أحدث المقالات
حدود الله تعالى
الشيخ محمد مهدي الاصفي
 
بسم اللّه الرحمن الرحيم
 
(تلك حدود اللّه فلا تقربوها)(1).
فيما يلي اذكر طائفة من الحقائق التي يقررهاالقرآن لتوضيح معنى حدود اللّه من خلال كتاب اللّه، ثم ندخل بعد ذلك في تفاصيلالبحث عن خصائص الالتزام بحدود اللّه في الدنيا والاخرة، ومباحث أخرى تتعلق بحدوداللّه.
وإليك فيما يلي هذه النقاط واحدة بعد أخرى.
1- يقرر القرآن الكريم أن الكون كله للّه، ليس لهفيه شريك، وهو سبحانه يفعل ما يشاء، ولا يسأل عما يفعل. يقول تعالى: (رب المشرقوالمغرب لا إله إلاّ هو فاتخذوه وكيلا)(2). (قل أغير اللّه أبغي رباً وهو رب كلشيء)(3). (فللّه الحمد ربّ السموات وربّ الارض ربّ العالمين)(4).
والرب في هذه الايات يعني المالك. ويقول تعالى: (له ملك السموات والارض)(5). (وللّه ملك السموات والارض)(6).
2- واللّه تعالى خلق الارض للانسان. يقول تعالى: (هو الذي خلق لكم ما في الارض جميعاً)(7).
3- وسخر الارض والسماء للانسان. يقول تعالى: (ألم ترَوا أن اللّه سخر لكم ما في السموات وما في الارض)(8). (وسخر لكم الانهار * وسخر لكم الشمس والقمر دائبين)(9). (وهو الذي سخر البحر لتأكلوا منه لحماًطريّا)(10).
4- واباح اللّه تعالى لنا التصرف في ملكه. يقولتعالى: (هو الذي جعل لكم الارض ذلولاً فامشوا في مناكبها)(11). (كلوا واشربوا منرزق اللّه ولا تعثوا في الارض مفسدين)(12). (يا أيها الناس كلوا مما في الارضحلالاً طيّبا)(13). (يا أيها الذين آمنوا كلوا من طيّبات ما رزقناكم)(14). (وكلوامما رزقكم اللّه حلالاً طيّباً)(15). (اليوم أُحل لكم الطيبات)(16). (فانكحوا ماطاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع)(17).
5- ولم يطلق اللّه تعالى أيدي عباده في التصرّففي ملكه، وإنما حددهم بحدود عرّفها لهم، وأباح لهم التصرف ضمن هذه الحدود، وحرّمعليهم التصرف في ملكه خارجها. يقول تعالى: (يا ايها الذين آمنوا إنما الخمروالميسر والانصاب والازلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه)(18). (إنما حرّم عليكمالميتة والدم ولحم الخنزير وما أُهل به لغير اللّه)(19). (حرّمت عليكم أمهاتكموبناتكم واخواتكم وعمّاتكم وخالاتكم وبنات الاخ وبنات الاخت. . . )(20). (وذروا ما بقيمن الربا)(21). (وذروا ظاهر الاثم وباطنه)(22).
6- ونهانا اللّه تعالى عن تجاوز حدوده. يقولتعالى: (تلك حدود اللّه فلا تعتدوها ومن يتعدَّ حدود اللّه فاولئك همالظالمون)(23). (ومن يتعدّ حدود اللّه فقد ظلم نفسه)(24). (ومن يعص اللّه ورسولهويتعدَّ حدوده يدخله ناراً خالداً فيها)(25).
7- والالتزام بحدود اللّه تعالى، والعمل والتحركوالتصرف داخل هذه الحدود، وعدم تجاوز هذه الحدود هي (التقوى)، وقد سئل الامامالصادق(عليه السلام) عن التقوى فقال: "ألاّ يفقدك اللّه حيث أمرك، ولا يراك حيثنهاك"(26).
8- والعصيان هو تجاوز الحدود الالهية. يقول تعالى: (ومن يعص اللّه ورسوله ويتعد حدوده يدخله ناراً خالداً فيها)(27).
وهو في مقابل التقوى، فإن التقوى هي الالتزامبالحدود الالهية، والعصيان هو الخروج من حدود اللّه، وهو الذنب والفجور والمشاقة.
9- إن رسالة الدين في حياة الانسان هي تحديدمنطقة الرخصة التي يجوز للانسان أن يتحرك فيها.
وبهذه الحدود يعرف الانسان ما يجوز له وما لا يجوزفي دين اللّه، وهي حدود دين اللّه تعالى.
روى البرقي عن أبي عبد اللّه الصادق(عليه السلام): "إن للدين حدوداً كحدود بيتي هذا، واومأ بيده إلى جدار فيه"(28).
وعن الصادق(عليه السلام): "ما من شيء إلاّ ولهحدود كحدود داري هذه، فما كان في الطريق فهو من الطريق، وما كان في الدار فهو منالدار"(29).
وعن أبي عبد اللّه(عليه السلام): "ما خلق اللّهحلالاً ولا حراماً إلاّ وله حدّ كحدود داري هذه. ما كان منها من الطريق فهو منالطريق، وما كان من الدار فهو من الدار، حتى أرش الخدش فما سواه والجلدة ونصفالجلدة"(30).
وعن أبي لبيد عن أبي جعفر(عليه السلام) أنه أتاهرجل بمكة فقال له: "يامحمد بن علي، أنت الذي تزعم أنه ليس شيء إلاّ وله حدّ ؟ فقالأبو جعفر: نعم، أنا أقول إنه ليس شيء مما خلق اللّه صغيراً وكبيراً إلاّ وقد جعلاللّه له حدّاً، إذا جوّز به ذلك الحدّ فقد تعدى حدّ اللّه فيه. فقال: فما حدمائدتك هذه ؟ قال: تذكر اسم اللّه حين توضع، وتحمد اللّه حين ترفع، وتقم(31) ماتحتها"(32).
إذن مهمة الدين في حياة الانسان تنظيم حياةالانسان ضمن الحدود والضوابط التي تقررها الشريعة.
وهذه الحدود هي الحرمات التي حظرها اللّه تعالىعلى الناس. فأباح اللّه تعالى لهم ما يقع ضمن هذه الحدود ورخّص لهم فيه، وحرّمعليهم أن يرتكبوا ما حرّمه اللّه تعالى عليهم، وأن يتجاوزوا ويتعدوا حدود ما أباحاللّه تعالى لهم إلى ما حرمه عليهم.
10-                     الحدود والفرائض. وإلى جانب الحدود شرع اللّهتعالى على عباده فرائض وواجبات، كالصلاة والصوم والحج والجهاد والامر بالمعروفوالنهي عن المنكر: يقول تعالى: (واقيموا الصلاة وآتوا الزكاة واركعوا معالراكعين)(33). (يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام)(34). (وللّه على الناس حجالبيت من استطاع إليه سبيلاً)(35). (ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرونبالمعروف)(36). (انفروا خفافاً وثقالاً وجاهدوا بأموالكم وانفسكم في سبيلاللّه)(37).
