أحدث المقالات

محمد عباس دهيني

تطالعنا في الفقه الإسلاميّ الاجتهاديّ جملةٌ من الأحكام، التي يحاول بعضُهم أن يتعامل معها كأحكامٍ تعبُّديّةٍ، لا مناصَ من الالتزام بها، بحدودها المستَنْبَطة المرسومة من قِبَل الفقهاء، ولو من دون وَعْيٍ وإدراكٍ لفلسفتها وتوازنها.

أمّا فلسفتُها فقد تغيب عن الأذهان حقّاً، ولا سيَّما في أحكام العبادات، ما لم يَرِدْ نصٌّ توضيحيٌّ للعِلَل والغايات من أحكامٍ كهذه، وليس هاهُنا محلُّ نظرنا.

وإنَّما نستهدف في هذه الكلمة أن نشير إلى فقدان بعض الأحكام للتوازن، مع كونه مطلوباً عَقْلاً وعُرْفاً، فلا بُدَّ أن يكون كذلك شَرْعاً. ففي التوجُّه العقليّ والعُرْفيّ لا بُدَّ من تناسبٍ وتوازنٍ وتكافؤٍ في البدائل، فحيث يكون هناك حكمٌ بأمرَيْن لمحكومٍ واحدٍ وفعلٍ واحدٍ وجزاءٍ واحدٍ ينبغي أن يكون هذان الأمران على نَسَقٍ واحدٍ، أي في توازنٍ تامٍّ، فحينها يكون التخييرُ مُستساغاً ومنطقيّاً وعادلاً، وإلاَّ فإنه سيكون غريباً ومُستَهْجَناً.

فلو أن تكليفاً مولويّاً اقتضى تخييراً بين دَفْع دينارٍ ذهبيّ أو دَفْع عشرة دراهم فضِّية فهذا تكليفٌ بمتوازيَيْن متوازنَيْن.

وكذا لو اقتضى تخييراً بين ركعةٍ واحدةٍ من قيامٍ أو ركعتين من جلوسٍ، فإن التوازن بينهما مشهودٌ ومحقَّقٌ.

وليس هذا فَرْضاً فحَسْب، فقد شَهِدْنا مثلَه في الفقه، في تحديد نصاب النَّقْدَيْن، حيث تجب الزكاةُ في 20 ديناراً أو 200 درهم، فالدينارُ مقابل عشرة دراهم، وهما متساويان قيمةً في نظر العُرْف.

ولعلّ فقدان هذا التوازن يكون أحد أسباب رفض الدعوة التي يروِّج لها بعضُ الحداثويّين والمثقَّفين، بتخيير المكلَّف بين صوم يومٍ من شهر رمضان أو دَفْع فِدْيةٍ قَدْرُها طعامُ مسكينٍ واحدٍ؛ فهنا لا توازن بين الفردَيْن اللَّذَيْن يغني أحدُهما عن الآخر، فصيامُ يومٍ كاملٍ فيه من المشقّة والتعب والجوع والعطش ما لا يُقاس بمشقّة وتعب إطعام مسكينٍ واحد، مع الإشارة والتنبيه إلى أن وَجْه بطلان هذه الدعوة لا ينحصر بما ذكَرْناه، بل لسانُ الآية لا يدلّ عليه، وإنَّما نقول: لعلّ فقدان التوازن يمثِّل شاهداً ومؤيِّداً لبطلان هذا الفَهْم.

وكذلك رُوي في الحديث أن «الإمام الصادق× سُئل عن الشاة تُذْبَح، فلا تتحرَّك، ويُهْراق منها دمٌ كثيرٌ عبيطٌ؟ فقال: لا تأكُلْ؛ إن عليّاً× كان يقول: إذا ركَضَتْ الرِّجْل أو طرفَتْ العَيْنُ فكُلْ»([1]).

وقد علَّق أميرُ المؤمنين× الحِلِّيّة على أحد أمرَيْن: ركض الرِّجْل أو طَرْف العين، وهما متوازيان في الدلالة على وجود الحياة واستقرارها قبل الذَّبْح.

