أحدث المقالات

د. محمد محمد رضائي(*)

ترجمة: حسن علي مطر

نسعى في هذه المقالة إلى بيان علاقة الوحي بالتجربة الدينية من وجهة نظر الدكتور عبد الكريم سروش. ولكنْ يتعيَّن علينا ـ قبل كلّ شيءٍ، ومن خلال الإشارة إلى رأيه في مجال الوحي ـ بيان التجربة الدينية باختصارٍ، لننتقل بعد ذلك إلى نقدها ومناقشتها.

أطروحة د. سروش حول الوَحْي القرآني

1ـ الوَحْي من سنخ التجربة الدينية

إن الوحي ـ في ضوء رؤية الدكتور عبد الكريم سروش في باب الوحي ـ من سنخ التجربة الدينية، والتجربة الدينية تتحقَّق بالنسبة إلى الأشخاص الآخرين أيضاً. وبالتالي فإنه يُوحى إلى سائر الناس أيضاً. وعليه فإن التجارب الدينية للآخرين تعمل على إثراء وإغناء الدين. وبمرور الزمن تتّسع دائرة الدين على نحوٍ أكبر. ومن هنا فإن التجربة الدينية للعرفاء مكمّلةٌ وموسّعةٌ للتجربة الدينية للنبيّ. ونتيجة لذلك فإن دين الله يصبح أكثر نضجاً بالتدريج.

إن هذا الاتساع والثراء لا يحدث في المعرفة الدينية، وإنما في ذات الدين والشريعة([1]).

يظهر من هذه العبارة بوضوحٍ أن الوحي من سنخ التجربة الدينية، وأن التجربة الدينية؛ حيث تحدث للأشخاص الآخرين أيضاً، فإن الوحي لا يختصّ بالأنبياء فقط. وعليه فإن الوحي ينزل على جميع الناس، ولا يعود هناك فرقٌ بين وحي الأنبياء والأشخاص العاديين.

2ـ ثنائية الوَحْي

يرى الدكتور سروش أن للوحي ناحيتين، وهما:

1ـ الناحية غير المصوَّرة من الوحي.

2ـ الناحية المصوَّرة من الوحي.

إن مهمة الأنبياء لا تعدو إلقاء الصورة على الحقائق المفتقرة إلى الصورة. وعلى هذا الأساس فإن مفاهيم وتعاليم الإسلام على ما هي موجودة في القرآن الكريم إنما هي الصُّوَر التي ألقاها النبيّ الأكرم على الأمر غير المصوَّر.

وبطبيعة الحال فإن النبيّ الأكرم قد سعى ـ من خلال توظيف اللغة العربية وآداب وعلوم عصره ـ إلى إلقاء هذا النوع من الصُّوَر على الأمر غير المصوَّر، وجميعها من سنخ العلوم الناقصة والتاريخية([2]).

3ـ التعدُّدية والوَحْي

يذهب الدكتور سروش إلى الاعتقاد بأن جميع صُوَر الأمر غير المصوَّر صحيحة. وقال في توضيح إلقاء الصورة على الأمر غير المصوَّر: «إن صفات الله من سنخ الصُّوَر التي تلقى على الأمر غير المصوَّر».

سواء تجلّى الأمر غير المصوَّر في إطار الصُّوَر، أو قُمْنا نحن بإلقاء الصورة عليه، بالتالي فإننا سوف نواجه صُوَراً متعدِّدة للأمر غير المصوَّر. وعليه فإن السؤال الذي يطرح نفسه هنا يقول: ما هي الصورة التي يتمّ ترجيحها على الصُّوَر الأخرى؟ أو ما هو الأمر الذي يحظى بالأهمِّية الأكبر؟ وهل هناك ترجيحٌ لأحد الأمور على الأمور الأخرى أم هي بأجمعها على حدٍّ سواء؟ لقد بنيتُ تعدُّديتي الدينية على أساسٍ من الاعتقاد القائل بعدم أفضلية أيّ واحدٍ من هذه الصُّوَر على غيرها بالضرورة، ولهذا السبب نجد أنفسنا ونحن نعيش في عالمٍ تعدُّدي وزاخرٍ بالصُّوَر المتعدِّدة للأمر غير المصوَّر([3]).

يبدو من هذا التعبير بوضوحٍ أن جميع الأديان والفِرَق والمذاهب تحظى بأحقِّيةٍ متساوية ومتكافئة.

4ـ التديُّن التجربي أساس التعدُّديّة الدينيّة

يرى الدكتور سروش أن مبنى الدين يقوم على أساس التجربة الدينية؛ لأن التجربة الدينية يمكن أن تشكِّل أساساً مناسباً للتعدُّدية الدينية؛ إذ إنه يدافع عن التعدُّدية الدينية بشدّةٍ، ويسعى من بين أنواع وأقسام التديُّن إلى اختيار المبنى الذي يتناغم مع التجربة الدينية؛  لكي يتمكَّن من توجيه وتفسير تعدُّديته الدينية.

وقد عمد إلى تقسيم التديُّن إلى ثلاثة أقسام:

1ـ التديُّن المتمحور حول المعيشة.

2ـ التديُّن المتمحور حول الحقيقة.

3ـ التديُّن المتمحور حول التجربة.

والتديُّن من النوع الأوّل (التديُّن المتمحور حول المعيشة) هو تديُّن جمهور المتديِّنين؛ فإن هؤلاء الناس يحبّون الدين؛ لأن الدين يعمل على إعمار دنياهم وآخرتهم… إن هذا النوع من التديُّن يشتمل على التقليد والربح والمنفعة. ولا مكان للتعدُّدية في هذا النوع من التديُّن؛ لأن كل متديّنٍ يظنّ أنه يمتلك جميع الحقيقة.

