أحدث المقالات


1 ـ للحديث عن الدين والحداثة جوانب وفروع لا يمكن اختزالها في كلمة بسيطة أو دراسة متواضعة؛ فقد ظلّ هذا البحث مثار جدل في العالمين: الغربي والشرقي، وما يزال يتجاذب أطراف الجدل والنقاش حيناً إلى هنا وآخر إلى هناك، حتى لاحظنا أن حركة الإحياء والإصلاح والنهضة الدينية في العالم الإسلامي ظلّت تعيش اضطراباً وتذبذباً في أغلب أشكالها بين قطبي: الحداثة والدين، وقد ترك التذبذب المعلن حيناً والمكتوم المنكشف بين السطور والمواقف حيناً آخر يُدخل الباحث الإسلامي في صراع وازدواجية وقلق وتأرجح، وقد انقسم الباحثون المسلمون في أغلبهم بعد فترات التأرجح إلى من ظلّ ملتبسةً عليه المقولات الدينية والحداثية، ومن ارتدّ سلفياً بتمام ما للكلمة من معنى، ومن هرب إلى الأمام فسقط حداثوياً تميل حداثته إلى الإلحاد النظري أو العملي.
هذه هي قصة الباحث الإسلامي في هذا الموضوع الشائك، متردّد قلق ساعةً تجتذبه رياح التغيير والحداثة، وأخرى تراه منكمشاً على نفسه، كمن يطالب بالآلة لكنه يريد المجتمع زراعياً يدوياً، وفي ذلك دلالة على الواقع المأزوم الذي نعيش، فلم نستطع الخروج من هذا المأزق النفسي، وقد يكونون قلّة من اتخذوا قراراً جريئاً وصعباً مهما كان مضمونه، لكن المهم أن لا يكون هذا القرار فراراً وهرباً من آلام الذات ومصارعة الاتجاهات داخلها، فالمطلوب منه أن يكون قراراً واعياً مدركاً، لا سيكولوجياً مغلفاً بغلاف اللغة الفكرية، مسقطاً على العقل ليعينه في تأمين مخرجٍ ما من هذا المأزق الصعب العسير.
2 ـ والذي يؤكّد أزمة الثقة في المفكر الإسلامي، تعامله مع ظاهرة الحداثة بكل ما تحمله من دلالات، فقد حوّل هذا المفكر أحياناً مقولات الحداثة الكبرى إلى مقدّس وفوق تاريخي، ولا محلّي، مع أن بنية تفكيره الحداثي كانت تقوم على رفض المقدّس والمتعالي عن التاريخية والزمكانية، وبالفعل صارت بعض مقولات الحداثة مقدّساً يعاقب من يناقش فيها، لكن بدل أن يتهم بالردّة يتهم بالتخلف، وبدل أن يقتل بدنياً يتم اغتياله فكرياً، وحتى عندما عمل المفكر المسلم على نقد الحداثة وجدنا نقده تابعاً للغربي والأجنبي، مثل مشاريع النقد الأخلاقي للحداثة، فقد شرع مفكّرنا الإسلامي بهذا النقد بعدما أشبعته الدراسات الغربية، مما يشي بأزمة ثقة ينتج عنها أزمة مبادرة، واستيهاب للشروع بعمل.
وتسبّب ذلك أن مفكرنا المسلم ظلّ يعيش ثنائية الحداثة وما قبل الحداثة، ولم يدخل بعدُ في افتراض ثلاثية تدخله في ما بعد الحداثة، من هنا كان نقد الحداثة عنده يساوق العودة إلى ما قبلها، الأمر الذي بات يصعب الأخذ به على المفكر الإسلامي الناهض، وهذا ما جعله يظلّ على الدوام أسيراً لمقولات الحداثة بوصفها أحياناً مسلّمات فكرية وأحياناً أخرى ـ وهو الأهم ـ أمراً واقعاً لا مفرّ منه إلاّ بالعودة إلى الوراء، الأمر الذي بات مستحيلاً عليه عملياً على الأقل.
3 ـ من هنا باتت مداخل نقد الحداثة غربيةً، وصعب على المفكر الإسلامي ابتكار مداخل لذلك؛ لأنه تمثل شخصية المستهلك في السوق، فإذا أراد أن ينتج لم يكن لديه من المواد الخام سوى الموروث الذي بات استحضاره صعباً عليه، لأنه يعيده إلى ما قبل الحداثة في الممارسة والآليات وأنماط التفكير، الأمر الذي اضطرّه إلى التفكير في وسائل ومخالص لتوظيف الموروث بما يمنحه استقلال الذات وخصوصيتها من جهة وعدم التورّط في استنساخ حرفي للتاريخ أو عودة إلى الوراء من جهة أخرى.