إذن الاتجاه العقليّ والعُرْفيّ هو لزومُ وضرورةُ التوازن بين الأفراد والبدائل في الأحكام أو الشروط التخييريّة؛ وروحُ الشريعة تتناغم وتنسجم مع التوازن والتناسب في الخيارات والبدائل، ومع فَقْده يعترينا الشَّكُّ في كَوْن الحكم جزءاً من الشريعة الإلهيّة، فإذا شهدنا أحكاماً تفتقد مثل هذا التوازن فمن حقِّنا أن نتساءل: كيف ذلك؟! وما هو المسوِّغ؟! ولعلّ هذا الحكم الناتج عن فَهْمٍ وتطبيقٍ غير معصومٍ يكون خاطئاً.

وهنا أركِّز على جملةٍ من الأمثلة والموارد:

1ـ التطهير بالماء

فأحكامُ الفقهاء في غاية التشدُّد في مسألة التطهير بالماء، ولا سيَّما من بعض النجاسات كالبَوْل، حيث يوجبون الغَسْل مرّةً أو مرَّتَيْن، مع الاستيعاب، والعَصْر أو الدَّلْك، حتّى خروج الماء من الثَّوْب أو الفراش…

وهنا يلفتنا أن للتطهير بالماء بدائلَ عديدةً:

أـ ففي الاستنجاء من الغائط يكفي المَسْح بالحَجَر ـ وإنْ قيَّده بعضُهم بثلاثةٍ ـ أو خِرْقَةٍ تزول وتنقلع بها عينُ النجاسة، ولو بقي لَوْنٌ أو رائحةٌ. فهُنا كان المهمُّ فقط زوال عين النجاسة، بل لم يتحقَّق زوال القذارة العُرْفيّة؛ لبقاء اللَّوْن والرائحة، ومع ذلك حكموا بالطهارة، فكيف لا يكون التوازن بين هذا وبديله، وهو الماء، بكفاية إزالة عين النجاسة، أو فقُلْ: كفاية إزالة القذارة العُرْفيّة، ولو بما دون الغَسْلَتَيْن، وبلا عَصْرٍ…؟!

ب ـ من المطهِّرات التي يذكرها الفقهاء الشمسُ والأرضُ (التراب، الحصى، الرَّمْل…).

أما الشمس فتطهِّر الثوابت، كالأرض والبناء و…، بأن تشرق عليها الشمسُ وهي رطبةٌ، ولو برطوبة النجاسة نفسها، فمتى جفَّتْ بسبب أشعّة الشمس صارَتْ طاهرةً. فلو كان على أرض الدار بَوْلٌ فأشرقَتْ الشمس فجفَّفَتْ المكان، أي تبخَّر البَوْل، صارَتْ الأرضُ طاهرةً، علماً أن بقايا وآثار البَوْل غير القابلة للتبخُّر ـ كالأملاح و… ـ ستبقى حيث هي. هذا حكمٌ يذكرونه، وفي المقابل يصرُّون على أن التطهير بالماء يحتاج إلى ما تقدَّم ذكرُه، فأين التوازن؟!

وأما الأرض فهي تطهِّر باطن الحذاء وأسفل العصا و… بالمشي عليها حتّى تزول عين النجاسة، ويزول معها الاستقذار العُرْفيّ. ولكنَّهم لا يرتضون في تطهير هذه الأشياء بالماء مجرَّد زوال الاستقذار العُرْفيّ، وإنَّما يوجبون لها عدداً من المرّات، وكيفيّاتٍ خاصّةً… ومرّةً جديدةً لا يُراعى التوازن في ذلك! مع أنه يُحتَمَل ـ بعد كلّ ما تقدَّم ـ أن يكون مفادُ روايات التطهير بالماء الإرشادَ إلى طريقٍ من طُرُق إزالة الاستقذار العُرْفيّ، لا أكثر. ويقرِّب ذلك ويؤيِّده ما يذكرونه في تَبَعيّة طهارة المُغْتَسَل (السدّة)، وسائر آلات التغسيل، ويد المغسِّل، وثياب الميت، والخِرْقَة التي سُتِرَتْ بها عَوْرتُه، لطهارة الميت نفسه بعد إتمام الأغسال الثلاثة، فهذه كلُّها تطهر بمجرَّد طهارة بدن الميت باكتمال الأغسال الثلاثة.