النوع الآخر من أنواع التديُّن هو التديُّن المتمحور في تفكيره حول المعرفة، أو التديُّن الكلامي. إن الهاجس الرئيس في هذا النوع من التديُّن هو الصدق والكذب. إن الدين هنا يُنْظَر إليه بوصفه حقيقةً.

النوع الثالث من التديُّن الموجود في جميع الأديان ـ بما فيها الديانة المسيحية ـ هو التديُّن المتمحور حول التجربة أو التديُّن العرفاني أو التديُّن النبوي. في هذا النوع من التديُّن يصبح الأتباع الذين هم العرفاء شركاء للنبيّ في الأذواق وفي التجارب الباطنية. إن هؤلاء لا يبدأون تديُّنهم من الحقوق والفقه. إنهم يبدأون من التجارب الباطنية، وينسجون حول هذه التجارب طبقةً من الفقه والأخلاق، في حين أن المتديِّنين المتمحورين حول المعيشة يبدأون تديُّنهم من القشور والطبقات الخارجية من الدين. والذي أراه على المستوى الشخصي أن التديُّن يتمحور حول التجربة، ويكون بالمعنى الدقيق للكلمة مستعدّاً للتعدُّدية الدينية([4]).

يؤمن الدكتور سروش بالتعدُّدية في مختلف المجالات الاعتقادية والأخلاقية والفقهية، وقال في هذا الشأن: «أرى أن علينا ـ بالإضافة إلى الأخلاق ـ أن نبدي حساسيةً تجاه الفقه أيضاً، وأعتبر نفسي تعدُّدياً حتّى في دائرة الفقه أيضاً… إن التعدُّدية لا تقتصر على المفاهيم الكلامية فقط، بل تشمل الفقه والأخلاق أيضاً»([5]).

كما قال صراحةً في مورد العقائد المختلفة: حيث لا أعلم على نحو القطع واليقين أيّ رأيٍ هو الصحيح فإني أحترم الجميع، ولا أبادر إلى طرد أيّ واحدٍ من هذا المضمار([6]).

يبدو من مجموع هذه الكلمات أن الدكتور سروش يرى أن جميع العقائد الكلامية والأخلاقية والفقهية في دائرة الإسلام صحيحةٌ، وأن مبناها هو الإسلام المتمحور حول التجربة. كما أنه لا يرى حتّى الاختلاف بين الإسلام والمسيحيّة واليهودية اختلافاً بين الحقّ والباطل، وإنما هو مجرّد اختلافٍ في وجهات النظر فقط.

5ـ البشريّة في مفهوم الوَحْي

يذهب الدكتور سروش إلى الاعتقاد صراحةً بوجوب إدخال البشرية في مفهوم الوحي. وقال في عبارةٍ له بهذا الشأن: لا بُدَّ من أخذ مفهومي النزول والبشرية بحرفيّتهما في فهم معنى الوحي بنظر الاعتبار، واعتبار كلّ شيءٍ فيه من الرأس إلى القَدَم بشرياً، وهذا هو عين تعليم وإرشاد القرآن، وعليه يجب النظر إلى القرآن بوصفه نصّاً بشرياً تاريخياً([7]).

وبطبيعة الحال فإن الدكتور سروش عندما يأخذ مفهوم البشرية ـ في فهم معنى الوحي ـ بنظر الاعتبار، ويرى أن القرآن بدَوْره نصٌّ بشريّ أيضاً، إنما يرمي من وراء ذلك إلى هدفٍ خاصّ، وهو تسرية أخطاء ونقص البشر إلى القرآن الكريم أيضاً([8]). وعليه فإنه بحاجةٍ إلى تنقيحٍ متواصل ومستمرّ. وبطبيعة الحال فإن القرآن من وجهة نظره ـ كما سبق أن ذكَرْنا ـ هو الصورة التي ألقاها النبيّ الأكرم على الأمر غير المصوَّر للوحي، والذي لم يكن له أيّ تعيُّنٍ، وهو بالإضافة إلى ذلك نصٌّ تاريخي وبشري، مقرونٌ بالنقص والقصور، ويحتاج على الدوام إلى تنقيحٍ وتقويم.

وعلى هذا الأساس، يمكن تلخيص رأي الدكتور سروش في مسألة الوحي على النحو التالي:

1ـ إن الوحي من سنخ التجربة الدينية، والتجربة الدينية تتحقَّق لسائر الأشخاص. والنتيجة هي أن جميع الناس يُوحَى إليهم.

2ـ إن للوحي ناحيتين: الناحية المفتقرة إلى الصورة من الوحي؛ والناحية المصوَّرة للوحي. إن الصورة تُلْقَى من قِبَل النبيّ أو أيّ شخصٍ آخر ـ في ضوء الاستفادة من العلوم والثقافة المعاصرة له ـ على الأمر غير المصوَّر، وهي صورةٌ ناقصة.

3ـ إن الصُّوَر المتنوّعة التي تُلْقَى من قِبَل الإنسان على الأمر المفتقر إلى الصورة لا ترجيح لأيٍّ منها على الصُّوَر الأخرى، وجميعها يحتوي على اتقانٍ متكافئ.

4ـ إن الصُّوَر التي تُلْقَى على الأمر المفتقر إلى الصورة، وتظهر على شكل نصوصٍ مقدَّسة، تحظى بصفة البشرية. وبالتالي فإن خطأ ونقص البشر يسري عليه أيضاً؛ وعليه فإنه يحتاج إلى تنقيحٍ مستمرّ.

التجربة الدينية: المفهوم، الخصائص، وأسباب الظهور

كما أشَرْنا في بحث الوحي من وجهة نظر الدكتور سروش، فإنه يرى أن هناك ارتباطاً وثيقاً بين الوحي والتجربة الدينية. ولكنْ لكي تتّضح أبعاد البحث بشكلٍ أفضل نجد من الضروريّ الإشارة إلى مفهوم ومنشأ التجربة الدينيّة، ودَوْرها المحوريّ في أمر الدين والتديُّن.

