أحدث المقالات

السيد حكمت صاحب البخاتي(*)

تمهيدٌ

تبدأ مصنَّفات العلم الديني عند الشيعة بما تعاهد العلماء والفقهاء منهم على تسميتها بالأصول الأربعمائة. والأصل في اصطلاح المدرسة الفقهية الإمامية هو الكتاب الذي جمع فيه مصنِّفه الأحاديث التي رواها عن المعصوم، أو عن الراوي عن المعصوم، ولم ينقُلْ فيه الحديث عن كتاب مُدوَّن([1])، أو بعبارة الشيخ آغا بزرگ في تمييز الأصل عن الكتاب بأن وجود أحاديثه في عالم الكتابة وجودٌ أصلي بدوي ارتجالي، غير متفرِّع عن وجودٍ آخر، فيُقال له: أصل، وهنا شرط عدم النقل فيه عن كتاب آخر مُدوّن، وإنْ كان مرويّاً عن الإمام المعصوم، وقد أذن له في كتابة حديثه وروايته ([2]). ويستبطن مصطلح الأصل أهمية قصوى على صعيد العقيدة والعلم الديني؛ كونه مرويّاً عن أئمّة أهل البيت بواسطة تدوينه كتاباً، وليس مجرّد نقل في الرواية. وتدوينه المباشر هذا هو ما يضمن وثوقه وصحّة متنه، إضافة إلى تسالم الشيعة الإمامية على توثيق رواة هذه  الأصول، وأنهم بمصطلحٍ رجالي ممدوحين، بل ينقل آغا بزرگ أن قول أئمة الرجال في ترجمة أحدهم: (إن له أصلاً) هو من ألفاظ المدح. وتنقل مدوّنات الأصول هذه ترجمةً حيّة عن عصر الأئمة، وحركة العلم في عصر الحضور للأئمّة، وتعاطي الأئمة مع الشيعة في العلاقة بهم ورعايتهم، وطرائق وأساليب الدرس الإمامي على أيدي الأئمة مباشرةً، وخصوصاً في عصر الإمامين الباقرين أو الصادقين: أبو جعفر محمد بن عليّ الباقر(114هـ)؛ وأبو عبد الله جعفر بن محمد الصادق(148هـ)، وقد كان علم هذين الإمامين مدرك الشيعة في العقيدة والفقه، وأكثر روايات الشيعة منهما في باب الفقه والحكم الشرعي، ونتيجة ذلك أدمج اسماهما فيُقال في كتب الشيعة: عن الباقرين؛ أو عن الصادقين؛ للتعريف بأصل الحديث أو الرواية.

 ثم إن هذه الأصول في عقيدة الشيعة الإمامية خلاصة ما بقي من عصر الحضور؛ إذ يؤرّخ لها بدءاً بعصر الإمام عليّ(40هـ)، وتحديداً في خلافته، وانتهاءً بعصر أبي محمد الحسن بن عليّ العسكري(256هـ)، الإمام الحادي عشر عند الشيعة الإمامية، في النصف الأوّل من القرن الثالث الهجري. وقد استمرّت بعض هذه  الأصول إلى القرن السابع الهجري. ورغم أن كتب التراجم والفهارس عند الشيعة الإمامية تنسب مئات الكتب والمصادر إلى هذا العصر، وأن هذه  الأصول تتجاوز هذا العدد، إلاّ أنه استقرّ الأمر عند المتقدِّمين من فقهاء الشيعة على هذه الأصول الأربعمائة([3]). وقد دوّنت تلك الأصول، وفي الأكثر منها، على أيدي أصحاب الإمام الصادق، وبعضٌ منها دوَّنها أصحاب أبيه الإمام الباقر، وأصحاب ولده الإمام موسى بن جعفر الكاظم(183هـ).

 لكنّ اقتصار المتقدِّمين من الشيعة الإمامية على هذه الأصول الأربعمائة أدّى إلى إقصاء وإبعاد المئات من الكتب والمؤلَّفات التي كتبها الشيعة الأوائل في مختلف علوم الإسلام، بل تأسيسهم لهذه العلوم على ضوء السبق في مؤلَّفاتهم تلك في مجالات هذه العلوم المتعدّدة، بل لم يترك الشيعة الإمامية الأوائل فنّاً من فنون الإسلام وعلومه إلاّ طرقوا بابه، وابتدأوا في تأليف نسقه، وابتكار كتابته. ولعلّ مراجعة كتاب تأسيس الشيعة لعلوم الإسلام، أو مختصره كتاب الشيعة وفنون الإسلام، للعالم القدير في علمه وفضله السيد حسن الصدر، تكشف عن قوّة هذا الحراك العلمي عند الشيعة. في القرون الثلاثة الأولى من الهجرة وما بعدها من قرونٍ كانت حضارة الإسلام وعلومه وثقافته في تطوُّرٍ وازدهار، لكنّ المنحى الديني والروحاني في هذه الأصول، واستنادها المباشر إلى الأئمة، هو الذي كفل لها هذا الذيوع والانتشار، ومن ثمّ السلطة المعرفية لها في مذهب الشيعة الإمامية، فتكوّنت بواسطتها بواكير ثقافةٍ شيعية إمامية حول فنون هذه الأصول، وقد دارَتْ حول مفهوم الإمام والولاية والعلم، وتفرَّعت عن عقيدة الشيعة في الإمامة، وبهذه الأصول تمَّتْ صياغة العقيدة بشكلٍ رسميّ، والعلم الفقهي عند الشيعة الإمامية.

ثم بدأَتْ، في الثلث الاخير من القرن الثالث الهجري، موجةٌ من المصنَّفات الحديثية الكبرى، وقد استطاعَتْ أن تأخذ محلّ الصدارة في العلم الديني ومناهجه عند الشيعة الإمامية، وضمنَتْ ملء الفراغ في مدرسة الفقه والعلم عند الشيعة الإمامية، والذي تسبَّب عن ضياع وفقدان تلك الأصول الأربعمائة، وكاد أن يودي ببقيّة العلم الإمامي الموروث عن أئمّة أهل البيت في عصر الغَيْبة الصغرى.

فاجتهد كبير علماء الشيعة الإمامية في عصره الشيخ أبو جعفر محمد بن يعقوب بن إسحاق الكليني(329هـ) بجمع ما تبقّى من تلك الأصول([4])، وأضاف إليها مدوّنات حديثية أخرى، وعدداً كبير من الروايات، ضمن كتابٍ أسماه: «الكافي». وقد تسالم الشيعة الإمامية على تسميته بثقة الإسلام، وتحمل تسمية الكليني بثقة الإسلام، وكتابه بالكافي، دلالةَ اهتمامٍ شيعي إمامي وعلميّ على وجه الخصوص بالمؤلِّف وكتابه. وقد بلغ اهتمام الشيعة بكتابه أن نُسبَتْ إلى الإمام المهديّ المنتظر تسمية كتاب الكافي([5]).

ثمّ أعقبه الشيخ الصدوق أبو جعفر محمد بن عليّ بن الحسين بن بابويه القمّي(381هـ) في وضع موسوعته الفقهية ـ الحديثية: «مَنْ لا يحضره الفقيه». وقد استند في رواياته إلى كتب الكافي والأصول ومدوَّنات الحديث الأخرى عند الشيعة الإمامية، ولم يعتمد منهج المصنِّفين قبله في إيراد جميع ما رووا، وإنما قصد إيراد ما أفتى به وحكم بصحّته فيما روى واعتقد أنه حجّةٌ فيما بينه وبين ربِّه، وفق قوله في مقدّمته لكتابه هذا.