والشريعة هي مجموعة الفرائض التي فرضها اللّهتعالى على عباده، والحدود التي حرّمها اللّه عليهم وحدد بها ما أحله على الناس وماحرمه عليهم.
فأوجب اللّه تعالى مثلاً على الناس الامر بالمعروفوالنهي عن المنكر والنصيحة والتعليم والارشاد الواجبين.
وهما مما فرضه اللّه تعالى على الناس من الكلام،ثم أباح لهم أن يتكلموا وجعل للكلام الذي رخص فيه حدوداً.
منها ألاّ يكون كذباً، وألاّ يكون غيبة، وألاّيكون تشهيراً وتسقيطاً، وألاّ يكون همزاً ولمزاً، وألاّ يكون شتماً ولعناً.
وهذه هي الحدود التي رسمها اللّه تعالى للناس فيالكلام.
فأباح لهم الكلام الذي يقع ضمن هذه الحدود، وحرّمعليهم الكلام الذي يخرج عن هذه الحدود.
ففي الكلام اذن واجبات وفرائض وحدود ومحرمات.
والدين هو مجموعة الفرائض و (الحدود) التي امراللّه تعالى بها الناس ونهاهم عنها.
وقد بين اللّه تعالى لنا في كتابه طائفة مما فرضهعلى العباد ومما حرمه عليهم. يقول تعالى: (يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم القصاصفي القتلى)(38). (كتب عليكم إذا حضر احدكم الموت إن ترك خيراً الوصية للوالدينوالاقربين)(39). (يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام)(40). (كتب عليكم القتالوهو كرهٌ لكم)(41).
وعن المحرمات يقول تعالى: (قل تعالوا أتلُ ماحرّم ربكم عليكم ألاّ تشركوا به شيئاً وبالوالدين احساناً ولا تقتلوا اولادكم مناملاق نحن نرزقكم وإياهم ولا تقربوا الفواحش ما ظهر منها وما بطن ولا تقتلوا النفسالتي حرّم اللّه إلاّ بالحق ذلكم وصّاكم به لعلكم تعقلون * ولا تقربوا مال اليتيمإلاّ بالتي هي احسن حتى يبلغ أشده وأوفوا الكيل والميزان بالقسط لا نكلّف نفساًإلاّ وسعها وإذا حكمتم فاعدلوا ولو كان ذا قربى وبعهد اللّه اوفوا ذلكم وصّاكم بهلعلكم تذكرون)(42).
11-                     شمولية الحدود والفرائض. وتشمل الفرائضوالحدود الالهية كل ما يحتاجه الانسان في تكامله وحركته إلى اللّه.
وما من شيء يقرّب الانسان إلى اللّه ويبعده عن (الانا) و (الهوى)، إلاّ وقد شرّعه اللّه تعالى لعباده فيما شرّع لهم من الحدودوالفرائض.
عن أبي جعفر الباقر(عليه السلام) قال: "قال رسولاللّه(صلى الله عليه وآله) في خطبته في حجة الوداع: ايها الناس، ما من شيء يقربكممن الجنة ويباعدكم من النار، إلاّ وقد نهيتكم عنه وامرتكم به"(43).
12-                     منطقة الرخصة ومنطقة الحظر. إذن مساحة الحياةتنشطر إلى منطقتين: منطقة (الرخصة) ومنطقة (الحظر).
ومنطقة الرخصة هي المساحة لتي أباحها اللّه تعالىلعباده وحللها لهم، من الاكل والشرب والزواج والتمتع بالطيبات والتجارة والسياسةوالرياضة والعلاقات الاجتماعية وما يتصل بذلك.
ومنطقة الحظر هي المنطقة التي حرّمها اللّه تعالىونهى عنها، كالربا والفحشاء والغيبة واللهو المحرم والظلم والعدوان وأكل الميتةوالدم ولحم الخنزير وشرب الخمر والخيانة والغش وما يشبه ذلك مما حرّمه اللّه.
13-                     خصائص المنطقتين. ولكل من هاتين المنطقتينخصائص وآثار في حياة الانسان، وهذه الخصائص والاثار تعم الدنيا والاخرة.
واللّه تعالى يقول عن آثار العيش في منطقة الرخصة،وهي منطقة التقوى: (ومن يتق اللّه يجعل له مخرجاً * ويرزقه من حيث لا يحتسب)(44).
ويقول تعالى: (ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوالفتحنا عليهم بركات من السماء والارض)(45).
وعن علي(عليه السلام): "لو حفظتم حدود اللّه لعجللكم من فضله الموعود"(46).
وعن العيش في منطقة الحظر يقول تعالى: (ومن يعصاللّه ورسوله ويتعد حدوده يدخله نار جهنم خالداً فيها)(47). (ومن يتعد حدود اللّهفقد ظلم نفسه)(48). (تلك حدود اللّه فلا تعتدوها ومن يتعد حدود اللّه فأولئك همالظالمون)(49).
وفيما يلي نوضح ونشرح خصال وخصائص منطقة التقوى:
الخصلة الاولى: أنها تنسجم مع فطرة الانسان، فإناللّه تعالى هو الذي ركب فطرة الانسان وخلقها، وهو اعلم بها من غيره، وهو الذي شرعهذا الدين ورسم للانسان حدود الحلال والحرام.
ومن الطبيعي أن تكون هذه الحدود التي شرعها اللّهمنسجمة مع الفطرة التي خلقها. يقول تعالى عن التطابق بين فطرة الانسان ودين اللّه: (فطرة اللّه التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق اللّه ذلك الدين القيم)(50).
فإذا استسلم الانسان للهوى وخرج من حدود اللّهتعالى كانت مصيبته الاولى في نفسه، وهي محنة التناقض وعدم الانسجام بين حياته التييعيشها والفطرة التي ركبها اللّه تعالى فيه.
الخصلة الثانية: أنها منطقة آمنة لا يخترقهاالشيطان ولا ينفذ إليها الهوى.
وإذا حصّن الانسان نفسه بحدود اللّه تعالى فلميتجاوزها، أمِن من سلطان الشيطان على نفسه ومن نفوذ الهوى. يقول تعالى: (إن الذيناتقوا إذا مسّهم طائف من الشيطان تذكّروا فإذا هم مبصرون)(51).
فلا يستطيع الشيطان أن يقتحم عليهم حدود اللّهالتي تحصّنوا بها وإنما يمسّهم من بعيد طائف منه، فإذا مسّهم من الشيطان طائفتذكروا سريعاً، وكأنّ إنذاراً مبكراً ينذرهم ويبصّرهم بالعدو ليأخذوا حذرهم منه.
وبعكس ذلك فإن المنطقة الخارجة عن حدود اللّهتعالى منطقة غير أمينة وغير حصينة، ومعرّضة لغزو الهوى والشيطان.
والانسان في هذه المنطقة مكشوف تماماً لغزو الهوىوالشيطان. يقول أمير المؤمنين علي بن أبي طالب(عليه السلام): "اعلموا عباد اللّهأن التقوى دار حصن عزيز، والفجور دار حصن ذليل لا يمنع أهله، ولا يحرز من لجأإليه"(52).