وفي الكيفيّة يرتضون في الوضوء غَسْل اليد من المِرْفَق بغُرْفةٍ واحدةٍ من الماء، ويُسمَّى غَسْلاً والتزاماً بالمأمور به في الآية الكريمة: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاَةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ﴾ (المائدة: 6)، بينما قد لا يقبلون بغَسْل إصبعٍ متنجِّس، قد أزَلْنا عنه عين النجاسة، بما يناسب حَجْمه من مقدار الماء المجتمع في غُرْفة اليد، فيرَوْنه غير كافٍ لتطهير ذاك الإصبع المتنجِّس.

إذن، إنما نهدف من خلال ما تقدَّم إلى إثارة فكرة أن الطهارة الشرعيّة قد لا تعدو إزالة الاستقذار العُرْفيّ، وتكون كفايةُ التطهير بالأرض والشمس قرينةً عُرْفيّةً على ذلك.

2ـ خصال الكفّارة

ففي بعض المعاصي، كإفطار شهر رمضان عَمْداً أو مخالفه اليمين، كفّارةٌ (عقوبةٌ) محدَّدةٌ بأمورٍ؛ إمّا على نحو الترتيب؛ أو على نحو التخيير؛ أو ملفَّقةٍ منهما معاً.

فكفّارةُ حَنْث اليمين ـ كما ذكَرَتْها الآية الكريمة: ﴿فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ﴾ (المائدة: 89) ـ ملفَّقةٌ، تبدأ بالتخيير بين ثلاث خصالٍ: إطعام عشرة مساكين من أوسط ما يطعم المَرْءُ أهلَه؛ أو كِسْوتهم؛ أو تحرير وعتق رقبةٍ، فإنْ لم يستطِعْ المكلَّفُ الإتيان بإحداها كان البديل هو الصيام ثلاثة أيّامٍ، وهذا هو الترتيب بين المجموعة الأولى وهذا البديل الاضطراريّ.

والذي يعنينا هنا هو السؤال عن مدى التوازن بين خصال هذه الكفّارة؛ فهل هناك توازنٌ حقّاً بين الإطعام والكِسْوة؟! هل كُلْفةُ الإطعام ككُلْفة الكِسْوة؟! وهل هناك توازنٌ بينهما وبين عتق الرقبة؟! وهل هناك تناسبٌ بينهما وبين صيام ثلاثة أيّامٍ فقط؟!

لعلّ القَيْد الإضافيّ هُنا ـ والذي لم يُذْكَر في الكفّارات الأخرى، وأَعْرَض عنه الفقهاء، ولم يَلْحَظُوه في خصال الكفّارات الأخرى، مع أن ذِكْرَه هاهُنا قد يكون على نحو الإشارة الى لزوم هذا القَيْد وضرورته في كلّ كفّارةٍ؛ فكلُّها تخضع لمعيارٍ واحدٍ ـ، لعلّ القَيْد الإضافيّ، وهو «مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ» يقرِّب التوازن بين الأمرَيْن: الإطعام والكِسْوة؛ فأن يكون الطعام وَسَطاً وممّا يُطْعِمُه الإنسان نفسه وعياله قد يجعل منه موازياً ومتوازناً مع مطلق الكِسْوة واللِّباس، فيُكتفى من الكِسْوة أو اللِّباس بالأدنى الذي يكون متوازياً في القيمة مع ما يأكله الإنسان من الطعام الوَسَط، لا الأدنى.