ثمّ جاء من بعدهما الشيخ أبو جعفر محمد بن الحسن الطوسي(460هـ) فوضع كتابين جمع فيهما ما وصله من حديث وروايات أئمة أهل البيت، هما: «تهذيب الأحكام في شرح المقنعة»؛ و«كتاب الاستبصار فيما اختلف فيه من الأخبار»، واعتمد في الأخير منهما على منهجٍ آخر في المقارنة بين الروايات التي يعتمدها في أحكام الفقه، ويطمئنّ إليها سنداً ومتناً، والروايات التي تخالفه في ذلك، وقد صدرَتْ عن الأئمّة أيضاً، ورويت بطرق مختلفة.

وسمُِّيت تلك الكتب عند الشيعة بالكتب الأربعة أو مصادر الحديث الأربعة، وهي تقابل صحاح الحديث الستّة عند السنّة.

لكنّ الشيعة الإمامية لا يصفون هذه الكتب الأربعة بالصحاح، ولا سيَّما الأصوليون منهم، وإنْ خالفهم في ذلك بعض الأخباريين، فهي خاضعة عندهم للتحقيق في رواياتها، وفي أسانيدها للجرح والتعديل([6]).

 وقد اهتمَّتْ الكتب الثلاثة الأخيرة بأولوية الفقه وأحاديث الأحكام، واعتنَتْ بما يُطْلَق عليه في عصر تأليف هذه الكتب اسم الفروع في الأخبار أو أحاديث الفتيا، وقد أنتجَتْ متون هذه الكتب فقهاً شيعياً إماميّاً متميِّزاً، اعتمد النظر في الخبر والرواية. وشهد عصر هذه المؤلَّفات تأسيس أصول الفقه، وجذور الاجتهاد في مدرسة بغداد في القرنين الرابع والخامس الهجريين، وقد هيمنَتْ تلك الأصول الحديثية الكبرى على الذهنية العلمية الإمامية، وشرعَتْ في ظلِّها نهضةٌ فقهية في التأليف والكتابة، بريادة الشيخ المفيد أبي عبد الله محمد بن محمد بن النعمان(413هـ) وتلامذته الكبار من فقهاء الشيعة الإمامية في هذا العصر، وقد بلغت كتب بعضهم المئة والمئتين في مجال الفقه والأحكام.

 إن خلاصة الموضوع في الكتب الحديثية الأربعة ومدار الفقه في الثلاثة الأخيرة منها أورث هذا الاهتمام الفقهيّ الكبير عند الشيعة الإمامية، وأنتجت مفهوماً حول الإمام المعصوم تقدَّمت فيه أولوية فقه الإمام المعصوم، وقد اجتمعَتْ فيه إلهيّاً شروط الفتيا والحكم الصحيح والعصمة في إخباره بهذه الفتيا أو الحكم، وأحياناً تجرّدت هذه النظرة من كلّ بُعْدٍ مناقبيّ أو إعجازيّ، فنشأ على أثر هذا التحوُّل نزاعٌ بين مَنْ عُرف في التاريخ الشيعي الإمامي بالمقصِّرة والمفوِّضة، وفق تسمية الخصومة بينهما. ثمّ بدأ منذ النصف الثاني من القرن الخامس الهجري وأوائل القرن السادس الهجري، تحوُّلٌ نحو مفهومٍ آخر حول الإمام، يشكِّل تتمّةً للمفاهيم السابقة، وليس إلغاءً لها بالكلِّية، وقد تكفَّل بهذا التحوُّل كتاب المعجز وثقافته الناشئة عنه عند الشيعة الإمامية.

محاولةٌ في اتجاه علمٍ دينيّ

1ـ أخبار المعجزات

المعجزة واحدةٌ في جوهرها وتركيبة الحَدَث فيها، لكنّ وجوه الحدث تتعدَّد وتأخذ الصورة أبعاداً مختلفة. فالدَّوْر الذي تمارسه أمام الآخر، سواء كان خصماً أم مجرّد غير مؤمن، هو وظيفة إثبات ومحاولة إقناع في الإيمان، أما الدَّوْر الذي تؤدّيه أمام الذات المؤمنة أو الأنا المؤمن فهو وظيفة بعث الاطمئنان([7]). من هنا سعَتْ كتب المناقب، وأكثر منها كتب المعاجز، الشيعية نحو توثيق التواصل النفسيّ بالمنقبة والمعجزة، وتشكيل وَعْيٍ بها يرشح عن هذا التواصل، ويتّجه نحو تأسيس ثقافة في المجتمع الشيعي المؤمن، تتكرّس في روحانية الإيمان الغيبي.

وإذا كان الإيمان الغيبي يدخل في تركيبة المعرفة الدينية المتعلِّقة بالمعجز، كان العلم الديني ينجز مهمته بالعقل الذي يكسبه الدين معنىً خاصّاً به، ويعبّر عنه بالفطرة أو لحظة العقل في إقباله وإدباره في الحديث القدسي، فهو عقلٌ مؤتمر بإرادة الله في أصل الخلقة، وبه تنطبع تلك المعرفة بالدينية وقبوله في الدين، رغم أنه في الشريعة ـ الفقه، وفي مجال مفهوم الاجتهاد الفقهي، يكون هذا العقل ذات العقل الوظيفي الذي تنجزه أو تُنجز به المعرفة البشرية.

وقد مارست المعرفة الدينية المتعلّقة بالمعجز انخراطاً كلّياً في هذا اللامعقول، لكنه المقبول وفق ما يمنحه الدين من معنىً خاصّ بالعقل. وحاولت تلك المعرفة أن تقارب الشريعة في وسائل العلم بها، من خبرٍ ورواية وتعريف وتصنيف وتبويب، توازي به كتب الحديث، أو لعلّه تدخل في نطاق هذه الكتب، ممّا جعل أحاديث وروايات المعجز متأثِّرة بالنظرة الحديثية تجاه كتب المناقب، فهي قد نشأَتْ عن أصولها، أي عن أصول كتب المناقب، وإنْ تميَّزَتْ في موضوعها، وخلاصة النظرة الحديثية في أصول هذه الكتب تكمن في عدم الوثوق بها من جانب علماء الحديث.