ويقول(عليه السلام): "إن التقوى في اليوم الحرزوالجُنَّة، وفي غد الطريق إلى الجنة"(53).
وعنه(عليه السلام) أيضاً: "التقوى حصن حصين لمنلجأ إليه"(54).
وعنه(عليه السلام) أيضاً: "التقوى حرز لمن عملبها"(55).
وعنه(عليه السلام) أيضاً: "امنع حصون الدينالتقوى"(56).
وعنه(عليه السلام) أيضاً: "الجأوا إلى التقوىفإنه(57) جُنَّة من لجأ إليها حصّنته، ومن اعتصم بها عصمته"(58)
والتقوى ضمن حدود اللّه تعالى في الحلال والحرام،وهي دار حصن عزيز كما يقول أمير المؤمنين(عليه السلام).
والحصن العزيز هو الحصن الذي لا يتمكن العدو منالنفوذ فيه.
والفجور – وهو تجاوز حدود اللّه تعالى – دار حصنذليل كما يقول(عليه السلام) والحصن الذليل هو الذي يسهل للعدو النفوذ فيه، والتسلقإليه.
إذن منطقة (الفجور) منطقة مكشوفة للشيطان والهوى،ومنطقة (التقوى) منطقة منيعة ومحمية وأمينة، لا يستطيع الشيطان أن يخترقها وينفذإليها.
الخصلة الثالثة: وليس شيء كالالتزام بحدود اللّهتعالى يقرّب الانسان إلى اللّه تعالى.
وليس شيء يبعد الانسان عن اللّه ويحجبه عنه تعالىمثل العصيان وتجاوز حدود اللّه.
يقول أمير المؤمنين(عليه السلام) في الوصيةبالتقوى: "اوصيكم عباد اللّه بتقوى اللّه التي هي الزاد وبها المعاذ، زادٌ مُبلغ،ومعاذٌ مُنجح"(59).
وفي هذه الوصية يصف الامام(عليه السلام) التقوىبوصفه (معاذ) يعيذ الانسان من الشيطان، و (زاد) يوصل الانسان إلى اللّه.
والتقوى معاذ مُنجح كما يقول الامام(عليه السلام) وزاد مُبلغ يبلغ الانسان إلى اللّه، والطريق إلى اللّه شاق وعسير وطويل، ولابد فيهذا الطريق من زاد وخير الزاد التقوى.
يقول تعالى: (وتزوّدوا فإن خير الزادالتقوى)(60).
وبنفس المضمون يُحدثنا أمير المؤمنين(عليه السلام) أيضاً عن التقوى. يقول(عليه السلام): "إن لتقوى اللّه حبلاً وثيقاً عروته، ومعقلاًمنيعاً ذورته"(61).
إن التقوى تشد الانسان باللّه تعالى شدّاً وثيقاً،فهي حبل وثيق عروته كما يقول الامام(عليه السلام)، وفي نفس الوقت هي معقل منيع لايستطيع الشيطان أن يقتحمه ولا أن ينفذ فيه.
الخصلة الرابعة: أن في التقوى سعة، وفي الفجورضيق، فإن مساحة حدود اللّه تسع الناس جميعاً، وتمكنهم من حقوقهم ومن الحياةالكريمة، بينما يضيق الظلم والفجور بالناس حتى بشخص الظالم الذي يمارس الظلمويتجاوز حدود اللّه تعالى، فإن الظلم الذي يمارسه الظالم لا محالة يرجع إليه بصورةأو اخرى. يقول تعالى: (ومن يتعدّ حدود اللّه فاولئك هم الظالمون)(62).
والعلاقة بين الظلم الصادر من الظالم للاخرينوالظلم العائد إليه من اسرار هذا الدين، وليس هنا مجال الحديث عنه.
ولا يقتصر الامر على ذلك، فإن الظالم حيث يسلبالامن والتقوى من المجتمع يسلب الامن من نفسه بالضرورة؛ لانه عضو في نفس المجتمع،ينعم بما ينعم به الاخرون، ويشقى بما يشقى به الاخرون.
ولذلك يقول تعالى عن قصاص القاتل: (ولكم فيالقصاص حياة يا أولي الالباب)(63).
ورغم أن في القصاص هلاك القاتل وقتله، ولكن في هذاالهلاك حياة المجتمع وسلامته.
والقصاص حدّ من حدود اللّه، فإذا التزم الناس بهذاالحد الالهي عاش الناس جميعاً في أمان وسلام، وإذا تخطوا هذا الحدّ فقدوا جميعاًالامن والسلام في حياتهم.
وهذه (الحياة) هي التي يذكرها اللّه في كتابه: (يا أيها الذين آمنوا استجيبوا للّه وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم)(64).
ففي هذه الدعوة حياة المجتمع وإن كان يتضرر فيهاالفرد احياناً، إلاّ إنه لا قيمة لمصلحة الفرد إذا كانت تضر بمصلحة المجتمع.
والمنطقة الداخلة ضمن حدود اللّه تسع الناسجميعاً، وبوسع الناس جميعاً أن يعيشوا في هذه المنطقة ضمن حدود اللّه، وأن ينعموافيها بالامن والسلام في دنياهم وآخرتهم.
وإذا وجد أحد في هذه المنطقة (الواسعة) ضيقاً،فخرج منها متعدّياً حدود اللّه، وهو يتصوّر أن في تجاوز حدود اللّه سعة، فسوف يضيقبه الظلم هذه المرة، وسوف يكون الظلم أضيق به من العدل.
وهذه من حقائق هذا الدين واسراره. يقول تعالى: (ومن يتعدّ حدود اللّه فقد ظلم نفسه)(65).
إن الذي يتعدى حدود اللّه ليوسع على نفسه، فقد ظلمنفسه – كما يقول القرآن – وإن أوهمته اهواؤه أنه خرج بذلك من ضيق العدل إلى سعةالظلم؛ فإن هذا الظلم يصيبه اكثر مما يصيب الاخرين – ويهدم فطرته وضميره – أولاً،وهو خسارة فادحة في شخصية الانسان ويحجبه عن اللّه تعالى ثانياً، وهي خسارة افدح منالخسارة الاولى، ويعود عليه الظلم ثالثاً؛ فإن الامن الذي سلبه من المجتمع والفجورالذي مكنه من المجتمع يمسّه أيضاً كما يمس الاخرين، فإن الناس ينعمون جميعاً بالامنويشقون بالظلم، ولا يخرج الظالم نفسه من هذه القاعدة.
يقول أمير المؤمنين علي بن أبي طالب(عليه السلام) في سياق الثورة الاجتماعية والادارية، التي قام بها بعد مصرع الخليفة الثالث عثمانابن عفان في الامر بالعدل والمنع من الظلم: "فإن في العدل سعة، ومن ضاق عليه العدلفالظلم عليه أضيق"(66).
