أحدث المقالات

د. الشيخ عبد الحسين خسروپناه(*)

أ. قاسم بابائي(**)

ترجمة: وسيم حيدر

المقدّمة

منذ سنوات والنزاع بين العلم والدين أو الحداثة والإسلام، ونوع العلاقة بين هذين المفهومين، يشغل حيِّزاً كبيراً من اهتمام المفكِّرين من الإسلاميين والعلمانيين في إيران والعالم الإسلامي والغربي، ويحظى هذا الأمر بأهمّية خاصة من قِبَل المحلِّلين، ولا سيَّما فلاسفة الدين منهم([1]). وقد تحوّلت هذه الأبحاث في العالم الغربي بعد عصر النهضة لتشكِّل تحدّياً جدّياً، وحظيَتْ باهتمام المفكِّرين. وقد ذهب بعضهم إلى الاعتقاد بفصل العلم عن الدين، وادّعى أن لكلّ واحدٍ من هذين المفهومين مساحته المستقلّة التي تميِّزه من الآخر، بحيث قال: إن دائرة نشاط الدين تتعلّق بأمر الهداية، وإن دائرة نشاط العلم تكمن في بيان واكتشاف العلاقات.

قال إيان باربور([2]) في كتابه (العلم والدين): «تؤكّد المدرستان الفكريتان الغالبتان على أن للدين أساليبه الخاصة، التي تختلف عن المناهج العلمية اختلافاً كاملاً»([3]).

وقد أثار هذا الهاجس اهتمام العلماء والمفكّرين في العالم الإسلامي بشكلٍ آخر. فقد ذهب عددٌ من المفكّرين ـ من أمثال: البروفيسور محمد نقيب العطاس([4])، والدكتور إسماعيل الفاروقي([5])، والدكتور السيد حسين نصر([6])، والشيخ جوادي الآملي([7])، والدكتور مهدي گلشني([8])، والسيد منير الدين الحسيني([9])، والدكتور خسرو باقري([10]) ـ إلى الإيمان بالعلم الديني، وقالوا بأسلمة الجامعات، بينما ذهب جمعٌ من المستنيرين العلمانيين إلى إنكار العلم الديني، وقالوا بوجود مجالين مستقلّين للعلم والدين.

يحمل الشيخ جوادي الآملي في العديد من كتبه، مثل: «منزلة العقل في هندسة المعرفة الدينية»، و«الشريعة في مرآة المعرفة»، و«المعرفة الدينية»، و«ما يتوقّعه الإنسان من الدين»، و«النسبة بين الدين والدنيا»، وفي كتبه التفسيرية، من قبيل: «التسنيم في تفسير القرآن الكريم»، رؤيةً إيجابية تجاه العلم الديني. إن هذه المقالة تعمل على تقرير رؤيته في مجال العلم الديني، ولكنْ حيث إن رؤيته تتوقّف على معرفة مقدّمات (من قبيل: معرفة الدين، ومعرفة العقل، والعلاقة بين العقل والدين، والتعارض بين العلم والدين، والتناغم بينهما) لا مناص لنا قبل كلّ شيءٍ من البحث في هذه الأمور.

1ـ معرفة الدين

إن الدين والعقيدة والأخلاق عبارةٌ عن مجموعة من القوانين والقرارات الخاصة يإدارة شؤون المجتمع الإنساني وتربية الإنسان. وعلى هذا الأساس فإن الدين يشتمل على ثلاثة عناصر، وهي: العقائد؛ والأخلاق؛ والأحكام. وإن فقدان أيّ واحدٍ من هذه العناصر يؤدّي إلى النقصان في معنى ومفهوم الدين([11]).

يعمد الشيخ جوادي الآملي إلى تقسيم الدين إلى: حقٍّ؛ وباطلٍ. والدين الباطل عبارةٌ عن العقيدة والأيديولوجيا والبرنامج الذي يكون مبدأ ظهوره هو الحاجة النفسية أو الاجتماعية للناس([12]). أما الدين الحقّ فهو عبارةٌ عن مجموع العقائد والتعاليم النازلة من عند الله إلى البشر بواسطة الوحي؛ كي يتمكن الإنسان في ضوئها من السير على الصراط المستقيم([13]). إن الدين الثابت والحق عند الله سبحانه وتعالى هو الإسلام، وليس هناك دينٌ غير الإسلام، وإن هذا الإسلام يتجلّى في كل عصرٍ من خلال مصداقٍ خاص([14]). يذهب الشيخ جوادي الآملي ـ بالإضافة إلى التعريف المتقدِّم ـ إلى الاعتقاد بأن مهمة الدين الجامع أو الدين التوحيدي تكمن في إثبات وجود الله سبحانه وتعالى وأسمائه الحسنى وصفاته الفعلية. وعلى هذا الأساس فإن العلوم التجريبية التي تعمل على بيان ماهية فعل الله تعالى تندرج في زمرة المسائل والقضايا الدينية. إن قضايا العلوم وإنْ لم يكن لها علاقةٌ بسعادة الإنسان الأخروية، ولا تُعَدّ جزءاً من العقائد الدينية من هذه الناحية، إلاّ أنها حيث تلعب دَوْر الكاشف عن فعل الله تعالى تدخل في دائرة الدين الجامع. «إن دراسة هذا النوع من المطالب ستكون جزءاً من العلوم الدينية، رغم عدم كونها جزءاً من العقائد، ولا يترتَّب عليها أثرٌ فقهي خاص»([15]).

يرصد الشيخ جوادي الآملي أربع مراحل لكيفية ظهور الدين، وهي:

«المرحلة الأولى: الدين، والقواعد الاعتقادية، والأخلاقية، والفقهية، والحقوقية، وما إلى ذلك.

المرحلة الثانية: المصدر المعرفي والأبستيمولوجي للدين (إرادة الله وعلمه الأزلي).

المرحلة الثالثة: مصدر المعرفة الأصيلة للواقع (الوحي المعصوم من الخطأ).

المرحلة الرابعة: مصدر المعرفة الاعتيادية للبشر (العقل والنقل)»([16]).

2ـ معرفة العلم والعقل

يذهب الشيخ جوادي الآملي في بحث العلم الديني إلى القول بأن مراده من العلم ليس هو خصوص العلوم التجريبية، بل المراد من العلم هو المعنى الأعمّ الشامل لجميع العلوم. «إن الأنواع الأربعة للعقل وهي: العقل التجريبي؛ والعقل شبه التجريدي؛ والعقل التجريدي؛ والعقل الخالص، إنما تكون من العلم إذا كانت مورثةً لليقين أو الاطمئنان، وتحصل ـ إلى جانب النقل ـ على منزلةٍ خاصة في دائرة معرفة الدين»([17]). يذهب صاحب هذا التفكير إلى الاعتقاد بأن مصدر مختلف العلوم هو العقل، وعنوان العقل يحتوي على جميع هذه العلوم المختلفة. «إن العلوم التجريبية، والرياضيات، والعلوم الفلسفية، والكلامية، والعرفانية، يتمّ تحصيلها بواسطة العقل، وعنوان العقل يشمل جميع هذه العلوم المختلفة»([18]).

إن العقل يمثِّل واحداً من المصادر الهامة في المعرفة الدينية، حيث يتمّ في ضوئه استنباط الكثير من التعاليم الدينية. وقد دعا القرآن المسلمين في ما يزيد على ثلاثمائة آية إلى التفكُّر والتعقُّل والتدبُّر. كما تمّ التعريف بالعقل في الروايات على أنه حجّة الله على العباد. وفي هذا الشأن رُوي عن الإمام الكاظم× أنه قال: «إن لله على الناس حجّتين: حجّة ظاهرة؛ وحجّة باطنة. فأما الظاهرة فالرسل والأنبياء والأئمّة^؛ وأما الباطنة فالعقول»([19]). ومن خصائص الحجّة الباطنة، بعد إقامة الدليل وإتمام الحجّة، أن مخالفتَها تستدعي العقاب الإلهي.

ذهب الشيخ جوادي الآملي في بحث العلم الديني إلى أن المراد من العقل ليس هو مجرّد العقل في الفلسفة أو العقل التجريبي، وإنما يقول: «إن المراد من العقل في هذه السلسلة من الأبحاث ليس هو خصوص العقل التجريدي الذي يقدِّم براهينه في الفلسفة والكلام، بل يشمل العقل التجريبي الذي يتبلور في العلوم التجريبية والإنسانية، كما يشمل العقل شبه التجريدي الذي يتكفَّل بالرياضيات، والعقل الخالص الذي يتكفَّل بالعرفان النظري»([20]). كما أن المراد من العلم هو جميع العلوم ـ الأعمّ من العلوم التجريبية والإنسانية ـ؛ كي يتّضح أن العلوم التجريبية ليست هي وحدها التي لا تخالف الدين، بل حتّى العلوم الإنسانية، من قبيل: الفلسفة والعرفان، بدَوْرها لا تخالف الدين أيضاً؛ وذلك لأن الدين يتناغم معها أيضاً.