وخصوصية الموضوع فيها الذي يتغذّى بالغَيْب في المعرفة، واللامعقول في هذه المعرفة، هو ما أخرجها عن دائرة كتب الحديث، واقتصرَتْ في مقاربتها لكتب الحديث على اشتمال الرواية الإسلامية فيها، عبر النقل بموازاة سلاسل الحديث، إسناداً أو إرسالاً، وفي مجال اختصّت به في الرواية والحديث، ينزع عن ثقافةٍ في أغلبها محلّية تتحرّك باتجاه الاندماج بالإسلام، نتيجة ما يوفِّره لها اللامعقول، وإضاءة قبوله في الدين من إمكانيةٍ في هذا الاندماج، ويمكن أن نشير في خروج كتب المعجز عن كتب الحديث أو عن علم الحديث إلى ما ذكره الشيخ النجاشي(450هـ) عن أحد أهمّ المؤلِّفين في كتب المعجز، وهو محمد بن حسن الصفّار(290هـ)، فقال: «أخبرنا بكتبه كلّها، ما خلا بصائر الدرجات: أبو الحسين علي بن أحمد بن محمد بن طاهر الأشعري القمّي قال: حدَّثنا محمد بن الحسن بن الوليد، عنه، بها»([8]). وقال الشيخ الطوسي: «أخبرنا بجميع كتبه ورواياته ابن أبي جيد، عن ابن الوليد محمد بن الحسن عن محمد بن الحسن الصفّار. وأخبرنا بذلك أيضاً جماعةٌ، عن ابن بابويه محمد بن علي بن الحسين، عن محمد بن الحسن بن الوليد، عن محمد بن الحسن الصفّار، عن رجاله، إلاّ كتاب بصائر الدرجات؛ فإنه لم يروه عنه محمد بن الحسن بن الوليد»([9])، وفي تعليل عدم نقل أو رواية كتاب «بصائر الدرجات» في رواية محمد بن الحسن بن الوليد(343هـ)، شيخ القمِّيين ورئيس المحدِّثين في عصره وممَّن أجمعَتْ الطائفة على وثاقته ورئاسته، هو ما أشار إليه الشيخ محمد تقي المجلسي: إن عدم رواية ابن الوليد لكتاب «بصائر الدرجات»؛ لتوهُّمه أنه يقرب من الغلوّ في الأئمّة^([10])، وذلك أمر معهود ومعروف عن المحدِّثين القميين، لا سيَّما رئيسهم وشيخهم محمد بن الحسن بن الوليد. وقد اختلف في نسبة كتاب «بصائر الدرجات» إلى الصفّار أو إلى سعد بن عبد الله الأشعري القمّي(399هـ)، أو أن لكلٍّ منهما كتابٌ بهذا الاسم والعنوان، وقد كتب عنه صاحب رياض العلماء أنه كتابٌ في الأصول والفروع، وأن هناك كتاباً في معاجز الأنبياء، واسمه «بصائر الدرجات في تنزيه النبوّات»([11]). وممّا يزيد في قوّة التشكيك في نسبة هذا الكتاب أو هذين الكتابين إلى الصفّار والأشعري أنهما محدِّثان قمّيان ومن رؤساء المحدّثين القمّيين، وكان هؤلاء القمّيين من أشدّ الناس في الحديث سنداً ومتناً، وإنهم يردّون روايات الغلوّ في الأئمّة، ورغم أنه وردَتْ في أبواب هذا الكتاب رواياتٌ مهمّة في أصل عقيدة الإمامة وعقيدة الشيعة الإمامية في النبيّ محمد| والإمام المعصوم×، إلاّ أنه وردَتْ في هذا الكتاب بعضُ الروايات التي تخالف مذاق القمّيين، ولا تسلك مسلكهم في اعتقاداتهم في المعصوم×، ومنها: روايات التفويض، التي تضمَّنها الكتاب، وفيها أن الله تعالى فوَّض أمر الخلق والأشياء والزرع والضرع، بل وكلّ شيء، إلى النبيّ وآله^([12]). وقد يؤيِّد هذا التشكيك ما ذكره صاحب الرياض في أن «بصائر الدرجات»، المنسوب إلى الصفار والأشعري القمّي، هو كتابٌ في الأصول والفروع، إلاّ إذا أراد صاحب الرياض أن الأبواب التي ذكرَتْ في هذا الكتاب وهي من خصائص الأئمّة وشؤونهم هي الأصول والفروع في الإمامة أو في الدين.

وقد سعى أبو الحسين سعيد بن عبد الله بن الحسين بن هبة الله بن الحسن، المعروف بالقطب الراوندي(573هـ)، إلى تصنيف أخبار المعجز ضمن اتجاهٍ في علمٍ يتوخى خصوصية دينية به، فعقد فصولاً في تعريف المعجز في كتابه «الخرائج والجرائح»، مبتدئاً بالقرآن الكريم في استعراض مناحي الإعجاز فيه، وتعريفه وفق رؤى إسلامية متعدّدة، تبنّاها علماء وفقهاء كبار، ومن مذاهب إسلامية مختلفة، ولم تصنف تلك الآراء في الإعجاز على ضوء انتماءات هذه المذاهب واختلافاتها في النظر وعقائد الكلام، بل صنّفَتْ على أساس انفراد هؤلاء العلماء أو اتّفاق بعضٍ منهم على تعريف المعجز وتحديد ما هو الإعجاز.

ويُستظهر من كلام الراوندي ومحاولته الكلامية جدلٌ واسعٌ في الثقافة الإسلامية حول المعجز، يتّصف بالتعارض المعرفي فيما بينه؛ فمن الصُّرْفة التي قال بها بعض المعتزلة وبعض الشيعة؛ إلى العجز في الأسلوب والنظم دون المعنى؛ وخلافه في العجز عن نيل المعنى المختصّ بالقرآن والوَحْي. ويتحدَّث الراوندي عن معارضةٍ معرفية أخرى تنكر أصل المعجز في العقيدة الإسلامية، لا تنبعث في بعضها عن ردٍّ على الإسلام كدينٍ سماوي، بينما يحمل بعضٌ آخر منها هذا الدافع، مثل: مقالة أبي زكريا المتطبّب.

وبعد استغراقه في ردّ وجوه الخلاف، وإضافة بعضها إلى بعض، متشدِّداً في الرد على مَنْ أنكر المعجز، يخلص إلى تعريف المعجز بأنه يتحقَّق في النظم اللائق والمعاني الصحيحة، التي لا يكاد يوجد مثلها على نظم تلك العبارة، وإن اجتهد البليغ والخطيب([13]). وتُنبئ ثقافة الراوندي عن إحاطةٍ بعلوم عصره ومعارف بيئته في القرن السادس الهجري، إضافة إلى علوم الدين والعربية والكلام، فهو يميِّز بين المعجز وغيره من الممكنات والحادثات في علم السحر ومخاريق الشعبذة وعلم الحِيَل. وهي بدايةٌ يصنع منها الراوندي مقدّمةً أو محاولةً في تصنيف هذا الفنّ في الخبر والرواية علماً دينياً.

ثمّ يتوسَّل القطب الراوندي في الاستدلال على صحة خبر المعجز وروايته بطرائق أهل الحديث، ومحاججة علماء الحديث في صحة الخبر والحديث، فيردّ على مُنْكِري معجزات النبيّ والأئمة بأنها أخبار آحاد، رواها الواحد والاثنان، ومثل ذلك لا يمكن القطع به، ويردّ بأن تلك الأخبار ممّا أجمعَتْ الطائفة الحقّة، ويعني بهم الشيعة الإمامية، على صحتها، وإجماعهم حجّةٌ؛ لأن فيهم المعصوم([14]).

 وكان بنو نوبخت، وهم رؤساء الإمامية في الغيبة، يخالفون هذا الإجماع، وينكرون القول بالمعجز المنسوب إلى الإمام؛ وكذلك ينفون ظهوره على أيدي المنصوبين من الخاصّة والسفراء والأبواب، وفق ما ذكره الشيخ المفيد([15]). ولعلهم مَنْ عناهم الراوندي بمُنْكِري معجزات النبيّ والأئمة.

 ويمضي القطب الراوندي في تقرير أن أخبار المعجز تجري مجرى التواتر نقلاً في الصحّة والقطع به، إضافةً إلى تلقي هذه الأخبار بالقبول في الأمّة، وهي ما توجب العلم على الإطلاق، عند القطب الراوندي، في محاولته تأسيس خبر المعجز باتجاه علم في الدين، وخصوصاً المتواتر منها؛ وأما إذا كان الخبر غير متواترٍ، مثل: خبر الآحاد، فإن قراءته من أدلّة العقل والكتاب والسنّة المقطوع بها أو إجماع المسلمين أو إجماع الطائفة الحقّة والشيعة الإمامية فإنها تدخل هذه الأخبار في باب المعلوم، فتكون ملحقةً بالتواتر، وهي محصّلة مجادلة الراوندي العلمية. فالتواتر هو أهمّ سَنَدٍ لديه في صحّة خبر المعجز([16]).