وقد اُعلن الامام هذه الحقيقة للناس عندما وجد بعضالناس في سياسة الامام(عليه السلام) المالية ضيقاً، بالقياس إلى ما كانوا يجدونه فيسياسة عثمان بن عفان من قبل من الاسراف في الاموال، فبين لهم الامام أن الذي يجد فيالعدل ضيقاً ويتجاوز العدل إلى الظلم ليوسع على نفسه، سوف يضيق بالظلم، اكثر مماضاق بالعدل، ويكون الظلم اضيق عليه من العدل.
ونحن لا نعرف، هل كان الناس الذين خاطبهمالامام(عليه السلام) يومئذ بهذا الخطاب يعرفون عمق هذا المفهوم الذي القاه(عليهالسلام) يومئذ أم لا؟ ولكننا نعلم أن الامام(عليه السلام) القى إليهم يومئذمفهوماً من اعمق مفاهيم هذا الدين.
فرغم أن منطقة (الرخصة) في هذا الدين محدودة بحدوداللّه، من كل جانب، كان في هذه المنطقة سعة للناس جميعاً، ومن ضاق عليه العدلوالتقوى على سعتهما، فسوف يضيق به الظلم والفجور لا محالة.
الخصلة الخامسة: التيسير والتسهيل.
إن الحياة في المساحة التي تدخل ضمن حدود اللّهحياة مباركة، كثيرة البركات، ميسّرة بعيدة عن التعقيدات، وعكس ذلك العيش خارج حدودالتقوى، فهو مقرون بالعسر والضنك والشدة والتعقيد.
وقد قسّم اللّه تعالى للناس من الرحمة والبركةوالفرج والتيسير والتسهيل في دائرة التقوى، وضمن حدود اللّه ما لا يرزقه احداً خارجهذه المساحة.
وإليك بعض الشواهد على ذلك من كتاب اللّه:
أ – أن اللّه تعالى يفتح للناس بالتقوى ابوابالرحمة والبركة من الارض والسماء. يقول تعالى: (ولو أن اهل القرى آمنوا واتقوالفتحنا عليهم بركات من السماء والارض ولكن كذّبوا فأخذناهم بما كانوا يكسبون)(67).
ب – ويرزقهم بالتقوى من حيث لا يحتسبون. يقولتعالى: (ويرزقه من حيث لا يحتسب)(68).
والذي يجعل اللّه له بالتقوى مخرجاً من كل ضيق،ورزقاً من كل فقر من حيث لا يحتسب، لا يواجه في حياته فقراً وبؤساً ولا يواجهطريقاً مسدوداً.
جـ – ويجعل اللّه تعالى لهم من أمرهم يسراً كلماواجهوا في حياتهم عسراً وشدّة. يقول تعالى: (ومن يتق اللّه يجعل له من امرهيسراً)(69).
د – ويجعل اللّه تعالى للناس في حياتهم بالتقوىفرجاً من كل ضيق، ومهما ضاقت عليهم مسالك الحياة فرّجها اللّه تعالى لهم بالتقوى. يقول تعالى: (ومن يتق اللّه يجعل له مخرجاً)(70).
وروى عن رسول اللّه(صلى الله عليه وآله): "ولو أنالسموات والارض كانتا رتقاً على عبد ثمّ اتقى اللّه لجعل له منه فرجاًومخرجاً"(71).
ولما ودع الامام أمير المؤمنين(عليه السلام) أباذر(رحمه الله) عندما نفاه الخليفة الثالث إلى الربذة قال له: "يا أباذر، إنك غضبتللّه فارجُ من غضبت له. . . ولو أن السموات والارضين كانتا على عبد رتقاً ثم اتقىاللّه لجعل اللّه له فيهما مخرجاً. لا يؤنسنك إلاّ الحق، ولا يوحشنّك إلاّالباطل"(72).
وعن الامام الجواد(عليه السلام): "إن اللّه يقيبالتقوى عن العبد ما عزب عنه عقله، ويجلي بالتقوى عنه غماه وجهله، وبالتقوى نجا نوحومن معه في السفينة، وصالح ومن معه من الصاعقة"(73).
الخصلة السادسة: الامن والسلام بين الناس.
الخصلة السادسة لمنطقة التقوى أنها منطقة أمينةينعم فيها الانسان بالامن والسلام في الدنيا والاخرة، فإن الامن الاجتماعي والسياسيوالاقتصادي في الدنيا يقوم غالباً على نوع العلاقة فيما بين الناس، فإذا كانت هذهالعلاقة قائمة على أساس العدل والانصاف والتقوى والتزام حدود اللّه، فإن الناسينعمون في هذه المساحة بالامن والسلام لا محالة.
عن رسول اللّه(صلى الله عليه وآله): "المسلم أخوالمسلم لا يخونه ولا يكذبه ولا يخذله. كل المسلم على المسلم حرام عرضه ومالهودمه"(74).
وعن رسول اللّه(صلى الله عليه وآله): "كل مسلمعلى مسلم محرم"(75).
وعن رسول اللّه(صلى الله عليه وآله): "المسلم علىالمسلم حرام دمه وعرضه وماله. المسلم اخو المسلم لا يظلمه ولا يخذله"(76).
إذن هذه المنطقة في حياة الناس منطقة أمينة حصينة،إذا دخلها الناس أمن بعضهم من بعض، وسلم بعضهم من بعض، ففي هذه المنطقة كل المسلمعلى المسلم حرام دمه وعرضه وماله. وفي هذه المنطقة يأمن المسلم على نفسه من الغشوالغدر والخيانة والكذب من ناحية أخيه المسلم.
وعن رسول اللّه(صلى الله عليه وآله): "ليس منا منغشّنا".
وتواترت عن الرواة خطبة رسول اللّه(صلى الله عليهوآله) في منى بعد أن قضى مناسكها في حجة الوداع، وهي من غرر خطب رسول اللّه(صلىالله عليه وآله) وروائع كلماته.
عن الامام الصادق(عليه السلام): "إن رسولاللّه(صلى الله عليه وآله) وقف بمنى حين قضى مناسكها من حجة الوداع، فقال: أيهاالناس، اسمعوا ما أقول لكم واعقلوه عني، فإني لا ادري لعلي لا ألقاكم في هذا الموقفبعد عامنا هذا، ثم قال: أيّ يوم اعظم حرمة ؟ قالوا: هذا اليوم. قال: فأيّ شهراعظم حرمة ؟ قالوا: هذا الشهر. قال: فأي بلد اعظم حرمة ؟ قالوا: هذا البلد. قال: فإن دماءكم وأموالكم عليكم حرام، كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا إلىيوم تلقونه فيسألكم عن اعمالكم. ألا هل بلّغت ؟ قالوا: نعم. قال: اللّهم اشهد.
ألا من كانت عنده أمانة فليؤدّها إلى من ائتمنهعليها؛ فإنه لا يحل دم امرئ مسلم ولا ماله إلاّ بطيبة نفسه، ولا تظلموا انفسكم ولاترجعوا بعدي كفارا"(77).
هذا عن الامن (في الدنيا).