ولكنْ يبقى التوازن بين هذَيْن الأمرَيْن وصيام 3 أيّام؛ فمن وَحْي الكفّارات الأخرى نرى أن صيام شهرَيْن متتابعَيْن (60 يوماً) هو البديل التخييريّ لإطعام 60 مسكيناً، فكأنَّ صيام يومٍ يساوي إطعام مسكينٍ. وعليه، العجزُ عن إطعام 10 مساكين ينبغي أن يقابله صيامُ 10 أيّامٍ، وليس 3 أيّامٍ فقط، إلاَّ أن يُقال: إن العاجزَ عن دفع المال ضعيفُ بَدَنٍ، وقليلُ قوّةٍ، فلا يُطيق صياماً كثيراً، فكان التخفيفُ رحمةً.

وأمّا كفّارة الإفطار العَمْديّ في شهر رمضان فهي مخيَّرةٌ بين عتق رقبةٍ أو صيام شهرَيْن متتابعَيْن أو إطعام 60 مسكيناً، فهل من توازنٍ بين هذه الخصال؟! وأين قيمة الرقبة (العبد أو الجارية)، التي كانَتْ لا تقلّ عن عشرات الدنانير ـ والتي يحتاج جَمْعُها إلى جَهْدٍ كبير ـ، أين هذه القيمة من صيام 60 يوماً؟! إلاَّ أن يُقال: إن الغاية الإلهيّة السامية في تحرير العبيد كافّةً هي المسوِّغ لإدراج مثل هذه الخصلة، ولو كانت غيرَ متوازنةٍ مع سائر الخصال. وإلاَّ أن يُقال أيضاً: إن التتابع المشروط يجعل من صيام 60 يوماً أمراً شاقّاً، ولا سيَّما إذا لم نقُلْ بجواز التفريق بعد اليوم الحادي والثلاثين، خلافاً للمشهور في المذهب الإمامي الاثنَيْ عشري.

ولكنْ ماذا عن إطعام 60 مسكيناً؟! ولا سيَّما مع القول بكفاية الإشباع، ولو للأطفال الصغار، فلن تبلغ القيمة حينها قيمة عتق رقبةٍ! ومع الإصرار على التسليم للكبار فإن ما يذكره الفقهاء من كفاية مطلق الطعام، ولو طحين القمح مثلاً، يتنزَّل بالقيمة جدّاً، بحيث تصبح هذه الخصلة هي أَهْون الخصال، ويُفْقَد التوازنُ بينها وبين الخصال الأخرى. وهذا هو الحاصلُ بالضبط، فمع تعذُّر عتق الرقبة اليوم ـ بعد زوال العبوديّة ـ لا يتردَّد المكلَّف في اختيار الإطعام؛ لسهولته ويُسْره مقارنةً بالصيام، فهل يتوافق هذا مع التوجُّه العقليّ والعُرْفيّ بلزوم التوازي والتوازن بين البدائل والخيارات؟!

وخلاصةُ القول: إن من المحتَمَل بقوّةٍ أن يكون للعتق خصوصيّةٌ؛ للتخلُّص من نظام الرقّ والعبوديّة، الذي كان سائداً، ولعلّه لذلك كان بديلاً عن إطعام 10 مساكين تارةً؛ وعن إطعام 60 مسكيناً تارةً أخرى. إلاّ أن الأمر ليس كذلك في سائر الخصال، كالصيام والإطعام، فلماذا ينعدم التوازن بينهما؟!

كما تجدر الإشارةُ إلى أن التوازن بين البدائل الذي نعنيه يلحظ الاختلاف النوعيّ بينها، وعلى مثل هذا الاختلاف النوعيّ يعتمد الحكم بالترتيب، كما في بعض الكفّارات؛ فالعتقُ مُكْلِفٌ قد لا يستطيعه كلُّ أحدٍ، بينما الصيامُ مقدورٌ لكلّ مكلَّفٍ، وإطعامُ 60 مسكيناً أَيْسَرُ من الجميع، ولكنْ مع ذلك يبقى التوازنُ الإجماليّ ـ ولو غيرُ الدقيق ـ مطلوباً، والذي قد نقترب منه مع بعض القيود على الإطعام، بأن يكون من الوَسَط، في حين أن ما نشاهده اليوم من إهمالٍ لهذا القَيْد يفضي إلى عدم التوازن الواضح والفاضح بين خصلتين لأمرٍ واحد، وهو لا يتناسب مع روح قيام الأحكام على العدالة والحِكْمة.