 ويعرف التواتر وفق منطق العلم الديني، أو يستند في خلاصته، إلى امتناع تواطؤ الناس في أمكنةٍ متباعدةٍ وأزمنةٍ مختلفةٍ على الكذب. فيتضح نتيجة تواطؤ أو اتفاق بين علماء الحديث على هذه القاعدة صحّة ما ينقله التواتر، أو ما يعبر من خلال التواتر إلى جمهور المسلمين. وتكون الأمّة مضطرّةً إلى تلقِّيه بالقبول، وهو يقارب قاعدة الإجماع في الأمّة، ويحكم فقهاء الإسلام بصحّة أو وجوب هذا القبول.

 وهو حكمٌ مهَّد لانتشار ثقافة المعجز في الأمّة، واندماجه أنثروبولوجيّاً في الاجتماع الإسلامي، بعد تمكُّنه من الناحية السايكولوجية من المجتمع الإسلامي، والشيعيّ منه على وجه الخصوص، واستدرجه المخيال الديني بعد مروره عبر الخيال من الأسطورة المخزونة في ذاكرة الشعوب الإسلامية، وثقافة المنطقة، وامتزاجه بالمعنى الديني.

 لكنْ تبقى المساحة الشاغلة له هي الثقافة، وهو ما يُسهم في إفقاده ذلك الشرط في العلم الديني، باعتباره اتصالاً بين العقيدة والشريعة. ورغم هذا تبقى محاولة إدراجه ضمن علوم الدين، وبعنوانٍ مستقلّ، قائمةً.

 وفي عداد هذه المحاولة تسالمت كتب المعاجز أو فنّ الكتابة فيها على تقسيمات أو تصنيفات للمعجز، تتَّصل في الحَدَث بالنسبة للمعجز، فيعمد المؤلِّف إلى تخصيصها في بابٍ من أبواب المعجز، ويكون هذا الباب بعنوانٍ خاصّ به، يتشكل اسمه وعنوانه من الحَدَث المعجز فيه، وهو ما يقتضي عدداً كثيراً من أسماء الأبواب في هذه الكتب، تتناسب وطبيعة الحَدَث المعجز فيه، وقد بلغَتْ تلك الأبواب (518) باباً في أوّل وأقدم كتب المعاجز، وهو «بصائر الدرجات»، لأبي جعفر محمد بن الحسن الصفّار، وقد روى فيه 1901 حديثاً.

 والكتاب يتنقّل بين موضوعات المعجز، مع تنسيق وترتيب في الباب، ينبني على قاعدة في التأليف، تنصّ على اشتراك النبيّ محمد| والأئمّة الأطهار^ في موضوع المعجز، وتكافؤ الحال بينهم في ما أظهروا من المعجزات؛ لغرض الدلالة على تابعية الإمامة للنبوّة، وأنها امتدادٌ دينيّ وعقائدي لها. وفيها يحتوي موضوع المعجز أو مادتّه على دلالاتٍ دينية ـ روحانية كبرى، ومهمّة في الحياة الإيمانية والمشاعر الداخلية للنفس المؤمنة، ولا سيَّما مع اشتمالها على مفاهيم وأفكار تعدّ أساسيّةً بالنسبة إلى الإيمان في دين الإسلام. وكان يمكن أن تصلح أن تكون مصطلحات خاصّة بفنّ كتابة أو خبر المعجز، أو في التبويب والتصنيف في موضوع المعجز، وهي لا زالت بحدود الأفكار، وتشكّل مادة الخبر في كتب البصائر هذه، مثل: النور، الروح، القدس، ليلة القدر، نسيان الموت، العلم، الحجّة، الرجعة.

 أما كتاب الخرائح والجرائح فإنه يراعي تبويب هذا العلم وتميُّز هويته، فهو يقسِّم معجزات النبيّ إلى:

1ـ القرآن الكريم الذي أتى به الوحي.

2ـ ما رواه المسلمون، وأجمعوا على نقله.

3ـ ما شاهده بعض المسلمين، فنقلوه، وكان المعصوم وراءهم في هذا النقل.

ثمّ يقسِّم معجزات النبيّ في سنيّ حياته إلى:

1ـ ما ظهر منها قبل مبعثه، والغاية فيها التأنيس والتمهيد والتأسيس.

2ـ ما ظهر منها بعد مبعثه، والغاية إقامة الحجّة على الخلق.

3ـ ما ظهر من دعواته المستجابة.

4ـ ما ظهر من إخباره عن الغائبات.

5ـ ما أخبر به ثمّ ظهر بعد وفاته، والغاية في الثلاثة الأخيرة إثبات صدق الدعوى([17]).

وقد وضع القطب الراوندي تعريفاً للمعجز، يستند أوّلاً إلى اللغة؛ وثانياً إلى الشرع، فقال: «والمعجز في اللغة: ما يجعل غيره عاجزاً، ثمّ تعورف في الفعل الذي يعجز القادر عن الإتيان له. وفي الشرع: هو كلّ حادثٍ من فعل الله أو بأمره أو تمكينه ناقضٍ لعادة الناس في زمان تكليفٍ»([18]).

 ولغرض تقنين موضوع المعجز كعلمٍ يستوفي شروط العلم وضع الرواندي قواعد المعجز في «شروط مفهوم المعجزات»، والعبارة له. وهنا يتحوَّل موضوع المعجز إلى علم خاصّ أو مجالٍ في العلم الديني خاصٍّ به، حين يرتهن أو يتأسَّس وفق مفهومٍ خاصّ به، أطلق عليه الراوندي «مفهوم المعجزات»، والتي يرى شروطه في:

1ـ أن يعجز عنه،

2ـ وأن يكون بفعل الله أو تمكينه،

3ـ وأنه يكون ناقضاً للعادة،

4ـ وأن يحدث عقيب دعوى المدَّعي،

5ـ وأن يكون ظهوره في زمان التكليف([19]).

6ـ ثمّ يشرع الراوندي في أدلّته الكلامية في إثبات حقيقة المعجز في القرآن الكريم([20])، وهو أمّ المعجزات في قوله: «الحمد لله الذي جعل القرآن لنبيِّنا| أمّ المعجزات ومعظَّمها»([21]).

2ـ التصنيف في المعجزات

أـ كتب المعجزات وأصولها

 يبدأ تقسيم المعجز وفق أصول فنّ الكتابة فيه، في ما نستشفّه من المصادر المكتوبة وما سطره المؤلِّفون في مقدّمات كتبهم ومؤلَّفاتهم، ولا سيَّما في ما كتبه محمد بن جرير الطبري الإمامي(411هـ)، وهو من أعلام القرن الرابع الهجري، وهو صاحب «نوادر المعجزات»، كأهمّ كتاب ومصدر في المعجز الشيعي، فقد بدأ تقسيمه للحجّة، التي هي أصل المعجز ومحور الدلالة فيه، إلى حجّةٍ بالغة فما فوقها حجّة، وحجّة غير بالغة ففوقها شيءٌ من الحجّة أو الحجج. وحجّة النبيّ والأئمّة من بعده هي من الحجّة البالغة؛ لقوله تعالى: ﴿فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ﴾ (الأنعام: 149)، وهي ما يستوجب عقلاً أو اضطراراً، عند الطبري الآملي، أن تكون لهم العصمة والقدرة على كلّ شيءٍ، والعلم بكلّ شيءٍ، حتّى تستتمّ الحجّة، وتبلغ الغاية، وخصوصاً في القدرة والعلم، وهما موضوعا المعجز. وإذا ثبت ذلك للنبيّ في آية الحجّة البالغة فإنه يلزم ثبوتها للقائمين مقامه من الأئمّة الوارثين ([22]).