وأما عن الامن (في الاخرة). فليس يعيش أحد منطقةالتقوى في الدنيا إلاّ ويرزقه اللّه تعالى الامن في الاخرة، ويجعله يومئذ منالامنين. يقول تعالى: (إن المتقين في مقام أمين)(78). ويقول تعالى: (لهم دارالسلام عند ربهم وهو وليهم بما كانوا يعملون)(79).
الخصلة السابعة: أن باطن منطقة التقوى هو الجنةوباطن منطقة الفجور هو النار. والذين يعيشون في دائرة حدود اللّه تعالى إنما يعيشونفي الجنة وهم لا يعرفون، والذين يعيشون خارج دائرة حدود اللّه تعالى وفي مساحةالحرام والفجور إنما يعيشون في جهنم وهم لا يعرفون. يقول تعالى عن الذين يأكلوناموال اليتامى ظلماً: (إن الذين يأكلون اموال اليتامى ظلماً إنما يأكلون في بطونهمناراً وسيصلون سعيراً)(80).
إن لاعمالنا ظاهراً وباطناً، ونحن لا نعرف مناعمالنا في هذه الدنيا إلاّ الوجه الظاهر منها، واللّه تعالى يخبرنا في كتابه عنالوجه الباطن منها وباطن أكل اموال اليتامى من أكل النار، كما أن باطن الغيبة هوأكل لحم الشخص، الذي يستغيبه الانسان، ميتاً. يقول تعالى: (ولا يغتب بعضكم بعضاًأيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتاً فكرهتموه)(81).
والروايات الواردة في تفسير هذه الاية الكريمةتؤكد هذا المعنى.
كما أن باطن الاعمال الصالحة هو نعم اللّه تعالىومواهبه في الجنة، ففي الاخرة لا يجد الناس في الجنة والنار إلاّ اعمالهم التيسبقتهم إليهما. يقول تعالى: (يومئذ يصدر الناس اشتاتاً ليروا اعمالهم * فمن يعملمثقال ذرة خيراً يره * ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره)(82).
إن القرآن يكاد أن يكون صريحاً في أن الناس يلقوناعمالهم بنفسها في الاخرة في الجنة والنار، ولكن بوجهها الحقيقي، وهو غير الوجهالذي كانوا يعرفونها بها في الدنيا. يقول تعالى: (يوم تجد كل نفس ما عملت من خيرمحضراً وما عملت من سوء تود لو أن بينها وبينه أمداً بعيداً)(83).
وعليه فإن الوجه الباطن للاعمال الصالحة هو نعمالجنة، والوجه الباطن للاعمال المحرمة هو النار.
بل الكافر نفسه وقود نار جهنم. يقول تعالى: (إنالذين كفروا لن تغني عنهم أموالهم ولا أولادهم من اللّه شيئاً وأولئك هم وقودالنار)(84). ويقول تعالى: (فاتقوا النار التي وقودها الناس والحجارة)(85). ويقولتعالى: (قوا أنفسكم واهليكم ناراً وقودها الناس والحجارة)(86).
وجهنم محيطة بالكافرين في الدنيا، ولا يغير هذهالحقيقة الكبرى أن الكافرين لا يشعرون بأن جهنم محيطة بهم في دنياهم قبل الاخرة. يقول تعالى: (ألا في الفتنة سقطوا وإن جهنم لمحيطة بالكافرين)(87). ويقول تعالى: (يستعجلونك بالعذاب وإن جهنم لمحيطة بالكافرين)(88).
وهذه الاية الكريمة من سورة العنكبوت ذات دلالةعميقة؛ فإن الكفار يتحدّون النبي(صلى الله عليه وآله) ويستعجلون بعذاب النار التييوعدهم رسول اللّه(صلى الله عليه وآله) بها، وهم لا يعلمون أن جهنم محيطة بهم فيدنياهم قبل الاخرة.
 
حواراصحاب الجنة والنار :
وكما في الدنيا يتحاور اصحاب الجنة واصحاب النار،كذلك في الاخرة يحاور اصحاب الجنة اصحاب النار وبينهما حجاب.
ففي الدنيا قد يتحاور اصحاب الجنة واصحاب النار فياسرة واحدة، وفي محل واحد، وتحت سقف واحد وبينهما حجاب، كذلك في الاخرة يحاور اصحابالجنة اصحاب النار وبينهما حجاب.
والقرآن يعكس طرفاً من هذا الحوار الذي يجري فيالاخرة بين الطائفتين، كما كان يجري في الدنيا، والحجاب القائم بينهما في الاخرة هونفس الحجاب الذي كان يقوم بينهما من قبل في الدنيا: (ونادى اصحاب الجنة اصحابالنار أن قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقاً فهل وجدتم ما وعد ربكم حقاً قالوا نعم فأذنمؤذن بينهم أن لعنة اللّه على الظالمين * الذين يصدّون عن سبيل اللّه ويبغونهاعِوَجا وهم بالاخرة كافرون * وبينهما حجاب)(89).
الخصلة السابعة: أن حدود اللّه تربة صالحة لنموالمواهب التي اودعها اللّه تعالى في خلق الانسان، وتختلف هذه الخاصة عن سابقتها؛ففي الخصلة السابقة ذكرت أن الالتزام بحدود اللّه يستنزل رحمة اللّه تعالى علىالانسان. يقول تعالى: (ولو أنّ اهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات منالسماء والارض)(90).
وهذه بركات ورحمة يفتحها اللّه تعالى على الناس منالسماء والارض إذا آمنوا واتقوا.
وهناك بركات ورحمة يفتحها اللّه تعالى على الناسمن داخل المجتمع، إذا عملوا والتزموا بحدود اللّه. يقول تعالى: (ولكم في القصاصحياة يا اولي الالباب)(91)، فإن هذه الحياة التي يمنحها اللّه تعالى للناس إذااخذوا بحدود اللّه من الجرائم والقصاص، نابعة من داخل الحياة الاجتماعية.
وهناك مواهب وبركات ورحمة اودعها اللّه تعالى فيفطرة الانسان وداخل نفسه، يفجرها ويستخرجها الالتزام والعمل بحدود اللّه تعالىوفرائضه واحكامه. وإليكم بعض الشواهد على ذلك:
1 – إن الانفاق في سبيل اللّه ينمي في نفس الانسانحاله (العطاء) و(الاخلاص)، وهما من المواهب التي أودعها اللّه تعالى في نفسالانسان، يفجرهما ويستخرجهما وينميهما الانفاق في سبيل اللّه، كما أن العمل في سبيلاللّه – أي عمل – ينمي حالة (الاخلاص) و (قصد القربة) في نفس الانسان.
2 – والصلاة تنمي في نفس الانسان حالة (الذكر)، و (ذكر اللّه) من الكنوز التي أودعها اللّه في نفس الانسان، والصلاة تفجره وتستخرجهوتنميه. يقول تعالى: (وأقم الصلاة لذكري)(92).