4 ـ والمشكلة الأساس التي يواجهها الإنسان لدى تتبّعه ردود أفعال العلماء والمفكّرين المسلمين على الحداثة وتداعياتها هو هيمنة أحد موقفين عليها غالباً، إما ردود توجّس وتقوقع ورفض مطلق تقريباً، أو انبهار وانجذاب وتسليم مطلق تقريباً، لهذا نجد انقساماً إلى مقلّدة متقدمين ومقلّدة متأخرين، كما يعبّر الدكتور طه عبدالرحمن.
إننا نجد أن مقولات الحداثة صارت عند البعض مقدّساً لا يمكن النقاش فيه، وهذا دليل على أن منطق الحداثة حينما جاء إلينا ـ نحن الشرقيين ـ مسخناه وشوّهناه، فأردنا إنتاج حداثة ضمن مناخ غير حداثي، كيف تكون حداثيةً تلك العقلية التي تنظر إلى الحداثة ومقولاتها بتهيّب وتقديس؟ أليس هذا من نوع التناقض الداخلي المفضي إلى زوال الشيء تلقائياً؟
وحتى لو تجاوزنا هذه النقطة بالذات، ثمة من يتحدّث اليوم عن عناصر في الحداثة لا يمكن للإنسان المعاصر تجاوزها واقعياً مهما كان الموقف منها على مستوى العقل العملي ومدى حسنها وقبحها، ثم ينطلق من هذه النقطة التي تفترض بعض عناصر الحداثة (مسلّمات واقع) ليضع مقاربة ومقارنة بينها وبين الدين، دون أن يدلّنا على أساس منطقي لصيرورة هذه المقولة أو تلك مسلّمات واقع، فيما تكون هذه أو تلك خارجة عن مسلّمات الواقع، إنّ التعامل مع الحداثة بمنطق الانتقائية هذه أو الانهزامية تلك لن يقدّم شيئاً على الصعيد المعرفي وحلّ معضل الدين والحداثة في بلاد الشرق، بقدر ما المطلوب الدخول في مرحلة إبداع حقيقي لا نقلّد فيه السلف بل نستفيد منهم ونحترمهم، كما لا نقلّد فيه الغرب بل نحترمه ونستفيد منه، لما بيننا وبينه من مشتركات الإنسانية.
5 ـ ومن أشدّ معضلات العلاقة بين الدين والحداثة مسألة المقدّس وقضية التعبّد، فقد ظلّ الباحث المسلم يشعر في القسم التعبّدي التسليمي في الدين عائقاً أمام الحداثة، فلا مجال للحداثة سوى برفض مختلف أشكال المقدّس، المتعالي عن الفهم والتعقيل، ولهذا وجدنا بعضهم، مثل الدكتور مصطفى ملكيان، يميل إلى طرح ما يراه «الاتجاه المعنوي» في مقابل «الاتجاه العقلاني»، وعمدة هذا الاتجاه شبه حذف تام للمقولات الخبرية وكذا الفقهية للدين، فكل دين يعتمد في فهمه المنهج التاريخي الهادف إلى كشف واقع عبر توظيف معايير العقل النظري لن يكتب له النجاح، انطلاقاً ـ وفق نظرية ملكيان ـ من درجة من عبثية البحث العقلي الميتافيزيقي، لعدم إمكان تشييد أيّ دليل يثبت أو ينفي القضايا الميتافيزيقية بما فيها وجود الله على حدّ تعبير صاحب النظرية نفسه، في قدر من الامتداد للمدرسة الوضعية المعبّرة عن روح الحداثة.
ولسنا بصدد دراسة هذه النظرية، لكن لدينا وقفة نقدية واحدة في المنهج نكتفي فعلاً بها، وهي أن أنصار هذه النظرية ـ وبقطع النظر عن المنطلق المعرفي الذي اتخذوه ـ تعاملوا مع الدين التاريخي النصّي من منطلق تقليدي، ثم وضعوا علاجاً جديداً على أساس المنطلق التقليدي المشار إليه، رغم أنّ هذا المنطلق عينه كان مرفوضاً من جانبهم على الدوام.