3ـ دائرة الدين

يشمل الدين من وجهة نظر الشيخ جوادي الآملي ـ بالإضافة إلى المسائل العبادية والأخلاقية والاعتقادية ـ دائرة التنظير في العلوم الإنسانية والتجريبية أيضاً. وإن الدين يشمل الكثير من العلوم. يذهب الشيخ جوادي الآملي إلى الاعتقاد قائلاً: إن الإسلام دينٌ عالمي شامل لجميع العصور والأزمنة، ويجب أن يلبّي جميع الاحتياجات البشرية، وإنه في هذه التلبية يستفيد من ثلاث أدوات، وهي: أوّلاً: العقل والفطرة؛ وثانياً: القرآن؛ وثالثاً: التراث. إن المعطيات التي يتمّ الحصول عليها من هذه المصادر تدخل في شعاع المعرفة الدينية. ولكنْ هناك مَنْ ذهب به التصوُّر إلى اقتصار المعرفة الدينية على القرآن والعترة. وهؤلاء يرَوْن نتاج العقل منفصلاً عن نتاج الدين. وقد ذهب الشيخ جوادي الآملي ـ في نقد نظرية «الدين في حدّه الأدنى»، الذي يرى القائلون به أنه يقتصر على الناحية الشخصية، ونظرية «النقل الحصري» التي تختزل الدين في النقل فقط ـ إلى القول: «عندما نقبل بأن العقل والنقل دعامتان أساسيتان لمعرفة أحكام الدين، ونعتبر دلالة كلٍّ منهما بوصفها حكماً دينياً، لا يمكن الادّعاء بأن الدين في حدِّه الأقصى يؤدّي إلى علمنة الدين… وعندما ننظر إلى الدين بعمقٍ سندرك أن الدين جامعٌ وشامل»([21]). وذلك على أساس أن جميع العالم مخلوقٌ لله تعالى، وأنه هو العلة الفاعلة والمُوجِدة للعالم، كما تعود العلّة الغائية إلى الله تعالى أيضاً. ولذلك فإن كلّ ما هو موجودٌ في هذا العالم من الوجودات الإمكانية هي إما من فعل الله تعالى؛ أو كلماته. وإن المبين والكاشف عن قوله هو الدليل النقلي، من قبيل: التوراة؛ والقرآن، وإن المبيِّن لفعل الله سبحانه وتعالى وكتابه التكويني هو الدليل العقلي. وعلى هذا الأساس فإن كلّ ما يتمّ الحصول عليه بواسطة الدليل العقلي (الأعمّ من العلوم الدينية والعلوم التجريبية والعلوم الإنسانية) إذا اشتمل على شرائط الحجّية سيندرج ضمن المعرفة الدينية.

4ـ العلاقة بين العلم والدين

إن لرؤية الشيخ جوادي الآملي بشأن العلاقة بين العلم والدين عدّة أبعاد وأوجه:

أـ إقرار العقل ضمن المعرفة الدينية.

ب ـ تنفيذ وإمضاء العقود العقلائيّة في الشرع.

ج ـ بيان كلّيات الكثير من العلوم بالدليل النقلي.

إن كلاًّ من هذه العناوين يندرج لوحده ضمن دائرة العلم الإسلامي، إلاّ أنه لا يستطيع تلبية مطالب الدين من جميع الجهات. وعندما ننظر إلى العلم الإسلامي بوصفه مجموعةً من ثلاثة عناوين، وعلى نحو: «مانعة الخلوّ»، سوف نصل إلى الجواب؛ إذ على أساس الرؤية التداخلية ستكون النسبة القائمة بين الدين والعلم هي نسبة العموم والخصوص المطلق، وسوف يكون الدين شاملاً لجميع العلوم؛ وأما إذا كان المراد من التداخل هو مجرّد مرحلةٍ من المراحل فسوف تتضرّر الرؤية التداخلية الواردة على شكل الموجبة الكلّية.

المرحلة الأولى: إدراج العقل ضمن المعرفة الدينية

إن الله تعالى هو العلة الفاعلية والغائية للعالم. وعليه فإن كلّ ما في العالم متعلّقٌ بالله وملكٌ له. ونتيجةً لذلك فإن جميع العالم يتجلّى على صورتين: إما بمنزلة كلام الله تعالى وكتاب التشريع الإلهي؛ أو بمنزلة فعل الله وكتاب التكوين الإلهي. وكما تقدَّم بيانه إن مصدر إثبات الدين عبارةٌ عن العقل والنقل. وعلى هذا الأساس فإن المتكفِّل ببيان كلام الله تعالى هو الكتب السماوية، والمتكفِّل ببيان فعل الله تعالى هو العقل. «وعليه فإن العقل بمعناه الواسع يهتمّ بفهم وإدراك فعل الله، وتصفّح كتاب التكوين والتدوين»([22]). «إن نتاج العقل في إدراك فعل الله كلّما كان على نحوٍ يقيني، أو على شكل ظنٍّ معتبر، كان قابلاً للإسناد إلى الشارع. إذن فالعقل من الإلهام الإلهيّ، و النقل إنزالٌ إلهيّ. وكما أن الإنزال الإلهيّ حجّة فإن الإلهام الإلهيّ حجّة أيضاً»([23]). والخلاصة هي أن نتاج العقل، مثل معطيات النقل، حجّةٌ، ويندرج في زمرة العلوم الإسلامية.

المرحلة الثانية: تنفيذ وإمضاء العقود العقلائية

إن المراد من بناء العقلاء عبارةٌ عن العقود والآداب والسنن وقوانين وقرارات الدول السائدة بين الناس، وإن اختلافها عن العقل يكمن في أن العقل يُعتَبَر مصدراً مستقلاًّ، في حين أن بناء العقلاء يقع ضمن مجموعة التراث، ولا يُعَدّ مصدراً مستقلاًّ. والفارق الآخر هو أن «حكم العقل من سنخ العلم، وبناء العقلاء من سنخ العمل، وإن مجرّد العمل بما هو عملٌ لا يقبل التقييم، إلاّ إذا كان عملاً للمعصوم×، أو حاصل على إمضاء المعصوم×. إلاّ أن حكم العقل من حيث هو حكمٌ وإدراك قابلٌ للبحث والتحقيق، وبالتالي سيكون قابلاً للاستناد»([24]).

إن بناء العقلاء إنما يمكنه أن يندرج ضمن مجموعة الدين إذا لم تصدر مخالفةٌ من قِبَل الشارع له. وبعبارةٍ أخرى: إن الموافقة والتأييد ليس هو الملاك، وإنما الملاك يكمن في عدم المخالفة. وعلى هذا الأساس إن عدم المخالفة يشكِّل دليلاً على تأييد الدين، ودخول بناء العقلاء في دائرة الدين.

لقد عمد الشيخ جوادي الآملي من خلال البيان المتقدِّم إلى بيان مرحلةٍ أخرى من أسلمة العلوم: «هناك عنصران مؤثِّران في أسلمة أمرٍ ما؛ أما الأوّل، والذي يُعَدّ هو الأصل في ذلك، فهو التأسيس والإبداع من ناحية الشارع المقدَّس؛ والثاني، الذي يكتسب الصبغة الدينية، هو تنفيذ وإمضاء العقود التي يبرمها الناس؛ كي لا تكون مغايرةً للأصول الأخلاقية وقواعد العلم الإسلامي»([25]).

المرحلة الثالثة: بيان الدليل النقلي لكليات الكثير من العلوم

إن الإسلام، بالإضافة إلى منهجيته في مجال التكاليف العبادية، يمتلك خطاباً ومنهجية في مسائل العالم والعلوم التجريبية والإنسانية أيضاً. وأما في ما يتعلَّق بإسناد أمرٍ إلى الدين تحظى هذه النقطة بالاهتمام، وهي أن الإسلام في بعض الموارد قد بيّن جميع التفاصيل بشكلٍ صريح (كما هو الأمر في العبادات)، وفي بعض الموارد يبيِّن أمراً ما على شكل قاعدةٍ كلّية وجامعة، دون التطرُّق إلى بيان تفاصيلها وجزئياتها، كما هو الحال بالنسبة إلى مختلف المجالات العلمية، من قبيل: الفقه والأصول والعلوم التجريبية، وتكمن مهمتنا في استخراج الجزئيات والفروع من تلك الكلّيات.

إن دائرة الدين تشمل كلا هذين القسمين، وهناك مكانةٌ لكلا القسمين في مجال المعرفة الدينية. وإن المعيار في دينية هذا النوع من العلوم لا يكمن في بيان جميع فروعه وجزئياته ـ كما في القسم الأوّل (العبادات) ـ في القرآن والسنّة، بل إن معيار الدينية في هذا النوع من الفروع يكمن في «استنباطه من الأصول الإسلامية المتقنة»([26]).

