه؛ كي لا يتذرَّع أحدٌ بالخطابات السابقة، ويدَّعي «أن احتمال صدور الفاحشة المبيّنة عنهنّ، أو أن التبرُّج على الطريقة الجاهليّة، أو الخضوع في الصوت، كان شائعاً بين نساء النبيّ|، أو ـ نعوذ بالله ـ كان لذلك سابقةٌ بينهنّ»([17]). وبعبارةٍ أخرى: إن القرآن الكريم، في آية التطهير، عند بيان الغاية من الخطابات السابقة، ورفع جميع الشبهات التي قد تطرأ بشأن المخاطَبين؛ ومن أجل مدح وإكرام نساء النبيّ الأكرم| ورعاية حرمتهنّ ـ حيث يحظين بشرف زواجهنّ من خاتم الأنبياء| ـ صار إلى استعمال ضمير الجمع المذكَّر.

وبطبيعة الحال، فإننا قد ذكَرْنا رأينا بصراحةٍ، ولسنا بصدد الدفاع عن هذا القول، ولا نصرّ على قبوله. ولكنْ بالنظر إلى أننا لا نريد تجاهل سائر الأقوال الأخرى سوف نعمل على بيان آراء سائر العلماء بشكلٍ عابر.

4ـ «الأهل» في اللغة والاستعمال القرآني

في ما يلي نتعرَّض إلى بيان معنى ومدلول كلمة «أهل». ومن الأفضل أن نرجع إلى كتب اللغة في هذا الشأن.

فقد ورد في «المنجد» وفي «المعجم الوسيط» و«أقرب الموارد»: «أهل وتأهّل: تزوّج، واتّخذ لنفسه أسرةً. أهِل: صار ذا عيال وزوجة. الأهل: العشيرة والأقارب والزوجة. وأهل الدار: سكّان البيت. وأهل البلد والبيت: سكّانه وقاطنوه».

وقال في «المصباح المنير»: «يطلق الأهل على الزوجة. والأهل أهل البيت. والأصل فيه القرابة».

وجاء في معجم «مقاييس اللغة»، لابن فارس [عن الخليل بن أحمد]: «أهل الرجل زوجه. والتأهُّل التزوُّج. وأهل الرجل أخصّ الناس به. وأهل البيت: سكّانه».

وفي «معجم ألفاظ القرآن الكريم»، لمجمع اللغة العربية بمصر: «أهل يحدَّد معناه بما يُضاف إليه». وأهل الرجل: زوجه وأسرته وأقاربه. وأهل الدار: سكّانها.

وحيث إن كاتب الرسالة المحترم وعدداً من العلماء قد أبدَوْا اهتماماً خاصّاً بـ «لسان العرب» عند بحثهم بشأن آية التطهير فسوف نذكر مطالب هذا الكتاب بتفصيلٍ أكبر:

قال ابن منظور الأفريقي: «أهل الرجل: عشيرته وذوو قرباه… وفي حديث أمّ سلمة: ليس بك على أهلك هوان، أراد بالأهل نفسه×».

وكما تلاحظون فإن النبيّ عندما يكون أهل زوجته تكون زوجته ـ بطبيعة الحال ـ من أهله.

ثمّ استطرد ابن منظور يقول: «وأهل الأمر: ولاته. وأهل البيت: سكّانه. وأهل الرجل: أخصّ الناس به. وأهل بيت النبيّﷺ: أزواجه وبناته وصهره، أعني عليّاً×، وقيل: نساء النبيّﷺ، والرجال الذين هُم آله. وفي التنزيل العزيز: ﴿إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً﴾».

ثمّ قال أيضاً: «وأهل الرجل وأهلته: زوجه([18]). وأهل الرجل يأهل ويأهل أهلاً وأهولاً، وتأهَّل: تزوَّج. وأهل فلانٌ امرأةً، يأهل، إذا تزوّجها، فهي مأهولةٌ. والتأهُّل: التزوُّج».

وهناك ما يُشبه هذا الكلام في «القاموس المحيط» أيضاً([19]).

وكما تلاحظون فإن ابن منظور ـ مثل سائر علماء اللغة ـ قد اعتبر سكّان البيت من أهل البيت، وأن نساء النبيّ الأكرم| وزوجاته من مصاديق أهل بيته|([20]).

وبالنظر إلى ما ورد في كتب اللغة، وما ورد من أن «التأهُّل» يعني الزواج، يتّضح بما لا يبقى معه أدنى موضعٍ للشكّ أن الزوجة هي المصداق الأقوى والأوضح لـ «الأهل». وعليه ليس هناك وجهٌ للتعجُّب من أن يَرِدَ التعبير في الآيات بـ «الأزواج» و«نساء النبيّ» ثمّ يتمّ الانتقال بالخطاب فجأةً إلى «أهل البيت»، وتغيُّر التصريح بـ «نساء النبيّ|» إلى «أهل البيت»؛ لأن زوجة كلّ شخصٍ هي من أهل بيته دون شكٍّ([21]).

والأهمّ من ذلك ما ورد في القرآن الكريم من اعتبار زوجة عمران (والد النبيّ موسى×) من أهل البيت؛ إذ قال الله تعالى، حكايةً على لسان أخت النبيّ موسى× في خطابها للفراعنة: ﴿هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ﴾ (القصص: 12)، وكان مرادُها من ذلك أمّ النبيّ موسى×، حيث كانت تعتبر من «أهل بيت» عمران، وقد استرجعَتْ وليدها بوصفها مرضعةً ومربّيةً له([22]). وكما تلاحظون فإن ربّة البيت وزوجة الرجل تُعَدّ من أهل بيته، وتصبح من مصاديق فعل الجمع المذكَّر «يكفلونه».

ويُستفاد ـ بوضوحٍ ـ من الآيات القرآنية التي تستثني زوجة النبيّ لوط× من «أهله» أن «الزوجة» من المصاديق البارزة لـ «الأهل»، وإلاّ لما كانت هناك حاجةٌ إلى استثنائها.

وفي الآية 25 من سورة يوسف تمّ استعمال «الأهل» بمعنى الزوجة أيضاً.

وقد عُدَّتْ زوجة النبيّ موسى× في القرآن الكريم من «أهله»، كما في قوله تعالى: ﴿قَالَ لأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آَنَسْتُ نَاراً لَعَلِّي آَتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ﴾ (القصص: 29)([23]). وكان ذلك بعد انقضاء الأجل بين النبيّ موسى× والنبيّ شعيب× والد زوجته، ثمّ عزم على السفر من «مدين»، كما ورد في القرآن الكريم: ﴿فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الأَجَلَ وَسَارَ بِأَهْلِهِ﴾ (القصص: 29)([24]).

وبالإضافة إلى ذلك فقد قال علماء اللغة: عندما تضاف كلمة «أهل» إلى مكانٍ فإن ذلك يعني ساكن أو سكّان ذلك المكان المذكور، كما في «أهل مكّة» بمعنى ساكن أو ساكني مكّة، أو «أهل المدرسة» بمعنى الساكن أو الساكنون في المدرسة، وهكذا… وعلى هذا الأساس، فإن زوجات النبيّ الأكرم| اللاتي يسكنّ بشكلٍ دائم في بيت رسول الله| هُنّ من المصاديق القطعيّة لـ «أهل البيت».

وعلى هذا الأساس، يمكن القول: إن علماء اللغة ـ كما سبق أن رأَيْنا ـ لا يُخْرِجون «الزوجة» من مفهوم «الأهل» و«أهل البيت». ولذلك فإننا لو قلنا بحكمٍ بشأن مصاديق أهل البيت لا نستطيع أن لا نقول به بالنسبة إلى الزوجة.

ثمّ إنه لو لم يعتبر شخصٌ «الزوجة» من مصاديق «الأهل» فلا مندوحة له من الاعتقاد بأن المراد من قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ﴾ (التحريم: 6) هو أن المسلم مسؤولٌ عن زوجته أو زوجاته، وليس مسؤولاً عن أولاده وأصهاره وأحفاده فقط([25]).

وهل كان على النبيّ الأكرم| ـ طبقاً لقوله تعالى: ﴿وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاَةِ﴾ (طه: 132) ـ أن لا يدعو نساءه إلى إقامة الصلاة، والاكتفاء بمجرَّد الخروج من المنزل ودعوة ابنته (السيّدة الزهراء÷) وزوجها وولدَيْها إلى الصلاة فقط؟!! كلاّ طبعاً.

ولا بُدَّ من التنويه إلى أن لفظ «الأهل» من حيث المعنى «اسم جمع»([26])، ويشمل الرجل والمرأة؛ ومن حيث اللفظ «مذكَّر مجازيّ»([27])، وبهذا اللحاظ يكون «ضمير الجمع المذكَّر» متناسباً معها. وعلى هذا الأساس، فإن علّة استعمال المذكَّر هو لفظ «الأهل»، ولكنْ بلحاظ مصاديق كلمة الأهل؛ حيث يكون النبيّ الأكرم| وزوجاته بأجمعهم من مصاديق «أهل البيت» (أي: الجمع الذي يكون فيه مذكَّر واحد في الحدّ الأدنى)، لا مناص من استعمال ضمير الجمع المذكَّر.

قبل الخوض في الأجزاء الأخرى من الآية من المفيد أن نسأل أولئك الذين يعتبرون السيدة فاطمة الزهراء÷ من «أهل البيت»، ولا يرَوْن شمول هذا العنوان لنساء النبيّ الأكرم|، ونقول لهم: لنفترض أن آية التطهير قد نزلت في طفولة السيدة فاطمة الزهراء÷ وفي مرحلة حياة السيدة خديجة الكبرى÷، وبالنظر إلى الفقرة الخامسة من الرسالة لا ترَوْن النبيّ الأكرم| داخلاً في أهل البيت، فهل كنتم تعتبرون السيدة الزهراء÷ من أهل بيت النبيّ الأكرم|، وتخرجون السيدة خديجة الكبرى÷ من شمول هذا اللفظ؟! كيف يمكن أن تكون السيدة الزهراء من أهل البيت، ولا تكون أمّها من أهل البيت؟ هل تقبلون بأن السيدة الزهراء بنت امرأةٍ ليست من أهل بيت النبيّ الأكرم|؟!

إن الكاتب المحترم لهذه الرسالة؛ كي لا يرتضي المسائل الواضحة التي ذكَرْناها حتّى الآن، ورُبَما لم تكن خافيةً عليه، قال في الفقرة الخامسة من رسالته: «في الاستعمال اللغويّ لا يُعتَبَر الأفرادُ جزءاً من أهل بيتهم. فإنهم لا يعتبرون لفظ «أهل بيت النبيّ|» شاملاً للنبيّ نفسه، ولو أرَدْنا هذا المعنى وجب القول: إن «أهل البيت» مصطلحٌ. ومن هنا فإن ما قيل من «أن الآية قد اعتبرَتْ إبراهيم× من أهل بيته» لا يستند إلى دليلٍ، وهو مصادرةٌ على المطلوب. وأما قاعدة التغليب فهي إنما تصحّ فيما لو كان هناك رجلٌ واحد بين النساء في الحدّ الأدنى، وبالنظر إلى أن النبيّ| لا يُعَدّ في ظاهر اللغة جزءاً من أهل بيته يبقى وجود الضمير المذكَّر من دون حلٍّ».

إن المغالطة في هذا الكلام واضحةٌ جدّاً جدّاً.

فأوّلاً: لا شَكَّ في أن الناس يعتبرون الأفراد جزءاً من أهل بيتهم؛ وإلاّ لزم من ذلك أن لا يكون أيّ رجلٍ جزءاً من أهل بيته!

وثانياً: لو لم يكن النبيّ الأكرم| داخلاً في أهل البيت فإن هذه الآية لن تثبت عصمته أيضاً! فهل تلتزمون بهذه النتيجة؟!

وثالثاً: لا يخفى اختلاف «أهل البيت» عن «أهل بيت النبيّ|» على أحدٍ. هَبْ أنه عندما يُقال: «أهل بيت النبيّ|» لا يشمل النبيّ، ولكنْ عندما يُقال: «أهل البيت» فإنه يكون شاملاً للنبيّ قطعاً؛ بوصفه صاحب هذا البيت. وفي كلتا الآيتين مورد البحث وردَتْ عبارة «أهل البيت»، وليس عبارة «أهل بيت النبيّ|». ومن هنا لا يكون كلامنا من دون دليلٍ أو مصادرةً على المطلوب، وتكون كلتا الآيتين من موارد قاعدة التغليب.

ثم إنه في قوله تعالى: ﴿وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ﴾ (البقرة: 50؛ الأنفال: 54) أجمع المفسِّرون على دخول فرعون نفسه ضمن الآل. وفي قوله تعالى: ﴿إِنَّ اللهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ﴾ (آل عمران: 33) لا شَكَّ في أن النبيّ إبراهيم× داخلٌ في لفظ الآل. وعلى هذا الأساس يكون النبيّ الأكرم| داخلاً ضمن «الأهل»، سواء في قولنا: «أهل بيت النبيّ|» أو في قولنا: «أهل البيت».

5ـ دلالة «إنَّما» على الحصر في الموضوع (التطهير)

المسألة الأخرى كلمة «إنما» التي تُعَدّ من أدوات الحَصْر. نعلم أن لـ «الحصر» مدلولين؛ وهما: المدلول الإيجابي؛ والمدلول السلبي. وإن معنى «الحصر» يتمّ مع كلا هذين المدلولين. ومن ذلك ـ على سبيل المثال ـ: عندما يُقال: «إنما يُدافع عن أحسابهم أنا وأمثالي» يكون المدلول السلبيّ لذلك هو: «لا يُدافع عن أحسابهم إلاّ أنا وأمثالي».