1ـ مفهوم التجربة الدينية

يتألَّف مصطلح «التجربة الدينية» من مفردتين، وهما: «التجربة»؛ و«الدينية». والتجربة تعادل كلمة «experience» في اللغة الإنجليزية، حيث تستعمل في المعاني التالية:

1ـ المشاهدة المباشرة للأحداث أو المشاركة في صنعها على نحو المبنى والأساس المعرفي.

2ـ الوضعية أو حالة التأثُّر بالمشاهدة أو المشاركة المباشرة أو اكتساب المعرفة من طريق المشاهدة أو المشاركة في الأحداث.

3ـ المعرفة العملية أو المهارة أو العمل المأخوذ من المشاهدة المباشرة أو المشاركة في الأحداث أو النشاط الخاصّ.

4ـ الأحداث الواعية التي تصنع الحياة الفردية.

5ـ الحالة الخاصة لمواجهة شخصٍ لشيء([9]).

وقد ذكروا لمفردة «الدين» العديد من التعاريف، بَيْدَ أن المعنى المراد منها في هذه المقالة، والذي يمكن اعتباره إحدى مقدّمات الدين، هو الاعتقاد بأمرٍ يفوق الطبيعة. وعلى حدّ تعبير وليم جيمس([10]): «هناك في كلّ دينٍ نوعٌ من إدراك شيءٍ باسم الإله، ونوعٌ من ردّة الفعل تجاهه»([11]).

وعلى هذا الأساس ـ ومن خلال التعاريف المقدَّمة للتجربة الدينية ـ يمكن تعريف التجربة الدينية كما يلي: مشاهدة الأمور ما وراء الطبيعية، أو مواجهة الإنسان لأمور تفوق الطبيعة، أو المشاركة فيها. إن المشاهدة أو المشاركة أو المواجهة فهمٌ يتعلّق بالكائنات الماورائية، أي الله أو الأمور المرتبطة بالله.

وعلى هذا الأساس، لو كان متعلَّق المشاهدة والمشاركة والأخذ أمراً حسّياً كانت التجربة تجربةً حسّيةً، وأما إذا كان المتعلَّق مرتبطاً بالله مباشرةً أو بنحوٍ آخر من الأنحاء كانت هذه التجربة تجربةً دينية. وبعبارةٍ أخرى: يمكن القول بأن الله في التجربة الدينية يُظهر نفسه أو يتجلَّى لصاحب التجربة بشكلٍ أو آخر.

2ـ خصائص التجربة الدينية

لقد ذكر المفكِّرون الغربيون خصائص مختلفة لطبيعة التجربة الدينية.

وفي ما يلي نشير إلى أهمّ تلك الخصائص:

أـ التجربة الدينية نوعٌ من الشعور

يذهب المتكلِّم والفيلسوف الألماني الكبير شلايرماخر([12]) إلى القول بأن التجربة الدينية هي نوعٌ من الشعور والإحساس, ويرى أن أساس الإيمان الديني يكمن في العواطف، ولا سيَّما في الأحاسيس الدينية بنحوٍ خاص، والتي يطلق عليها الكثير من المسمَّيات، من قبيل: الشعور بالتَّبَعية المطلقة، وتجربة الأمر اللامتناهي، وما إلى ذلك([13]).

كما يذهب شلايرماخر إلى القول بأن الحياة الدينية بدَوْرها، سواء في شكلها العقائدي أو في شكلها الشعائري والطقوسي، إنما تنشأ من هذا الشعور أيضاً. وعلى هذا الأساس فإن جوهر الدين ليس هو التفكير أو العمل، بل هو الشهود والشعور فقط([14]). ومن هنا فإن التعاليم والمناسك الدينية يكون لها بُعْدٌ فرعي وثانوي.

وقال طوني لين ـ أستاذ الأفكار والمفاهيم المسيحية في كلِّية اللاهوت من جامعة لندن ـ في كتابه (تاريخ الفكر المسيحي): «إن اتجاه شلايرماخر اتجاهٌ حديث تماماً؛ فقد كان يؤكِّد على رؤية الزهد في مورد الحاجة إلى الدين الذي يمكن تجربته والشعور به، ويؤيِّد ذلك بكثرةٍ، إلى الحدّ الذي تمّ اختزال الدين في الشعور والتجربة فقط. من وجهة نظر شلايرماخر… إن جميع الذين يريدون الوصول إلى صومعة الدين يجب عليهم نبذ التعاليم»([15]).

باختصارٍ، يمكن القول بأن شلايرماخر يذهب إلى الاعتقاد بما يلي:

1ـ أساس الدين هو التجربة الدينية.

2ـ إن التعاليم والمناسك والشعائر الدينية تنبثق عن التجارب الدينية.

3ـ حيث إن أساس الدين هو التجربة الدينية فإن التعاليم الدينية، ولا سيَّما منها تعاليم الكتاب المقدَّس، تفقد معياريّتها.

4ـ حيث إن لكلّ شخصٍ تجربةً دينية خاصّة فإنه يمتلك تلك التجربة بما يتناسب وتلك التعاليم والمناسك الخاصّة. ونتيجة لذلك سوف تكون التعاليم والمناسك الدينية أمراً شخصيّاً.

ب ـ التجربة الدينية من مقولة الإدراك

يذهب وليم ألستون([16]) إلى القول بأن التجربة الدينية من مقولة الإدراك، وإن بنيتها وتركيبتها شبيهةٌ ببنية التجربة الحسِّية. فكما أن التجربة الحسِّية لها ثلاثة أجزاء هناك في التجربة الدينية ثلاثة أجزاء أيضاً، وهي:

1ـ الشخص الذي يخوض التجربة.