3 – و(التذكر) بمعنى (الانتباه) و (الحذر) منشراك الشيطان ومن الاهواء والفتن حالة اودعها اللّه تعالى داخل النفس في اصلالخلقة، والانسان بفطرته حاذر متذكر منتبه للخطر، ولكن هذه الموهبة قد تخمد جذوتها،فإذا اتقى الانسان اللّه تعالى واخذ بالتقوى تذكر وتنبّه للخطر بصورة مبكرّة. يقولتعالى: (إن الذين اتقوا اذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون)(93).
ارأيت اجهزة الانذار المبكر التي تنذر الانسانمباغتات العدو ؟ فكذلك التقوى تبعث في نفس الانسان حالة (التذكر) و(الانتباه) للخطر وتنذره.
هذه الحالة كامنة في نفس الانسان بالفطرة، ولكنالتقوى تفجرها وتستخرجها وتنمّيها.
4 – و(التعفف) حالة كامنة في داخل النفس، ولكنهاتظهر وتنمو كلما كفَّ الانسان فرجه ويده ولسانه عن الحرام.
5 – و(البصيرة) نور اودعها اللّه تعالى في نفوسالناس بالفطرة، ولكن هذا النور قد يخبو ويفقد إشراقه، حتى ينفد وينتهي تماماً،ويتحول إلى ظلمات بعضها فوق بعض، فإذا اتقى الانسان اللّه تعالى وأخذ بالتقوى أعاداللّه إليه هذا النور، وتفجّر من داخل نفسه. يقول تعالى: (يا أيها الذين آمنوا إنتتقوا اللّه يجعل لكم فرقاناً)(94).
و(الفرقان) بصيرة في نفس الانسان، يعرف الانسانبه الحق من الباطل، والهدى من الضلال، فإذا فقد الانسان هذه البصيرة، فلا يفرق بينالهدى والضلال والحق والباطل. يقول أمير المؤمنين(عليه السلام): "التقوى هدىً فيرشاد، وتحرج من فساد، وحرص في اصلاح العباد".
ويقول(عليه السلام) في علامات اهل التقوى: "إنلاهل التقوى علامات يعرفون بها، صدق الحديث، واداء الامانة، والوفاء بالعهد، وبذلالمعروف، وحسن الخلق، وسعة الحلم، واتباع العلم فيما يقرب إلى اللّه عزوجل"(95).
وهذه الخصال التي يذكرها الامام(عليه السلام) كماهي علامات للتقوى، كذلك هي آثار ونتائج لها تظهر من داخل النفس وتنمو.
وهذه الخصلة التي ذكرناها للالتزام بحدود اللّهتعالى والاخذ بها، هي روح خطبة المتقين المعروفة لامير المؤمنين(عليه السلام) فيجواب سؤال همام: "فالمتقون فيها هم اهل الفضائل. منطقهم الصواب، وملبسهم الاقتصاد،ومشيهم التواضع، غضّوا أبصارهم عمّا حرّم اللّه عليهم، ووقفوا أسماعهم على العلمالنافع لهم. عظم الخالق في انفسهم، فصغر مادونه في اعينهم. . . قلوبهم محزونة،وشرورهم مأمونة، وأجسادهم نحيفة، وحاجاتهم خفيفة، وأنفسهم عفيفة. . . أمّا الليلفصافّون أقدامهم تالين لاجزاء القرآن يرتلونها ترتيلاً. . . وأمّا النهار فحلماءعلماء ابرار اتقياء، قد براهم الخوف بَري القِداح. . . "(96).
وهذه خصائص وخصال في النفس تفجّرها التقوىوتستخرجها وتنميها، يشير إليهما الامام علي(عليه السلام) في هذه الخطبة الشريفةمنها صواب المنطق، والاقتصاد في الملبس، والتواضع في المشي، وغضّ الابصار عنالحرام، ووقف الاسماع على العلم النافع، وعِظَم الخالق في النفوس، وحقارة مادونه،والحزن في القلوب، وكف الشرور والاذى عن الناس، وعفة النفوس، والحلم والعلم والبر،والخوف من اللّه. كل ذلك وغيره من آثار التقوى.
 
تجاوز حدود اللّه :
يستعمل القرآن كلمة العدوان على حدود اللّه بمعنىتجاوزها واختراقها.
ومن يتجاوز حدود اللّه يظلم نفسه؛ وذلك أن اللّهتعالى حدّ هذه الحدود لمصلحة الانسان، ومن يتجاوز حدود اللّه يتجاوز ما يصلحهوينفعه، ويتجاوز حدود العبودية للّه تعالى، وكل منهما من ظلم الانسان لنفسه. يقولتعالى: (ومن يتعدّ حدود اللّه فاولئك هم الظالمون)(97). (ومن يتعدّ حدود اللّه فقدظلم نفسه)(98). (ومن يعص اللّه ورسوله ويتعدّ حدوده يدخله ناراً خالداً فيها)(99).
 
المتاخمة لحدود اللّه :
والحالة الاخرى التي ينهى القرآن عنها هي حالةالمتاخمة لحدود اللّه، وهي أن يتحرك الانسان بالقرب من منطقة الحرام، وهذه المنطقةغير أمينة بالطبع، وقد نهانا اللّه تعالى عن القرب من حدوده. قال تعالى: (تلك حدوداللّه فلا تقربوها)(100).
والخطر الذي يهدد الانسان في هذه المنطقة علىنحوين، فقد يختلط في هذه المنطقة الحلال بالحرام نتيجة للقرب من حدود الحرام،فيرتكب الانسان الحرام من حيث لا يعلم، وهذه هي منطقة الشبهة التي ينزلق فيهاالانسان إلى الحرام نتيجة للجهل وعدم التمييز وعدم الاحتياط والتحفظ من الحرام، كمايحصل ذلك في معاملات الصرف والقروض المتاخمة للربا. يقول أمير المؤمنين(عليهالسلام) عن هذه المنطقة: "في حلاله حساب، وفي حرامه عقاب، وفي الشبهات عتاب".
والنحو الاخر من خطر المتاخمة لحدود اللّه خطرالانجذاب إلى الحرام والسقوط فيه؛ فإن جاذبية الحرام تزداد كلما قرب الانسان منمصدر الحرمة، فتسلبه الارادة والعقل، وينزلق في الحرام، ولا يقوى على دفع إغراءالفتنة وثورة الهوى عن نفسه.
والسبب في ذلك قوة جاذبية الحرام من جانب، وسهولةالانزلاق إلى الحرام من جانب آخر في هذه المنطقة.
ولذلك حرّم الاسلام خلوة الرجل بالاجنبية إذا كانتمثاراً للفتنة.
إن هذه المنطقة تقع تحت سلطان الشيطان المباشر،وهي منطقة سهلة الانزلاق، وغير أمينة، لولا أن تتدارك العبد رحمة من عند اللّه.
ولذلك سيّج القرآن مناطق الخطر بسياج واق يقيالانسان من الشيطان، فأمر النساء ألاّ يضربن بأرجلهن ليبدين زينتهن، وأمر الرجالوالنساء أن يغضوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم. ويقول تعالى: (قل للمؤمنين يغضوا منأبصارهم ويحفظوا فروجهم. . . * وقل للمؤمنات يغضضن من ابصارهن ويحفظن فروجهن. . . ولايضربن بأرجلهن ليُعلم ما يخفين من زينتهن)(101).