وبالنظر إلى هذا الأمر قد يُشْكَل ويُقال: «إذا اعتبرنا أن الإرادة الإلهية في هذه الآية هي (الإرادة التشريعية) عندها يكون الحَصْر منتفياً في هذه الحالة؛ وذلك لأن الله لا يريد تطهير خصوص أهل البيت من الرِّجْس فقط، بل إنه يريد ذلك لجميع المؤمنين في جميع الأزمنة والأمصار».

بَيْدَ أن هذا الكلام لا يعدو كونه مجرَّد مغالطةٍ؛ وذلك لأن «الحصر» في هذه الآية مورد البحث ليس في الأفراد، بل الحَصْر في الموضوع، الذي هو التطهير. والمدلول الإيجابي لهذا الحصر كالتالي: «في هذا الأمر والنهي نريد فقط إذهاب الرِّجْس والتطهير»؛ والمدلول السلبي له على النحو التالي: «في هذا الأمر والنهي لا نريد سوى إذهاب الرِّجْس والتطهير».

وبعبارةٍ أخرى: إن الآية 33 من سورة الأحزاب لم تقُلْ: «إنما نريد تطهير أهل البيت فقط، دون سواهم»، وإنما تقول: «إن العلّة الغائية والهَدَف النهائي من هذه الأوامر والنواهي إنما هو التطهير وإذهاب الرِّجْس، لا غير».

وعلى هذا الأساس، فإن هذا الحصر لا يحول أبداً دون تعلُّق «الإرادة التشريعية الإلهية» بجميع المخاطَبين بقوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا([28]). وكذلك؛ بالنظر إلى المكانة والمنزلة الخاصّة لأهل البيت بين الناس، تمّ تذكيرهم مرّةً أخرى بما يريده الله منهم، وأعاد التأكيد على مطالبتهم بذلك.

أجل، إن العموم الوارد في آخر الآية 6 من سورة المائدة ـ حيث كانت إرادة الطهارة شاملةً لجميع المؤمنين ـ يحول دون قولنا: إن الإرادة الإلهية قد تعلّقت بطهارة عددٍ محدَّد من الناس. ولكنّ هذا لا يمنع أبداً من طلب المراد في هذه الآية، مرّةً أخرى وبشكلٍ مؤكَّد، من بعض المؤمنين الذين يتمتّعون بمكانةٍ خاصّة. ومن ذلك مثلاً: لو قال المعلِّم لتلاميذه: ادرسوا واجتهدوا، واجتنبوا الكَسَل، واستمعوا إلى ما يقوله المعلِّم جيّداً، ثمّ خصّ بعض التلاميذ الذين يحظَوْن باحترام سائر الطلاب، ويؤثِّر سلوكهم على الآخرين، فقال لهم: عليكم الانضباط، وقراءة دروسكم بدقّةٍ، واستوعبوها جيِّداً، ولا تهدروا أوقاتكم باللهو واللعب، ولا تنسوا ما يقوله لكم المعلِّم، فلن يكون هناك أيّ تباينٍ وتعارضٍ بين هذين المطلبين، وإنما الاختلاف سوف يكون بين هاتين المجموعتين من التلاميذ في مستوى ومراتب ما يتوقَّع منهما في العمل بتعاليم الأستاذ.

وعلى هذا الأساس ليس هناك دليلٌ للقول بأن الإرادة الواردة في آية التطهير إرادةٌ تكوينية. إن الادّعاء القائل بأن الإرادة الإلهية الواردة في الآية 33 من سورة «الأحزاب» إرادةٌ تكوينية يؤدّي بنا ـ والعياذ بالله ـ إلى القول بأن هناك رجساً كان موجوداً، وقد تعلَّقت إرادة الله تعالى بإذهابه وتطهيره؛ أي إن علينا في البداية أن نؤمن بوجود رجسٍ؛ لكي نتمكَّن بعد ذلك من القول بأن «الإرادة التكوينية» لله قد تعلَّقت بإذهابه عن أهل البيت، وإلاّ فإنه لا معنى لتعلُّق الإرادة التكوينية لله بإذهاب رجسٍ معدومٍ وغير موجودٍ. في حين أنه لو اعتبرنا أن هذه الإرادة ليست سوى إرادةٍ تشريعية فلن يترتَّب على ذلك إشكالٌ؛ لما ثبت في علم «أصول الفقه» من أن الأمر والنهي في الخطابات التشريعية لا يعني أن المخاطَب سيكون مجبراً على العمل بـ «المأمور به»، أو أنه لن يتمكَّن من ارتكاب «المنهيّ عنه».

فمثلاً: لو قيل: صلّوا، وصوموا، ولا تكذبوا، ولا تسرقوا، لا يعني ذلك أن جميع المسلمين كانوا يكذبون، أو أنهم كانوا يسرقون بأجمعهم.

كما ورد في القرآن الكريم قوله تعالى خطاباً لرسول الله|: ﴿وَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ * وَلاَ تَدْعُ مِنْ دُونِ اللهِ مَا لاَ يَنْفَعُكَ وَلاَ يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذاً مِنَ الظَّالِمِينَ﴾ (يونس: 105 ـ 106)؛ وقوله تعالى لرسوله|: ﴿أَقِمِ الصَّلاَةَ﴾ (الإسراء: 78)، بَيْدَ أن هذا النوع من الخطابات لا يعني ـ والعياذ بالله ـ أن النبيّ الأكرم| كان من المشركين، أو أنه كان يدعو غير الله في عبادته، أو أنه لم يكن يصلّي. وقِسْ على ذلك.

وبعبارةٍ أخرى: إن المراد في آيات سورة «الأحزاب» هو أن الله سبحانه وتعالى يريد، يا أهل البيت، من خلال العمل بهذه الأوامر واجتناب هذه النواهي، أن يطهِّركم من الرِّجْس.

كما قال الله تعالى بشأن الصلاة، وهي من العبادات: ﴿إِنَّ الصَّلاَةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ﴾ (العنكبوت: 45).

وحتّى النبيّ الأكرم| كان يتعبَّد ليلاً ونهاراً، ويقيم الصلاة، ويكثر من الصوم. وكان لهذه الأعمال تأثيرٌ على طهارته النفسيّة، وتترك عليه أثراً إيجابيّاً. وإلاّ لو قلنا غير ذلك، وادّعَيْنا بأن الأعمال العبادية وامتثال الأوامر الإلهية ليس له أيّ تأثيرٍ على النبيّ|، وهي من قبيل: أعمال اللغو والعبث، فعلينا أن ننتبه إلى أن من مزايا الإيمان الإعراض عن اللغو والعبث([29])، وأن النبيّ الأكرم|، الذي هو في مقدّمة المؤمنين، منزَّهٌ عن ارتكاب اللغو والعبث.

6ـ إشكالاتٌ على كون الإرادة تكوينيّةً

ومن الجدير بالذكر أننا إذا اعتبرنا الإرادة الإلهية الواردة في آية التطهير تكوينيّةً فسوف نواجه الكثير من المسائل. وإن بعض هذه المسائل عبارةٌ عن:

المسألة الأولى: إن «الإرادة التكوينية» تستلزم القول بالجَبْر، وهو ما لا ينسجم مع معتقدات الشيعة. فلو قلنا: إن الله سبحانه وتعالى قد أراد بالإرادة التكوينية، وغير المشروطة، والتي لا يمكن لها التخلُّف، أن يكون مخاطَبوه معصومين، وأن لا يرتكبوا المعاصي والأخطاء، عندها ستكون الإمكانات الأخرى في مقابل الإرادة التكوينية منتفيةً ومعدومةً. وبطبيعة الحال لا يمكن للمخاطَبين بهذه الآية أن يقترفوا الذنوب والمعاصي على خلاف الإرادة التكوينيّة والقطعيّة لله، وبالتالي فإنهم لا يملكون خياراً في أعمالهم الإراديّة، ولا يُعَدّ ذلك فضيلةً لهم. وهنا نتساءل: هل كان الإمام عليّ× أو الإمامان الحسن والحسين’ مكلَّفين بالأحكام الشرعية أم لا؟ وهل كانوا مختارين أم مجبرين؟ بناءً على مذهب التشيُّع كان الأئمّة الأطهار^ مختارين، وإنهم لا يقتربون من الذنوب باختيارهم. إذا اعتبرنا الإرادة الإلهية المذكورة في آية التطهير هي «الإرادة التكوينية» كان المخاطَبون بها ـ أيّاً كانوا ـ مجبرين، وبالتالي لن يكونوا مكلَّفين، ولن تثبت لهم فضيلةٌ.

ثمّ إنه؛ حيث كانوا مطهَّرين ومنزَّهين من الذنوب والأخطاء بـ «الإرادة التكوينية» والقَهْرية، لا يمكن لهم أن يكونوا أسوةً وقدوةً لنا؛ وذلك لأننا مختارون ومكلَّفون. فإذا كان الإمام الحسن× ـ على سبيل المثال ـ منزَّهاً عن الذنب والخطأ تكويناً، وبناءً على الإرادة الإلهية التكوينية، لا يمكن له أن يكون إماماً لنا، ولا يستطيع أن يضطلع بمهامّ الإمامة؛ وذلك لأن الإمام هو الذين يجب علينا نحن العباد المختارين أن نتّبعه في أعماله، في حين أنه يقوم بأعماله بناءً على الإرادة الإلهية القطعية التي لا يمكن لها أن تتخلَّف، ونحن لسنا كذلك. فهو ليس مختاراً، ونحن مختارون، فلا يكون هناك وجهُ شبهٍ بيننا، وعليه لا يمكن أن يكون أسوةً لنا.

ولو قيل: إن المخاطبين بآية التطهير إنما صاروا كذلك بناءً على «الإرادة التكوينية» لله سبحانه وتعالى، وأخذوا يجتنبون الذنوب والأخطاء ويُعْصَمون باختيارهم، فإننا نلفت انتباهكم إلى هذه النقطة، وهي:

أوّلاً: إن هذا الادّعاء لا مصداق له في مورد السَّهْو والخطأ والنسيان، الذي تدلّ عليه آياتٌ من القرآن الكريم، من قبيل:

ـ ﴿وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ﴾ (الكهف: 24)([30]).

ـ ﴿عَفَا اللهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ﴾ (التوبة: 43).

ونظائر ذلك؛ وذلك لأن الشخص لا يسهو أو ينسى باختياره وإرادته.

وثانياً: إن هذا الادّعاء في مورد الذنب لا يعدو أن يكون مجرَّد تلاعبٍ بالألفاظ؛ فلو أنصفنا ودقَّقْنا النظر سنرى أن نتيجة هذا الكلام بدَوْرها مشمولةٌ لإشكالنا أيضاً؛ وذلك لأن «الإرادة التكوينية» لله ـ عزَّ وجلَّ ـ قطعيّةٌ، ولا تتخلَّف، وإن اختيار الشخص المنشود لن يؤثِّر في قطعيّة وحَتْميّة الإرادة الإلهية أبداً. وبعبارةٍ أخرى: إن اختيار المكلَّف لا يقع بين «الإرادة» و«مراد» الله، وبالتالي عندما يكون «الاختيار» كأنّه غير موجود يكون الأمر وكأنّ الشخص غير مختارٍ، ولا سيَّما أن الإمامين الحسن والحسين’ ـ طبقاً لقولكم ـ قد تحقَّقت هذه الإرادة التكوينية بشأنهم منذ صغرهم، ولم يصدر عنهما أيّ مجاهدةٍ من أجل الوصول إلى هذا المقام.

وتلاحظون أنه حتّى على هذه الفرضية لن تكون الإرادة التكوينية مستوجبةً للفضيلة؛ إذ كما ذكَرْنا سابقاً لو أن الله قد حصلت له مثل هذه الإرادة بشأن الآخرين لحصلوا على مثل هذه الحالة؛ لأن هذه المرتبة من السموّ الروحي، والتي توجب العصمة ـ والتي هي على حدّ تعبيركم: قد أُعطيَتْ للنبيّ الأكرم| والأئمّة^ حَصْراً وتكويناً، ولا تكون اختياريّةً ـ، لم يتمّ إعطاؤها للآخرين. وبسبب هذا الاختلاف لا يمكن لهم أن يكونوا أسوةً وقدوةً للأشخاص الذين لم تتعلَّق بهم مثل هذه الإرادة التكوينية، ولم يحصلوا على مثل هذا المَدَد([31]).

المسألة الثانية: هي مشكلة عدم ارتباط واتّصال ما قبل وما بعد الآية مورد البحث، بل عدم ارتباط صدر الآية بذيلها!

هناك من العلماء الشيعة ـ للأسف الشديد ـ مَنْ قال بأن هذه الآية قد تمّ نقلها من موضعها الأصليّ إلى موضعٍ آخر من القرآن([32])! ولكنّهم ـ بطبيعة الحال لا يحدِّدون الموضع الأصليّ لها. ونحن لا شأن لنا بأصحاب هذا الكلام، ولسنا معنيّين بهم حالياً. ولكننا نقول للذين لا يقولون ذلك، ويعتقدون بالنظم والترتيب الراهن للقرآن الكريم: لقد قال الله تعالى: إن تعاليم الأنبياء قد نزلَتْ بلغة قومهم: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ﴾ (إبراهيم: 4).

والآن نسأل كاتب الرسالة: هل كان هناك من الناطقين باللغة العربية مَنْ يتكلَّم بمثل هذا الكلام، الذي لا يوجد فيه ارتباطٌ بين صدره وذيله؟! فحيث تعتقد أن الله سبحانه وتعالى يتكلَّم مع عباده بشكلٍ عقلائيّ ـ على حدّ تعبيركم ـ، أو بشكلٍ حكيم ـ على حدّ تعبيرنا ـ، فلماذا تُعْرِضون عن هذه النقطة، وهي أنه إذا كان المراد من الإرادة في آية التطهير هي الإرادة التكوينيّة فسوف ينفرط عقد التواصل والارتباط بين صدر الآية وذيلها، وتنفصل عُرى الوشائج بين ما قبلها وبعدها من الآيات، ويزول التناسب بين أجزاء كلامها؟! فأنتم تقولون من جهةٍ: «إن الله يتكلَّم بشكلٍ عقلائي»؛ وعلى الرغم من علمكم بأن الكلام المفكَّك وغير المترابط في أجزائه ليس من أسلوب الكلام العقلائي (والحكيم من وجهة نظرنا) فإنكم من ناحيةٍ أخرى لا تأخذون نظم وارتباط الآيات بنظر الاعتبار! فكيف يمكن لكلامٍ غير مترابط الأجزاء أن يكون في الوقت نفسه كلاماً عقلائيّاً (أو حكيماً)؟!