 ويخطو القطب الراوندي أكثر في تقسيم وتصنيف المعجز، وبعنوانٍ مستقلّ لكلّ صنفٍ فيه، رغم عدم وضوح العنوان وبشكلٍ مستقلّ تماماً، ومع ذلك فالتصنيف الذي يضعه مهمٌّ على صعيد تصنيف الخبر والرواية في المعجز، واستقلال فنّ الكتابة فيه في مقابل كتب علم الحديث وكتب المناقب. فالجزء الأول «في معجزات النبيّ والأئمّة^» والجزء الثاني «في أعلام النبيّ| والأئمّة^»، والجزء الثالث في قسمه الأوّل «في أمّ المعجزات، وهو القرآن المجيد»، وفي القسم الثاني منه «في علامات ومراتب نبيّنا وأوصيائه عليه وعليهم أفضل الصلاة وأتمّ التسليم».

 واستناداً إلى كتاب الخرائج والجرائح نموذجاً يمكن القول بتسالم كتب المعاجز أو فنّ الكتابة فيها على تقسيم المعجز وفق مصنَّفات أو كتب المعجز، وهي:

أوّلاً: مصنَّفات الأعلام: وقيل في تعريف الأعلام أنها الدلائل أو الأدلة. فأعلام النبوّة هي الدلائل على صحّة النبوة([23])، وتدخل فيه دلائل صحّة الإمامة عند الشيعة وفق منطق المعجز([24]). وغالباً ما تنصرف موضوعات الأعلام في المعجز إلى متعلّق شخصي بمَنْ يخاطبه المعصوم أو بمَنْ يخاطب المعصوم ويسأله، وفيه إخبار عن مآله وحاله في مستقبل أيامه، أو إخباره عن حادثةٍ تقع له في الزمن الغائب عنه حاضراً. ومن الأعلام ما يتعلَّق بالحديث بين المعصوم وغير الإنسان من الخلق والجماد، وتخبر بعض رواياته عن شكاية الجمل إلى النبيّ محمد| ما يصنع به أصحابه، وهي أخبار وروايات تنبئ عن علم المعصوم بحال ومآل هذا الخلق، إنساناً وحيواناً وجماداً ونباتاً، مثل: حديث العذق، وأنين الشجرة التي كان يتَّخذ منها النبيّ محمد| منبراً له. والمغزى في هذه الروايات هو كشف البُعْد الكوني في النبوّة والإمامة وحسّ الرحمة الكونية فيه. وفي منطق المعجز يتكشَّف هذا المغزى أو تصدر عنه رؤية المعجز في مجمله. ويسير هذا المغزى بموازاة المعنى في النبوّة والإمامة، أو لعلّه يشفّ عن هذا المعنى في الرؤية الدينية المؤمنة، ويتجلّى فيها فعل المعجز، والجامع بينهما هو الدلالة على صحّة النبوة أو الإمامة، وإثبات الدعوى فيها. ولا تقف مسألة الأعلام عند هذا الحدّ، أو تقتصر في وظيفتها على التعريف بها بأنها دلائل إثبات، فقد يكون لها دوافع أخرى غير هذه الدلالة، وهنا تتحوّل الى إعلام ـ بكسر الألف ـ كما يلحظ في بعض روايات وأخبار الأعلام، وإنما هي فيضٌ يصدر عن علمٍ اختصّ به المعصوم، وتكشف عن استجابة الخلق له، وخضوعه لإرادته. ولا يبتغى في خَوْض هذه الدلالة إثبات الإمامة أو الدعوى بمجملها. وتظهر تلك الدلالة واضحة في حديث المعصوم مع بعض خواصّ أصحابه الذين قطعوا بالإمامة والنصّ عليها، فلا حاجة بهم إلى دليلٍ أو إيجازٍ، مثل: أبي بصير والمعلّى بن خنيس، وهما من صحابة أبي عبد الله جعفر بن محمد الصادق×. وتنضاف إلى صنف الإعلام محاسبة أهل القبور على أعمالهم من قِبَل المعصوم؛ للإعلام بحالهم واليقين بصنيعهم في الدنيا، أمام مؤمنٍ بالمعصوم أو جاحدٍ له. ومنها: مشاهدة أصحاب القبور من الصالحين، وكشف النظر لأصحاب الأئمّة؛ لمعرفة حقائق الأمور وأبصار بالناس على حقائقهم([25]). وينبغي أن نشير الى أن أغلبَ روايات الأعلام في كتب القطب الراوندي مرويّةٌ عن كتاب بصائر الدرجات، لمحمد بن الحسن الصفّار المتقدِّم.

ثانياً: نوادر المعجزات: كان يُطْلَق اسم النوادر على كتب الشيعة في عصر الحضور في القرون الثلاثة الأولى من الهجرة، مثلما كان يُطْلَق عليها الأصل أو الكتاب والجامع والمسائل. وتختصّ كتب النوادر منها في الغالب أو تقتصر على بابٍ من أبواب الفقه، كالطهارة والصلاة وما شابه ذلك. وهناك كتابٌ يحمل اسم النوادر، لأحمد بن محمد بن عيسى الأشعري القمّي، من أعلام القرن الثالث الهجري، وكان يُعَدّ شيخ القمّيين في علماء الشيعة ووجههم، وهو منصب علميّ قبل أن يكون اجتماعيّاً. وكتابه هذا يشتمل على أحكام الفقه، دون ذكرٍ للمناقب والفضائل والمعاجز. وجاء في تعريف النوادر: «ما اجتمع فيه أحاديث متفرقة لا تنضبط في بابٍ، لعله ما يمكن جمعه في بابٍ واحد، بأن يكون واحداً أو متعدّداً، لكن يكون قليلاً جدّاً. ومن هذا قولهم في الكتب المتداولة: نوادر الصلاة؛ ونوادر الزكاة؛ وأمثال ذلك. هذا إذا أطلق النوادر على المؤَلّف وإلاّ فالحديث النادر له إطلاقاتٌ أُخَر أيضاً»([26]). واستعمل عليّ بن موسى بن بابويه القمّي(329هـ) لفظ النوادر أو مصطلحه دون أن يكون له المعنى الذي قصدَتْه لاحقاً كتب المعاجز، وجاء في كتابه «الإمامة والتبصرة» وفي «باب النوادر» أحاديث عن أئمّة أهل البيت تدخل في أحاديث فضلهم ومكانتهم عند الله تعالى وصدور العلم والهداية عنهم؛ لأنهم حجّة الله تعالى، ولم تكن في أفعال المعجز والقدرة على خَرْق العادة([27]). وهذا المعنى في النوادر ما ذهب إليه الطبري الآملي الإمامي في كتابه «نوادر المعجزات»، للطبري الآملي الإمامي، فقد جاء في مقدّمته: «فأرسل إليهم رسله صلّى الله عليهم، مبشِّرين ومنذرين، وبعث فيهم حُجَجه والداعين إليه، والناطقين عنه؛ ليبصرهم الرشد، ويعلِّمهم الكتاب والحكمة، ويهديهم إلى الصراط المستقيم. وجعلهم «صلوات الله عليهم» كاملين معصومين، قادرين عالمين بما كان وبما يكون؛ ليقيموا للناس البراهين الساطعة، والدلائل الواضحة؛ وليظهروا القدرة الباهرة، والمعجزة التامة التي تشهد بصدق قولهم: إنه من قِبَل الصانع القديم الأزلي ربّ العالمين»([28])، ثمّ تداولته كتب المعاجز بعد ذلك إلى حدّ التسالم على مصطلحه بعد ذلك. وفي اللغة: «ندر: نَدَرَ الشَّيْءُ يَنْدُرُ نُدُوراً: سَقَطَ، وَقِيلَ: سَقَطَ وَشَذَّ»([29]). والأهمّ في ذلك أن فقهاء الشيعة الإمامية في هذا العصر نظروا إلى أحاديث النوادر في كتب الفقه بأنها ممّا لا يعمل عليها([30])، فدلّ على أن أحاديث النوادر لا حجّة لها كما قالوا، ولكنْ: هل ينساق هذا القول على كتب أو روايات النوادر في المعجزات؟

 ورغم ذلك، فإن أحاديث النوادر هذه تلقَّتها كتب المعاجز بالقبول والصحة، واستغرقَتْ في ذكرها ونقلها، حتى أنها صارت قسماً من أقسام المعجز، على ما رتَّبه الطبري الآملي، وباباً من أبواب كتب المعاجز، على ما رتَّبه القطب الراوندي. وبعضها أحاديث؛ وبعضها حوادث.