لقد رسم القرآن والسنّة الخطوط العريضة بشأن الكثير من العلوم المختلفة، وألقيا ببعض الوظائف على عاتق العلماء. يذهب صاحب نظرية التداخل إلى الاعتقاد بأن الخطوط العريضة والكلّيات المطروحة في القرآن والسنّة تشمل الكثير من العلوم، وبذلك سوف تكون جميع العلوم دينيةً. «يتعيَّن على الناس أن يأخذوا كلام الأئمّة ـ الذين يمثِّلون الوحي الناطق ـ بوصفه من الأصول الثابتة والمحكمة، ونشاطاً علمياً وعملياً لهم، ويبلوروا سعيهم وبحثهم حول تلك الأصول؛ إذ رُوي عنهم^ قولهم: علينا إلقاء الأصول إليكم، وعليكم التفريع. ومن خلال التمسُّك بالأصول الموثّقة والمتقنة من ناحية أصحاب الوحي تتجلّى الطرق الفرعية في مختلف المجالات العلمية»([27]).

وفي ما يلي نشير إلى نموذجين من جهود علماء الدين في إطار استنباط الفروع من الكلِّيات:

ـ «من ذلك أن قسماً هامّاً من أصول الفقه ـ والمتمثِّل في الأصول العملية، من قبيل: أصل البراءة، وأصالة الاشتغال، وأصالة الاستصحاب ـ يدور حول محور بعض تلك الأصول التي تمّ إلقاؤها من قِبَل الأئمّة^. ومن ذلك، على سبيل المثال، أن بحث الاستصحاب ـ الذي يستغرق الاجتهاد بشأنه ما لا يقلّ عن خمس سنوات من النشاط العلمي المتواصل على مستوى السطح والبحث الخارج ـ يستند إلى أصلٍ وقاعدة عملية مبيَّنة من قِبَل المعصومين^. وتلك القاعدة والأصل هي العبارة المعروفة بقولهم: (لا تنقض اليقين أبداً بالشكّ)([28])»([29]).

ـ كلما كان التدبُّر مقروناً بالتعقُّل والتجربة في الأصول الملقاة بالنسبة إلى الظواهر التاريخية يستمرّ على نحوٍ متواصل فلا شَكَّ سوف تترتَّب على تلك الأصول فروعٌ أكثر بكثيرٍ من تلك الموجودة حول الأصول الملقاة في ناحية العلوم العملية، من قبيل: الفقه والأصول. ومن ذلك ـ مثلاً ـ أن قوله تعالى: ﴿أَوْفُوا بِالْعُقُودِ﴾ (المائدة: 1) نصٌّ علميّ يشمل أبعاداً واسعةً من المعاملات والتجارات في الفقه، ويزدهر ويتمدَّد في إطار العديد من الأبواب والكتب([30]).

عمد الشيخ جوادي الآملي ـ في معرض بيان كيفية الاستفادة من الكلّيات في استخراج العلوم المختلفة ـ إلى بيان تسع مراحل، من خلالها يتمّ التمهيد لإنتاج العلوم الإسلامية، وهذه المراحل التسعة هي:

1ـ استحضار الآية ذات الصلة بموضوع البحث.

2ـ شرح مفردات هذه الآية.

3ـ بيان المعنى العُرْفي المستفاد من الآية.

4ـ تفسير الآية بملاحظة مفهومها المنفرد.

5ـ ملاحظة آراء المفسِّرين، من المتقدِّمين إلى المتأخِّرين والمعاصرين.

6ـ دراسة آرائهم، والعمل على تبويبها، واستخلاص نتائجها.

7ـ ملاحظة الآيات الأخرى في هذا الشأن أيضاً.

8ـ النظر في الروايات الواردة في سياق هذه الآية، ودراستها.

9ـ ملاحظة المعطى العلمي (العلم القطعي أو المفيد للاطمئنان، دون الاحتمال والافتراض) في ذلك الموضوع، بمعنى أنه لا يمكن التمسُّك بمجرّد أصالة الإطلاق أو أصالة العموم في الأدلة النقيلة فقط، بل يجب الفحص عن المخصِّص اللبّي أيضاً؛ كي لا يقع التعارض بين مفاد الأدلّة النقلية والأدلّة القطعية. وبعد ملاحظة جميع هذه الأمور يتمّ استخلاص الأبحاث وبيان الرأي التخصُّصي بشأنها»([31]).

وباختصارٍ: في المرحلة الثالثة، ومن خلال أخذ الكلّيات من الأصول الإسلامية المتقنة بشأن الكثير من العلوم، ومن خلال تطبيق المراحل التسعة، يمكن التوصُّل إلى رؤية الإسلام بشأن مختلف العلوم، واستخراج الكثير من الجزئيّات والفروع منها.

5ـ كيفية تبلور العلم الديني

هناك في بحث العلم الديني مسألتان أساسيتان، وهما:

أـ إمكان وعدم إمكان العلم الديني.

ب ـ طرق تحقُّق العلم الديني.

وفي ما يتعلق بإمكان وعدم إمكان العلم الديني هناك رؤيتان، وهما:

1ـ الرأي القائل بعدم إمكان العلم الديني: ذهب بعض علماء العلوم التجريبية إلى عدم وجود العلم الديني. وقد ذهب إلى هذا الرأي بعض المستنيرين، من أمثال: الدكتور عبد الكريم سروش، ومصطفى ملكيان، وعلي پايا. ترى هذه الجماعة «أن العلم الديني لا هو ممكنٌ، ولا هو ضروريٌّ، ويذهبون إلى الاعتقاد بأن مفهوم العلم الديني متناقضٌ من الناحية المنطقة»([32]).

2ـ رؤية القائلين بالعلم الديني: تذهب هذه الجماعة إلى القول بإمكانية العلم الديني، وترى أن العلم الديني له مفهومٌ قابل للتحقُّق. ومن بين القائلين بوجود العلم الديني: الشيخ جوادي الآملي.

كما يمكن إثبات إمكان العلم الديني بأسلوبين، وهما: الأسلوب التفسيري؛ والأسلوب الفلسفي([33]).

أـ الأسلوب التفسيري بصبغةٍ كلامية

إن الله تعالى ـ طبقاً للبراهين الكلامية ـ واجبُ الوجود بالذات، وغيره ممكنُ الوجود بالذات. ومن خصائص الممكن بالذات أوّلاً: إنه يتساوى فيه الوجود والعدم، ولا يكون أيٌّ من الوجود والعدم ضروريّاً بالنسبة له: «لا يكون الوجود ضرورياً ولا العدم ضرورياً له، وهو الإمكان»([34]). ولذلك فإن «الممكن» إنما يمكن أن يوجد إذا كان هناك واجبٌ يمنحه الوجود. وثانياً: إن الممكن بالذات كما يحتاج إلى علّةٍ في بداية وجوده يحتاج إلى علّةٍ في بقائه أيضاً؛ وذلك لأن وجوده من نوع الوجود الربطي، وإن الوجود الرابط نوعٌ من الوجود الذي ليس له استقلالٌ من نفسه، وإن حدوثه وبقاءه رهنٌ بالواجب. وبالالتفات إلى ذلك يكون كلّ ما في عالم الوجود ـ غير الله تعالى ـ وجوداً ممكناً ووجوداً افتقارياً، قال الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللهِ وَاللهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ﴾ (فاطر: 15). كما أشار القرآن الكريم في الكثير من آياته إلى كون الله تعالى هو الخالق، ومن ذلك: قوله: ﴿قُلِ اللهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ﴾ (الرعد: 16)([35]).

طبقاً لقانون العلية والدليل النقلي المبيِّن لخالقية الله تعالى يثبت أن العلّة الفاعلية للعالم هو الله سبحانه وتعالى، وأن العلّة الغائية تعود إلى الله أيضاً: ﴿هُوَ الأَوَّلُ وَالآَخِرُ﴾ (الحديد: 3). ولذلك فإن كلّ ما في هذا العالم إما هو كلام الله تعالى وكتابه التشريعي؛ أو فعل الله وكتابه التكويني. والمبيِّن والكاشف لكلام الله هو الدليل النقلي الوارد في الكتب السماوية والروايات، والكاشف عن فعل الله تعالى (من قبيل: السماء والأرض وجميع ما فيهما) هو الدليل العقلي. وإن جميع العلوم التي يفرزها العقل تعمل في الواقع على إزاحة الستار عن أسرار الخلق، وتبيِّن فعل الله تعالى. وبالتالي إن جميع العلوم النقلية وجميع العلوم العقلية ـ الأعمّ من العقل التجريبي (مثل: الأحياء، والفيزياء، والكيمياء)، والعقل التجريدي (مثل: الفلسفة والرياضيات)، والعقل المَحْض (مثل: العرفان) ـ تندرج تحت مجموعة الدين. وعلى هذا الأساس فإن جميع العلوم إسلاميةٌ، وليس هناك علمٌ غير إسلامي؛ كي يقال: ما هو الاختلاف بين الفيزياء الإسلامية والفيزياء غير الإسلامية؟»([36]).