المسألة الثالثة: أن نأخذ بالاعتبار الآية 59 من سورة «الأحزاب» نفسها؛ إذ يقول الله تبارك وتعالى مخاطباً النبيّ الأكرم|: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ﴾ (الأحزاب: 59).

ومرادُنا هو أن القرآن الكريم قد ذكر «بنات» النبيّ الأكرم| بشكلٍ منفصل عن «أزواجه ونسائه»، وعليه عندما يقول الله سبحانه وتعالى في الآيتين 30 و33: ﴿يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ﴾، دون أن يأتي بلفظ «البنات»، يتّضح أن نساء النبيّ الأكرم هُنَّ المخاطَبات بالآية أصلاً، ولا سيَّما أن السيدة فاطمة الزهراء÷ في زمن نزول آية التطهير كانت زوجةً للإمام عليّ×، وتسكن في منزله، وتُعَدّ لذلك من أهل بيته.

ونرى من المناسب هنا أن نأتي على ذكر الفقرتين الرابعة والثامنة من رسالة أخينا؛ إذ يقول: « في عصر نزول الآيات كان هناك حضورٌ لبنتٍ واحدة فقط، وهي السيدة فاطمة الزهراء ـ سلام لله عليها ـ في بيت رسول الله|، ولا شَكَّ في أن عموم لفظ أهل البيت يشملها، وعليه فإن إظهار الشكّ في هذا المورد عجيبٌ للغاية… في آيات من قبيل: ﴿إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي﴾ (هود: 45) تمّ اعتبار الابن من الأهل صراحةً؛ في حين أنكم لم تدخلوا بنت رسول الله| في الأهل، إلاّ على نحو الاحتمال(!)».

ونقول في جوابه:

أوّلاً: ليت أخانا قد تنبَّه إلى أن موضوع بحثنا لم يكن في اعتبار السيدة فاطمة الزهراء÷ من أهل البيت أم لا، وإنما موضوعنا يدور حول دخول نساء النبيّ| في أهل البيت أيضاً.

ثانياً: نحن لم نقُلْ ولا نقول بأن السيدة فاطمة الزهراء÷ ليست من «أهل» النبيّ الأكرم|، بل لم نقُلْ: إن السيدة الزهراء ليست من أهل بيت النبيّ الأكرم|. ولكنْ حتّى لو قلنا ذلك فإنه لن يكون كلاماً عجيباً وغير مستندٍ إلى دليلٍ. وهنا نلفت انتباهكم إلى نقطتين:

الأولى: إنه، بناءً على قاعدة «أصالة الحقيقة»، وبالنظر إلى أن كلمة «البيت» مضافةٌ إلى كلمة «أهل» المنادى، نرى أن حرف التعريف فيها (ال) هو للتعريف العَهْديّ، ولا نرى ما يستوجب العدول عن الأصل المذكور، ولذلك فإننا نحمل «أهل البيت» على معناه اللغويّ، دون الاصطلاحي.

الثانية: إن الآيات مورد البحث قد بدأت بعبارة: «يا نساء النبيّ»، ولم تبدأ بخطاب: «يا بنات النبيّ»، ولا بخطاب: «يا أولاد النبيّ»…

ثالثاً: كما ذكَرْنا سابقاً فإن السيدة فاطمة الزهراء÷ كانت عند نزول سورة الأحزاب تسكن في بيت الإمام عليّ×، ولم تكن في بيت رسول الله|، وإنما كانت من أهل بيت الإمام عليّ×.

رابعاً: يجب الالتفات إلى أن هناك فَرْقاً بين كون الشخص من «أهل شخص» وبين أن يكون من «أهل بيته». وإن النبيّ نوح× لم يقُلْ: إن ابني من «أهل بيتي». ولذلك نكرِّر أننا بدَوْرنا لم نقُلْ ولا نقول بأن السيدة فاطمة الزهراء÷ لم تكن من «أهل» النبيّ الأكرم|، ولو قلنا بأن السيدة فاطمة الزهراء÷ كانت بعد زواجها من الإمام عليّ× من أهل بيته لم يكن ذلك منّا كلاماً عجيباً ومستغرباً؛ وإلاّ فهل يمكن أن تقولوا لنا: مَنْ هم أهل بيت الإمام عليّ×؟

ولا شَكَّ في أن «أهل» الشخص ـ كما تعلمون ـ أعمُّ من «أهل بيته». ومن ذلك أن ابنك وبنتك ـ على سبيل المثال ـ هما دائماً من «أهلك»، ولكنّهما قبل الزواج من «أهل بيتك» أيضاً، وأما بعد الزواج فسوف يكونان من أهل بيتٍ آخر، هو بيتهما، وبيتهما سوف يكون غير بيتك. وعلى هذا الأساس، فإنّ السيدة فاطمة الزهراء÷ وإنْ كانت من «أهل» النبيّ الأكرم|، ولكنّها في زمن نزول سورة «الأحزاب» كان لها ـ بوصفها زوجةَ الإمام عليّ÷ ـ بيتٌ مستقلّ، وكانت لذلك من أهل ذلك البيت (بيت الإمام عليّ×). ولكنّكم؛ لمجرّد ادّعاء أن السيدة فاطمة الزهراء كانت في زمن نزول الآيات في بيت النبيّ الأكرم|، اعتبرتموها من «أهل البيت»؛ فلماذا لا تعتبرون نساء النبيّ|، وقد كان لهنّ تواجدٌ وحضورٌ مستمرّ في بيته، من مصاديق أهل البيت؟!

خامساً: حيث تقطعون بأن السيدة فاطمة الزهراء÷ من أهل بيت رسول الله| فهل تعتبرون أخوات النبيّ وأزواجهنّ من أهل بيت النبيّ الأكرم| أيضاً؟

المسألة الرابعة: لو لم تكن نساء النبيّ الأكرم| داخلاتٍ في خطاب الآية، وكانت الإرادة المذكورة في الآية هي الإرادة التكوينية، وكانت السيدة فاطمة الزهراء÷ وزوجها وابناها هم المرادون بالآية ـ رغم أنهم ليسوا هم المعنى القريب من لفظ أهل البيت ـ، فلماذا لم تبيِّن الآية هذا المراد بشكلٍ صريح، ولم تخاطبهم بأسمائهم، أو لم تقُلْ في الحدّ الأدنى: «يا أيّها النبيّ، ويا بنت النبيّ وصهره وسبطَيْه، إنما يريد الله…»؟ ولا سيَّما أنه لم يَرِدْ في موضعٍ آخر من القرآن آيةٌ بشأن موضوعٍ على هذا المستوى من الأهمّية. وإن القرآن الكريم لم يبيِّن مراده في هذا الموضوع بهذه الصراحة والوضوح.

المسألة الخامسة: في ما يتعلَّق بتفسير آية التطهير لا ينبغي بنا تفسيرها وكأنّها الآية الوحيدة في القرآن، ولا وجود لغيرها من الآيات! فإذا أردْتَ أن تستنبط عصمة الأئمّة من آية التطهير؛ ولهذا السبب كنتم تتجاهلون سياق الكلام وارتباط الآيات ببعضها، يجدر بكم الالتفات إلى أن هناك آياتٍ أخرى أيضاً، وهي تنفي نظريّتكم، ومن هذه الآيات: قوله تعالى: ﴿وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ﴾ (محمد: 19).

وكذلك في الآية 55 من سورة «غافر»، والآية 2 من سورة «الفتح»، ورد التصريح بنسبة «الذنب» إلى النبيّ الأكرم|. ومن هنا نسأل: كيف يمكن أن لا يكون النبيّ الأكرم| معصوماً من الذنب ويكون الأئمّة الأطهار^ مبرَّؤون منه؟! ونحن ـ بطبيعة الحال ـ لا نقول بأن «ذنب النبيّ|» كان ـ معاذ الله ـ من مُنْكَرات الأعمال والأخلاق، وإنما نقول: إنه لا بُدَّ أن يكون مصداقاً لـ «ذنبٍ» ما؛ لأن لغة القرآن لغةٌ سهلة وفصيحة، ولو كان للذنب معنىً آخر لاختار لبيان مراده تعبيراً ولفظاً مناسباً قطعاً. وكما نرى فإن القرآن الكريم كما نسب «الذنب» إلى المؤمنين والمؤمنات فقد استعمل ذات التعبير بالنسبة إلى النبيّ الأكرم|.

7ـ الشأنيّة الخاصّة لـ «نساء النبيّ»

والآن يجب علينا أن نعلم بأن الله سبحانه وتعالى ـ كما يُفْهَم من الآيات الأخرى ـ قد أراد الطهارة لجميع المؤمنين. وهذا الأمر يشمل أهل البيت أيضاً. إذن لماذا عاد مرّةً أخرى ووجَّه الخطاب هذه المرّة لخصوص نساء النبيّ الأكرم|، بمعزلٍ عن الآخرين([33])، فهل كان لنساء النبيّ شأنٌ خاصّ؟

أجل، كما نعلم، إنه في صدر هذه الطائفة من الآيات، وقبل الخطابات المذكورة، ورد التذكير لهنّ بأن الزواج والاقتران بالنبيّ الأكرم| يستوجب الالتزام ببعض المسؤوليّات الخاصّة، ولذلك فإنْ كنتنّ لا تردْنَ أو لا تستطعْنَ تحمُّل أعباء هذه المسؤولية، وكنتنّ تردْنَ بلحاظ المسؤولية أن تكنّ مثل سائر النساء، فتعالينَ وانفصلْنَ عن رسول الله بالحُسْنى([34]).

ثمّ توجّه بالخطاب إلى اللاتي قبلْنَ بتحمُّل أعباء هذه المسؤولية، وقال لهنّ: ﴿يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ﴾، إن جميع الأنظار متّجهةٌ إليكنّ، وبطبيعة الحال فإن المطلوب من غيركنّ مطلوبٌ منكنّ بدرجةٍ أشدّ وأكبر؛ وذلك لمكان سكناكنّ في بيت رسول الله|، الذي تنزل فيه الآيات الإلهية الحكيمة، والذي يتلوها هو شخص رسول الله. وعليه فأنتنّ في منزلةٍ يتوقَّف عليها حفظ سمعة وكرامة وعِرْض رسول الله|.

ولذلك إنْ اتقيتنّ فسوف يكون لذلك تأثيرٌ إيجابيٌّ على رسالة ودعوة رسول الله، وسوف تحصلْنَ على ضعف الأجر والثواب؛ ثواب لكنّ بوصفكنّ من المسلمات، وقد قمتنّ بعمل الخير؛ وثواب آخر بسبب التأثير الإيجابيّ الذي يتركه سلوككنّ على دعوة النبيّ الأكرم|؛ بسبب انتسابكنّ له.

وأما لو اخترتُنّ الانحراف والزَّيْغ واقتراف الذنوب فإنكنّ بذلك سوف تخفضْنَ من تأثير جهود النبيّ الأكرم| في تبليغ الرسالة، ولذلك سوف يطالكنّ عذابٌ مضاعف. إن الناس ينظرون إليكنّ، وحيث يرَوْن أعمالكنّ وأفعالكنّ ليست كما ينبغي فإنهم سيضعفون عن اتّباع النبيّ الأكرم| واعتناق دعوته، وسوف يقولون: إن أقرب الناس إلى النبيّ ـ أي نساءه المجالسات له على الدوام ـ على هذه الشاكلة، ولم ينجَحْ النبيّ في تربيتهنّ وتزكيتهنّ، فكيف يريد أن يزكّينا ويعلّمنا؟! ومن هنا فإن الله سبحانه وتعالى يقول: يجب عليكنّ أن تتقيَّدْنَ بالتعاليم والأوامر الإلهية، وأن تجتنبْنَ نواهيه بشكلٍ أشدّ وآكد من اجتناب غيركنّ. وهذا الأمر لا يأتي بداعي التشديد عليكنّ، وإنما لكي يطهّركنّ، ولا يعلق بكنّ شيءٌ من دَرَن الآثام؛ حيث الأضواء مسلَّطةٌ عليكنّ، والأنظار متَّجِهةٌ نحوكنّ.

وهذا الأمر يُفْهَم منه أن المخاطَبين بهذه الآية ليسوا معصومين بالعصمة التكوينية، بل إن طهارتهم مشروطةٌ. وإن طهارة كلّ واحدةٍ منهنّ منوطةٌ بمقدار إطاعتها للأوامر الإلهيّة؛ فكلّ مَنْ يطيع ويعبد الله أكثر سوف يحصل على طهارة أكبر. نحن لا ندّعي أن جميع المخاطَبين بهذه الآيات كانوا على مستوىً واحد في إطاعة الله سبحانه وتعالى، بل إن نصيب كلّ واحدٍ منهم من الطهارة إنما هو بما يتناسب ومقدار جهاده وعمله وسَعْيه في اكتساب مرضاة الله عزَّ وجلَّ.

والآن من المناسب أن نلفت انتباهكم إلى الفقرة السابعة من رسالة أخينا؛ حيث قال بصيغة الاستبعاد: «إذا كان المراد من أهل البيت نساء النبيّ الأكرم| فسوف يثبت لهنّ؛ بمقتضى هذه الآية، مقاماً أسمى وأعلى من جميع الناس؛ إذ تمّ تطهيرهنّ من جميع أنواع الرِّجْس والخبائث».