إذن، لا بُدَّ من التوازن ـ ولو الإجماليّ ـ بين الآليّات البديلة، كالماء والتراب والشمس، وكذلك بين الخيارات البديلة، كخصال الكفّارات، إلاّ ما خرج من هذه الموازنة؛ بوضوح السبب والعلّة، كعتق الرقبة، حيث هو مطلوبٌ أسمى في مشروعٍ أرقى، وهو تفكيك منظومة الاستعباد الظالم والمَقيت.

3ـ علامة حدّ الترخُّص

ففي السفر يبدأ احتساب المسافة من آخر بيوت البلد الذي يتركه المسافر. وأما الشروع في القَصْر أو الإفطار فلا يصحّ قبل الوصول إلى حدِّ الترخُّص، وهو محدَّدٌ عند الفقهاء بعلامتين، ذُكِرَتا في الروايات: «متى يقصِّر؟ قال: إذا توارى من البيوت»؛ «إذا كُنْتَ في الموضع الذي لا تسمع فيه الأذان فقصِّرْ»([2]).

وكما هو واضحٌ فإن الإمام الصادق× ذكر شرطَيْن أو علامتين، فكأنَّه يُخيِّر بينهما.

أما الأذان فيشترط أن يكون بالصوت العادي، بلا مكبِّرٍ للصوت، وهذا ما سيجعله يختفي بعد 200 أو 300 متر على أبعد تقديرٍ؛ بينما تواري البيوت، والمُراد به عدم وضوحها وظهور ألوانها وأشكالها وتفاصيلها ودقائقها (وهذا ما يُفْهَم بوضوح من قوله×: «احتلام البيوت»)، فهذا قد لا يحصل قبل 1000 مترٍ. وعلى أيّ حالٍ، لا شُبْهة في أن عدمَ سماع الأذان أسبقُ اليومَ من احتلام البيوت، فكيف تكون هاتان العلامتان متوازيتَيْن، ويخيَّر المكلَّف بينهما، رغم عدم توازنهما؟! اللهُمَّ إلاَّ أن يُلْحَظ في ذلك عاملُ زمانٍ ومكانٍ؛ حيث كان خفاء الأذان يتأخَّر كثيراً في تلك الأزمنة والأمكنة، الخالية من الضوضاء والمؤثِّرات الصوتيّة، وذات الجوّ النقيّ والهواء الصافي، الذي يحمل الصوت بعيداً أكثر ممّا هو عليه اليوم.

لَسْنا في مقام الإشكال على نصٍّ قرآنيّ أو حديثيّ قطعيّ، بل نسلِّم له، ونقبل به، ونقدِّسه. ولكنَّنا في معرض النَّقْد لبعض الفُهُوم والتطبيقات، التي تبدو لنا خاطئةً، والتي ينبغي أن تلحظ ذلك التوازن المطلوب بين البدائل؛ كي لا يبدو الحكم الشرعيّ غريباً، وفاقداً للعدالة. هي مَحْضُ إثاراتٍ عقلانيّةٍ؛ لتصويب الاجتهاد؛ كي يغدو معاصراً جديداً، لائقاً بالحياة وأهلها.

إذن لا بُدَّ من إعادة النظر في الفَهْم المستفاد من مثل هذه النصوص، والتعامل معها وفق المستجدّات الحديثة المعاصرة، وإلاَّ فستفقد هذه النصوص رَوْنَقَها، وتغدو غريبةً مُستَهْجَنةً، فاقدةً للتوازن، المطلوب عَقْلاً وعُرْفاً، وهو ما يجعلها غيرَ مُقْنِعةٍ، ويصرف الناس عن الالتزام بها، لا لخُبْثٍ في سرائرهم، بل لفقدانها قوّةَ الإقناع، وسَطْوة التأثير على العقل والفكر الإنسانيّ الحُرّ.