إن الشيخ جوادي الآملي، من خلال انتهاج الأسلوب التفسيري / الكلامي ـ بالإضافة إلى بيان إمكان العلم الديني ـ، يشرح المرحلة الأولى من تبلور العلم الديني (وضع العقل في هندسة المعرفة الدينية)، قائلاً: «من زاوية التفسير والكلام؛ حيث إن جميع الوجود يمثِّل مسرحاً للخلق، وإن جميع العلوم السائدة في الجامعات تعود إلى معرفة الخلق والبيان هو فعل الله، وحيث يكون البيان فعل الله، إذن يكون إسلامياً»([37]).

ذهب بعضٌ إلى الظنّ بأن نسبة العلوم الدينية ـ من قبيل: الفيزياء الإسلامية والكيمياء الإسلامية ـ إلى العلوم الطبيعية من قبيل: نسبة السجّاد اليدوي إلى السجّاد الصناعي. فعلى الرغم من كونهما من صنف السجّاد، إلاّ أنهما يختلفان في الماهية والمحتوى. وكذلك فإن محتوى العلوم الدينية يختلف عن محتوى العلوم الطبيعية.

ويجب القول في الجواب: إن العلم الديني، مثل: الفيزياء الإسلامية والكيمياء الإسلامية، ليس نسيجاً منفصلاً عن العلوم الطبيعية، بل إن العلاقة بينهما علاقةٌ ثنائية وتبادلية، بحيث إن العلم الديني ـ مثل: الفيزياء الإسلامية ـ يأخذ علل قوام (الصورة والمادة) من الطبيعة، وتأخذ العلل الوجودية (العلّة الفاعلية والعلّة الغائية) من الدين. وعلى هذا الأساس فإنه من خلال إصلاح الرؤية الأبستيمولوجية والمعرفية، ورفع الغفلة عن منزلة العقل في هندسة المعرفة الدينية، يتمّ تمهيد الأرضية لظهور العلم الديني.

 

ب ـ الأسلوب الفلسفي

إن الفلسفة المطلقة تختلف عن سائر العلوم في نقطتين رئيستين، وهما:

1ـ إن موضوع الفلسفة هو مطلق الوجود، وتبحث بشأن مجمل العالم والموجود المطلق، وأما العلوم الأخرى فينظر كلٌّ منها إلى جزءٍ من العالم، فيكون موضوعها خاصاً.

2ـ إن العلوم لا تستطيع أن تقدِّم رؤية عقائدية أو فلسفية؛ لأن بيان الرؤية العقائدية يفوق قدرة هذه العلوم. «ليس هناك علمٌ يتحدّث عما إذا كان للعالم بدايةٌ أم لا، أو له نهايةٌ أم لا»([38]). إن تقديم الرؤية العقائدية والأصول الموضوعة من خصائص وقابليات الفلسفة المطلقة فقط.

وعلى هذا الأساس فإن العلم في بداية ظهوره ليس علمانياً، رغم أن بإمكان العالم أن يكون علمانياً. فإذا كان العلم تفسيراً للخلق فهو إسلاميّ. «إن العلم إذا كان علماً (وليس مجرّد وَهْمٍ أو افتراض) لا يمكن أن لا يكون إسلامياً؛ لأن العلم الصائب هو تفسير للخلق والفعل الإلهي، وما كان تفسيراً وبياناً لفعل الله فهو إسلاميّ حَتْماً، وإنْ كان المُدْرِك لا يفهم هذه الحقيقة، متصوِّراً أن خلقة الله هي الطبيعة»([39]). ومن هنا فإن العلوم في بداية نشأتها إسلاميّة فقط، ولكنْ في البقاء والاستمرار؛ حيث تكون الأصول الموضوعة لكلّ علمٍ  هي التي تحدِّد إلهية أو إلحادية ذلك العلم، توفّر أرضية إلهية أو إلحادية العلوم. وبعبارةٍ أخرى: إن جميع العلوم تأخذ أصولها الموضوعة وفرضياتها من الفلسفة المضافة، والفلسفات الموضوعة بدَوْرها تأخذ أصولها الموضوعة وفرضياتها من الفلسفة المطلقة، والفلسفة المطلقة في بداية ظهورها حيادية ومتحرّرة من جميع القيود، ولا بشرط من حيث الإلهية والإلحاد، ولكنْ ليس هناك أيّ مطلق بلا قيدٍ. وعلى هذا الأساس فإن الفلسفة في مسارها تتعيَّن ضمن قيود وحدود، وتلك القيود إما إلهية، وبالتالي تكون الفلسفات المضافة ـ والعلوم تَبَعاً لها ـ إسلاميةً وإلهية أيضاً؛ وإما إلحادية، وتعمل على إنكار المبدأ الفاعلي والمبدأ الغائي للعالم، ولا ترى للعالم خالقاً، وبالتالي تكون الفلسفة المضافة إلحاديةً أيضاً، وتَبَعاً لذلك تصطبغ العلوم بدَوْرها بصبغةٍ إلحادية([40]). وعلى هذا الأساس «إذا كان الشخص يحمل فكراً إلهياً ستكون فلسفة علمه إلهيّةً أيضاً، ونتيجة لذلك سيكون علم أحياء بيئته ـ مثل سائر العلوم التجريبية الأخرى ـ إلهيّاً أيضاً»([41]).

وباختصارٍ: إن الفلسفة المطلقة ـ في الأسلوب الثاني ـ بعد تقبُّلها للتفكير الإلهي تؤدّي إلى دينية العلوم التجريبية والإنسانية، وبذلك يتبلور العلم الديني. إن اختلاف هذين الأسلوبين يكمن في أننا في الأسلوب التفسيري، من خلال القول بفرضية إسلامية الفلسفة المطلقة، نعمل على إثبات العلم الديني؛ إلاّ أننا في الأسلوب الثاني من الإثبات نبدأ بإثبات الفرضية. وبعبارةٍ أخرى: إن الأسلوب الفلسفي يتقدَّم على الأسلوب التفسيري بخطوةٍ، ولكنّهما يعملان معاً على توظيف مسارٍ وأسلوب واحد في أسلمة العلوم. ففي الأسلوب الثاني، بعد القبول بالفلسفة الإلهية، يتمّ إعداد الأرضية لدينية جميع العلوم، وبعد ذلك يتمّ البحث في تبرير كيفية أسلمة العلوم، من طريق دائرة الخلق، وبنفس الأسلوب المذكور في الأسلوب التفسيري. «إن فلسفة العلوم وجميع العلوم إذا كان لها إلهٌ فإنها ستكون إلهيةً في حدّ ذاتها، وكذلك تكون فلسفة العلوم وجميع العلوم. وعلى هذا الأساس؛ حيث إن فلسفتنا فلسفةٌ إلهية، وقرآننا قرآنٌ إلهيّ، تكون الدائرة هي دائرة الخلق»([42]).

كيفية تحقُّق العلم الديني

هناك اتجاهاتٌ مختلفة بشأن كيفية تحقُّق العلم الديني. ومن ذلك أن الدكتور مهدي گلشني ـ مثلاً ـ يذهب إلى الاعتقاد القائل: «إن امتلاك الاتجاه الإيماني في تفسير المعطيات العلمية يكفي لاعتبار العلم دينياً». إلاّ أن الدكتور محمد نقيب العطّاس يذهب إلى رؤية تهذيبية، ويقول بضرورة تنقية العلوم من القضايا المخالفة للدين؛ من أجل تحقيق العلم الديني.

لقد آمن الشيخ جوادي الآملي بنظرية الدين في حدِّه الأقصى. وعلى هذا الأساس تكون جميع العلوم إسلاميةً، ولا تكون هناك علومٌ غير إسلامية. إن الإسلام؛ بسبب امتلاكه أدوات معرفية (من قبيل: العقل والوحي)، يمكنه أن يبدي رأيه في جميع مجالات العلوم التجريبية والإنسانية، ومن خلال توظيفه الأساليب لاكتشاف المعرفة يعمل على بلورة العلم الجديد أو تكامل العلوم الإنسانية والتجريبية.

إن هذه النظرية تواجه السؤال القائل: ما هو الأسلوب الذي يجعل الدين شاملاً لجميع العلوم، الأعمّ من الإنسانية والتجريبية والقوانين والقرارات والعلوم الوحيانية؟

يستند الشيخ جوادي الآملي ـ في معرض الإجابة عن هذا السؤال ـ إلى الفرضيات التالية:

1ـ حضور العقل في هندسة المعرفة الدينية.

2ـ حجّية المعطيات العقلية.

3ـ النظرة التداخلية إلى العلاقة بين العلم والدين.