يبدو لنا أن استبعاده يستند إلى حدٍّ كبير إلى مسائل من قبيل: «واقعة الجمل» ونظائرها، حيث خرجت عائشة (زوج رسول الله|) لحرب أمير المؤمنين عليّ×، وعليه من الممكن أن يَرِدَ هذا السؤال القائل: إذا كانت نساء النبيّ الأكرم| ـ ومن بينهنّ عائشة بنت أبي بكر ـ مخاطَبات بهذه الآية، وبالتالي تثبت لهنّ مثل هذه الدرجة العالية والمقام الرفيع، إذن كيف خرجَتْ على شخصٍ لا يخفى علوّ درجاته ورفعة شأنه على أحدٍ؟!

يجب علينا في هذه الآية الكريمة أن نلتفت إلى وجود كلمة «إنْ»، وهي من أحرف الشرط، ولا نتجاهلها. تقول الآية الكريمة: ﴿يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ﴾ (الأحزاب: 32)، ثمّ يذكر بعد ذلك عدداً من الأوامر والنواهي الإلهية بوصفها من مصاديق التقوى. وكما تلاحظون فإن هذا المقام السامي والمنزلة الفريدة قد أُعطيَتْ على نحوٍ مشروط، بمعنى أن هذه الجملة هي في الحقيقة جملةٌ شرطية، وتحتوي جزءَيْن، على النحو الآتي؛ حيث جملة جزاء الشرط متقدِّمةٌ على الجملة الشرطية:

1ـ «إن اتقيتنّ» (جملة الشرط).

2ـ «لستنّ كأحدٍ من النساء» (جزاء الشرط).

ومضافاً إلى ذلك ـ وكما ذكَرْنا سابقاً ـ فقد وردَتْ الأفعال في آية التطهير بصيغة الفعل المضارع، وليس بصيغة الفعل الماضي. وعليه نعيد ونكرِّر القول: حيث إن الوصول إلى هذا المقام السامي قد ورد معلَّقاً على شرطٍ فإن الطهارة والبراءة من الرِّجْس سوف تكون ـ بطبيعة الحال ـ بالنسبة إلى كلّ واحدةٍ من المخاطَبات بهذه الآية رَهْناً بمدى إطاعتها وامتثالها لهذه الأوامر واجتنابها عن النواهي الإلهية. فكلّ مَنْ يعبد الله ويطيعه أكثر يحصل على طهارةٍ أكبر، ويقترب من المقام المذكور. وإلاّ فنحن لا ندّعي أن جميع المخاطَبين بهذه الآية كانوا على مستوىً واحد في إطاعة الله، كما أننا لسنا بصدد الدفاع عن جميع نساء النبيّ الأكرم| دون قيدٍ أو شرطٍ، وإنما الذي نقوله هو أن نصيب كلّ واحدٍ منهم من الطهارة رَهْنٌ بما يتناسب وحجم التقوى والجهاد الذي يتحلّى به من أجل مرضاة الله سبحانه وتعالى.

وعلى هذا الأساس نُصلح عبارة أخينا على النحو التالي: طبقاً لآيات سورة الأحزاب لو أن نساء النبيّ الأكرم| ـ بالنظر إلى موقعهنّ الخطير ـ قد اتّقَيْنَ فإنهنّ سيحصلْنَ على منزلةٍ ومكانة رفيعة بين النساء، وسوف يضاعف لهنّ الثواب، ولو لم يعملْنَ بما يقتضيه موقعهنّ الخطير فإن عذابهنّ سوف يكون مضاعفاً.

وبعبارةٍ أخرى: نحن نقول: لقد قامت الإرادة التشريعية لله سبحانه على تمسُّك أهل بيت النبيّ الأكرم| ـ الأعمّ منه ومن زوجاته وبناته وأصهاره وأحفاده ـ بالطاعة والعبادة، واجتناب الذنوب، وحيث إن هذه الإرادة لم تكن إرادةً جَبْريّة وتكوينيّة فليس من الضروري أن تؤدّي إلى نتيجةٍ واحدة بالنسبة إلى جميع مصاديق أهل بيت النبيّ|، بل قد يصل بعض المخاطَبين بهذه الآية إلى أعلى المراتب والدرجات؛ وفي الوقت نفسه يبقى بعضهم الآخر ـ بسوء اختياره ـ في الحضيض.

قد يُقال: إن خطاباتٍ من قبيل: «قَرْنَ في بيوتكنّ»، و«لا تبرّجْنَ»، و«لا تخضعْنَ بالقول» لا تشمل النبيّ الأكرم|. وعليه؛ حيث لا يكون النبيّ الأكرم| مشمولاً بالخطاب، لن يكون استعمال الضمير المذكَّر «كم» قابلاً للتوجيه والتفسير!

ونلفت عنايتكم هنا إلى أن الخطابات المتقدِّمة وإنْ لم تكن بالدليل العقلي موجَّهةً إلى الرجال، ومنهم النبيّ الأكرم|، بَيْدَ أن الآيات الخاصّة بالنساء، وكذلك الآيات الموجَّهة إلى الرجال والنساء (من قبيل: إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة وإطاعة الله)، كلاهما يشترك في الهدف والعلّة الغائية من صدور هذه الأحكام، وهي تطهير المخاطَبين وإذهاب الرِّجْس عنهم. وعلى هذا الأساس، فإن النبيّ الأكرم| خارجٌ عن بعض هذه الأمور، وليس جميعها؛ إذ كما تقدَّم فإن الأعمال الصالحة لم تكن غير ذات تأثير على النبيّ الأكرم|، وإنما هي مفيدةٌ في ارتقائه وطهارته أيضاً. وعليه لا مندوحة ولا مفرّ من استعمال الضمير «كم»؛ لأن طهارة النبيّ ـ بوصفه أوّل أسوةٍ وقدوةٍ في عالم الإسلام ـ كانت من أهداف وغايات صدور الأحكام الشرعية.

ولبيان هذه المسألة بشكلٍ أوضح نذكر المثال التالي: لنفترض أن شخصاً يقف أمام باب بيت رئيس الجمهورية أو أحد مراجع التقليد ـ الذين يتمتَّعون بشهرةٍ اجتماعية، ويحظَوْن باحترام الناس ـ، ويخاطب نساءه بالقول: «يا نساء رئيس الجمهوريّة، أو يا نساء المرجع الدينيّ، لا تخرجْنَ من المنزل دون ضرورةٍ، ولا تبرّجْنَ، وحافظْنَ على حجابكنّ، وأقمْنَ الصلاة، وآتين الزكاة، والتزمْنَ بالصيام، وبكلمةٍ واحدة: اتَّقينَ الله. وليس مرادي من هذا الكلام سوى أن تتحلَّيْنَ ـ وأنتنّ من أهل هذا البيت، الذي هو بيت رئيس الجمهورية أو بيت المرجع الدينيّ الأعلى، وتنتسبنَ إليه، وأنظار جميع الناس متّجهةٌ إليكنّ ـ بالطُّهْر والتقوى».

نحن نرى طبقاً للعقل السليم ـ وحتّى أبسط الناس يفهم مراد المتكلِّم بهذا الكلام بوضوحٍ تامّ، ولا يقول في نفسه: بناءً على هذا الكلام يتعين على مرجع الدين ورئيس الجمهورية بدَوْره أن يقرّ في بيته، وأن لا يظهر أمام المحارم من دون حجابٍ! بل يدرك ـ أن رئيس الجمهورية ومرجع التقليد خارجٌ عن شمول هذا القسم من الكلام، كما أنه لا يعتبر المرجع الدينيّ ورئيس الجمهورية خارجاً عن غاية المتكلِّم، وشمول الأحكام ـ الشاملة للرجال والنساء ـ، من قبيل: وجوب الصلاة والزكاة وما إلى ذلك.

8ـ الفرق الموهوم بين الخطابات القرآنيّة

يحتمل أن يكون أخونا [كاتب الرسالة] قد تأثَّر بالعلاّمة المجلسي([35]) عندما قال: «إن خطابات القرآن الموجَّهة إلى نساء النبيّ الأكرم| خطاباتٌ قاسيةٌ وعنيفةٌ، تنطوي على الكثير من اللَّوْم والتقريع؛ في حين أن آية التطهير ذاتُ لحنٍ ليِّنٍ، وتثبت مقاماً سامياً لمخاطَبيها. وتلك الملامة القاسية وهذا اللين لا ينسجمان».

وبناءً على ما تقدَّم ذكره حتّى الآن يتّضح خطأ هذا الكلام. وفي ما يلي نعيد التذكير بالنقاط التالية:

أوّلاً: كما ذكَرْنا سابقاً فإن هذه الآيات ـ بناءً على تصريح القرآن ـ بصدد بيان الهدف والعلّة الغائية من صدور الأوامر والنواهي، وليست في مقام مَدْح أو قَدْح المخاطَبين، وبيان مقاماتهم التكوينية.

ثانياً: كما ذكَرْنا سابقاً فقد ثبت في علم الأصول أن «الأمر والنهي» في مثل هذا المقام لا يعني أن المخاطَب لم يكن يعمل بـ «المأمور به» أو يجتنب «المنهيّ عنه».

ثالثاً: اتّضح مما تقدَّم ذكرُه أن الإرادة المذكورة في الآية إرادةٌ تشريعية، وليست إرادةً تكوينية.

رابعاً: اتّضح حتى الآن أن «الحَصْر» في هذه الآية حَصْرٌ موضوعيّ؛ بمعنى أنه حَصْر في الغاية والهدف من الأحكام، وليس حَصْراً في الأفراد.

خامساً: إن الأفعال الواردة في آية التطهير أفعالٌ مضارعة، وليست أفعالاً ماضية، وكأنّ التطهير وإذهاب الرِّجْس مشروطٌ ومتوقِّفٌ على القيام بأفعالٍ تقدَّم ذكرها، وهذه الأوصاف لا تنطبق على ما ذكرتموه بالنسبة إلى السيدة فاطمة الزهراء وبعلها وابنَيْها^.

سادساً: كما سبق أن ذكَرْنا إنْ كان مراد الآية هو ما يروق لكم فإنها في مثل هذه الحالة لن تكون بليغةً بالمقدار الكافي، أو فصيحةً في بيان المراد؛ ولن تكون خاليةً من الغموض والإبهام؛ والأهمّ من ذلك أنها ستكون منفصلةً عن الآيات السابقة واللاحقة بالكامل. ولا شَكَّ في أن هذا لا يتناسب مع أسلوب الحكيم.

سابعاً: خلافاً لما ادّعيتموه فإن خطابات سورة «الأحزاب» لا تنطوي على تقريعٍ ولَوْم. وأذكِّر هنا بأن الآية 6 من هذه السورة قد وصفَتْ نساء النبيّ الأكرم| بأنهنّ «أمَّهات المؤمنين»، ويجب التعامل معهنّ كما يعامل أحدنا أمّه؛ وبذلك فإنهنّ محطّ تكريم واحترام المؤمنين والمؤمنات. يُضاف إلى ذلك أنه قد تمّ توجيه الخطاب إليهنّ بقوله تعالى: ﴿يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ﴾ مرّتين، وكفى بذلك شَرَفاً لهنّ؛ حيث تنشأ عظمتهنّ من انتسابهنّ إلى بيت «خاتم النبيّين|». والأهمّ من ذلك أن القرآن الكريم قال لهنّ: إنْ تطعْنَ الله ورسوله وتتّقينَ فإنكنّ سوف تكنّ أعظم من جميع النساء بلا استثناءٍ([36]). ثمّ واصل الكلام بحرف العطف «الفاء»، وقال في الواقع: وعليه إذا كنتنّ تردْنَ الحصول على هذا المقام السامي والمنزلة الفريدة فما عليكنّ إلاّ امتثال الأوامر واجتناب النواهي الإلهية.

وعليه، نرجو منكم الإنصاف والقول: هل في هذا الكلام شيءٌ من القسوة واللوم والعتاب أم هو كلامٌ يُقال بداعي الحثّ والتشجيع؟ وهل إذا قلنا لشخصٍ: «أقم الصلاة، وعليك بالصيام وإيتاء الزكاة؛ لتبلغ المقامات العالية» نكون قد قسَوْنا عليه أو عاتبناه على شيءٍ؟! ألم يقُل الله سبحانه وتعالى لنبيّه الأكرم|: ﴿أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً وَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾ (يونس: 105)، وقال له أيضاً: ﴿وَأَقِمِ الصَّلاَةَ إِنَّ الصَّلاَةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ﴾ (العنكبوت: 45)، وقال للنبيّ موسى×: ﴿وَأَقِمِ الصَّلاَةَ لِذِكْرِي﴾ (طه: 14).

يُضاف إلى ذلك أن القرآن الكريم قد قال لهنّ: «إن آيات الوَحْي تتلى في بيوتكنّ»، وهذا يُعَدّ امتيازاً ومَدْحاً لمَنْ يسكن في بيتٍ ينزل فيه الوَحْي، ويكون رسول الله| هو الذي يتلو فيه تلك الآيات.

وهناك من العلماء مَنْ ادّعى أن الآية 33 من سورة الأحزاب قد اشتملت على «صناعة الالتفات». كما نجد اشتمال سورة «فاتحة الكتاب» على هذه الصناعة أيضاً.

ويجدر بنا أن نعلم أنه كما يبدو من تسمية صناعة «الالتفات» يتمّ الانتقال والالتفات من الغائب إلى المخاطَب، أو من المخاطَب إلى الغائب.

غير أنه في آية التطهير لم يحدث مثل هذا الشيء.