وأقصد بالمنطلق التقليدي اعتبار علم الفقه جوهر الدين التاريخي الذي يشغل حيزاً كبيراً منه، فهذا التصوّر للدين على أنه دين فقه وشريعة هو تصوّر مدرسي، سبّبه تنامي علم الفقه والحديث في حياة المسلمين أزيد من حجمه الطبيعي، إن اتخاذ هذه المقولة منطلقاً سوف يؤدي بطبيعة الحال إلى غلبة التصوّر التعبّدي للدين، على خلاف ما لو أخذ بنظريات العقلانيين الدينيين المتأخرين الذين ركزوا على الفلسفة والعرفان والأخلاق، مستمداً بعضهم ـ كالعلامة الطباطبائي والشيخ المطهري ـ من عقلانيات الفلسفة الصدرائية فهماً عقلانياً للدين، مهما كان تقييمه معيارياً.
لماذا جعل الفهم التقليدي للدين ـ بهذا المعنى ـ أساساً في التعامل مع ظاهرة فهم الدين عموماً، ولم نلحظ ألوان الفهم الأخرى التي تعطي التعقيل مساحةً أكبر؟ أعتقد أنّ هناك خطأ ما قد حصل هنا، فرض على فريق من الباحثين المسلمين تصوّر التعبّد ذا حجم وسيع في الفهم الديني والتفسير.
ولو أعيد متابعة هذا الموضوع لربما لم نجد هذا الوضع، ومن ثم فعملية التعبّد ستأخذ حجماً مختلفاً مما قد يبرّرها حينئذٍ عقلائياً وفق المنطق الحداثي، سيما وأن أنصار الاتجاه المعنوي وأمثاله لا يرون في مطلق تقليد الغير والاحتكام إليه مجانبةً للعقلانية، بل قد يكون هذا الاحتكام عقلانياً، كما لو قام على أساس تجربة شخصية أو استقراء تأريخي كما يرون، مما يجعل التعبّد مبرراً من حيث المبدأ على الأقلّ.
لا ينبغي المغالاة في أمر التعبّد، سلباً أو إيجاباً، فقد بات ظهور الدعوات المطالبة بعودة المقدّس في الغرب مشهداً مألوفاً بعد الفراغ العارم وفقد الحياة معناها، سيما وأنّ فلسفة العلم في القرن العشرين، وكذا اللسانيات وعلوم الهرمنوطيقا، قد أجبرت العقل على التخلّي عن إطلاقية سلطته، وفرضت عليه قدراً لايستهان به من التواضع، بعد أن ظلّ في عصر الحداثة سلطاناً مطلقاً.
لم يدرس الناقدون المسلمون بجدية تمام البدائل المتوفرة، بل تصرّفوا وكأن البديل الوحيد هو الاتجاه الإخباري في فهم الدين أو الاتجاه السائد اليوم، فيما كان من الأجدر ملاحظة بدائل أخرى متوفرة أو متصوّرة لرصد مدى معارضتها لمنطق الحداثة وأولياتها، وكأن مشكلة الكثيرين منّا أنهم يعرفون ما لا يريدون، وهو واقعهم الحالي، ولا يعرفون ما يريدون، أي البديل؛ فهناك عودة اليوم للاتجاه الصوفي العرفاني في فهم الدين، ربما فقط لأنه الملاذ من ديانة الفقهاء، لكن ألا ينبغي تقديم تصوّر أكثر انضباطاً لهذا الفهم أيضاً، وألا تحوي الاتجاهات الصوفية مظاهر فوضى وسلبية؟!
وأخيراً، هناك حاجة لامتلاك جرأتين: جرأة المعرفة وجرأة تقبّل الحقيقة، وليست هذه الحاجة خاصة بالفريق التقليدي المدرسي من بيننا، بل تعمّ الكثيرين من أنصار التجديد والتحديث أيضاً، ويجب أن لا تغرينا نرجسية المثقف المسلم لتعميه عن القيام بمحاولات أخرى في المعرفة.
وأخيراً، فقد بلغنا ونحن نرسل العدد الحالي من مجلّة المنهاج، النبأ المؤسف بوفاة المرجع الديني سماحة الشيخ الميرزا جواد التبريزي رحمه الله تعالى، وإنّنا إذ نعزّي عموم المسلمين والمؤمنين بوفاته، نسأل الله تعالى له الرحمة والمغفرة والرضوان، وأن يتغمّده في فسيح جنانه بوابل رأفته وحنانه، ويمنّ على ذويه والمؤمنين بالصبر والسلوان، إنه عزيز قدير، وبالمغفرة جدير.
الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّـا إِلَيْهِ رَاجِعونَ  ]البقرة: 156[

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(*) نشر هذا المقال في العدد 44 من مجلة المنهاج في بيروت، شتاء عام 2007م.

Facebook
Twitter
Telegram
Print
Email

اترك تعليقاً