وبالالتفات إلى هذه المباني فإن العلم الديني يمرّ بثلاث مراحل، وهي:

1ـ وضع العقل في دائرة المعرفة الدينية.

2ـ تنفيذ وإمضاء العقود العقلائية.

3ـ بيان الكثير من كلّيات العلوم بالدليل النقلي.

إن لهذه المراحل صورةً تكاملية. تقدَّم أن ذكرنا كيفية الارتباط بين العلم والدين، كما تحدَّثنا عن مراحلة أسلمة العلوم التجريبية والإنسانية في بحث العلم الديني.

نتائج القول بالعلم الديني

أـ اكتشاف حدود العقل. إن من بين النتائج المترتِّبة على القول بالعلم الديني أن العقل سوف يتعرَّف على دائرته، ويتخلَّص من الادّعاء القائل بأن العلم ثمرةُ العقلانية البشرية، ومن خلال الرؤية الصحيحة يعتبر رأس ماله في العطاء والفيض الإلهي، وبالإضافة إلى اعتبار نفسه مفتاحاً إلى أصل خزانة الدين يرى نفسه مصباحاً أيضاً؛ وذلك لأن العقل من خلال الدخول إلى دائرة الشريعة، والتعاون والتعاطف من قِبَل النقل، يتمّ إعداد الأرضية لكشف الأحكام الإلهية.

ب ـ استبدال التعارض بين العلم والدين بتعاضد العلم والدين. هناك من المفكِّرين مَنْ يرى أن بعض القضايا في العلوم التجريبية تتعارض مع بعض القضايا الدينية، من قبيل: القضية العلمية التي تتحدَّث عن سماءٍ واحدة، والقضية الدينية التي تتحدَّث عن وجود سبع سماوات. إن رفع هذا النوع من التعارض الظاهري موقوفٌ على الالتفات إلى عدد من النقاط الهامّة:

أوّلاً: ليس هناك من تعارضٍ بين العلم والدين، وإن أصل التعارض منتفٍ؛ لأن العلم ثمرة العقل، وإن العقل، مثل النقل، يندرج ضمن مجموعة المعرفة الدينية، وكما أن القضايا الدينية تعتبر ضلعاً من أضلاع المعرفة الدينية فإن القضايا العقلية بدَوْرها تمثِّل جزءاً آخر من هندسة المعرفة الدينية، بمعنى أن للمعرفة الدينية مجموعتين، وهما: العقل؛ والنقل. وعلى هذا الأساس يكون افتراض التعارض بين القسم والمقسم منتفياً من الناحية العقلية.

ثانياً: إن العلوم التجريبية تبحث بشأن الأمور المحسوسة، والتي يمكن مشاهدتها أو إخضاعها للتجارب المخبرية. إن الأمور المحسوسة قابلةٌ للتجربة والتكرار، ولها وجودٌ خارجي وعيني، بمعنى أن بالإمكان مشاهدتها. وعلى هذا الأساس فإن دائرة العلوم التجريبية تقتصر على مجرّد الأمور المحسوسة، ولا يمكن أن تنظِّر بشأن الأمور الميتافيزيقية وما وراء الطبيعية، والخارجة عن نطاق التجربة، لا سلباً ولا إيجاباً؛ وذلك لخروج هذه الأمور عن مجال العلوم التجريبية تخصُّصاً. «لو قال عالم الفيزياء: لقد تمكّنت بمساعدة الحسّ والتجربة من إثبات أن للعالم مبدأً وخالقاً، فسوف يُقال له: إن حكمك خاطئٌ. ولو قال: لم أثبت أن للعالم مبدأً يُقال له كذلك: إن حكمك هذا خاطئٌ أيضاً؛ إذ إنه بواسطة الأدوات التي يمتلكها في الأساس ـ وهي الحسّ والتجربة ـ لا يحقّ له أن يبدي كلاماً متشكِّكاً في هذه المعطيات غير التجريبية، ناهيك عن أن يقول شيئاً بشأنها ـ نفياً وإثباتاً ـ على نحو القطع واليقين، تماماً كالذي يروم قياس وزن الجبال بالمعيار الخاصّ بوزن الذهب والفضة!»([43]).

ثالثاً: إن لغة التجربة ليست لغةً حصرية، ولا يمكنها الادّعاء بأن منشأ التحقُّق منحصرٌ بالعلّة التي تمّ العثور عليها؛ وذلك لعدم انتفاء احتمال أن تكون هناك علّة ميتافيزيقية أيضاً. ولكنْ يمكن تصوُّر وقوع التعارض بين الدليل النقلي والدليل العقلي، كما يقع التعارض أحياناً بين الدليلين النقليّين، فيتمّ الرجوع لرفع التعارض إلى طرق العلاج المذكورة في علم أصول الفقه. بالإمكان تصوُّر وقوع التعارض بين قضيتين على النحو التالي:

1ـ التعارض التبايني: كلّما وقع التعارض بين الدليل النقلي والدليل العقلي، بحيث لم يمكن الجمع بينهما بأيّ وجهٍ من الوجوه، وكان إثبات أحدهما يؤدّي إلى نفي الآخر، يجب الأخذ بالدليل اليقيني؛ لرفع التعارض. والدليل اليقيني قد يكون نقلياً؛ وقد يكون عقلياً. ومن ذلك، على سبيل المثال: إذا كان الدليل العقلي الصريح والثابت يدلّ على أن الله ليس بجسمٍ، ولا يمكن رؤيته بالحواس الظاهرية، نعمل على تأويل آياتٍ من قبيل: ﴿يَدُ اللهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ﴾ (الفتح: 10)، و﴿وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ﴾ (القيامة: 22 ـ 23)، ونبحث عن محامل صحيحةٍ لها، ونقوم برفع التعارض الظاهري بين العقل والنقل، كما نعمل بالأدلة العقلية الدالّة على وجوب عصمة الأنبياء^ على تأويل آياتٍ من قبيل: ﴿وَعَصَى آَدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى﴾ (طه: 121)، ولا نقول بحجّية المعنى الظاهري له([44]).

2ـ التعارض الظاهري: في بعض الأحيان لا يكون التعارض بين الدليل النقلي والدليل العقلي على نحو التباين التامّ. وعندها يكون التعارض بينهما ظاهرياً. وينبغي الرجوع عندها في حلّ التعارض بينهما إلى الدليل الخاصّ والمقيّد. «إن الدليل العقلي في إطار المخصّص أو المقيّد اللبّي يؤدّي إلى تخصيص أو تقييد الدليل النقلي المعارض بحَسَب الظاهر؛ كما يتمّ تخصيص أو تقييد الرواية العامّة أو المطلقة بالدليل النقلي المخصّص أو المقيّد، ويسقط عمومه وإطلاقه عن الحجّية([45]). إن القسم الثاني من التعارض أشمل من القسم الأوّل، ويمكن العثور على الكثير من المصاديق له. ومن بينها:

ـ إن بعض الروايات تتحدَّث عن بعض الأمراض بعبارة: «لا عدوى». فإذا حصل الاطمئنان في العلوم الطبّية بأن بعض أقسام ذلك المرض مُعْدِية يكون هذا المطلب العلمي والعقلي مخصّصاً أو مقيّداً لبّياً لتلك الروايات، والقول بأن المراد من «لا عدوى» هو بعضٌ آخر من موارد هذا المرض، وإن خصوص هذه الموارد المعروفة هي المُعْدِية»([46]).

ـ وإذا ثبت في علم الأحياء عدم كون الماء عنصراً في تركيب بعض الكائنات الحيّة، وحصلنا على يقينٍ بأن بعض الكائنات الحيّة لم يدخل الماء في عناصر تكوينها، سيكون هذا الشاهد اليقيني العلمي والتجريبي بمنزلة المخصِّص اللبّي لقول الله تعالى: ﴿وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ﴾ (الأنبياء: 30)، وليس مناقضاً له. وكذلك إذا ورد في أحد النصوص الدينية أن كلّ كائنٍ يولد من ذكرٍ وأنثى، ثم ثبت بالعلم التجريبي أن بعض الكائنات الحيّة لم تولد من ذكرٍ وأنثى، كان هذا السلب الجزئي مخصّصاً أو مقيّداً لذلك العام أو المطلق، وليس نقيضاً له([47]).

6ـ تحليل نظرية العلم الديني

لقد تعرَّضت رؤية الشيخ جوادي الآملي حول العلم الديني إلى بعض الانتقادات. وسوف نعمل في هذا القسم من المقال على بيان ودراسة هذه الانتقادات.