إن الخطاب في الآيتين 32 و34 من سورة الأحزاب ـ الآيتين السابقة واللاحقة لآية التطهير ـ، وكذلك صدر آية التطهير (الآية 33 من سورة الأحزاب)، موجَّهٌ إلى نساء النبيّ الأكرم|، وفي مقام التعليل في الآية 33 من سورة الأحزاب، المبيِّنة للعلّة الغائية من الخطابات المذكورة، لم يتمّ الالتفات من المخاطَب إلى الغائب؛ وإنما عند بيان الغاية من الخطابات السابقة واللاحقة تمَّت الاستفادة من ضمير الجمع المذكَّر المخاطَب، بمعنى أنه لم يتمّ استعمال «صناعة الالتفات»، وإنما تمّ توظيف قاعدة «التغليب». وقد سبق لنا أن تحدَّثنا عن هذه القاعدة بالمقدار اللازم، ولا نرى هنا ما يدعو إلى التكرار. وعلى هذا الأساس، لا وجه للتمسُّك بصناعة «الالتفات» في آية التطهير.

وهناك من العلماء مَنْ قال: إن ذيل الآية 33 من سورة الأحزاب ـ كما هو الحال بالنسبة إلى جملة «لو تعلمون» في سورة الواقعة ـ «جملةٌ معترضة»، ولذلك فهي غير مرتبطةٍ بما قبلها وما بعدها!

إن على هؤلاء أن يلتفتوا إلى أن من خصائص الجملة المعترضة أن تأتي في وسط الكلام، لا في آخره، هذا أوّلاً.

وثانياً: إن حذفها لا يضرّ بسياق وارتباط ما قبلها وما بعدها، كما هو الحال بالنسبة إلى جملة «لو تعلمون»؛ حيث وردَتْ في وسط الكلام، ولو تمّ رفعها من آية سورة «الواقعة» لم تحدث خَلَلاً، وتبقى عبارة «وإنه لقَسَم… عظيم» كلاماً متكاملاً. في حين أن العبارة موضع البحث في آية التطهير أوّلاً: قد وردت في آخر الآية، وليس في وسطها؛ وثانياً: إنها تبيّن العلّة الغائية من صدور الأوامر والنواهي إلى المخاطَبين بالآية، ولذلك فإن حذفها سوف يحدث خَلَلاً ونقصاً في الكلام. كما أنه لم يتمّ في الآية 6 من سورة المائدة صرف النظر عن بيان علّة صدور الأوامر. وعلى هذا الأساس، لا يكون التشبُّث بكون ذيل الآية 33 من سورة الأحزاب جملةً معترضةً وجيهاً.

9ـ دلالة الروايات من وَحْي الآيات

ننتقل الآن إلى الروايات والأحاديث التي أشار إليها أخونا [كاتب الرسالة] في ختام رسالته.

وبطبيعة الحال فإن البحث بشأن الروايات بحثٌ مفصَّل وطويل وعريض، لا يَسَع المجال هنا لبحثها على نحو التفصيل والاستيفاء.

ولكنْ علينا أن نعرف إجمالاً أن الروايات المرتبطة بآية التطهير على أقسام:

1ـ طائفةٌ من الروايات ـ وهي التي نسمّيها «روايات أصحاب الكساء» ـ تدلّ على أنه بعد نزول آيات سورة الأحزاب قام النبيّ الأكرم| بجمع السيدة فاطمة الزهراء والإمام عليّ والإمامين الحسن والحسين^ في حجرة السيدة أمّ سلمة، واشتمل معهم بكساءٍ، وقال: «هؤلاء أهل بيتي…»، ثمّ تلا آية التطهير.

2ـ والطائفة الأخرى من الروايات تقول: إن آية التطهير قد نزلت بشأن الإمام عليّ والسيدة فاطمة الزهراء وابنَيْهما. وهي في الواقع تشبه الطائفة الأولى من الروايات.

إن هذا النوع من الروايات، حتّى إذا اشتملت على جميع شرائط الصحّة، لا تدلّ أبداً على عدم اعتبار نساء النبيّ الأكرم| من أهل بيته؛ حيث نعلم جيِّداً أن إثبات شيءٍ لا ينفي ما عداه.

ولكنْ قبل الخوض في الطائفة الثالثة من الأخبار والروايات يجب علينا التذكير بهذه النقطة، وهي أن بعض العلماء قال بشأن الروايات من الطائفة الأولى([37]): لو سلَّمنا عدم وجود خَدْشٍ في إسناد أو متن الروايات، إلاّ أن هذا النوع من الروايات لا يدلّ على عدم خروج نساء النبيّ الأكرم| من آية التطهير فحَسْب، بل إن مضمونها يؤكِّد قطعيّة كونهنّ من أهل البيت أيضاً! وذلك لأن دعاء النبيّ| بهذه العبارات والألفاظ المذكورة إنما هو لإدخال هؤلاء الأربعة الميامين في زمرة «أهل البيت». كما أن قول النبيّ الأكرم|: «هؤلاء أهل بيتي» كان من أجل شمول شرط آيات سورة الأحزاب لهم؛ وذلك لأن «أمّ سلمة» ـ زوج النبيّ| ـ سألَتْه أن تدخل معهم تحت الكساء، فقال لها النبي|: «إنك إلى خيرٍ، إنك من أزواج النبيّ»، وفي حديثٍ آخر: «أنتِ على مكانكِ، أنتِ على خيرٍ»، أو قال لها مرّتان [أي مؤكِّداً]: «أنتِ على خيرٍ، أنتِ على خيرٍ».

وفي الواقع إن هذا النوع من الكلام الصادر عن النبيّ الأكرم| يؤكِّد على أن أمّ سلمة وسائر زوجاته هن من أهل البيت حقيقةً، وبالتالي تكون مشمولةً لشرط الآيات، ولذلك فإنه يقول لها: إنكِ على خيرٍ، ولا حاجة لكي أدعو لكِ لتكوني مشمولةً بهذه الآيات، ولكنّي أدعو لكي يكون هؤلاء الخاصّة من أحبّتي مشمولين لشرط الآيات، ويشملهم التوفيق في الحصول على كمال طهارة النفس.

ونحن ـ بطبيعة الحال ـ لا نصرّ على إثبات قطعيّة هذا الرأي، ولكنْ حيث نرى في الغالب هذا النوع من الروايات مثاراً للبحث والنقاش([38]) ـ كما رأَيْنا ذلك حتّى الآن ـ فإننا نسعى، من خلال التأمُّل والتدبُّر في ذات الآيات الكريمة، ومقارنة الآيات المتشابهة مع بعضها، ومن خلال النظر إلى القرائن وسياق الآيات ومعاني الألفاظ، للاقتراب من المدلول الحقيقي للآيات، لنعمل بعد ذلك على بيان وتحليل هذه الروايات في ضوء هذه الآيات الكريمة.

3ـ ننتقل الآن إلى القسم الثالث من الروايات، التي تُذكر عادةً في ذيل الآية رقم 132 من سورة «طه»([39]). إن هذه الروايات تتناسب مع ما ذكرناه حتّى الآن إلى حدٍّ كبير، ويمكن القول: إنها تؤيِّد قولنا بشأن آية التطهير. تقول هذه الطائفة من الروايات: إن رسول الله عندما كان يخرج فجراً إلى المسجد لأداء صلاة الصبح كان يقف عند باب بيت الإمام عليّ×، ويقول: «الصلاة، الصلاة»، ثمّ يتلو آية التطهير.

فإنْ كانت هذه الطائفة من الروايات تحتوي على جميع شرائط الصحّة فنقول:

أوّلاً: ليس فيها أيّ دلالةٍ على أن نساء رسول الله| لَسْنَ من أهل بيته.

ثانياً: إن ما كان يقوم به رسول الله|، بعد حثِّهم على الصلاة، من قراءة آية التطهير يُثبت بوضوحٍ أن النبي الأكرم| كان في الحقيقة والواقع يقول لهم: استيقظوا وأدركوا وقت الصلاة؛ لأن إرادة الله من تشريع الصلاة هي تطهير نفوسكم؛ فأقيموا الصلاة كي تطهروا. وبعبارةٍ أخرى: إنه كان يرى أن الطهارة النفسيّة هي ثمرة إقامة الصلاة، التي هي من جملة العبادات ومن الأمور التشريعية.

ثالثاً: تدلّ على أن الإمام عليّاً× وزوجته السيدة فاطمة الزهراء÷ كان لهم بيتٌ مستقلّ ومنفصلٌ عن بيت النبيّ الأكرم|.

رابعاً: لو أن النبيّ الأكرم| كان قد عمَّم هذه الآية على غير نسائه أيضاً لما كان هناك إشكالٌ في ذلك؛ إذ إن الإرادة المذكورة في هذه الآية ـ كما تقدَّم ـ هي إرادةٌ تشريعية، وإن النبيّ الأكرم| قد ذكر هذه الغاية ـ التي خصّ بها المخاطَبين الأوائل ـ بالنسبة إلى الآخرين أيضاً. وفي الحقيقة فإن اختلاف المخاطَبين الأوائل بهذه الآية عن سائر المسلمين يكمن في أن مطالبتهم بآية التطهير كانت على نحوٍ أشدّ وأكثر تأكيداً. وبعبارةٍ أخرى: إن مسؤوليتهم أشدّ وأخطر؛ ومن هنا فإنهم سيحصلون على أجرٍ مضاعف في حال الامتثال، وعقابٍ مضاعف عند عدم الامتثال. وهذا لا يعني أن الغاية في هذه الآية لا تشمل الآخرين أبداً، وأنها منصرفةٌ عنهم بالكامل. وعليه ليس هناك ما يمنع من تعميمها على الآخرين.

فما هو الإشكال فيما لو أن النبيّ الأكرم| قد قرأ هذه الآية مخاطِباً بعض النساء أو الرجال، وقال لهم: أقيموا الصلاة، وآتوا الزكاة، وامتثلوا أوامر الله؛ فإن الله يريد أن يطهِّركم بواسطة هذه الأعمال؟ وهل سيكون ذلك دليلاً على أن زوجات النبيّ| لسْنَ مخاطَبات بآية التطهير؟!

وعلى هذا الأساس، فإن الروايات بدَوْرها ـ كما ذكَرْنا ـ لا تدلّ على خروج نساء النبيّ الأكرم| من خطاب آية التطهير.

10ـ العصمة في مراتبها المختلفة

حيث تقدَّم أن قطَعْنا على أنفسنا وَعْداً بالتعرُّض لمسألة «العصمة»([40]) بتفصيلٍ أكبر فسوف نذكر هنا كلام بعض المؤلِّفين([41]) حول العصمة، ونناقشه على نحو الإجمال.

قال سماحته: «لا شَكَّ في أن العصمة تعني استحالة صدور الذنب والخلاف من المعصوم، إلاّ أن هذه الاستحالة تأتي نتيجة تربيةٍ خاصّة، وزيادةٍ لقوّة الإرادة، وضبطٍ للنفس، وتأييدٍ من الله تعالى وإمدادٍ منه سبحانه لعبده قبل ذلك كلّه، بدرجةٍ يستحيل معها صدور الذنب والخلاف من العبد. وليس معنى العصمة انعدام الإرادة والاختيار في سلوك الإنسان، وإنما معناها تقوية الإرادة وتكاملها بدرجةٍ يستحيل معها صدور الذنب ومخالفة الله، واتّباع الهَوَى من الإنسان.

ولنضرب على ذلك مثلاً يُقرِّب إلينا المقصود: كلّ واحدٍ منا يتمتَّع بدرجةٍ من العصمة، وتختلف مساحة (العصمة) من شخصٍ إلى آخر، باختلاف تربيته ومعاناته مع نفسه ـ وقوّة إرادته ـ، وقدرته على مخالفة الهوى وضبط النفس، ودرجة تهذيب النفس.

فيستحيل على الأمّ ـ مثلاً ـ أن تقتل أولادها بيدها، ولا يمكن أن نتصوَّر أنّ أمّاً تقدم على قتل أولادها بيدها مهما غضبَتْ الأمّ من أطفالها. وهذه الدرجة من العصمة موجودةٌ ـ في الأعمّ الأغلب ـ في الأمّهات (غير الحالات الاستثنائيّة والمَرَضية).

وهذه العصمة تتمّ بإرادة الله تعالى التكوينية؛ بما أودع في قلب الأمّ من عاطفةٍ ورحمةٍ تجاه أولادها. إلاّ أن ذلك لا يعني إطلاقاً انعدام الإرادة في الأمّ، وصدور هذه الرحمة عنها من غير إرادةٍ واختيارٍ. ويستحيل على كثيرٍ من الناس ـ مثلاً ـ قتل النفس المحرَّمة عمداً؛ لأسبابٍ تافهة جزئية، أو خلافٍ في حقٍّ أو جدالٍ في رأيٍ؛ بينما لا يملك السفّاحون من الناس هذه الدرجة من العصمة. أما عامّة الناس فيستحيل في حقِّهم الإقدام على جريمة القتل بسببٍ تافهٍ جزئيّ، بكلّ ما تحمل الاستحالة من معنىً.

ونرتفع درجةً أخرى على هذا السلّم البشري في السلوك؛ فنجد أن طائفةً كبيرة من الناس يعيشون على مستوى أعلى من هذا المستوى العامّ، فيستحيل في حقّهم الاعتداء على الآخرين بظلمٍ مجحفٍ، مثل: قطع أرزاق الناس ومحاربتهم في معاشهم، وإلقائهم في السجون، واضطهادهم وتعذيبهم، لاختلافٍ جزئيّ في حقٍّ أو رأيٍ؛ بينما يمارس آخرون هذا النحو من السلوك، من غير تحرُّجٍ، ولأسبابٍ جزئية([42]).

وهذه درجةٌ من العصمة أعلى من سابقتها، ومساحة من العصمة السلوكية أوسع من المساحة السابقة. ولا شَكَّ في أنها تأتي نتيجةً لتربيةٍ أقوى للمحافظة على يقظة الضمير وسلامة النفس وتهذيبها.