2ـ المتعلّق أو الله، الذي يكون موضوع التجربة.

3ـ ظهور وتجلّي الله لصاحب التجربة.

وعلى هذا الأساس، فإن وليم ألستون يرى بدَوْره أن متعلّق التجربة الدينية يختلف عن الظهور والتجلّي لذلك الشخص الذي يخوض التجربة. فقد يكون ظهور وتجلّي الله مختلفاً باختلاف أذهان الأشخاص. ومن هنا يرى ألستون أن التجربة الدينية سوف تكون معتبرةً؛ لذات الأدلّة والأسباب التي تذكر في اعتبار التجربة الحسِّية أيضاً([17]).

ج ـ التجربة الدينية بيانٌ لما وراء الطبيعة

يرى براود فوت أن التجربة الدينية تجربةٌ يعتبرها الشخص صاحب التجربة تجربةً دينية، واعتبار التجربة دينيّةً يعني أن أصحاب التجربة يذهبون إلى الاعتقاد بضعف وعدم كفاية التفسير الطبيعيّ للتجربة؛ حيث لا يمكن بيانها وتفسيرها إلاّ في ضوء التعاليم الدينية.

وعلى الرغم من وجود الكثير من الآراء المختلفة والمتعدِّدة في مجال التجربة الدينية، إلاّ أن للتجربة الدينية ارتباطاً وثيقاً بالمنهج والنظام الفكري لشلايرماخر، وإن التجربة الدينية في مجال الأبحاث الدينية تذكِّرنا بآراء شلايرماخر في هذا الشأن([18]).

 

3ـ أسباب ظهور النزعة إلى التجربة الدينية

هناك الكثير من العناصر والأسباب التي تسبَّبت بظهور النزعة إلى التجربة الدينية، ومن أهمِّها ما يلي:

1ـ لقد فصَّل شلايرماخر بين الدين والتعاليم اللاهوتية؛ لكي يعمل بذلك على تحصين الدين من هجمات المشكِّكين والمنتقدين، من أمثال: الفيلسوف الإنجليزي ـ الاسْكُتْلَنْدي ديفيد هيوم([19])، والفيلسوف الألماني إيمانوئيل كانْط([20]). لقد ذهب كلٌّ من هذين الفيلسوفين إلى الادّعاء بأنهما قد وجَّها ـ بزعمهما ـ انتقاداتٍ أساسية وجوهرية إلى ما بعد الطبيعة والأصول الاعتقادية للدين، من قبيل: براهين إثبات وجود الله. ومن هنا عندما يتعرَّض اللاهوت ـ الذي يمثِّل أساس الدين ـ إلى الضَّرَر والعَطَب؛ بفعل هذا النوع من الانتقادات، سوف يفقد الدين دعائمه، ويكون عرضةً للاختلال والوَهْن. ومن هنا فقد سعى شلايرماخر إلى فصل أساس الدين عن الاعتقاد بالتعاليم الدينية، وبلورة مبنىً جديد يتمثَّل بالشعور والإحساس الباطني بذلك الأمر اللامتناهي. وإنه من خلال استبدال مبنى الدين وأساسه قد عمل ـ بزَعْمه ـ على وضع أساسٍ أكثر استحكاماً ومتانةً للدين([21]).

2ـ يعود سبب نظرية شلايرماخر في باب أساس الدين والتجربة الدينية، في الواقع، إلى التعارض الذي حدث بين تعاليم الكتاب المقدَّس وبين العلوم التجريبية. كما كانت بسبب التشكيكات التي أُثيرَتْ حول أصل الكتاب المقدَّس. إن الدراسات التاريخية والمعرفة النصّية أدَّتْ إلى الشكّ في نسبة وإسناد الكتاب المقدَّس إلى السيد المسيح، بل ذهب بعض الناقدين إلى القول بأن بعض مفاهيم الكتاب المقدَّس هي من صنع واختلاق الحواريين. وفي خضمّ هذه الأوضاع رأى شلايرماخر أن الدفاع عن تعاليم الكتاب المقدَّس لم يعُدْ ممكناً، ومن هنا فقد سعى إلى البحث عن مبنىً آخر للدين، وقد عثر على هذا المبنى في الشهود والتجربة الدينية([22]).

3ـ عمد بعض المفكِّرين والفلاسفة في عصر شلايرماخر ـ بسبب الانتقادات الشديدة التي تمّ توجيهها إلى التعاليم والمفاهيم الأساسية للدين ـ إلى خفض الدين إلى مستوى الأخلاق، وقالوا باعتباره تَبَعاً لاعتبار الأخلاق. وكان من نتائج ذلك أن فقد الدين أصالته واعتباره بوصفه أمراً أصيلاً، فقال شلايرماخر: إن أساس الدين أمرٌ أصيل ومعتبر، وهو الشعور والإحساس الباطني بالأمر اللامتناهي والألوهي([23]).

4ـ إن نظرية شلايرماخر في باب الوحي والتجربة الدينية إنما هي في الحقيقة ردّة فعلٍ على النهضة العقلانية والتنويرية التي شاعَتْ منذ بداية القرن التاسع عشر للميلاد. لقد كانت النهضة العقلانية والتنويرية في صدد تفسير التعاليم المسيحيّة تفسيراً عقلانياً، الأمر الذي أدّى إلى حدوث معضلةٍ للمسيحيّة؛ لأن بعض التعاليم الجوهرية في المسيحية، من قبيل: مفهوم التثليث، وتأليه السيد المسيح، والخطيئة الأولى للإنسان، والعشاء الربّاني، هي من الأمور الملغزة، التي لا يمكن تفسيرها تفسيراً عقلانياً. ومن هنا كان شلايرماخر يروم تقديم نظريّةٍ جديدة؛ ليتغلَّب بها على هذه المشكلة، حيث رأى أن هذه التعاليم إنما هي تفسيراتٌ للسيد المسيح عن تجربته الدينية وعلاقته بالله، والتي لا تكون معتبرةً إلاّ بالنسبة إليه وإلى عصره، وليس بالنسبة إلى عصرنا. وعليه ليس من الضروري أن يتمّ الدفاع عنها بشكلٍ عقلي([24]).

