أحدث المقالات
 رغم إننا في السلطنة، قد تجاوزنا بنجاح يحتذى به، النعرات الطائفية بأنواعها، ذلك التجاوز الذي أنجانا من سمومها المميتة، بفضل منهج "المواطنة" التي تحكم صلات الناس ببعضها في هذا البلد الأمين، إلا أن حُمى شحن الأجواء بدخان الطائفية في مساحة كبيرة من الخارطة العالمية لا يُبشر بالخير، ويدعو إلى مزيد من توخي الحذر. وفي الواقع، فإنّ خطوة الإعلان عن "أسبوع التقارب والوئام الإسلامي" العماني والتي غرب شمسها منذ أيام، قد جاوزت الحدود الوطنية والإقليمية، وبلغت تخوم العالمية لإيصال الرسالة التي سجلتها الآية رقم 10 من سورة الحجرات : "إنما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم". ما أكثرها تلك المشتركات وأشدها تأصلا بين المسلمين، ومع هذا فإنّ قوى بث التفرقة استطاعت في مساحات من أراضي المسلمين تحديدًا أن تبتلع في تياراتها العديد ممن تمكن الإعلام المضلل من طبع صور قاتمة للغاية في أذهانهم عن بقية إخوانهم من المسلمين، حتى غدوا في نظرهم أسوأ من الشياطين، رغم أنّ الجميع يصلي لرب واحد، وباتجاه قبلة واحدة، ويتلو آياتٍ من كتاب واحد، ويسلم ختامًا على نبي واحد!