وإذا ارتفَعْنا على هذا السلّم درجةً ثالثة نجد أناساً يستحيل في حقّهم أن يظلموا آخرين بكلامٍ فاحش بذيء بمرأىً من الناس ومسمعٍ، أو حتّى الدخول في سبابٍ صاخب بذيء. وذلك يدلّ على درجةٍ أسمى من التربية ومجاهدة النفس وضبطها وتهذيبها، ومكانةٍ اجتماعية خاصّة، ومؤثِّرات اجتماعية وتربوية تفرض على الإنسان هذا السلوك المعيَّن، بمَحْض إرادته واختياره.

ونصعد درجةً أخرى لنرى طائفةً من الناس آتاهم الله حظّاً واسعاً من الدين، وهيّأ لهم تربيةً صالحة، وأيّدهم بروحه وفضله، يستحيل في حقِّهم أن يُسبِّبوا أيّ أذىً لمؤمنٍ، حتى لو كان عبر إشارةٍ مؤذية عابرة أو غيبةٍ أو نميمةٍ بسيطة. وهذه الطائفة، وإنْ قلَّتْ، لكنّها موجودةٌ فعلاً، ويستحيل في حقِّهم صدور أيّ ظلمٍ أو أذىً للمؤمنين، كما يستحيل في حقّ غالب الناس أن يرتكبوا جريمة القتل من دون سببٍ، أو لسببٍ تافهٍ لا قيمة له، كما يقدم عليه الطغاة السفّاحون في الحرب والسلم.

وليس من شكٍّ في أن الإنسان يرتقي هذا السلّم الصعودي لدرجات العصمة، وفي كلّ درجةٍ يستحيل في حقّه الظلم والاعتداء بمساحةٍ خاصّة، تتّسع كلّما ارتفعت درجة الإنسان في هذا السلّم. ويرتبط ذلك بما يتلقّاه الإنسان من تربيةٍ، وما يحصِّله من تهذيب نفسه وضبطها، والمحافظة على يقظة ضميره وسلامة قلبه، وأيضاً بما يمنحه الله تعالى من تأييدٍ وإمدادٍ في ساعات ضعف النفس.

وفي كلّ مرحلةٍ من مراحل العصمة لا تعني استحالة صدور المعصية والظلم من الإنسان أنها تتمّ في نفس الإنسان بصورةٍ قَهْرية، ومن غير تدخُّلٍ من إرادته واختياره، وإنما يتمنَّع الفرد من الظلم في كلّ مرتبةٍ من هذه المراتب بإرادته واختياره بالتأكيد، إلاّ أن مراتب الإرادة ودرجاتها تختلف باختلاف تربية الإنسان ومقاومته النفسية ومحيطه وبيئته ومركزه الاجتماعيّ، وغير ذلك من الأسباب، وفي مقدّمتها تأييد الله تعالى وإمداده إيّاه بتقوية إرادته في مواجهة حالات الضعف البشريّ؛ فتكون لكلّ مرحلةٍ من الإرادة درجةٌ من المناعة ومساحةٌ من العصمة.

لا شَكَّ في أن تأييد الله تعالى وإمداده لعبده من أهمّ هذه الأسباب المقوِّمة لإرادة الإنسان، والتي تضبط سلوك الإنسان من الانحراف والظلم والخلاف.

ولا شَكَّ أيضاً في أن درجة تأييد الله تعالى لعبده تتبع قانوناً دقيقاً جدّاً ـ شأن سائر سُنَن الله تعالى ـ، فكلّما جاهد الإنسان نفسه أكثر آتاه الله سبحانه وتعالى درجةً أعلى من التأييد، ومزيداً من الإمداد، قال الله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ﴾ (العنكبوت: 69).

فالعصمة واستحالة صدور الذنب والخلاف من العبد لا تعني إذن انعدام الإرادة والاختيار، وإنما تعني ارتفاع الإرادة إلى درجةٍ لا تغلبها قوى النفس التي تميل إلى الخلاف والانحراف.

وإذا استطَعْنا أن نتصوَّر (العصمة) في هذه المساحات المختلفة بشكلٍ لا يتنافى مع إيجابية الإرادة والاختيار فإننا نستطيع ـ في ضوء ذلك ـ أن نتصوَّر (العصمة) في مساحتها الكبرى في الأنبياء وأهل البيت^، بحيث تستحيل عليهم المعصية وصدور الظلم والخلاف بمَحْض إرادتهم واختيارهم، ودون أن يكونوا مغلوبين أو مقهورين في شيءٍ من ذلك أبداً.

وإذا تمّ هذا الإيضاح فلا يعسر علينا أن نفهم (الإرادة التكوينيّة) في آية التطهير، فهي من إمداد الله تعالى وفيضه وتأييده لعباده الصالحين من أهل البيت^ في تطهير نفوسهم وإذهاب الرِّجْس عنهم، وتقوية إرادتهم على نحوٍ تكوينيّ، وبقدرةٍ قديرةٍ من الله تعالى، تستحيل معها عليهم المعصية والذنب، بمَحْض إرادتهم واختيارهم.

وهذا التأييد الإلهيّ لا يؤدّي إلى سلب الاختيار والإرادة عنهم، وإنما هو في الحقيقة زيادةٌ لدرجة إرادتهم وقوّتها، وإمدادٌ لها بالقوّة والضبط، حتّى يستحيل عليهم فعل معصيةٍ أو ذنبٍ، كما يستحيل على الأمّ أن تقتل أطفالها ـ مثلاً ـ، دون أن يؤدّي ذلك إلى سلب الاختيار والإرادة منهم، وإنما بمَحْض اختيارهم وإرادتهم يجتنبون المعاصي والذنوب»([43]).

11ـ إشكالاتٌ وتعليقات

إن استحالة اختيار الذنب والابتلاء بالخطأ عبارةٌ أخرى عن عدم الاختيار؛ وذلك لأن الاختيار يعني «عدم استحالة كلا الطرفين المتباينين بالنسبة إلى المكلَّف»؛ فإذا استحال أحد الطرفين لن يكون هناك معنىً لاختيار المكلَّف في الواقع.

وعليه لا يكون الكاتب في ما قاله قد تمكَّن ـ من وجهة نظرنا ـ من حلّ المشكلة.

ومن هنا نرى في كلامه بعض الإشكالات، نشير في ما يلي إلى بعضها:

أوّلاً: إن المثال الذي ذكره المؤلِّف المحترم يتعلَّق بأمرٍ غريزيٍّ وغير اختياريٍّ، بحيث لا يحتاج إلى تمرينٍ وممارسةٍ وعملٍ بالأحكام التربوية، ولا يحصل بالتدريج. وفي الحقيقة لا يتمّ اختياره من قِبَل الأمّهات؛ بمعنى أن الأمر ليس بحيث تعمل بعض الأمّهات على اختيار غريزة الأمومة، وبعضهن لا يختَرْنها. وبعبارةٍ أخرى: إن هذه الغريزة ـ كما أقرَّ المؤلِّف بذلك ـ توجد بالإرادة التكوينيّة الإلهيّة لدى الأمّهات، ولكنْ لا بالمقدار الذي لا يتخلَّف مئة بالمئة. ولهذا السبب نشاهد التخلُّف عنه من حينٍ لآخر. ولو أن الله قد أودع هذه الغريزة بقوّةٍ، وبالحدّ الذي لا تستطيع الأمّهات التخلُّف عنها، لما شهدْنا تخلُّفاً عنها أيضاً.

والأهمّ هو أن الصفات التكوينية وغير الاختيارية كلّما كانت أشدّ وأقوى سوف تكون فاقدةً للفضيلة بنفس النسبة. ومن ذلك أن الذي لا يحرق نفسه بالنار أو لا يلقي بنفسه إلى التهلكة أو الذي لا ينتحر ـ على سبيل المثال ـ لا يكون مستحقّاً للثناء والمكافأة، ولا يُعَدّ ذلك فضيلةً له؛ لأن حبّ النفس أمرٌ فطريّ وغيرُ اختياريّ، وعليه فهو ليس أمراً يحصل عليه الإنسان بالتدريج، ومن خلال مجاهدة النفس؛ ولو أنه عمل على طبق ما تقتضيه هذه الغريزة لن يكون قد قام بمنجزٍ هامّ. ولهذا السبب لا تكون هناك في هذه الموارد حاجةٌ إلى المربّي أو الأسوة والمقتدى، وليس هناك مَنْ يتّخذ من الأئمّة الأطهار أسوةً له في مثل هذه الأمور، بل نحتاج إلى الأسوة والقدوة في الأمور التي تحتاج إلى تربيةٍ وجهادٍ للنفس وبناءٍ للذات.

وهكذا فإن موضوع بحثنا يقع في الموارد التي هي ـ على حدّ تعبيركم ـ حصيلة تربية القوى الإنسانية، ويقظة الوجدان، وسلامة النفس وتهذيبها. وكلّما كانت مجاهدة الإنسان لنفسه أكبر كان تأييد الله له أشدّ، وقد ربط الله سبحانه وتعالى هداية العباد في الآية 69 من سورة العنكبوت ـ كما أشار المؤلِّف ـ بمجاهدتهم لأنفسهم.

وكما تعلمون فإن التربية بمعنى العمل بموجب قوانين الشرع (الأوامر والنواهي) إنما تنشأ من الإرادة التشريعية لله، وإن مجاهدة النفس تعني تَبَعيّة الإنسان للإرادة التشريعية لله والعمل بمقتضاها، ممّا يستوجب السموّ الروحي للإنسان، في حين أنكم تذهبون إلى الاعتقاد بأن هذه المرتبة من العلوّ والسموّ الروحيّ، والتي تُوجِد العصمة من الخطأ والنسيان والذنب، لم تكن بالاختيار والإرادة واجتياز مراحل التربية والتعليم، وأنها غير قابلةٍ للتحقُّق بالنسبة إلى الآخرين، ولا تتحقَّق إلاّ بالنسبة إلى القلائل وعددٍ محدود من الناس (أربعة عشر معصوماً) بالإرادة الإلهيّة التكوينيّة.

ثانياً: إن المسائل المذكورة في هذا الكتاب ترتبط في الغالب بالذنوب، ولا ربط لها بالخطأ والنسيان؛ في حين أنكم تعتبرون العصمة حتّى من السَّهْو والنسيان أيضاً، ممّا لا صلة له بمجاهدة النفس والتربية الروحية للإنسان ومعرفة عواقب الذنب والبراءة منه. يُضاف إلى ذلك أن ما ذكرتموه بشأن التربية النفسية والتسامي الروحي يحتاج إلى وقتٍ طويل؛ في حين أنكم تعتبرون أن الإمام معصومٌ من الذنب والسَّهْو والنسيان منذ الصغر، ولا يمكن لهذه الظاهرة أن تكون فيهم ناشئةً من التربية والمجاهدة. ومن ذلك، على سبيل المثال، أنكم تعتبرون الإمامين الحسن والحسين’ ـ اللذين كانا صغيرين عند نزول آية التطهير ـ، وكذلك الإمام الجواد× ـ الذي كان عالماً منذ الصغر بحقائق الشريعة ـ، معصومين من الخطأ والسَّهْو والنسيان.

وعلى هذا الأساس، وكما ذكَرْنا سابقاً، فإن هؤلاء الأشخاص لا يمكن أن يكونوا أسوةً للذين لا تتوفَّر لديهم مثل هذه الإمكانيّة، ولا تشملهم الإرادة التكوينيّة والألطاف الإلهيّة. فكيف يمكن للذين يستقوون بالإرادة التكوينيّة الإلهيّة في الوصول إلى الكمال أن يكونوا أسوةً للذين لا يحظَوْن بمثل هذا الدعم والاستقواء بالإرادة التكوينية؟!

وكما تلاحظون فإن بحثنا ليس في معنى العصمة، وما إذا كان في وجود هؤلاء الأشخاص شيءٌ باسم الاختيار أم لا؛ إذ لا تأثير لوجود أو عدم الاختيار في بحثنا؛ فبناءً على ما تفترضونه إن هؤلاء الأشخاص يحظَوْن بتأييد الله وعنايته الخاصّة بـ «الإرادة التكوينية»، بحيث يختارون الخير والصلاح دائماً، ولا يتعرَّضون للخطأ والنسيان أبداً!

يبدو لنا أن قائل هذا الكلام قد غفل أو تغافل عن معنى «الإرادة التكوينية»؛ إذ كما هو واضحٌ ليس هناك أيّ مانعٍ أو تأخّرٍ بين الإرادة التكوينية ومراد الله سبحانه وتعالى. فلا يخرج الأمر من إحدى حالتين؛ فإما أن يكون للإرادة التكوينية الإلهية تأثيرٌ في هؤلاء الأشخاص؛ أو لا. والحالة الثالثة منتفيةٌ قطعاً. والحالة الأولى تؤدّي إلى ذات الإشكال الذي ذكَرْناه، بمعنى أنها أوّلاً: لا تشمل جميع المؤمنين، وتنحصر بالمعصومين الأربعة عشر فقط؛ وثانياً: في مثل هذه الحالة لا يقع اختيار وقدرة المكلَّف ـ كما ذكَرْنا سابقاً ـ بين الإرادة والمراد الإلهيّ. إن مجرّد الإرادة الإلهية التكوينية بمعنى عدم إمكان خلافها، وفي مثل هذه الحالة لا أهمّية لوجود وعدم وجود «الاختيار» من المكلَّف. وكما ذكَرْنا لو أن الله كانت له مثل هذه الإرادة تجاه الآخرين فإنهم سوف يسلكون طريق الخير والصلاح فقط.

12ـ لا علاقة بين آية المباهلة وآية التطهير

على أمل أن يكون في ما تقدَّم من هذا البحث المختصر ما يكفي من التأثير على أخينا؛ كي يجدِّد النظر في استنباطه حتّى الآن من آية التطهير، و«ما توفيقي إلاّ بالله».