وفي خضمّ هذه الأوضاع شعر شلايرماخر أن تعاليم الكتاب المقدَّس لم تعُدْ قابلةً للدفاع. ومن هنا فقد عمد إلى إبداء هذه النظرية القائلة بأن أساس الدين لا يكمن في الاعتقاد بالكتاب المقدَّس والدفاع عنه، بل إن أساس الدين والتديُّن يكمن في العلاقة بين الإنسان وبين الله. أو بعبارةٍ أخرى: مواجهة الإنسان مع اللاهوت أو الأمر اللامتناهي.

يرى شلايرماخر أن التعاليم الدينية تمثِّل تفسيراً لهذه التجربة، وحيث إن لكلّ شخصٍ تجربةً دينية خاصّة فإن التفاسير والتعاليم بدَوْرها يجب أن تكون متناسبةً مع هذه التجارب، ويمكن لكلّ شخصٍ أن يُفسِّر هذه التجربة الدينية ـ التي تمثِّل أصل الدين وأساسه ـ في ضوء الأعراف والآداب والعلوم السائدة في عصره. وهذه التفسيرات لا تكون معتبرةً بالنسبة إلى الآخرين، وإن ملاك التديُّن إنما هو تلك التجارب الدينية فقط.

وقد عمد الدكتور عبد الكريم سروش إلى اقتباس تعاليم هذا المتكلِّم المسيحي (شلايرماخر) حَرْفياً ـ دون النظر في الشرائط والظروف الخاصة للعالم الغربي وحالة الكتاب المقدَّس للمسيحيين، وأسباب ودوافع طرح هذه النظرية ـ، وأسقطها على الدين الإسلامي وعلى القرآن الكريم حَذْو القذّة بالقذّة، في حين لم يكن هناك مَنْ يشكِّك في إسناد القرآن الكريم، ولا يوجد تنافٍ بين تعاليمه مع العلم والعقل، بل القرآن يستحثّ الناس أبداً على التعقُّل والتدبُّر والتعلُّم، ويتمّ التعريف بالله فيه بوصفه حافظاً للقرآن. وعليه، هل يصحّ هذا الاقتباس؟

نقدٌ ومناقشة

يذهب الدكتور سروش إلى الاعتقاد بأن الوحي من سنخ التجارب الدينية، وأن التجارب الدينية قد تحدث لسائر الناس، وبالتالي يوجد هناك إمكانٌ لنزول الوحي على جميع الناس؛ وكذلك فإن ملاك التديُّن الصحيح يكمن في التجربة الدينية، وإن الوحي قد تبلور من ناحيتين:

1ـ ناحية الوحي غير المصوَّر.

2ـ ناحية الوحي المصوَّر.

ما يقوم به النبيّ وغيره من الأشخاص الذين يوحى إليهم هو إلقاء الصورة على الأمر غير المصوَّر. ولا شيء من هذه الصور أفضل من الصور الأخرى بالضرورة. وهذا هو معنى التعدُّدية الدينية؛ حيث نعيش في عالمٍ متعدّد وزاخر بالصُّوَر المتعدِّدة للأمر غير المصوَّر.

وقد ذهب مجتهد شبستري بدَوْره إلى موافقة الدكتور سروش والتماهي معه ببيانٍ آخر.

ويمكن مناقشة ونقد مسألة التجربة الدينية من زوايا مختلفةٍ:

1ـ إن الذين يعتقدون بأن التجربة الدينية هي ملاك التديُّن ـ من أمثال: عبد الكريم سروش؛ ومحمد مجتهد شبستري ـ، ويقولون بأن أساس التعاليم وبحث المعرفة يتفرَّع عن التجربة الدينية، إنما يواجهون هذه المشكلة، وهي: ما هو ملاك دينيّة التجربة؟

فإنْ سِرْنا على نهج شلايرماخر في القول بأن دينية التجربة تكمن في الشعور والإحساس بالتَّبَعية المطلقة أو التامّة للمبدأ أو لقوّةٍ منفصلة عن العالم؛ أو ناشئةٌ من التصرُّف المباشر من قِبَل الله في عالم النفس، فإن جميع هذه المفاهيم من مقولة الأمور المعرفية([25])، بمعنى أن يكون لدى صاحب التجربة قبل خوض التجربة إدراكاً ومعرفة بـ «التَّبَعية للمطلق، والمبدأ المنفصل عن العالم» أو الله، و«التصرُّف المباشر من قِبَل الله»؛ وإلاّ فإنه ليس بمقدوره أن يخوض في باب دينيّة التجارب دون تصوُّر هذه الأمور. وعليه فإن التجربة الدينية يجب أن تقوم على عنصرٍ معرفي عن الدين. وعلى هذا الأساس لا يمكن القول بأن ملاك التديُّن ـ قبل البُعْد المعرفي للدين ـ هو الناحية العاطفية والبُعْد التجريبي للدين.