والأحاديث منها تتعلَّق بأخبار لا هي من الأعلام بوقائع وأحداث، ولا هي حوادث أو وقائع فيها إعجازٌ مادي بيـِّن للمشاهد والرائي، وإنما تنصرف إلى أخبار بحالٍ وحقيقةٍ موضع الدعوى من نبوّةٍ أو إمامةٍ أو حقٍّ إلهيّ بخصوص المعصوم، مثل: حديث «يا عليّ ما عرف الله إلاّ أنا وأنت؛ وما عرفني إلاّ الله وأنت؛ وما عرفك إلاّ الله وأنا»، وهو حديثٌ منسوبٌ إلى النبيّ محمد|، أو حديث آخر مرويّ عن الإمام عليّ× يقول فيه: «أمرُنا صعبٌ مستصعبٌ لا يحتمله إلاّ نبيٌّ مرسل أو ملك مقرّب، أو مؤمنٌ أمتحن الله قلبه بالإيمان». ويصنِّفه القطب الراوندي في المعجزات ضمن نوادر المعجزات، واصفاً هذا الحديث وأمثاله بأنه من الأحاديث التي تتهافت فيها العقول؛ لكونها من المعضلات([31]).

وتهافت العقول أمام المعنى فيه يؤشِّر عجزاً ذاتياً في الإنسان عن الارتقاء إلى إدراك هذا المعنى، الذي تدور عليه عقيدة رفع المعصوم فوق الخلق، لكن تتدارك هذه العقيدة الغلوّ في التصريح، والتذكير بأنه دون الخالق. وغالباً ما تعبِّر تلك الأحاديث عن عظائم علوم أهل البيت، وعدم قدرة الناس على تحمُّلها. وتنطلق الثقافة الشيعية في تقسيم أصحاب الأئمّة، وخصوصاً أصحاب الإمام عليّ× منهم، على مراتب ودرجات في حمل علومهم ومعرفة أسرارهم، ويتفوَّق سلمان الفارسي في هذا المضمار على أبي ذرّ الغفاري، رغم فضل أبي ذرّ وشرفه في التشيُّع والإسلام. ومن موضوعات هذه النوادر تفوُّق علم آل محمد على علم الأنبياء والرسل، وبالتالي فضلهم عليهم.

 وأما الحوادث في هذه النوادر من المعجزات فهي رواياتُ إحياء الموتى، وهي حوادث تكرَّرَتْ باستمرارٍ مع كلّ الأئمّة أو مع كلّ إمامٍ، مما يؤشّر سمة الوضع في هذه الروايات والأحاديث. وتتحدَّث تلك النوادر عن واقعة الصورة الملائكية لعليٍّ في السماء. وتدخل فيها محادثة أو تحديث الملائكة للأئمّة، ومن هذه النوادر أيضاً أحاديث أو وقائع مسخ اليهود وغيرهم؛ لإعراضهم عن الولاية. وتختزن هذه النوادر روايات لقاء الجنّ، واختلاف الملائكة إلى الأئمّة، وأحاديث الرجعة، وحديث النور، الذي تتأسَّس به المعجزة ثقافةً، والإمامة عقيدةً. وجزء من النوادر المهمة في المعجز هو معرفة منطق الطير([32]).

 وتندرج تلك المحاولات في تصنيفات المعجز روايةً وخبراً، وتقييم أصنافه وأزمنته، ضمن سعي حثيث لتكوين عقيدته، ومحاولة كذلك في إرساء قاعدة في العلم به. وقد شكَّل كتاب المعجز بذاته أثراً حاسماً في تكوين الوَعْي الاجتماعي الإسلامي ورسم خارطته الثقافية منذ القرنين الرابع والخامس الهجريين، وتكاملت هيمنته وسلطته الدينية في القرن السادس الهجري، ويعكس حجم هذه الهيمنة وقوة هذه السلطة عدد المصنَّفات التي تحدّث عنها الشيخ الحسين بن جبير، وهو من علماء هذا العصر، حين صنَّف كتابه المناقب في فضل أهل البيت، فقد ذكر أنه كان يحضره ألف مصنَّف في ذلك([33]).

ب ـ ثقافة كتب المعجزات: «تحوُّلات نحو قاعدة في الدين»

يتناقل التاريخ الديني مفهوم المعجزة وحوادثها بتواترٍ وإيمان، صنع من المعجز ومفهومه في الفكر الديني بديهيّةً مطلقة. ورغم أن المعجز لم يكن يشغل مطلق الدعوة في النبوّة إلاّ أنه هيمن بالمطلق على فكر الدين؛ فقد كان للأنبياء دعواتهم ومنطقهم النبوّي في الدعوة إلى التوحيد والإيمان بالمعاد، وقد تحدَّث القرآن الكريم عن الحكمة التي منحها الله تعالى للأنبياء، وفصل الخطاب الذي جاء به الرسل بواسطة الكتاب والوَحْي، وبه يتأسَّس منطق النبوّة، وحين يعجز وَعْي الإنسان عن استيعاب هذا المنطق تبدو المعجزة ملحّةً في حضور الإيمان وتكوينه. وهكذا ظهرت معجزات الأنبياء، فهي استثناءٌ في قاعدة الحكمة وفصل الخطاب.

 إلاّ أن تشكُّلات المعجز في الفكر الديني أنتجَتْ منه مفهوماً كلِّياً وقاعدة في الإيمان والتصديق ومعاملة الدين، وأثبتَتْ فكرته في كلّ اجتماعٍ وفق منطق الدين السائد فيه، فللأديان أو حتّى للدين الواحد منطقٌ متعدّد ينسجم كلٌّ منه واجتماعه البشري الذي يسعى إلى تأسيسه.

 ومنطق الدين عند الشيعة هو في الإمامة؛ باعتبارها رتبةً إلهيّة بلغَتْ ذَرْوتها في تكريم إبراهيم النبيّ لها، أو ذروة كرامة إبراهيم النبيّ عند الله تعالى كانت بها، في قوله تعالى: ﴿إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً﴾ (البقرة: 12)، وفق التفسير الشيعي للآية وللإمامة([34]) بأنهما واحدٌ. ثم إن التداخل بين الإمامة والقرآن عند الشيعة منح المعجز أحياناً بُعْداً عقائديّاً، فالإمام هو مفسِّر القرآن الكريم بامتيازٍ خاصّ من الله تعالى، وهو الذي يستأثر دون أحدٍ من الخلق بعلوم القرآن الكاشفة عن المراد الأصل فيه، فهو وسلالته تراجم الوَحْي، وخزّان علم الله تعالى، وعنده ترتيب تنزيله، وأسباب نزوله، ومعرفة محكمه ومتشابه، وله تفسيره، وله تأويله، وإدراك حكم ظاهره، وعلم باطنه، الذي يبلغ سبعة بواطن، وعلى روايةٍ: سبعين بطناً، فلكل بطنٍ بطنٌ، في الرواية الشيعية. وأسرار هذا البحر اللامتناهي من الباطن مودَعةٌ عند أئمّة أهل البيت^، فهم حَفَظة القرآن الكريم. والمعنى المتقدِّم عند الشيعة الإمامية هو المراد بالحفظ في قوله تعالى: ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ﴾ (الحجر: 9)([35]). ويضاف إلى ذلك أن سيرة الأئمة^ في عقيدة الشيعة هي تطبيق حرفي أو كلّي للقرآن الكريم وأحكامه، ومطالبة فهم تجسيد لروح القرآن، فهم القرآن الناطق بموازاة القرآن الصامت، فهو صامتٌ بالحرف، والكتاب ناطقٌ بالعلم، والعالم به هو الإمام، المتجسّدة به حقيقة القرآن. وانطبعَتْ الذهنية الشيعية على هذا التداخل بين القرآن الكريم والإمام، الذي طال كلامهم، مثل حياتهم، فهو كلامٌ له ظاهر وباطن وتفسير وتأويل، فلا غرابة أن تشتمل حياتهم الطاهرة على ظاهرة المعجز، بعد أن كانت هذه الظاهرة من خصائص القرآن، وإحدى حُجَجه في الدعوى وتثبيت الصدق به.