ولكنْ قبل أن نختم الكلام لا بُدَّ لنا من عودةٍ إلى الفقرة السابعة من رسالة أخينا [كاتب الرسالة] ـ باختصارٍ شديد طبعاً ـ؛ لكي لا نكون قد أغفَلْنا هذه الفقرة أو تجاهَلْناها. فقد عمد الكاتب المحترم إلى جرّ آية المباهلة ـ غفلةً ـ إلى دائرة بحث آية التطهير، فنقول:

أوّلاً: إن لكلّ مقامٍ مقالاً. فقد كان بحثنا حتّى الآن حول مسألة ماهيّة الإرادة المذكورة في آية التطهير، وهل يمكن اعتبار نساء النبيّ الأكرم| من أهل بيته، وبالتالي يمكن اعتبارهنّ مخاطَبات بالآية 33 من سورة الأحزاب، أم لا؟ وعليه يبدو أن آية المباهلة لا تجدي شيئاً في الإجابة عن الأسئلة المطروحة بشأن آية التطهير.

اتّفقَتْ كلمة المفسِّرين على أن آية المباهلة إنما نزلَتْ في جماعةٍ من النصارى وفدوا على المدينة، وعلى رأسهم أسقف، وجادلوا رسول الله| في القول بأن النبيّ عيسى بن مريم× هو «ابن الله»، وقد رَدَّ عليهم رسول الله| بآياتٍ من القرآن الكريم، ولكنّهم أصرّوا على معتقدهم؛ عناداً، دون أن يقدِّموا دليلاً صحيحاً على كلامهم. وعندها أنزل الله على نبيِّه هذه الآية التي تقول: ﴿فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ اللهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ﴾ (آل عمران: 61).

وكان أسقف نجران قد قال لمَنْ معه من النصارى: إن رسول الله| إذا خرج لمباهلتكم بأبنائه والخاصّة من أهل بيته فلا تباهلوه، وأما إذا باهلكم بسائر أتباعه وأصحابه فباهلوه. وفي اليوم الموعود خرج النبيّ الأكرم|، مصطحباً معه الإمام عليّاً× وابنته السيدة فاطمة الزهراء÷ وسبطَيْه الحسن والحسين’، للمباهلة، وجاء النصارى بدَوْرهم إلى المباهلة أيضاً، فسألهم الأسقف: مَنْ جاء مع رسول الله|؟ فقالوا له: إن الرجل الذي معه هو عليٌّ، وهو ابن عمِّه وصهره وأحبّ الخلق إليه، ومعه ابنته فاطمة، وهي أحبّ الناس إليه، والولدان هما سبطاه. وبعد أن اطّلع الأسقف على ذلك امتنع عن المباهلة.

وعلى هذا الأساس نلاحظ أن هذه القضية ـ كما أدرك أسقف نصارى نجران ـ تدلّ على قمّة ثقة وعمق إيمان النبيّ الأكرم| ورسوخ عقيدته وغاية صدقه، بحيث إنه في أحلك الأزمات وأشدّها خطراً، بَدَلاً من إخراج أتباعه وأنصاره؛ ليتدرَّع بهم، يُخْرِج معه أحبّ الخلق إليه وأعزّ الناس لديه. وكان هذا هو دَيْدَن رسول الله| في تبليغ الدين والدعوة إلى الله. ومن هنا نرى استشهاد عمّ النبيّ حمزة بن عبد المطّلب، أو ابن عمّه جعفر بن أبي طالب (الطيّار). وفي موارد الخطر حيث لا يمكن للآخرين خوض غمار المنون ـ كما في قضيّة المبارزة مع «عمرو بن عبد ودّ» ونظائرها ـ يقدِّم ابن عمّه وصهره الذي ربّاه صغيراً في حجره، وهو الإمام عليّ×. كما كان النبيّ الأكرم| نفسه هو الأقرب أبداً من العدوّ عند احتدام المعارك واشتباك الأسنّة والرماح.

نعم، لو ادّعى أحدٌ بأن نساء رسول الله| هُنَّ الأحبّ إلى قلبه من السيدة فاطمة الزهراء وبعلها عليّ وابنَيْها أمكن التمسُّك بآية المباهلة للردّ على مُدَّعاه. ولكنْ نذكّر مرّةً أخرى أن بحثنا إنما كان حول هذه المسألة، وهي: هل الآية 33 من سورة الأحزاب تشمل نساء النبيّ|، ويُعتبَرْنَ من أهل بيته، أم لا؟

من الواضح أن آية المباهلة لا تشتمل على جوابٍ عن هذا السؤال.

ثانياً: إذا كان مراد أخينا [كاتب الرسالة] هو تذكيرنا بذات الادّعاء المشهور الذي يُقال بشأن هذه الآية فسوف نضطرّ إلى بيان بعض الإشكالات الواردة على هذه الادّعاء.

إن هذه النظرية تدَّعي أن النبيّ الأكرم|؛ حيث أخرج معه الإمام عليّاً× للمباهلة، إذن يكون الإمام عليّ× في حكم نفس النبيّ الأكرم|، ومساوياً له!

ومن بين الإشكالات الواردة على هذا المدَّعى ما يلي:

أـ إن هذا الادّعاء يستلزم «التكليف بما لا يُطاق»، وهو ما يتنزَّه الله سبحانه وتعالى عنه؛ لأن الآية تقول: «أنفسنا» و«أنفسكم». فهَبْ أن النبيّ الأكرم| كان يعلم بواسطة الوَحْي أن الإمام عليّاً× هو نفسه ومساوٍ له، ولكنْ كيف كان يمكن لأسقف نصارى نجران أن يعلم مَنْ هو الشخص الذي هو بمثابة نفسه من بين النصارى، ومساوٍ له بالكامل؛ ليأتي به إلى المباهلة؟! فإن القيام بهذا الأمر يفوق طاقته ومقدرته؛ فإن الأسقف وجماعته من النصارى لم يكونوا يعلمون الغَيْب!([44]).

ب ـ يُضاف إلى ذلك أن وفد نصارى نجران([45]) كان قد جاء إلى المدينة من مسافةٍ بعيدة نسبيّاً، ولم يكونوا قد جاؤوا بداعي النزهة والسياحة أو التجارة، بل جاؤوا لكي يناقشوا ويناظروا رسول الله|. وفي مثل هذه الأسفار لا يُؤْتَى عادةً بالنساء والأطفال. ولا ينبغي الغفلة عن هذه الحقيقة، وهي أن علماء الدين من النصارى والأساقفة والقساوسة لم يكون يتزوَّجون عادةً، وبطبيعة الحال لا يكون لهم ذرّيةٌ وأولادٌ؛ ليقول لهم النبيّ|: «وَادْعُوا نساءكم وأبناءكم».

ج ـ وفي ما يتعلَّق بلفظ «النفس» وجمعها «أنفس» يجب القول: على الرغم من أن «النفس» في أغلب الموارد بمعنى «الذات»، كما في قولنا: «جاء الوزير نفسه»، بمعنى: جاء الوزير ذاته وعينه وشخصه، وليس غيره؛ أو نقول: «رأيتُ المعلِّمين أنفسهم»، أي المعلمين ذاتهم، وليس غيرهم. وسوف نسمّي هذا المعنى بـ «المعنى الأوّل». وفي هذا المعنى لا فرق بين المؤكِّد والمؤكَّد، ولا يعدو الأمر أن يكونا شيئاً واحداً.

ولكنْ لا بُدَّ من الالتفات إلى أن جمع هذه الكلمة، أي «الأنفس»، يُستعمل بمعنى «المقرَّبين» و«الأقارب» و«الأتباع» و«الموالين»، وما إلى ذلك. وسوف نسمّي هذا المعنى بـ «المعنى الثاني».

وفي مورد مدلول ومعنى كلمة «الأنفس» نجد ضالّتنا في القرآن الكريم؛ إذ ـ على سبيل المثال ـ يقول الله سبحانه وتعالى في خطابه لليهود: ﴿فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ﴾ (البقرة: 54)، أو ﴿وَلاَ تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ﴾ (البقرة: 84).

وقد أجمع المفسِّرون على أن المراد ليس هو «الانتحار الجماعيّ»، بل قالوا: «أي يقتل بعضكم بعضاً»، أو «يُخرج بعضكم بعضاً».

وقال الله تعالى: ﴿لَوْلاَ إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْراً﴾ (النور: 12)، وقال تعالى: ﴿فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ﴾ (النور: 61)، وقال تعالى أيضاً: ﴿وَلاَ تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ﴾ (الحجرات: 11).

وأجمع المفسِّرون على أن المراد هو: «لماذا لا يظنّ المؤمنون بنظرائهم وأمثالهم من المؤمنين خيراً»، وقالوا بشأن الآيتين الأخيرتين: «أي ليُسلِّم بعضُكم على بعضٍ»، و«أي لا يطعن بعضُكم على بعضٍ».

وعليه نلاحظ أن القرآن الكريم قد استعمل «الأنفس» في الكثير من الموارد بمعنى «الأتباع» و«المقرّبين»، أي إنه قد استعملها بالمعنى الثاني.

كما قال الله تعالى، في القرآن الكريم، في وصف رسول الله|: ﴿بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ﴾ (آل عمران: 164)، وقال أيضاً: ﴿لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ﴾ (التوبة: 128).

أما «النفس» في هذه الموارد فلا تعني أن جميع المؤمنين متساوون مع النبيّ الأكرم|! بل إن كلمة «الأنفس» في آية المباهلة قد استعملت في المعنى الثاني.

ولا بُدَّ من الالتفات إلى أننا لو فسَّرْنا ﴿أَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ﴾ بالمعنى الأوّل فسوف تترتَّب على ذلك إشكالاتٌ، ومن بينها: الإشكال الذي سبق أن أشَرْنا له، وهو أنه سوف يستلزم «التكليف بما لا يُطاق» بالنسبة إلى المخاطَبين لرسول الله|.

ولو فسَّرنا كلمة «أنفسكم» بالمعنى الثاني ـ كما ذهب المفسِّرون إلى ذلك ـ ففي مثل هذه الحالة يتعيَّن علينا الجواب عن السؤال القائل: إذن لماذا فسَّرتم «أنفسنا» قبل ذلك بالمعنى الأوّل؟

وكذلك إذا كان الإمام عليّ× هو نفس النبيّ الأكرم|، ومساوياً له، إذن لماذا كان مَلَك الوَحْي ينزل على النبيّ الأكرم| خاصّةً، ولم ينزل على الإمام عليّ×؟ ولماذا لم يصبح الإمام عليّ× نبيّاً، كما أصبح هارون أخو النبيّ موسى× نبيّاً؟ مع أنه لم يدَّع أحدٌ أن النبيّ هارون× كان نفس النبيّ موسى× أو مساوياً له.

كما أننا نرى أن هذا الادّعاء لا ينسجم حتّى مع حديث المنزلة أيضاً. (دقِّقوا في معنى «التساوي» أكثر).

ثمّ إن هذا الادّعاء مخالفٌ للواقعية بوضوحٍ تامّ، ولا شَكَّ في أن الإمام عليّاً× كان تلميذ النبيّ الأكرم|، وتابعاً ومطيعاً له، وكان النبيّ الأكرم| يرى مَلَك الوَحْي، بينما لم يكن الإمام عليّ× يرى الوَحْي. وهكذا…

بالنظر إلى ما تقدَّم يجب الالتفات إلى أنه في ضوء قواعد وأصول المباهلة يكون المراد من الآية 61 من سورة آل عمران هو أن على الممثلين لهاتين العقيدتين أن يأتوا برجالهم ونسائهم وذراريهم، وبكلمةٍ واحدة: عليهم أن يأتوا بـ «أتباعهم» و«المقرَّبين» منهم للمباهلة. وإن النبيّ الأكرم|؛ بسبب صفاء نيّته ويقينه الراسخ وإيمانه القاطع بأحقِّية دينه، خرج إلى مضمار الفداء في يوم المباهلة بأعزّ الخلق عليه، وأحبّ أهل بيته إليه.

والآن كيف يمكن أن نستنتج من هذه القضيّة خروج نساء النبيّ الأكرم| من شمول الخطاب في الآية 33 من سورة الأحزاب؟

نترك لكم الجواب عن هذا السؤال!

ونختم هذا المقال بآيةٍ من القرآن الكريم؛ إذ يقول الله تعالى: ﴿رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلاَ تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاًّ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ﴾ (الحشر: 10).

الهوامش

(*) من العلماء المهتمّين بعلوم القرآن والحديث، صاحب كتاب «الشهيد الخالد»، الذي أثار ضجّةً كبيرة قبل انتصار الثورة، وذهب فيه إلى عدم علم الأئمة^، ومنهم الإمام الحسين×، بشهادتهم قبل تحقُّقها. كما أصدر كتاباً نقد فيه بعض روايات مجمع البيان….

([1]) وانظر أيضاً: النجم: 28.

([2]) انظر: ابن منظور الأفريقي، لسان العرب 1: 128.

([3]) وانظر أيضاً: النجم: 28.

([4]) إن قوله تعالى ﴿إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ…﴾ هو في جميع مصاحف المسلمين على اختلاف مذاهبهم ومشاربهم جزءٌ من الآية 33، وتكملة لها، ولا يُعَدّ آيةً مستقلة ومنفصلة عن صدر هذه الآية.

([5]) انظر: سورة الحجرات.

([6]) من المناسب هنا التذكير بأن القرآن الكريم إذا قال في الآية 34 من سورة الأحزاب: «بيوتكنّ»، فإنه في الآية 53 من ذات السورة قال: «بيوت النبيّ». ومن خلال التأمُّل في هذه الآيات يتّضح أن بيوت زوجات النبيّ الأكرم| هي ذاتها بيت النبيّ الأكرم|. وعليه فإن الذي يدّعي «أن نساء النبيّ| اللاتي لم يشأ الله نسبة البيوت التي يقمْنَ فيها إلى النبيّ الأكرم|» لا يوافق القرآن الكريم. (انظر: جعفر مرتضى العاملي، أهل بيت در آيه تطهير (أهل البيت في آية التطهير): 78، ترجمه إلى اللغة الفارسية: محمد سپهري، انتشارات دفتر تبليغات إسلامي).