2ـ يقول مجتهد شبستري: إن التجربة الدينية عبارةٌ عن مواجهة الألوهية، ويقول الدكتور سروش: إن الوحي من سنخ التجربة الدينية، وإنها قد تشكَّلت من جهتين من جهات الوحي: المصوَّر؛ وغير المصوَّر. والسؤال الذي يطرح نفسه هنا: لو أن شخصاً اعتبر الجهة غير المصوَّرة من الوحي هي المادّة الأولى من العالم المادّي فما هو الدليل على إنكاره؟! أو لو أن بعض الأشخاص اعتبروا الألوهية مساوقةً لعالم المادّة فما هي الأدلة على إنكار عقيدتهم؟! وفي الأساس، هل الألوهية أو الناحية غير المصوَّرة من الوحي مفرداتٌ ذات معنى أو ليس لها معنى؟ إذا لم يكن لها معنى فكيف نتمكَّن من تجربتها؟! وإذا كان لها معنى فيجب توضيح معناها بدقّةٍ؛ كي لا نخلط بينها وبين كائنٍ آخر من باب الخطأ. فما لم تتمّ الإجابة عن هذه الأسئلة لا يمكن تجربة الألوهية والجهة غير المصوَّرة من الوحي بشكلٍ صحيح، والبحث في هذه الأمور.

كما أن الإجابة عن هذه الأسئلة تشكِّك في مبنائية التجربة الدينية.

3ـ إن هذا الرأي لا يقع مورداً لقبول أيٍّ من الأتباع الحقيقيّين للأديان. يذهب الدكتور سروش إلى اعتبار رؤيته في باب الوحي مبنى لنظريّته التعدُّدية، ويرى أن الله هو الجهة غير المصوَّرة التي يسعى المتديِّنون إلى توصيفها من خلال إلقاء الصورة عليها. إن كلّ دينٍ يرى أن إلقاء تصويره في الواقع هو الصحيح. ومن ذلك أن المسلمين ـ مثلاً ـ يرَوْن أن الله في الخارج أحدٌ رحيمٌ ورؤوفٌ وخالقٌ للكون والإنسان؛ والمسيحيون يرَوْن الله في الخارج متجسِّداً في الأقانيم الثلاثة. وعليه لو قيل لهم: إن الله الخارجي لا يتّصف بأيٍّ من هذه الأوصاف، وأن الله الخارجي ليس واحداً، ولا ثلاثة، ولا رحيماً، ولا قهّاراً، ولا حافظاً؛ فإن مثل هذا الإله أمرٌ مُبْهَمٌ، لا يرضخ المتديِّنون له إلاّ بصعوبةٍ.

4ـ لو كان الأمر كما يقول الدكتور سروش، من أن مهمّة المؤمنين تكمن بإلقاء الصورة على الأمر غير المصوَّر، وأن هذه الصُّوَر لا يرجح بعضها على بعضٍ بالضرورة، أو ليست هناك صورةٌ أفضل من صورةٍ أخرى، إذن لماذا كان الأنبياء يرَوْن تصويرهم هو الصحيح، ويدعون إلى دينهم؟!

ومن ذلك أن النبيّ الأكرم| ـ على سبيل المثال ـ يقول في القرآن الكريم مخاطباً اليهود والنصارى: ﴿فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا﴾ (البقرة: 137)؛ وفي آيةٍ أخرى يُنْكِر على أهل الكتاب، ويقول لهم: ﴿يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللهِ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ﴾ (آل عمران: 70)؛ ﴿يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ (آل عمران: 71).

كما أن القرآن الكريم يصف نفسه بأنه دينٌ ينذر جميع العالم: ﴿تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً﴾ (الفرقان: 1).

ومن هنا فقد أرسل رسول الله| رسائل إلى قادة العالم في إيران وروما وعلماء النصارى يدعوهم إلى الإسلام؛ ليهتدوا. فلو لم يكن التصوير الملقى من قِبَل الدين الإسلامي أفضل من الصُّوَر الأخرى، ولم يكن تصوير الإسلام ـ بعبارةٍ أخرى ـ راجحاً على الصُّوَر الأخرى؛ فلماذا كان النبيّ الأكرم| يُصرّ على دعوتهم إلى الإسلام؟!

وفي ما يلي نشير إلى بعض هذه الموارد:

أـ رسالة النبي الأكرم| إلى أسقف نصارى نجران: «باسم إله إبراهيم وإسحاق ويعقوب، من محمد النبيّ رسول الله إلى أسقف نجران… أما بعد، فإني أدعوكم إلى عبادة الله من عبادة العباد…»([26]).

ب ـ رسالة النبيّ الأكرم| إلى المقوقس: «بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد بن عبد الله إلى المقوقس عظيم القبط: سلام على مَنْ اتَّبع الهدى. أما بعد، فإني أدعوك بدعاية الإسلام، أسلم تَسْلَم، (وأسلم) يؤتك الله أجرك مرّتين»([27]).

كما اعتبر النبيّ الأكرم| اتِّباع أهل بيته سبباً للهداية والنجاة، ولم يرشد الناس إلى شيءٍ آخر، ومن هنا فقد وصف أهل بيته بسفينة نوح.

وعلى هذا الأساس، لو صحّ ما قاله الدكتور سروش من أن جميع الناس يمكنهم إلقاء الصورة على الأمر غير المصوَّر، دون أن تكون صورةٌ أفضل من صورةٍ أخرى بالضرورة؛ إذن لماذا يخصّ النبيّ تصويره وتصوير أهل بيته بوصفه هو التصوير الوحيد الذي يكون سبباً للنجاة، وأن هذه الصورة هي الصورة الأفضل من جميع الصُّوَر الأخرى؟!

وعليه، يبدو أن ما يذهب إليه الدكتور سروش لا يتناغم مع آيات القرآن الكريم وسيرة النبيّ الأكرم|.