وهذه الاحتياطات جميعاً لكي لا يقع الانسان في شركالشيطان، في مناطق الاحتكاك غير الامينة بين الجنسين، وعلى الشريط الحدودي للمناطقالمحرمة، حيث تقوى جاذبية الحرام، ويقوى دور الشيطان، ويسهل الانزلاق إلى الحرام.
 
سياجالحدود الالهية :
الحدود المحرّمة والخطرة تسيّج عادة بسياج واق يقيالناس من الدخول في المنطقة المحرّمة، كما أنها تُعلَم بعلامات يهتدي بها الناس،فلحدود اللّه علامات ومعالم من جانب، وسياج واق من جانب آخر.
أمّا معالم الهدى على هذه الحدود فهم الصالحون منعباد اللّه، الذين انعم اللّه عليهم بنعمة الهداية، فقد جعلهم اللّه تعالى أدلاّءعلى صراطه وحدوده، ودعانا إلى أن نأخذ بطريقهم ونسير على صراطهم (صراط الذين انعمتعليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين).
وأما السياج الذي يقي الناس من السقوط في الحرامعلى هذه الحدود فثلاثة: سياج في النفس، وسياج في المجتمع، وسياج في الدولة.
أما السياج في النفس (فالتقوى)؛ فإن التقوى تقيالناس من السقوط في المعاصي.
وأما السياج في المجتمع (فالامر بالمعروف والنهيعن المنكر)؛ فإن هذه الفريضة تحفظ المجتمع من السقوط في الحرام، وتحفظ حدود اللّهتعالى.
وأما السياج الثالث فهو نظام الرقابة الاجتماعية،والحِسبة التي تضطلع بها الدولة في الاسلام.
 
التقوىالسياج العازل على حدود اللّه :
يقول أمير المؤمنين(عليه السلام) :"إن تقوى اللّهحمت أولياء اللّه محارمه، والزمت قلوبهم مخافته، حتى أسهرت لياليهم، واظمأتهواجرهم، فأخذوا الراحة بالنصب، والريّ بالظمأ، واستقربوا الاجل فبادرواالعمل"(102).
وهذه الحقيقة من أمهات الحقائق والمعارف في هذاالدين، أن تقوى اللّه تحفظ الناس من السقوط في معصية اللّه، وليس شيء كالتقوى يحفظالانسان من الحرام، فإذا وقى الانسان نفسه بالتقوى، فلا سبيل للشيطان إلى نفسه، ولاسلطان للاهواء والفتن والشيطان عليه. يقول أمير المؤمنين(عليه السلام): "ذمّتي بماأقول رهينة وأنا به زعيم. إن من صرّحت له العِبَر عمّا بين يديه من المثلات(103)،حجزته التقوى عن تقحّم الشبهات"(104).
والامام(عليه السلام) يجعل ذمّته في هذه الكلمةرهينة بهذه الحقيقة، وهي أن التقوى تحجز الانسان عن تقحم الشبهات.
وقد سئل الامام الصادق(عليه السلام) عن تفسيرالتقوى فقال(عليه السلام): "ألاّ يفقدك اللّه حيث أمرك، ولا يراك حيث نهاك"(105).
 
التقوى الحصن المانع :
وكما أن التقوى سياج واق، كذلك هي حصن يمنعالشيطان من البطش بالانسان. ولا يستطيع الشيطان أن يقتحم على الانسان هذا الحصن،ولا يتمكن أن ينفذ إليه. وإليك طائفة من كلمات أمير المؤمنين(عليه السلام) بهذاالصدد:
"التقوى حصن حصين لمن لجأ إليه". "التقوى حرز لمنعمل بها". "التقوى اوثق حصن وأوقى حرز". "أمنع حصون الدين التقوى". "الجأوا إلىالتقوى فإنه جُنّة منيعة، من لجأ إليها حصّنته، ومن اعتصم بها عصمته".
 
المزالق والعواصم :
ومادمنا بصدد الحديث عن حدود اللّه تعالى،والعواصم التي تعصم الانسان على حدود اللّه من الوقوع في الحرام، والمزالق التيينزلق عليها الانسان إلى الحرام، فلا بأس أن نشير إلى طائفة من العواصم والمزالق منخلال النصوص الاسلامية:
ومعرفة العواصم والمزالق تنفع الانسان في تقويمسلوكه والحذر من الوقوع في معصية اللّه، وتحصين نفسه من اغراءات الفتن والشيطانوضغوط الهوى.
وإليك طائفة من المزالق والعواصم ونقدم المزالقعلى العواصم.
 
أ – المزالق
1 – من المزالق التفكير في الحرام. وقد ورد النهيعنه في النصوص الاسلامية، وذلك أن التفكير في الحرام يلوّث جو النفس ويسلبهاالمناعة، ويمكّن الشيطان من استدراج الانسان إلى الحرام.
روي أن عيسى بن مريم(عليه السلام) كان يقول: "إنموسى امركم ألاّ تقربوا الزنا، وأنا آمركم ألاّ تحدّثوا أنفسكم بالزنا، فإن من حدّثنفسه بالزنا كان كمن قد أوقد ناراً في بيت مزوّق(106)، فأفسد االتزاويق الدخان، وإنلم يحترق البيت"(107).
وهو تعبير جيّد عن تلوث جو النفس بالتفكير فيالحرام، ومتى تلوثت النفس فقدت مناعتها من جانب، وفقدت شفّافيتها وصفاءها من جانبآخر.
وعن الصادق(عليه السلام): "إن للمؤمن لينوي الذنبفيُحرم الرزق"(108).
2– ومن مزالق الانسان إلى الحرام اصدقاء السوء،فإن دور الصديق السيىء في استدراج الانسان إلى الحرام، والسقوط في معصية اللّه ونقلالامراض الاخلاقية، دور مؤثّر وقوي.
عن أمير المؤمنين(عليه السلام): "لا تصحب الشرّير؛فإن طبعك يسرق من طبعه شرّاً، وأنت لا تعلم".
وعن الامام الجواد(عليه السلام): "إياك ومصاحبةالشرّير؛ فإنه كالسيف المسلول يحسِن منظره ويقبح أثره".
وعن علي(عليه السلام): "أمرنا رسول اللّه(صلىالله عليه وآله) أن نلقي أهل المعاصي بوجوه مكفهرّة".
وعن رسول اللّه(صلى الله عليه وآله): "المرء علىدين خليله".
وفي وصية أمير المؤمنين(عليه السلام) للحسن(عليهالسلام): "إياك ومواطن السوء، والمجلس المظنون به السوء، فإن قرين السوء يغرّ(109) خليله".
3– الوسط الاجتماعي الفاسد، فإن له دوراً كبيراًفي إفساد الانسان وتلويثه.
وقدرة الوسط الاجتماعي قدرة قاهرة تستهلك الكثيرمما يملك الانسان من حصانة وقيم، ولذلك ورد التحذير في النصوص الاسلامية من اختيارالاوساط الاجتماعية الفاسدة للسكن.