وفي ختام هذه الكلمة ـ التي قد تكون الأخيرة؛ لأسبابٍ شتّى واعتباراتٍ مختلفة ـ نتقدَّم بالشكر الجزيل للمؤسِّس العلاّمة الدكتور حيدر حبّ الله، وكلِّ مَنْ رافَقَنا في هذه المسيرة ـ التي رَبَتْ على عقدٍ ونصفٍ من الزمن (16 سنة) ـ؛ من الإخوة المؤمنين الداعمين بالمال والترويج؛ والهيئات الاستشاريّة، والإداريّة، والتحريريّة، والفنِّية؛ والكُتّاب؛ والمترجمين؛ والموزِّعين؛ وكذلك القُرّاء الكرام، راجين من الله العليِّ القدير لهم عظيمَ الأَجْر، ودوامَ التوفيق، إنه سميعٌ مجيبٌ.

 

 

الهوامش

([1]) رواه الصدوق في كتاب مَنْ لا يحضره الفقيه 3: 327 ـ 328، بإسناده عن أبي بصير ـ وهذا الإسناد ضعيفٌ ـ [والطريق هو: محمد بن عليّ ماجيلويه، عن عمِّه محمد بن أبي القاسم، عن أحمد بن محمد بن خالد، عن أبيه، عن محمد بن أبي عُمَيْر، عن عليّ بن أبي حمزة، عن أبي بصير]، أنه سأل أبا عبد الله×…؛ ورواه الطوسي في تهذيب الأحكام 9: 57 ـ 58، بإسناده عن الحسين بن سعيد ـ وهذا الإسناد ضعيفٌ ـ [وله طُرُقٌ ثلاث: 1) أبو عبد الله محمد بن محمد بن النعمان والحسين بن عبيد الله وأحمد بن عبدون، كلّهم، عن أحمد بن محمد بن الحسن بن الوليد، عن أبيه محمد بن الحسن بن الوليد، عن الحسين بن الحسن بن أبان، عن الحسين بن سعيد؛ 2) أبو الحسين بن أبي جيد القمّي، عن محمد بن الحسن بن الوليد، عن الحسين بن الحسن بن أبان، عن الحسين بن سعيد؛ 3) أبو الحسين بن أبي جيد القمّي، عن محمد بن الحسن بن الوليد، عن محمد بن الحسن الصفّار، عن أحمد بن محمد، عن الحسين بن سعيد]، عن عاصم بن حُمَيْد، عن أبي بصير أنه سأل أبا عبد الله×…

([2]) روى الكليني في الكافي 8: 470 ـ 471، عن محمد بن يحيى، عن محمد بن الحسين، عن صفوان بن يحيى، عن العلاء بن رزين، عن محمد بن مسلم قال: قلتُ لأبي عبد الله×: الرجل يريد السفر، متى يقصِّر؟ قال: إذا توارى من البيوت…، الحديث. ويفسِّره ما رواه عبد الله بن جعفر، في قرب الإسناد، عن السندي بن محمد، عن أبي البختريّ، عن جعفر، عن أبيه، أن عليّاً× كان إذا خرج مسافراً لم يقصِّر من الصلاة حتّى يخرج من احتلام البيوت، وإذا رجع لم يتمّ الصلاة حتّى يدخل احتلام البيوت.

وروى الطوسي بإسناده عن الصفّار، عن عبد الله بن عامر، عن عبد الرحمن بن أبي نجران، عن عبد الله بن سنان، عن أبي عبد الله×، قال: سألتُه عن التقصير؟ قال: إذا كُنْتَ في الموضع الذي تسمع فيه الأذان فأتمّ؛ وإذا كُنْتَ في الموضع الذي لا تسمع فيه الأذان فقصِّرْ. وإذا قدمْتَ من سفرك فمثل ذلك.

Facebook
Twitter
Telegram
Print
Email

اترك تعليقاً