 إن الرؤية المناقبية عند الشيعة الإمامية بدأَتْ تتحرّك بقوّةٍ في عصر الغيبة الصغرى في النصف الثاني من القرن الثالث الهجري. وفيه ظهرت كتب المناقب والفضائل، وبخصوصية العنوان فيها([36])، وانتشرَتْ ظاهرة الكتاب المناقبي في القرن الرابع الهجري، وهي تعكس انتشار ثقافة المنقبة أو الثقافة المناقبية في الفكر الديني الشيعي الإمامي، ورغم هَيْمنة الكتب الحديثة والفقهية على منظومة المعرفة الشيعية الإمامية في هذا العصر عند الشيعة الإمامية، الذي يبدأ في الثلث الأخير من الغيبة الصغرى ويمتدّ الى القرنين الرابع والخامس الهجريين، وهو ما تشهد به مؤلَّفات ومصادر الحديث الأربعة التي ظهرت في هذا العصر، ومؤلَّفات الشيخ المفيد(413هـ) الفقهية، وكذلك مؤلَّفات تلامذته الكبار، أمثال: الشريف المرتضى(436هـ) والشيخ الطوسي(460هـ) والشيخ النجاشي (450هـ)، وقبلهم محمد بن عمرو الكشّي(340هـ) ومحمد بن مسعود العياشي(320هـ)، وغيرهم من فقهاء ومحدِّثي الإمامية في هذا العصر.

 وقد شهد هذا العصر أيضاً ظهور الكتاب المناقبي والفضائلي في ظلّ انتشار كتب الحديث الأربعة، والتي كان يستمدّ منها هذا الكتاب مادّته الروائية والحديثية، إضافة إلى مصادره الأخرى في النقل والرواية الشيعية. وقد أنتجت هذه الكتب المناقبية وثقافتها نوعاً آخر من الكتاب، هو كتاب المعجز أو كتب المعجزات؛ فقد وضع الشيخ المفيد كتابه «الزهر في المعجزات».

 ونُسب كتاب «خصائص الأئمّة ومعجزاتهم» إلى الشريف الرضي، وكتاب «عيون المعجزات» إلى مؤلفه حسين بن عبد الوهّاب، وهو من علماء القرن الخامس الهجري، وقد نُسب هذا الكتاب إلى الشريف المرتضى. وقد أشار إلى جملةٍ من هذه الكتب السيد هاشم البحراني(1109هـ)([37])، وهو أهمّ مَنْ كتب في هذا الصنف من الكتب في المعجز من المتأخِّرين من محدِّثي الإمامية. وقبلهم كلّهم كتاب محمد بن جرير الطبري الآملي(411هـ)، وهو «نوادر المعجزات». وتعتبر هذه الكتب في المعجز تاريخياً وثقافياً تطوّراً عن كتب ومصنَّفات المناقب والفضائل، واستفادَتْ من ثقافة العصر في علم الكلام، فقد وضعت أساليب فكرية بدَتْ متطورة عن علم الكلام الإمامي في تبرير هذا الفنّ من الكتابة الدينية، فبالقدر الذي سعى به الكلام الشيعي الإمامي إلى إثبات الإمامة وتثبيتها عقيدةً إلهية ودينية، ومنذ عصر الشيخ المفيد في القرن الرابع الهجري، فإن كتب المعاجز قد رمَتْ إلى تلك الغاية، واهتمَّتْ بتعظيم الإمامة وقدر الإمام عند الله تعالى، الذي تحوَّل؛ نتيجة هذه المنزلة الخاصة جدّاً على مستوى الخلق الكلّي، إلى قدرةٍ أباحَتْ للإمام ومكَّنته من صنع معجزاته؛ من أجل إثبات إمامته، ومعرفة قدره، وتعريف قدرته.

 ويسوق أصحاب كتب المعاجز من المؤلِّفين الأوائل من الحديث والدلائل في مقدّمات كتبهم ما يكشف عن مقاربتهم الكلامية، وإتقانهم صنعة الكلام وطرائق المتكلِّمين من الشيعة الإمامية، في الجَدَل وإفحام الخصم. وهكذا صنع قطب الدين الراوندي(573هـ) في كتابه «الخرائج والجرائح»، والمستنبط أدلّته عن القرآن وسِيَر الأنبياء وروايات الشيعة عن أئمّتهم ودعوى الإجماع فيها. لكنّ المتكلم الشيعي الإمامي من الفقهاء لم يخرج عن دائرة أو فكرة أن الإمام عالمٌ ومعصوم. ويقوم الكلام الشيعي الإمامي على عقيدة الإمامة هذه، ولا يتخطّاها إلى مجالٍ آخر في محاججاته وإلزاماته. وتلك هي تأسيسات المتكلِّم الشيعي هشام بن الحكم(166هـ) وأصحابه من الشيعة الأوائل من المتكلِّمين، وهو مؤسِّس الكلام عند الشيعة، ومؤسِّس عقيدة الإمامة عند خصومهم. إلاّ أن أصحاب كتب المعاجز ومؤسِّسي ثقافة المعجز عند الشيعة خرجوا بالإمام عن دائرة كونه عالماً ومعصوماً إلى كونه قادراً وفاعلاً. وقد قال صاحب المؤلَّف القديم في المعاجز محمد بن جرير الطبري الآملي الإمامي في تبرير المعجز وتوثيقه: «وجعلهم صلوات عليهم كاملين معصومين قادرين عالمين بما كان ويكون…، ولو لم يجعلهم كذلك… أي قادرين عالمين… لم تَبْدُ من أوّلهم وأوسطهم وآخرهم القدرة الباهرة والمعجزة التامّة… والعلوم الكاملة، ما اتبعهم أحد، وما آمن بهم نفرٌ، ولصارت أمور الخلق داعيةً إلى البوار وذهاب الحرث والنسل»([38]).