([7]) إن إرادة الله سبحانه وتعالى تارةً تكون تشريعية، بمعنى أن لإرادة المكلَّف واختياره أثراً في تحقُّقها، بأن يقوم المكلَّف بامتثال وتحقيق ما أراده الله بإرادته واختياره؛ وذلك بخلاف الإرادة التكوينية، التي هي غير مشروطة بإرادة المكلَّف، فهي علّةٌ تامّة في تحقُّق المراد وعدم تخلُّفه، ولا يمكن لنا أن نتصوَّر أيّ مانعٍ أو عائقٍ يمكنه أن يحول دون تحقُّقها.

([8]) إن الآيات في هذا الشأن كثيرة، من قبيل: البقرة: 117؛ آل عمران: 47؛ يس: 82؛ غافر: 68؛ و…

([9]) هناك الكثير من الآيات القرآنية التي تتحدَّث عن «الإرادة التشريعية» لله سبحانه وتعالى، ومن بينها: البقرة: 185؛ النساء: 26 ـ 28؛ و…

([10]) بالنظر إلى أنكم تعتبرون «أصحاب الكساء» معصومين من الخطأ حتّى قبل نزول هذه الآية، وأن هذه الآية لا تشمل الأئمة التسعة الآخرين، يجب عليكم التمسُّك بأدلّةٍ أخرى لإثبات عصمتهم^؛ إذ كما رأَيْنا وسنرى فإن آية التطهير لا تثبت مرادكم.

([11]) كما في قوله تعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ﴾ (إبراهيم: 4)، وقال أيضاً: ﴿وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ﴾ (النحل: 103)، وقال أيضاً: ﴿قُرْآَناً عَرَبِيّاً غَيْرَ ذِي عِوَجٍ﴾ (الزمر: 28)، وما إلى ذلك من الآيات الأخرى.

([12]) في ما يتعلَّق بتفسير الآية 73 من سورة هود من النافع الرجوع إلى تفسير «الكاشف»، للزمخشري؛ حيث قال: «إنما أنكرت عليها الملائكة تعجُّبها فقالوا: ﴿أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللهِ﴾؛ لأنها كانت في بيت الآيات ومهبط المعجزات والأمور الخارقة للعادات، فكان عليها أن تتوقَّر، ولا يزدهيها ما يزدهي سائر النساء الناشئات في غير بيوت النبوّة، وأن تسبّح الله وتمجّده مكان التعجّب. وإلى ذلك أشارت الملائكة ـ صلوات الله عليهم ـ في قولهم: ﴿رَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ﴾، أرادوا أن هذه وأمثالها ممّا يكرمكم به ربّ العزّة، ويخصكم بالإنعام به، يا أهل بيت النبوّة، فليست بمكان عجب». (جار الله الزمخشري، الكشّاف عن حقائق غوامض التنـزيل 2: 411).

([13]) لأن الملاكئة كانوا قد نزلوا للتبشير بولادته [في المستقبل].

([14]) لا ننسى أن هذا الكلام يعطي مبرّراً وذريعةً لأولئك الذين يدّعون ـ خلافاً لقوله تعالى: ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ﴾ (الحجر: 9) ـ أن نظم القرآن ـ معاذ الله ـ مضطربٌ، وأن عبارة ﴿إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ…﴾ قد تمّ نقلها من موضعٍ إلى موضعٍ آخر؛ لأن هذا النوع من الكلام لا يتناسب مع أسلوب كلام الحكيم. (انظر: الهامش رقم 32 من هذه المقالة).

([15]) لقد كتب أخونا [صاحب الرسالة]: «حتّى لو افترضنا أن المراد من أهل البيت هناك [أي في الآية 73 من سورة هود] واضحٌ فما هو الدليل الذي يدعوكم إلى القول بهذا التفسير بالنسبة إلى هذه الآية أيضاً؟».

ونقول في جوابه: نأمل أنكم لا ترفضون القانون المنطقيّ القائل: «حكم الأمثال واحدٌ». ومضافاً إلى ذلك ينبغي أن تعلموا أن «القرآن يُفسِّر بعضه بعضاً»، أو كما يقول الإمام عليّ×: «يشهد بعضه على بعض» (نهج البلاغة، الخطبة رقم 133).

([16]) وانظر أيضاً: طه: 10.

([17]) ما وضعناه بين معقوفتين نقلناه من الفقرة (ج) من رسالة أخينا.

([18]) وفي قصار حكم أمير المؤمنين عليّ× ورد استعمال «الأهل» بمعنى الزوجة. (انظر: نهج البلاغة، الحكمة رقم 420).

([19]) وقال السيد أحمد سياح في كتابه (فرهنگ بزرگ جامع نوين): «أهل البيت هم سكّانه، وأهل النبيّ| أولاده وصهره أمير المؤمنين×، أو نساؤه».

([20]) قال أخونا [كاتب الرسالة] في الفقرة التاسعة من رسالته، في إشارةٍ منه إلى كتاب (لسان العرب): «حتّى في المعاجم اللغوية التي ألَّفها علماء أهل السنّة ورد تفسير أهل بيت النبيّ| بمعنى «نسائه وبناته وصهره عليّ×» صراحةً، واستند في ذلك إلى آية التطهير». ونحن بدَوْرنا نقول: لحسن الحظّ لم يَرِدْ غير هذا الأمر في المعاجم اللغوية للشيعة؛ ثمّ إذا كنتم تقبلون بما ورد في كتب اللغة فإن هذا سوف يسعدنا، ولن يكون هناك اختلافٌ بيننا في مثل هذه الحالة؛ وذلك لأن كتب اللغة ـ كما رأينا ـ تعتبر نساء النبيّ من مصاديق «أهل البيت»، وهذا هو ما نقوله أيضاً. وأما بناءً على ما ورد في رسالتكم فإن هذا القول لم يَحْظَ بالقبول منكم، وإلاّ فلا بحث لنا معكم في مورد الآخرين.

يُضاف إلى ذلك أن مؤلِّف «القاموس المحيط» ومؤلِّف «لسان العرب» قد عدّا الصهر من مصاديق «أهل البيت» أيضاً. ونحن لا نعترض على هذا الكلام، ولكنْ لستُ أدري ما إذا كان كاتب الرسالة يرتضي ذلك أم لا؛ إذ في مثل هذه الحالة سوف يكون «أبو العاص» و«عثمان» من أهل البيت أيضاً.

([21]) لا بُدَّ من التذكير بطبيعة الحال بأن الآية 73 من سورة (هود) لم تشتمل على التعبير بـ «الأزواج» و«نساء النبيّ»، ومع أن المخاطَب فيها هو المفرد المؤنَّث ورد استعمال عبارة «عليكم أهل البيت» أيضاً.

([22]) وقد ورد في القرآن الكريم قوله: ﴿فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ﴾ (القصص: 13).

([23]) قال الشيخ الطوسي في (التبيان)، في تفسير هذه الآية (29 من سورة القصص): «إن موسى لما قضى الأجل تسلَّم زوجته وسار بها». وقال الشيخ الطبرسي في (مجمع البيان)، والعلاّمة الطباطبائي في (الميزان)، ورشيد الدين الميبدي في (كشف الأسرار وعدّة الأبرار)، في تفسير الآية 7 من سورة النمل: «أي امرأته، وهي بنت شعيب»، و«المراد بأهله امرأتُه، وهي بنت شعيب»، و«المراد بالأهل هنا امرأته؛ بنت شعيب». وقال أبو الفتوح الرازي في تفسير هذه الآية: «الأهل كناية عن زوجة النبيّ موسى×، وقد استعمل لها ضمير الجمع المذكَّر «كم» تَبَعاً للفظ «الأهل». وقال مؤلِّفا (التفسير الأمثل)، و(تفسير الجلالين)، وعبد الله شبّر، والنسفي، والفخر الرازي، وأبو السعود، وسيد قطب، في تفسير هذه الآية، والبيضاوي والقرطبي في تفسير الآية 29 من سورة القصص: إن المراد من «الأهل» هي زوجة النبيّ موسى×.

([24]) لا شَكَّ في أن الزوجة تُعَدّ من أهمّ أعضاء الأسرة، ومن دونها لا يمكن للأسرة أن يكون لها وجود.

([25]) أقترح على أخينا [كاتب الرسالة] أن يراجع تفاسير القرآن الكريم، من قبيل: (مجمع البيان) أو (التفسير الأمثل)، وغيرهما، وقراءة آراء المفسِّرين حول هذه الآية.

([26]) يطلق «اسم الجمع» على الاسم الذي يكون من حيث اللفظ مفرداً، ولكنّه من حيث المعنى يدلّ على الجمع.

([27]) على الرغم من جواز اعتبار هذه الكلمة مؤنَّثة، إلاّ أن القرآن الكريم تعامل معها على الدوام بوصفها «مذكَّراً». ومن هنا يمكن القول بأن تذكيرها أقوى وأرجح.

([28]) الشامل للنبيّ الأكرم|، والإمام عليّ×، ونسائه وأولاده الكرام أيضاً.

([29]) انظر: المؤمنون: 3.

([30]) وقد دلّ القرآن الكريم على نسيان سائر الأنبياء، ومن بينهم: النبيّ موسى× أيضاً. (انظر: الكهف: 61 ـ 73).

([31]) سوف تكون لنا عودةٌ في هذه المقالة إلى مسألة العصمة.

([32]) وبطبيعة الحال فإنهم لا يقولون ذلك لعامّة الناس؛ إذ نتيجة ذلك لن تكون غير القول بتعرُّض القرآن للتحريف والتغيير، والقول بأن نظمه الراهن يختلف عن نظمه الحقيقيّ كما نزل على صدر رسول الله. وعلى هذا، يكون المصدر الرئيس للدين الإسلامي مخدوشاً، وبالتالي فإن أصل الدين سوف يسقط عن الحجّية والاعتبار.

([33]) إن لهذا الموضوع سابقةً في القرآن الكريم، وله موارد مشابهة، من قبيل: قوله تعالى: ﴿وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ﴾ (الشعراء: 214). فعلى الرغم من أن النبيّ الأكرم| كان مأموراً بتبشير وإنذار الجميع ـ بمَنْ فيهم قومه وعشيرته ـ، ولكنْ بالنظر إلى أن عشيرته؛ لقرابتها منه وما كانت تحظى به من الاحترام من قِبَل الآخرين، كان لسلوكها تأثيرٌ على الآخرين لذلك أمر الله سبحانه وتعالى رسوله بأن يخصّهم بإنذارٍ آخر.

([34]) انظر: الأحزاب: 28.

([35]) إن العلاّمة المجلسي، بعد أن احتمل أن تكون الآية 33 من سورة الأحزاب قد نقلت من موضعها الحقيقي، ورُبَما كان ذلك بفعل بعض الأشخاص؛ من أجل الوصول إلى مآربهم الدنيوية الخاصّة، بل احتمل أن تكون آيات من القرآن قبل هذه الآية وبعدها قد تمّ إسقاطها لاحقاً، قال: «مخاطبة الزوجات مشوبةٌ بالمعاتبة والتأنيب والتهديد، ومخاطبة أهل البيت^ محلاَّة بأنواع التلطُّف والمبالغة في الإكرام». (بحار الأنوار 35: 235، الباب الخامس (في نزول آية التطهير)).

([36]) على ما ورد من أن النكرة في سياق النفي تفيد العموم.

([37]) مرادنا تلك الطائفة من الروايات التي ذكر العلاّمة السيد مرتضى العسكري بعضها في كتابه، نقلاً عن «أمّ سلمة». (انظر: معالم المدرستين 1: 130، مؤسّسة البعثة، 1405هـ).

([38]) لا يخفى ـ بطبيعة الحال ـ أن الروايات الثابتة قطعاً خارجة عن محلّ بحثنا.

([39]) ذكر العلاّمة السيد مرتضى العسكري بعض هذه الروايات في كتابه. (انظر: معالم المدرستين 1: 132).

([40]) إن «العصمة» بمعنى «عدم السَّهْو والنسيان في إبلاغ الآيات الإلهية وأحكام الشريعة» أمرٌ ثابت بالقرآن، وليس هناك مَنْ يخالف في ذلك لحُسْن الحظّ، ولذلك فإن هذا النوع من العصمة خارجٌ عن محلّ كلامنا.

([41]) المراد هو سماحة العلاّمة الراحل الشيخ محمد مهدي الآصفي، في كتابٍ له بعنوان: آية التطهير، دراسةٌ في أبعادها الفكريّة والتشريعيّة. (المعرِّب).

([42]) إن هذا الكلام من المؤلِّف لا يخلو من الخَلَل؛ فمن الواضح جدّاً أن هذا الصنف من الأشخاص لم يكونوا كذلك منذ الصغر، وإنما وصلوا إلى هذه الحالة بالتدريج وبعد اجتياز مراحل؛ ليخرجوا من الحالة العادية ويصلوا إلى هذه المرحلة.

([43]) محمد مهدي الآصفي، پژوهشي در آيه تطهير، مصونيت تكويني رهبران عقيدتي إسلام (آية التطهير، دراسةٌ في أبعادها الفكريّة والتشريعيّة): 79 فما بعد ، ترجمه إلى اللغة الفارسية: د. محمود رضا افتخار زاده، مؤسّسة نشر المعارف الإسلامية، قم. وانظر أيضاً: محمد مهدي الآصفي، آية التطهير: 57 ـ 61، المجمع العالمي لأهل البيت^، ط 1، قم، 1996م ـ 1417هـ.

([44]) قال الشيخ الطبرسي في مجمع البيان في تفسير «أنفسكم»: «مَنْ شئتم من رجالكم».

([45]) نجران منطقة بالقرب من اليمن.

Facebook
Twitter
Telegram
Print
Email

اترك تعليقاً