أـ نقد المعرفة الدينية

أـ قال بعضٌ: إن هذه الرؤية تخالف الحكمة الإلهية؛ لأنها تؤدّي إلى تعطيل العقل. لقد تجلّى إذنُ الله في نظام التكوين وفي نظام التشريع على شكلين مختلفين. إن المراد من نظام التكوين هو الوجود والعدم، والمراد من نظام التشريع هو الضرورات والمحظورات. إن شرح نظام التكوين من مهامّ العقل، وشرح نظام التشريع يقع على عاتق الشرع. «إن القول بالحكمة الإلهية وتقسيم العمل في نظام التكوين يستلزم أن يكون كلٌّ من: العقل؛ والدين، مستقلاًّ عن الآخر إلى حدٍّ معين. وهذا الاستقلال بطبيعة الحال لا يعني التباين، وإنما المراد منه هو الاستقلال النسبيّ. وبعبارةٍ أخرى: كما أن العقل في حدّ ذاته يمكن له الحصول ـ إلى حدٍّ معيّن ومحدود ـ على المعرفة المنشودة للشريعة فإن الشريعة بدَوْرها تحتوي على أدلّةٍ عقلية لدعم المعارف المنشودة لها. إن هذا المقدار من التداخل بين العقل والشريعة ضروريٌّ للارتباط بين عقل الإنسان والشريعة. ولكنْ قبل التداخل فإن الحكم والقول بالتطابق التامّ بين العقل والشريعة لا يبدو قابلاً للدفاع.  وعلى هذا الأساس فإن العقل البشري، الذي ينتمي إلى نظام التكوين، والدين المتعلِّق بنظام التشريع لا يحلّ أيٌّ منهما محلّ الآخر»([48]).

ب ـ إن سياق الآيات القرآنية وموضوعية القرآن تصبّ في هداية الإنسان. وعلى هذا الأساس لا يمكن الادّعاء بأن القرآن جامعٌ لكافّة العلوم، بل القرآن جامعٌ وشامل في ما يتعلَّق بالهداية.

ب ـ نقد المعرفة العلمية

أـ طبقاً للرؤية الموسوعية فإن الذي نحصل عليه من النصوص الدينية سيكون على نحوٍ حَتْميّ، وسيكون حيادياً بالنسبة إلى التجربة والتحوُّلات التي تحدث فيها، في حين أن «الحتمية في العلم مسألة كان العلم في تاريخه الحيوي حَذِراً ومحتاطاً في مواجهتها»([49]).

ب ـ إن حركة العلم تقدُّمية بحَسَب القاعدة. وأما رؤية الدين في الحدّ الأقصى فهي تراجعية؛ لأنها تأخذ المعطيات في بداية الأمر، ثم تسعى إلى إقامة الدليل عليها. «إن هذه الحركة التراجعية فارغةٌ من الناحية العلمية؛ إذ لا تقدِّم معطىً جديداً أبداً؛ وإنما تقدِّم مستندات دينية لمعطيات الآخرين»([50]).

ج ـ إن تركيب المعطيات العلمية مع الفرضيات الدينية تركيبٌ غير متناسق، وينسج ثوباً من النصوص الدينية على قوام المعطيات العلمية المنشودة.

د ـ «إن هذا النوع من الجهود يُعَدّ من الناحية المبنائية لا أساس له، ومن الناحية العلمية لا نتيجة ولا ثمرة له. إن المعطيات العلمية مهما كانت مدعومةً بالشواهد الكثيرة هي في حالة تغيُّرٍ دائم ومستمرّ، أو الخروج عن دائرة العلم أساساً. إن العلم حتّى إذا نظر إليه بوصفه آلةً إلاّ أنه يقيناً ليس آلةً مصنوعة لأمورٍ من قبيل: اعتبار قياس الدين، إلاّ إذا عمد شخصٌ إلى تحويل الدين إلى فضاءٍ علمي. وفي هذه الحالة يجب أن نرى هل سيبقى شيءٌ من الدين حتّى تبقى هناك إرادةٌ للدفاع عن أحقّيته أم لا. وعليه لا يمكن لنا أن نصنع من نسيج العلم ثوباً للدين، وسيكون التعبير بـ «الدين العلمي» فاقداً للمعنى والمفهوم»([51]).

إن هذا الناقد المحترم لم يدقِّق في فهم نظرية العلم الديني للأستاذ جوادي الآملي، وتصوَّر أن مراده من الدين النصوص الدينية، ومن هنا أطلق على نظريته اسم النظرية الموسوعية، في حين أن الدين من وجهة نظره عبارةٌ عن مجموعة من الحقائق الثابتة بالعلم والإرادة الإلهية، ويتمّ كشفها بواسطة العقل والنقل. يذهب سماحته إلى اعتبار العقل والنقل مصدرين للمعرفة الدينية، ومن هنا فإنه لا يرتضي الفصل بين نظام التكوين ونظام التشريع، وإنما يصل إلى المعرفة الدينية من خلال المَزْج بينهما، هذا أوّلاً. وثانياً: إن الأستاذ جوادي الآملي لم يقُلْ بأن أصول جميع العلوم والفنون يمكن العثور عليها في النصوص الدينية، بل يرى أن النصوص الدينية قد بيَّنت كلِّيات الكثير من العلوم والفنون.

ج ـ النقد البنيوي

أـ إن قول الأستاذ جوادي الآملي بأن جميع مدركات العقل جزءٌ من الدين، ودراسة فعل الله ـ مثل دراسة قول الله ـ تُعَدّ من المعرفة الدينية، لا ينسجم مع تعريفه للدين حيث يراه مجموعةً من العقائد الأخلاقية والأحكام؛ إذ إن الكثير من المعلومات الحسيّة والعقلية ليس لها تأثيرٌ في سعادة وفلاح الإنسان، ومهمّتها تنحصر في تنظيم الحياة الدنيوية([52]).

وجواب الأستاذ جوادي الآملي هو أن هناك تعريفين مستقلّين ومنفصلين للدين في بحث المعرفة الدينية، وهما:

أوّلاً: الدين المصطلح، الذي هو مجموعةٌ من العقائد والأحكام والأخلاق.

ثانياً: الدين الجامع، الذي هو عبارةٌ عن دراسة وجود الله تعالى، وتقييم أسماء الله الحسنى، وبيان الصفات الفعلية لله سبحانه وتعالى.

على أساس التعريف الثاني يكون هذا الإشكال مرتفعاً؛ إذ إن مدركات العقل ودراسة فعل الله تندرج ضمن دائرة الدين الجامع. «على الرغم من أن الدين المصطلح مجموعةٌ من العقائد والأخلاق والفقه والحقوق، ولا يوجد اسم للعلوم في قائمة الدين الاصطلاحي، إلاّ أن الدين التوحيدي والمدرسة الإلهية أبعد من المصطلح المذكور. إن البحث عن وجود الله، ودراسة أسمائه الحسنى، والتحقيق بشأن مظاهر هذه الأسماء المتعالية، تندرج ضمن مجال الدين»([53]). وأما في ما يتعلَّق بالقول «إن الكثير من المعلومات الحسّية والعقلية لا تؤثِّر في السعادة الأخروية» فيجب القول: إن دَوْر الدين في ضمان السعادة لا يقتصر على النتائج والأعمال فقط، بل حتّى المبادئ والمقدّمات ـ التي تلعب دَوْراً في سعادة الإنسان ـ تدخل في دائرة السعادة الأخروية أيضاً، وإن وجودها من باب المقدّمة أو الأرضية في غاية الأهمّية([54]).

ب ـ «يقول الأستاذ الشيخ جوادي الآملي: إن على العلماء في جميع العلوم مراجعة التعاليم الدينية في دراسة المسائل المتعلِّقة بمجال اختصاصهم، كما يتعيَّن على علماء العلوم الدينية بدَوْرهم أن لا يكتفوا أبداً بالنقل فقط، بل يجب عليهم الرجوع إلى العقل أيضاً. ولكنْ هناك بعض الأسئلة المطروحة في مقابل هذه الرؤية، وهي: ما هي الضرورة التي تدعو عالم الرياضيات في دراسته للمسائل الرياضية المعقَّدة إلى أن يقرأ موسوعة بحار الأنوار؛ لكي يعلم ما إذا كانت هذه الموسوعة قد تحدَّثت في بعض مطالبها عن المسائل الرياضية أم لا؟… كما يمكن طرح هذا السؤال في مسائل سائر العلوم والفنون الأخرى أيضاً. كما أن عالم الدين ـ من ناحيةٍ أخرى ـ لا يمكنه الرجوع إلى جميع العلوم البشرية، بالإضافة إلى أن الكثير من هذه العلوم لا علاقة لها بالمسائل الدينية. وإنما هناك ارتباطٌ في الجملة وعلى المستوى الجزئي يقع أحياناً من كلا الطرفين، حيث يجب الالتفات إلى هذه الناحية. في المسائل التعبُّدية البَحْتة ـ من قبيل: عدد أشواط الطواف؛ حيث هناك ما يكفي من السند القرآني والروائي المعتبر، يمكن للفقيه أن يصدر حكمه بالاستناد إلى ذلك. ومن هنا لا حاجة في هذا النوع من المسائل إلى مراجعة العلوم العقلية والنقلية»([55]).