4 – استصغار اللمم من الذنوب، وهي الذنوب التييستصغرها الناس، فيتجرّأ الانسان إلى العصيان.
5 – اختلال الموازنة بين الخوف والرجاء، حيث يطغىالرجاء في النفس ليستهين الانسان بالذنب ويتجرأ على المعصية.
6 – الترف في المعيشة هي من الحلال، فإن الترفيضعف مقاومة الانسان لضغوط الهوى واغراءات الفتن.
7 – الخلوة بالمرأة الاجنبية، ومحادثة النساءومخالطتهن. وقد ورد النهي في النصوص عن ذلك، وورد أنه يورث قساوة القلب، ويسلبالانسان حالة الرقة والشفافية والصفاء في النفس.
8 – الغضب وسائر الانفعالات النفسية. وقد ورد فيالنصوص الاسلامية التحذير من الغضب والانفعالات النفسية الحادة، وأنه الفرصة التييقتحم فيها الشيطان نفس الانسان.
 
ب – العواصم
وهي الامور التي تعصم الانسان من الانزلاق إلىالحرام، وتمكّنه من السيطرة على الاهواء والفتن، وتمنع الشيطان عنه.
وهي كثيرة نشير إلى بعضها:
1 – الصلاة. قال اللّه تعالى: (إن الصلاة تنهى عنالفحشاء والمنكر).
2 – الصوم. وقد ورد في النصوص الاسلامية أن (الصومجنة) تحمي الانسان وتحفظه من الشيطان.
3 – ذكر اللّه.
4 – مصاحبة الصالحين، فكما أن مصاحبة اصدقاء السوءمن المزالق، فإن مصاحبة الصالحين الذين يذكّرون الانسان باللّه تعالى من العواصمالتي تعصم الانسان من الاهواء والفتن.
5 – قراءة القرآن. وقد ورد في النصوص الاسلاميةالتأكيد على قراءة القرآن، وأنها تحفظ الانسان من اغراءات الشيطان ووساوسه ومن ضغوطالهوى.
6 – الوسط الصالح والبيئة الصالحة، فكما أن الوسطالفاسد والبيئة الفاسدة من المزالق، فإن الوسط الصالح والبيئة الصالحة من العواصمالتي تعصم الانسان من المحرمات.
7 و 8 – المحاسبة والمراقبة. وقد ورد في النصوصالاسلامية التأكيد عليهما، وأنه "ليس منّا من لم يحاسب نفسه". وهما من أقوى عواملالضبط في سلوك الانسان.
9 – مجالس الوعظ والتذكير.
10 – ترويض النفس في الحلال، حتى لا تنقاد لصاحبهافي الحرام.
نقلاً عن موقع التقريب نت الإلكتروني
الهوامش:
(1) البقرة: 187.
(2) المزمل: 9.
(3) الانعام: 164.
(4) الجاثية: 36.
(5) الحديد: 2.
(6) النور: 42.
(7) البقرة: 29.
(8) لقمان: 20.
(9) ابراهيم: 32 – 33.
(10) النحل: 14.
(11) الملك: 15.
(12) البقره: 60.
(13) البقرة: 168.
(14) البقرة: 172.
(15) المائدة: 88.
(16) المائدة: 5.
(17) النساء: 3.
(18) المائدة: 90.
(19) البقرة: 173.
(20) النساء: 23.
(21) البقرة: 278.
(22) الانعام: 120.
(23) البقرة: 229.
(24) الطلاق: 1.
(25) النساء: 14.
(26) النساء: 14.
(27) النساء: 14.
(28) النساء: 14.
(29) البحار 2:170، ح 7.
(30) البحار 2:170،ح 8.
(31) قمّ ما على المائدة: أكله فلم يدع منهشيئاً، ويريد الامام(عليه السلام) أن يتناول الاكل ما تساقط من يده على المائدة.
(32) م. ن، ح 10.
(33) البقرة: 43.
(34) البقرة: 183.
(35) آل عمران: 97.
(36) آل عمران: 104.
(37) التوبة: 41.
(38) البقرة: 178.
(39) البقرة: 180.
(40) البقرة: 183.
(41) البقرة: 216.
(42) الانعام: 151 – 152.
(43) البحار 2: 171، ح 11.
(44) الطلاق: 2 – 3.
(45) الاعراف: 96.
(46) غرر الحكم.
(47) النساء: 14.
(48) الطلاق: 1.
(49) البقرة: 229.
(50) الروم: 30.
(51) الاعراف: 201.
(52) نهج البلاغة، خ157.
(53) م. ن، خ 190.
(54) غرر الحكم للامدي.
(55) غرر الحكم للامدي.
(56) غرر الحكم للامدي.
(57) كذا ورد في المصدر، وهو إما اشتباهالنقل; لان التقوى مؤنثة، والصواب "فإنها"، وأما أن يكون الضمير عائداً إلى المصدر (اللجوء) المفهوم من "الجأوا"، أي "فإن اللجوء إلى التقوى" الخ.
(58) غرر الحكم للامدي.
(59) نهج البلاغة، خ 114.
(60) البقرة: 197.
(61) غرر الحكم للامدي.
(62) البقرة: 229.
(63) البقرة: 179.
(64) الانفال: 24.
(65) الطلاق: 1.
(66) نهج البلاغة، خ 15.
(67) الاعراف: 96.
(68) الطلاق: 3.
(69) الطلاق: 4.
(70) الطلاق: 2.
(71) البحار 70: 285.
(72) نهج البلاغة، خ 130.
(73) البحار 78:359.
(74) اخرجه الترمذي 4: 325
(75) اخرجه أحمد بن حنبل في المسند 4: 405.
(76) اخرجه احمد بن حنبل في المسند: 2: 490.
(77) الكافي 7:273. وسائل الشيعة 19:3.
(78) الدخان: 51.
(79) الانعام: 127.
(80) النساء: 10.
(81) الحجرات: 12.
(82) الزلزلة: 6 – 8.
(83) آل عمران: 30.
(84) آل عمران: 10.
(85) البقرة: 24.
(86) التحريم: 6.
(87) التوبة: 49.
(88) العنكبوت: 54.
(89) الاعراف: 44 – 46.
(90) الاعراف: 96.
(91) البقرة: 179.
(92) طه: 14.
(93) الاعراف: 201.
(94) الانفال: 29.
(95) الخصال للصدوق 2: 483.
(96) نهج البلاغة، خ 193.
(97) البقرة: 229.
(98) الطلاق: 1.
(99) النساء: 14.
(100) البقرة: 187.
(101) النور 30 – 31.
(102) نهج البلاغة،خ 114.
(103) المَثُلات: العقوبات.
(104) نهج البلاغة، خ 16.
(105) البحار 70: 285.
(106) مزوَّق: مزيَّن ومزخرَف، والتزاويق: جمع تزويق، وهو التحسين والتزيين.
(107) البحار 14:331.
(108) البحار 73: 258.
(109) غرّه: خدعه وأطمعه بالباطل.
 
Facebook
Twitter
Telegram
Print
Email

اترك تعليقاً