وما لفت نظري إليه، مجموعة من المقترحات في هذا المجال تحديدًا، مجال تأصيل الروابط بين أبناء المذاهب المختلفة، ورأب الصدوع في مواجهة تسلل الفكر الداعي إلى الطائفية المدمر، أثارها الباحث "حيدر حب الله" أثناء استضافة مركز السلطان قابوس العالمي للثقافة والعلوم له ضمن فعاليات أسبوع التقارب والوئام الإسلامي. الأولى منها، تعلقت بفتح أبواب الاجتهاد على مصراعيه في مجالات فكرية أخرى، كعلم الكلام والتاريخ وعلم الرجال، وبغيّة الباحث من ذلك إيصال الفكر الإسلامي إلى شواطئ المعذرية فيما تجتهد فيه العقول على غرار الفقه. فالفقهاء في الوقت الذي يختلفون فيما بينهم وفقًا لاجتهادهم، نراهم يعذرون بعضهم بعضا على أساس أن المجتهد إن أخطأ فله أجر وهو معذور، فلو تمرد هذا المبدأ من البقاء حبيس جدران الفقه فحسب، وأطلق لنفسه العنان إلى مساحات أخرى من الفكر الديني، لتوطدت عرى القرب بشكل أعمق في إطار الاختلاف الاجتهادي على مختلف الأصعدة الفكرية.
والثانية منها، المتعلقة بمبدأ فصل النقد عن الجرح، بحيث تزول العلاقة بينهما تمامًا في تداولاتنا الفكرية. ويريد الباحث بهذه النقطة أن يسكب الاحترام على كافة الآراء الدينية، وبغض النظر عن انتماءاتها المذهبية، في الوقت الذي يطلق للنقد حقه في ممارسة دوره البناء، بعيدًا كل البعد عن التجريح المسبب للتشنجات المؤدية إلى اضطراب العلاقات في إطار الدين الواحد. والإثارة الثالثة، حول تأسيس حاكمية العقل وما يدعو إليه من قبول الآخر والتجاوب معه، والإثارة الرابعة حول عدم اعتبار العقيدة والتاريخ الوجهين الوحيدين المعبرين عن الدين، بل جعل القيم والأخلاق والعلاقات الإنسانية فيما بينها، ضمن ما يمثل واجهة الدين، ووجهها الذي ينبغي نفض الغبار عنه. وآخر تلك المقترحات المثيرة التي أطلقها الباحث، نقطته حول الطفولة، وحمايتها من دخان الطائفية الصاعد إلى عنان السماء، وذلك عبر تأليف قصص للأطفال تكرس التقريب بينهم، وتبث في عقلهم اللاواعي مفاهيم تصبح لاحقًا سدًا منيعًا أمام محاولات بث سموم الفرقة والتنافر بين المسلمين. بحسب "حب الله" إننا لم نتحرك بعد نحو هذا الاتجاه إلى الآن. لقد دعا إلى تأسيس ثقافة التآلف والتقارب والتلاقي بين الأطفال، تتألف مضامينها من مفاهيم إيجابية تتعلق بالمذاهب المختلفة للمسلمين، ونادى بدور لوزارات التربية والتعليم في هذا الاتجاه، يتمثل في جعل الكتاب المدرسي معرفا للطالب بمكنونات تاريخه، وداعيًا له لتفهم الآخر، عبر عدم حذف جوانب من التاريخ، وحتى لا يُفاجأ الطالب بعد سنين من عمره أن ثمة مذاهب تُعد من نسيج وتراث وطنه، إلا أنّه لا يعرف عنها شيئا!
لا يسعني في هذه المساحة إلا أن أعلق على كل تلك المقترحات، ولذلك فسوف أكتفي حاليا بالتأمل في هذه الأخيرة تحديدًا. ذلك لأنّها قد تواجه قلة اكتراث، بل واستهجان من وجهة نظر ما، نظرًا لأنّ الأجواء المدرسية تقوم بشحذ العلاقات بكل حميمية بين جميع الأطفال، ودون أدنى تمييز على الإطلاق، والأجواء ذاتها وبالإيقاع ذاته تحكم مسيرة التعليم في السلطنة إلى آخر مداها، فلا مستدعى –حسب وجهة النظر هذه- إلى هذا القلق، الداعي إلى هذا المقترح تحديدًا. إلا أنّ قلق الباحث من تفاقم أجواء الشحذ الطائفي في أكثر من موقع إسلامي هذه الأيام، دعاه إلى طرح مبادرة مثيرة للغاية على الإعلام، على أن يتدارسه هذا الأخير بعمق. فعلى غرار تجربة "ستار أكاديمي"، دعا إلى تجربة مماثلة على مستوى طفولة منتقاة من عدة من الطوائف الإسلامية، تعيش جنبًا إلى جنب على مدى عشرين يوما ترصد كاميرا التليفزيون هذا التعايش، وتعرض هذا التفاهم والتقارب والوئام بين تلك الطوائف من الصغار، ولعلّ الباحث يريد بذلك أن يقول أنّ هذا التعايش سيكشف للعالم الإسلامي أجمع بأنّ هيئة صلاة طفل عن هيئة أخرى لطفل آخر – من قبيل مد اليدين أو تكتيفهما أو رفع اليدين بالدعاء في الركعة الثانية – وما شاكلها من اختلافات طفيفة، لم يكن لها أدنى حساب في التعامل الواقعي والأخوي لتلك الزمرة من الصغار. تُرى، هل الفكرة تستحق الاهتمام والدراسة والتأمل؟
وسواء وجدناها مبتكرة ومفيدة أو رأيناها مستهجنة وفاقدة للجدوى، إلا أنّي أرى أنّ بذل بعض الجهد لأجل إنشاء تركيبة ثقافية على مستوى الطفولة يؤسس لتقوية الوشائج، عبر تركيبة فريدة للغاية تتألف من رؤى تعرف بالمذاهب الإسلامية في إطار الاحترام، وتستعرض شتى الشخصيّات الدينية وإنجازاتها، سواء التاريخية أو العصرية؛ لمشروع يستحق العناء حقًا.
نريد لأطفالنا أن يقرأوا إنجازات ابن الهيثم في الكيمياء بجوار إنجازات ابن سينا في الطب والفلسفة، ويقرأوا لمحمد حمدي زقزوق بجوار محمد باقر الصدر، حتى لا يجدوا صدًا يمنعهم، بعد سنوات من العمر، من تناول تاريخ ابن زريق واجتماعيات ابن خلدون، وشرح الإشارات لنصير الدين الطوسي وتعليقات مرتضى المطهري على أصول الفلسفة، على غرار الأوروبيين الذين، ورغم أنّهم خاضوا حربين عالميين أهلكتا الحرث والنسل، إلا أنّهم عادوا ليلملموا شتاتهم بعدما أدركوا أنّ سبيل النجاح والتفوق لن يتأتى إلا بلم الشتات عبر وحدة اقتصادية وثقافية تستند على قبول الآخر باعتبار أن ثقافة الأخير هي جزء من ثقافته.. وإذا بنا نقتني كتبًا لأطفالهم – ترجمت إلى العربية لأطفالنا- تضم حلقة عن كولومبس وحلقة عن غاليليو وأخرى عن توما الأكويني وأخرى عن القديس أنسلم، ولكن دون أن نعي الدرس ونعتبر!
عادة ما تستهوي تجارب الأوروبيين منظرينا، فما بالهم لا يجدون في وحدتهم الثقافية تلك مدعاة للاحتذاء وعبرة؟
ولعلي أعود إلى بقيّة مقترحات "حب الله" التي أشرت إليها لاحقًا على صفحات هذه الجريدة الغراء.

 
 
Facebook
Twitter
Telegram
Print
Email

اترك تعليقاً