وأما جواب الأستاذ جوادي الآملي فهو أن أسلوب البحث والتحقيق الإسلامي إما عقلاني أو عقلائي أو منطقي أو بناء العقلاء مقترناً بعدم ردع الشارع. ومن هنا فإن الأسلوب التأسيسي أو التعبُّدي المَحْض غير سائد، وإن القرآن الكريم وكلمات المعصومين وأدعيتهم تشتمل على الكثير من المطالب العلمية، التي لا هي جزء من العقائد، ولا جزء من الفروع العلمية، وعليه لا يمكن القول: إن تعليم المسائل العلمية لم يكن داخلاً في برنامجهم الديني، وإن الدين لا علاقة له بهذه الأمور؛ بل يجب القول: إن الإسلام يتجلّى من جهةٍ في القرآن والعترة؛ كما أنه من جهةٍ أخرى يدور مدار العقل، ويقوم على محور الدليل والبرهان. إن أسلوب الإسلام في تعليم العلوم ـ كما هو أسلوبه في تعليم الأحكام الفقهية والأخلاق والحقوق ـ إمضائيٌّ وليس تأسيسياً، وتوصُّليٌّ وليس تعبُّدياً، أي إنه عقلاني وعقلائي، حيث يقع مورداً للتقييم في علم أصول الفقه. من الضروري الالتفات إلى أنه حيث يكون مصدر العلوم الدينية ـ بعد الوحي الخاصّ بالأنبياء^ ـ هو العقل البرهاني، والنقل المعتبر عن المعصومين^، فإنه للوصول إلى حكم الله تعالى بشأن الموجود الإمكاني من اللازم عدم الغفلة عن أيّ مصدرٍ معرفي، حتّى إذا كان هناك دليلٌ آخر مؤيّد استفَدْنا من تأييده، وإنْ كان معارضاً عملنا على رفع التعارض السطحي والابتدائي بين الدليلين؛ كي لا يخرج أيٌّ منهما من دائرة البحث، وأن لا يؤدّي تعاضدهما إلى مخالفةٍ، وبعد ذلك إلى محاربةٍ. وهذا الأمر لا يحتاج إلى قراءة مئة مجلّدٍ من موسوعة بحار الأنوار؛ لأن الكثير من القواعد العلمية مرتّبة على أساس ترتيب الموضوعات القرآنية والروائية([56]).

ج ـ إن ملاحظة العلّة الفاعلية والعلّة الغائية في الأشياء ليس لها تأثيرٌ في محتوى العلوم الطبيعية. كما أنها لا تؤثِّر في جدوائية أو عدم جدوائية العلوم الفنّية والعلمية، وإن تأثيرها يقتصر على الفلسفة والرؤية الكونية للعلوم.

وجواب الشيخ جوادي الآملي هو أن ملاحظة العلّة الفاعلية والغائية في الأشياء، والتي تعود إلى الله سبحانه وتعالى، تؤدّي أوّلاً: إلى القول بأن أصل وجود الأشياء وصفاتها ـ في العلوم التجريبية والرياضية وأمثالهما ـ مخلوقةٌ لله تعالى، وأن نعيد غاية العالم إلى الله أيضاً. وثانياً: «إن الحضور الذهني للتفكير الإلهي بالنسبة إلى الأستاذ والتلميذ في فضاء التعليم والتعلُّم يؤدّي إلى عدم نسيان أسلمة نصّ العلوم وألوهية ذات العلم؛ لا أن يكون المعلِّم والمتعلِّم مسلمين فقط، دون أن يعلما بأن ترتيب آثار الأشياء عليها، وعروض العوارض الذاتية على الموضوعات في القضايا الإيجابية، وسلب الأمور الأجنبيّة عن الموضوعات في القضايا السلبية، يعتمد بأجمعه على الإرادة الحكيمة لله سبحانه وتعالى»([57]). وثالثاً: إن العلوم التجريبية إنما تتقوَّم بالعلل، إلاّ أنها لا تأخذ العلل الوجودية بنظر الاعتبار، وعلى هذا الأساس فإن العلماء يعتبرون العلوم ثمرةً لجهودهم. إن الرؤية التوحيدية تؤدّي إلى إعادة ما تمّت مصادرته حالياً إلى صاحبه الأصلي، ويعتبر العلماء ما ينتجونه ثمرةً للعناية الإلهية، وأن يعدّوا ما يكتشفونه اكتشافاً لفعل الله عزَّ وجلَّ. ورابعاً: «إن هذه الإحالة المباركة تنطوي على الكثير من المسؤوليات التي لم يكن لها تحقُّق في الأزمنة الماضية، وتضمن السعادة الأبدية التي لم تكن موجودةً في السابق. وهكذا الأمر في الفلسفة المطلقة، بمعنى أنه إذا تحوَّلت العقيدة الإلحادية إلى عقيدةٍ إلهية لن يتغيَّر شكلُ العالم، إلاّ أن العالم الذي كان مغتصباً ومستباحاً من قبل الإلحاد يعود إلى صاحبه الأصلي والتوحيدي، وفي سياق ذلك تتّضح المسؤوليات، ويتمّ ضمان السعادات»([58]).

النتيجة

يتمّ بيان النظرية القصوى للعلم الديني بالأسلوب التفسيري والأسلوب الفلسفي، وبالالتفات إلى المعرفة الدينية والمعرفة العلمية في المنظومة الفكرية للأستاذ جوادي الآملي. إن الأنواع الأربعة من العقل: التجريبي؛ وشبه التجريبي؛ والعقل التجريدي؛ والعقل الخالص، إذا كانت باعثةً إلى اليقين أو موجبةً للطمأنينة فإنها ستعدّ من العلم، وسوف تحصل مع النقل على منزلةٍ خاصة في دائرة المعرفة الدينية. كما أن الإسلام دينٌ عالمي يشمل جميع العصور والأزمنة، ويجب أن يلبّي جميع المطالب البشرية، وهو في تلبيته للاحتياجات البشرية يستخدم ثلاث أدوات، وهي:

أوّلاً: العقل والفطرة.

وثانياً: القرآن.

وثالثاً: السنّة.

إن المعطيات التي يتمّ الحصول عليها بواسطة هذه المصادر تدخل ضمن شعاع المعرفة الدينية. والآن يمكن من خلال توظيف العقل التجريبي والتجريدي، والاستفادة من الأسلوب الاجتهادي في اكتشاف الجزئيات من أصول وكلّيات الدين، الوصول إلى الدائرة الواسعة من العلم الديني. إذا أمكن لهذه النظرية أن ترفع الغموض السابق، وتمَّتْ تجربتها في العلوم الإنسانية أو الطبيعية فإنها ستثبت جدوائيتها، ويغدو بالإمكان عرضها على العالم بوصفها نموذجاً مقبولاً.

الهوامش

(*) أستاذٌ جامعيّ، وعضو الهيئة العلميّة في مركز الدراسات الثقافيّة والفكر الإسلامي ـ قسم الفلسفة والكلام. له مؤلَّفاتٌ عديدة في فلسفة الدين والكلام الجديد.

(**) طالبٌ في مركز الكلام الإسلاميّ التخصُّصيّ في حوزة قم العلميّة.

([1]) انظر: عبد الحسين خسروپناه، جريان شناسي فكري إيران معاصر (التيار الفكري المعاصر في إيران)، مؤسسة حكمت نوين إسلامي، قم، 1388هـ.ش. (مصدر فارسي).

([2]) إيان باربور (1923 ـ 2013م): فيزيائيٌّ وأستاذ جامعي أمريكي. ولد في العاصمة الصينية بكين. أمضى دراسته في مجال الفيزياء في بريطانيا، ثم واصلها في الولايات المتحدة الأمريكية، حتّى نال شهادة الدكتوراه في الفيزياء سنة 1950م. ثم قاده شغفه بعلم اللاهوت إلى جامعة ييل، ليحصل هناك على شهادة في علم اللاهوت سنة 1956م، ليشتغل بعدها بالتدريس والتحقيق في جامعة كارلتون. توفي سنة 2013م بالجلطة الدماغية، عن عمر ناهز التسعين عاماً، تاركاً وراءه تراثاً كبيراً للمجتمع العلمي والديني. المعرِّب.

([3]) إيان باربور، علم ودين (العلم والدين) : 2، ترجمه إلى اللغة الفارسية: عماد الدين الخرمشاهي، انتشارات نشر دانشگاهي، ط6، طهران، 1388هـ.ش.

([4]) سيد محمد نقيب العطاس (1931 ـ ؟م): فيلسوفٌ ماليزي مسلم. يعتبر الرائد الأول في الدعوة إلى أسلمة العلوم. له الكثير من الأعمال في مختلف جوانب الفكر الإسلامي والحضارة، ولا سيَّما علم التصوّف، وعلم الكونيات، والميتافيزيقا، والفلسفة، واللغة الماليزية، والأدب. المعرِّب.