5ـ يشترك كلٌّ من: الدكتور سروش ومجتهد شبستري في هذا الاعتقاد القائل بوجود حقيقةٍ في الخارج باسم الحقيقة المطلقة أو الأمر غير المصوَّر؛ حيث يبدي الأفراد في مواجهة هذا الأمر غير المصوَّر أو الحقيقة المطلقة تفسيراتٍ مختلفة. ويتمّ تفسير هذه الحقيقة في الإسلام تحت عنوان «الله». وتتجلّى هذه الحقيقة في الدين المسيحيّ تحت عنوان «الله الأب» (ضمن عقيدة التثليث)، وتظهر في الديانة اليهودية على شكل «يهوه»، وتُسمّى في العقائد الهندوسية بـ «فيشنا». وإن جميعَ هذه الأفهام عن الحقيقة المطلقة أو الأمر غير المصوَّر صحيحةٌ في حدودة دائرتها الظاهراتية، ولكنْ لا شيء منها يصحّ في دائرة الحقيقة والواقع. وعلى حدّ تعبير الدكتور سروش: إن الأمر غير المصوَّر ـ الذي هو الله ـ ليس واحداً، ولا ثلاثة، ولا هو شخصيّ، ولا غير شخصيّ.

والسؤال الذي يطرح نفسه هنا هو: إذا لم يكن أيٌّ من تعاليم الأديان متطابقاً مع الحقيقة والواقع إذن كيف أدرَكْنا أن هناك في الخارج أمراً غير مصوَّرٍ، وقد أضفَتْ مختلف الأديان صوراً مختلفة على هذا الأمر غير المصوَّر؟! فهل «الأمر غير المصوَّر» و«حقيقة الله المطلقة» بنفسها صورةٌ متطابقة مع الواقع؟! وكيف توصَّلنا إلى هذه الحقيقة القائلة بوجود أمرٍ غير مصوَّر في الحقيقة والواقع؟! وإذا أمكن لنا الوصول إلى معرفةٍ ما بشأن الأمر غير المصوَّر ـ وهو كذلك ـ فلماذا لا نستطيع التوصُّل إلى معرفة الأمور الأخرى؟! إذا كان لدى الناس تفسيراتٌ خاصّة بشأن الأمر غير المصوَّر؛ بتأثيرٍ من ثقافاتهم وعاداتهم وتقاليدهم الخاصّة، إذن كيف توصَّلوا إلى حقيقةٍ باسم الأمر غير المصوَّر، والذي لا يقع تحت تأثير ثقافاتهم وعاداتهم وتقاليدهم الخاصة؟! وإذا كانت جميع المفاهيم الإنسانية واقعةً تحت تأثير الثقافات والعادات والتقاليد الخاصة إذن لماذا يصدق واحدٌ من المفاهيم باسم «الحقيقة» أو «الوجود» على الله المشترك في جميع الثقافات؟! وإذا أمكن العثور بين الأمم والشعوب المختلفة على مفهومٍ مشترك فلماذا لا يمكن العثور على مفاهيم أخرى؟!

وعلى هذا الأساس، لو صدق مفهومٌ واحد من المفاهيم الإنسانية ـ من قبيل: «الوجود» ـ على الحقيقة الغائية أو الأمر غير المصوَّر فإن المفاهيم الأخرى سوف تكون بدَوْرها صادقةً أيضاً.

إذا كان هناك عددٌ من المفاهيم المتطابقة مع الواقع فإنها في مثل هذه الحالة سوف تكون قابلةً للتشخيص من خلال نقيضها. ونتيجةً لذلك سوف تكون هذه المفاهيم أقرب إلى دينٍ خاصّ منها إلى دينٍ آخر؛ بمعنى أنه لو أمكن لنا القول في مورد الحقيقة المتعالية: إنها موجودٌ عالم قادر متشخِّص رحيم جواد وما إلى ذلك إذن فإن المفاهيم المقابلة لهذه المفاهيم لا تقبل الإطلاق على الحقيقة النهائية، وإن هذه المفاهيم سوف تكون أقرب إلى دينٍ خاصّ. وعلى هذا الأساس، لا يكون الحقّ إلاّ مع دينٍ واحد خاصّ، دون سواه. وعلى هذا الأساس، فإن التديّن التجريبي أو التعدُّدية القائمة على التجربة الدينية إمّا تؤدّي إلى اللاأدرية أو إلى مقبوليّة دينٍ خاصّ.

6ـ يقول الدكتور سروش إن الوحي من سنخ التجربة الدينية، والتجربة الدينية تتحقَّق لسائر الأشخاص الآخرين؛ ونتيجة لذلك فإنه يمكن القول بأن جميع الناس يُوحَى إليهم، ويمكن لجميع الناس أن يأتوا بدينٍ خاصّ.

إن هذا الرأي مخالفٌ للتعاليم والمفاهيم القرآنية القائلة بأن الله قد جعل النبيّ الأكرم| خاتماً للأنبياء. ومن هنا فقد تمّ إغلاق باب الوحي الرسالي والنبوي إلى الأبد، وإنْ أمكن الوحي ـ بمعناه غير النبوي والرسالي ـ إلى أوليائه، كما أوحى الله إلى أمّ النبيّ موسى×.

استنتاجٌ

يمكن التوصُّل من مجموع ما تقدَّم في باب التجربة الدينية إلى استنتاج الأمور التالية:

1ـ لا يمكن اعتبار الوَحْي من سنخ التجربة الدينية.

2ـ إن باب الوَحْي النبوي والرسالي قد أُغلق بعد رحيل النبيّ الأكرم| إلى الأبد.

3ـ لا يمكن اعتبار الوَحْي ذا جهتين. ولا يمكن القول بأن جميع الصُّوَر التي يُلْقِيها المتديِّنون على الأمر غير المصوَّر تشتمل على إتقانٍ وحجِّيةٍ متساوية ومتكافئة.

4ـ لا يمكن اعتبار التجربة الدينية أساساً للدين والتديُّن؛ لأنها تحتوي على الكثير من الإشكالات الجَوْهرية.

5ـ إن تقديم وثائق وأدلّة على دينية التجربة يؤدّي إلى القول بعدم اعتبار التجربة الدينية أساساً للدين، بل إن هذا بُعْدٌ مفهومي مقدَّم على البُعْد العاطفي والتجريبي.

الهوامش

(*) أستاذٌ مساعِدٌ في جامعة طهران ـ قسم الفلسفة؛ ومدير مرحلة الدكتوراه التخصُّصيّة المدرسيّة في كلِّية المعارف الإسلاميّة في جامعة پيام نور.

([1]) انظر: عبد الكريم سروش، بسط تجربه نبوي (بسط التجربة النبوية): 28، انتشارات صراط، طهران، 1378هـ.ش. (مصدر فارسي).

([2]) انظر: مقالة: «طوطي و زنبور» (الببغاء والدبّور).

([3]) انظر: المصدر نفسه.

([4]) انظر: عبد الكريم سروش، صورتي بر بي صورتي (صورة على عدم الصورة)، حوارٌ بين: جون هيك وعبد الكريم سروش، منشور في مجلة (مدرسة)، العدد 2: 52، طهران، 1384هـ.ش. (مصدر فارسي).

([5]) المصدر نفسه.

([6]) انظر: عبد الكريم سروش، صراط هاي مستقيم (الصُرُط المستقيمة)، المنشور في مجلة كيان، العدد 36: 23، 1376هـ.ش. (مصدر فارسي).

([7]) انظر: مقالة: «طوطي و زنبور» (الببغاء والدبّور).

([8]) انظر: عبد الكريم سروش، قبض وبسط تئوريك شريعت: نظريه تكامل معرفت ديني (القبض والبسط النظري للشريعة: نظرية تكامل المعرفة الدينية): 275، مؤسسة فرهنگي صراط، طهران، 1375هـ.ش. (مصدر فارسي).

([9]) المعجم الإنجليزي: راندوم هاوس ويبسترز (Random House Webster’s Unabridged Dictionary).

([10]) وليم جيمس (1842 ـ 1910م): فيلسوفٌ أمريكي. من روّاد علم النفس الحديث وأحد أعضاء جمعية الأبحاث النفسية. ألَّف كتباً مؤثِّرة في علم النفس الحديث، وعلم النفس التربوي، وعلم النفس الديني، والفلسفة البراغماتية. من مؤلَّفاته: (الإرادة)، و(الاعتقاد)، و(مبادئ علم النفس)، و(البراغماتية). (المعرِّب).

([11]) See: Alston, William, 1964: «Religion», in: The Encyclopedia of Philosophy, Edited by: Paul Edwards, Macmilian publishing Co, New York. p.143.

([12]) فريدريك دانيال إرنست شلايرماخر (1768 ـ 1834م): لاهوتيٌّ وفيلسوفٌ ألماني. يعتبر زعيماً مبكراً للمسيحية الليبرالية. (المعرِّب).

([13]) See: Pojman, Louis, 1987, Philosophy of Religion, Wadsworth publishing Company, America. P. 92.

([14]) See: Copleston, Frederick, 1971. A History of Philosophy, Vol 7, Search Press, London. P. 152.

([15]) انظر: طوني لين، تاريخ تفكُّر مسيحي (تاريخ الفكر المسيحي): 381، ترجمه إلى اللغة الفارسية: روبرت آسريان، نشر پژوهش فرزان، طهران، 1380هـ.ش.

([16]) وليم باين ألستون (1921 ـ 2009م): فيلسوفٌ أمريكي. قدَّم مساهماتٍ مؤثِّرة في فلسفة اللغة، ونظرية المعرفة، والفلسفة المسيحية. وكان عضواً في الأكاديمية الأمريكية للفنون والعلوم. (المعرِّب).

([17]) See: Alston, William, 1996: Religion Experience as Perception of God, in: Philosophy of Religion, Edited by: Michael Peterson…, Oxford University Press, New York. P. 17.

([18]) انظر: علي رضا قائمي نيا، تجربه ديني وگوهر دين (التجربة الدينية وجوهر الدين): 102، بوستان كتاب، قم، 1381هـ.ش. (مصدر فارسي).

([19]) ديفيد هيوم (1711 ـ 1779م): فيلسوفٌ واقتصادي ومؤرِّخ اسْكُتْلَنْدي. يعتبر شخصيّةً هامّة في الفلسفة الغربية وتاريخ التنوير الاسْكُتْلَنْدي. (المعرِّب).

([20]) إيمانوئيل كانْط (1724 ـ 1804م): فيلسوفٌ ألماني. يعتبر آخر الفلاسفة المؤثِّرين في الثقافة الأوروبية الحديثة، وأحد أهم الفلاسفة الذين كتبوا في نظرية المعرفة الكلاسيكية، وهو آخر فلاسفة عصر التنوير في أوروبا، والذي بدأ بجون لوك وجورج بيركلي وديفيد هيوم. من أشهر أعماله: (نقد العقل المجرَّد)، و(نقد العقل العملي). (المعرِّب).

([21]) انظر: محمد محمد رضائي، خاستگاه نوانديشي ديني (منشأ تجديد الفكر الديني): 19، نشر زلال كوثر، قم، 1381هـ.ش. (مصدر فارسي).

([22]) See: Smart, Nininan, 1967, The Religious Experience of Mankind, Charles Scribner’s, Sons, New York. P. 499.

([23]) See: Copleston, Frederick, 1971. A History of Philosophy, Vol 7, Search Press, London. P. 152.

([24]) See: Smart, Nininan, 1967, The Religious Experience of Mankind, Charles Scribner’s, Sons, New York. P. 491.

([25]) انظر: وين براودفوت، تجربه ديني (التجربة الدينية): 37، ترجمه إلى اللغة الفارسية مع التوضيح: عباس يزداني، انتشارات طه، قم، 1377هـ.ش.

([26]) علي أحمدي الميانجي، مكاتيب الرسول 1: 97، دار الحديث، قم، 1419هـ.

([27]) المصدر نفسه.

Facebook
Twitter
Telegram
Print
Email

اترك تعليقاً