([5]) إسماعيل راجي الفاروقي (1921 ـ 1986م): باحثٌ ومفكر فلسطيني، تخصّص في الأديان المقارنة. من أوائل مَنْ نظَّر لمشروع إسلامية المعرفة. تمّ انتخابه أول رئيس للمعهد العالمي للفكر الإسلامي. قتل هو وزوجته طعناً بالسكاكين عام 1986م في الولايات المتحدة الأمريكية. المعرِّب.

([6]) السيد حسين نصر (1933 ـ ؟م): فيلسوفٌ إيراني معاصر. أستاذ قسم الدراسات الإسلامية في جامعة جورج واشنطن. اشتهر في مجال مقارنة الأديان والصوفية وفلسفة العلم والميتافيزيقا. تتضمّن فلسفته نقداً ورفضاً شديداً للحداثة وتأثيرها السلبيّ على الإنسان. المعرِّب.

([7]) عبد الله جوادي الآملي (1932 ـ ؟م): فيلسوفٌ ومفسِّر وعالم إسلامي شيعي إيراني. مؤسِّس مؤسسة الإسراء للبحوث في مدينة قم. المعرِّب.

([8]) مهدي گلشني (1938 ـ ؟م): عالمُ فيزياء إيراني. حائزٌ على الدكتوراه في الفيزياء من جامعة بيركلي في الولايات المتحدة الأمريكية. من أشد المدافعين عن نظرية العلم الديني والعلم المقدّس أو العلم الإسلامي. المعرِّب.

([9]) السيد منير الدين الحسيني الهاشمي (1945 ـ 2000م): عالمُ دينٍ إيراني شهير. اسمه الحقيقي إبراهيم. من مراجع الشيعة الكبار. ورث زعامة حزب الإخاء في شيراز عن أبيه، ولكنه انفصل عنه وعن قيادته وانتقل إلى قم بعد أن أدرك أن أعضاء الحزب لا يلتزمون بنظامه الداخلي. ومع بداية الثورة الإسلامية بقيادة الإمام الخميني انتقل إلى شيراز لدعم الثورة في مسقط رأسه. عضو مجلس خبراء الدستور. المعرِّب.

([10]) خسرو باقري نوع پرست (1957 ـ ؟م): مترجمٌ وفيلسوف إيراني في مجال الفلسفة والتربية والتعليم والتربية الدينية، حائزٌ على درجة الدكتوراه من جامعة نيو ساوث ويلز الأسترالية. المعرِّب.

([11]) انظر: جوادي الآملي، حقّ وتكليف (الحقوق والواجبات): 238، إعداد: مصطفى خليلي، مركز نشر إسراء، ط2، قم. (مصدر فارسي).

([12]) انظر: جوادي الآملي، دين شناسي (معرفة الدين): 33، إعداد: محمد رضا مصطفى پور، مركز نشر إسراء، ط4، قم، 1385هـ.ش. (مصدر فارسي).

([13]) انظر: المصدر السابق: 30.

([14]) انظر: جوادي الآملي، انتظار بشر أز دين (ما يتوقّعه الإنسان من الدين): 178، إعداد: محمد رضا مصطفى پور، مركز نشر إسراء، ط4، قم، 1386هـ.ش.  (مصدر فارسي).

([15]) انظر: مجلة إسراء، «شرح بعض مسائل كتاب (منـزلت عقل در هندسه معرفت ديني)»، العدد 2: 18. (مصدر فارسي).

([16]) انظر: المصدر السابق: 22.

([17]) انظر: جوادي الآملي، ﻣﻨﺰﻟﺖ ﻋﻘﻞ در هندسه معرفت ديني: 28، إعداد: أحمد الواعظي، مركز نشر إسراء، ط2، قم، 1386هـ.ش. (مصدر فارسي).

([18]) انظر: المصدر السابق: 14.

([19]) الكليني، أصول الكافي 1: 15.

([20]) انظر: جوادي الآملي، ﻣﻨﺰﻟﺖ ﻋﻘﻞ در هندسه معرفت ديني: 25، إعداد: أحمد الواعظي. (مصدر فارسي).

([21]) جوادي الآملي، حقّ وتكليف (الحقوق والواجبات): 228. (مصدر فارسي).

([22]) انظر: جوادي الآملي، ﻣﻨﺰﻟﺖ ﻋﻘﻞ در هندسه معرفت ديني: 62، إعداد: أحمد الواعظي. (مصدر فارسي).

([23]) انظر: مجلة: أفق حوزه (أفق الحوزة)، العدد 217. (مصدر فارسي).

([24]) انظر: جوادي الآملي، سرچشمه أنديشه 4: 289، إعداد: عباس رحيميان، مركز نشر إسراء، قم. (مصدر فارسي).

([25]) جوادي الآملي، إسلام ومحيط زيست (الإسلام والبيئة): 112، إعداد: عباس رحيميان، مركز نشر إسراء، ط1، قم. (مصدر فارسي).

([26]) جوادي الآملي، شريعت در آئينه معرفت: 171، إعداد: حميد بارسانيا، مركز نشر إسراء، ط5، قم، 1386هـ.ش. (مصدر فارسي).

([27]) المصدر السابق: 169 ـ 170.

([28]) الحرّ العاملي، وسائل الشيعة 2: 356، الباب 44، ح352.

([29]) جوادي الآملي، شريعت در آئينه معرفت: 171. (مصدر فارسي).

([30]) انظر: جوادي الآملي، شريعت در آئينه معرفت: 181. (مصدر فارسي).

([31]) جوادي الآملي، إسلام ومحيط زيست (الإسلام والبيئة): 114. (مصدر فارسي).

([32]) علم ديني: ديدگاه ها وملاحظات (العلم الديني: الآراء والملاحظات): 7. (مصدر فارسي).

([33]) مجلة معارف، العدد 65: 49. (مصدر فارسي).

([34]) الطباطبائي، نهاية الحكمة: 55، مؤسّسة النشر الإسلامي، قم، 1422هـ.

([35]) وانظر أيضاً: الأنعام: 101؛ المؤمنون: 14.

([36]) جوادي الآملي، إسلام ومحيط زيست (الإسلام والبيئة): 117. (مصدر فارسي).

([37]) مجلة معارف، العدد 65: 51. (مصدر فارسي).

([38]) المصدر السابق.

([39]) جوادي الآملي، ﻣﻨﺰﻟﺖ ﻋﻘﻞ در هندسه معرفت ديني: 144، إعداد: أحمد الواعظي. (مصدر فارسي).

([40]) انظر: المصدر السابق: 167 ـ 170.

([41]) جوادي الآملي، إسلام ومحيط زيست (الإسلام والبيئة): 108، إعداد: عباس رحيميان. (مصدر فارسي).

([42]) علم ديني: ديدگاه ها وملاحظات (العلم الديني: الآراء والملاحظات): 7. (مصدر فارسي).

([43]) جوادي الآملي، ﻣﻨﺰﻟﺖ ﻋﻘﻞ در هندسه معرفت ديني: 144، إعداد: أحمد الواعظي. (مصدر فارسي).

([44]) انظر: جوادي الآملي، ﻣﻨﺰﻟﺖ ﻋﻘﻞ در هندسه معرفت ديني: 74، إعداد: أحمد الواعظي. (مصدر فارسي).

([45]) انظر: المصدر السابق: 74.

([46]) انظر: المصدر السابق: 75.

([47]) انظر: المصدر السابق: 91.

([48]) خسرو باقري، هويّت علم ديني (هوية العلم الديني): 71، وزارت فرهنگ وإرشاد إسلامي، مؤسسة الطباعة والنشر، 1382هـ.ش.

([49]) المصدر السابق: 214.

([50]) المصدر نفسه.

([51]) المصدر السابق: 215.

([52]) مجلة معرفت، تحليل وبررسي ديدگاه آيت الله جوادي آملي درباره منـزلت عقل در هندسه معرفت ديني (تحليل ودراسة رأي آية الله جوادي الآملي بشأن منـزلة العقل في هندسة المعرفة الدينية)، العدد 24: 57.

([53]) مجلة إسراء، العدد 2: 25.

([54]) انظر: المصدر السابق: 27.

([55]) مجلة معرفت، تحليل وبررسي ديدگاه آيت الله جوادي آملي درباره منـزلت عقل در هندسه معرفت ديني (تحليل ودراسة رأي آية الله جوادي الآملي بشأن منـزلة العقل في هندسة المعرفة الدينية)، العدد 24: 59.

([56]) انظر: مجلة إسراء، «شرح بعض مسائل كتاب (ﻣﻨﺰﻟﺖ ﻋﻘﻞ در هندسه معرفت ديني)»، العدد 2: 29. (مصدر فارسي).

([57]) المصدر السابق، العدد 2: 30.

([58]) المصدر نفسه.

Facebook
Twitter
Telegram
Print
Email

اترك تعليقاً