 وعباراته تلك جاءَتْ في مقدّمة كتابه «نوادر المعجزات»، وهو من مصادر أخبار وروايات المعاجز في كتب هذا الفنّ من المعرفة الدينية. ونشهد في عبارات مقدّمته صنعةً كلامية واضحة، تقوم على مقدّمة وحجّة في الشرع والعقل، وإلزام بالحاصل منها في انطباق الكبرى التي هي الحجّة البالغة على الصغرى في القدرة والمعجز في الإمامة. وهي نتيجةٌ مباشرة للمدرسة الكلامية الشيعية التي ازدهَرَتْ في القرنين الرابع والخامس الهجريين، وتجيء تلك المحاولات للكشف عن قدر الإمام الإلهي وتقدير إمامته من الله تعالى، وهو التقدير الذي سبق في علم الله وإرادته، ومن ثم منحه القدرة والفعل على اجتراح المعجز، وإخراج الكامن من الموهبة اللدنية. وبهذا نفسر أهمية كتاب «الخرائج والجرائح»، ويُعَدّ هذا من الأصول والمصادر الرئيسية في أخبار وروايات المعجز، وقد أخذت عنه الكثير من الروايات والأخبار في كتب المعاجز التالية له، والمهمة في هذا الميدان من شؤون المعرفة الدينية عند الشيعة الإمامية، مثل: كتاب كشف الغمّة، لعلي بن عيسى بن أبي الفتح الإربلي(963هـ)؛ وبحار الأنوار، للشيخ محمد باقر المجلسي(1101هـ)؛ والعوالم، للشيخ عبد الله البحراني(1130هـ)؛ ومدينة المعاجز، للسيد هاشم البحراني(1109هـ). وأخذت كتب العامّة، ومنها: الفصول المهمة، لعليّ بن أحمد بن عبد الله المكّي المالكي، المشهور بابن الصبّاغ(855هـ)؛ وينابيع المودّة، لسليمان بن خواجة إبراهيم قبلان الحسيني الحنفي النقشبندي القندوزي(1294هـ)([39]).

وقد أخذ صاحب «الخرائج والجرائح» رواياته وأحاديث كتابه، ولا سيَّما في نوادر المعجزات، عن كتاب «البصائر»، للأشعري، و«بصائر الدرجات»، للصفّار، وفق تقسيمه لهما. وقد وصفهما القطب الراوندي بأنهما لم يكونا غاليين أو قاليين([40]). ولعلّ القطب الراوندي هو أوّل مَنْ صنَّف أخبار المعاجز والدلالات فيها على أنها فنّ مستقلّ من العلوم والمعارف الدينية، فهو يقول: «وقد كنت جمعتُ خمس مختصرات تتعلّق بهذا الفنّ من العلوم، فأضفْتُها إلى هذا الكتاب»([41])، ويعني به كتاب الخرائج والجرائح، وتم ّعلى يدَيْه تمييز هذا الفنّ بمعايير خاصّة، وأحكام تستوثق استقلاليّته. فهو ينقسم في موضوعه إلى ثلاثة فروع في الإعجاز: أوّلها: الأعلام؛ وثانيها: نوادر المعجزات؛ والثالث فيها هو تقييم علم الإمام. وبعض أرباب هذا الفنّ أدخلها ضمن موضوعة النوادر. وبهذا يشهد كتاب هذا الفنّ تطوّراً ملحوظاً وتمييزاً له عن كتب المناقب العامّة، التي غابَتْ في الكثير منها قضايا وأخبار وإعجاز والخارق للعادة باستثناء ما تعلَّق منها بالنبيّ محمد|، وكذلك كتب الأصول الأربعمائة عند الشيعة التي اشتملَتْ فيها الأخبار على العلم الشرعي وأحكام الفقه وعلم الإمام اللدني ومعرفته بأسرار الخلق وبكلّ أمرٍ ولسان وغيب، لكنها خلَتْ في الغالب منها من حوادث أو معاجز القدرة والخارق للعادة في الحدث، فقد دارَتْ أو انبعثَتْ عن فكرة أو عقيدة أن الإمام عالمٌ علماً لدنيّاً كلِّياً، فالقرآن الكريم الذي علمه الكلّي عند الإمام فيه علمُ وخبرُ كلّ شيءٍ، ولم يغِبْ عنه حتّى الأرش، وفق النظرية الإمامية في الإمام المعصوم.

   وقد ابتدأ هذا الفنّ في تأسيس ثقافته بتعريف المعجز بعد أن تجمَّعت لديه الروايات والأخبار على مرّ عقودٍ من الزمان. واستظهر التعريف به على أيدي بعض أربابه بأنه «ما له حظّ من الدلالة على صدق مَنْ ظهر على يده»([42]). وهو ما ذهب إليه القطب الراوندي في الخرائج والجرائح وعرَّف المعجز به.

 وحتّى يتميَّز المعجز عن غيره من ادعاءات الخرق للعادة وضع أرباب مؤلَّفاته والمعتنين بجمع أخباره من رجال الشيعة شروطاً مستنبطة من وقائعه والدلالات الحافّة بحوادثه، وهي دلالات ذات معنى ديني ومغزى ثقافي ـ اجتماعي، يستبطن دَحْض حجّة الخصم السياسي وادّعاءات شرعيّته بعجزه عن تلك القدرة الممنوحة للإمام الحقّ.

 وأهمّ شروطه أو أحكامه في مستوىً من التنظير أو التعقيد له:

1ـ أن يُعجز عن فعله،

2ـ أن يكون من فعل الله تعالى،

3ـ أن يكون ناقضاً للعادة،

4ـ أن يحدث عقيب دعوى المدَّعي،

5ـ أن يكون في زمن التكليف([43]).

 ونعثر على مثل هذا التأصيل أيضاً في المعجز وتطوير مفهومه في الثقافة الشيعية في كتاب آخر في هذا العصر، وهو كتاب «الثاقب في المناقب»، لأبي حمزة عماد الدين الطوسي، من علماء القرن السادس الهجري، وقد ضمَّنها مقدّمته في هذا الكتاب، ويقول في ذلك: «وللمعجز أحكام لا بُدَّ من معرفتها:

أحدها: أن يكون من فعل الله تعالى.

وثانيها: أن يكون خارقاً للعادة.

وثالثها: أن يكون متعذِّراً مثله على الخلق في الجنس، مثل: إحياء الموتى، أو في الصفة، نحو: القرآن، وانشقاق القمر.

ورابعها: أن يكون موافقاً لدعوى المدَّعي»([44]).

 ولم يشترط فيها أن يكون المعجز عقيب الدعوى، وإنما أمكن منه قبل الدعوى؛ لغرض تعظيم صاحب المعجز في عيون الناس، حتّى تتهيّأ النفوس لقبول دعواه، كما حدث من الآيات والمعاجز مع النبيّ محمد| قبل البعثة ونزول القرآن، وكذلك مع الأئمّة قبل أن يَلُوا منصب الإمامة. وكذلك لم يشترط في المعجزة والكرامة دعوى النبوة؛ حتّى ينفتح الباب أمام دعوى الإمامة، وهي من سنخ النبوّة عند الشيعة الإمامية، ما خلا الوَحْي، وأمكن الأولياء والصالحين من المعجز وتفسيره اقتضاء مصلحة ومنفعة دين، وليس إثبات إحدى الدعوتين، وضرورتها في النبوة والإمامة والإصلاح إنما للدلالة على صدق المدَّعي فحَسْب، وفق قوله([45]).

 ونستطيع أن نستشفّ إرهاصات ثقافة شيعية في المعجز بدَتْ حاسمةً في القرن السادس الهجري، وبها تحوَّل الإمام الشيعي من عالمٍ في أكبر منقبة دينية اختصّها الله تعالى به إلى قادرٍ على إحداث ما يُعْجِز كلّ أحدٍ سواه عنه، ولذا بدَتْ المعجزة تتحدَّث عن فعلٍ خارق، وتمّ التنظير والتأسيس لها في هذا العصر من القرن السادس الهجري، بعد أن كانت المنقبة تدور حول علم الإمام ولدنية وكلّية هذا العلم، في كتب المناقب في العصور السابقة على هذا القرن.

وأما كتاب «مختصر بصائر الدرجات»، الذي وضعه الحسن بن سلمان الحلّي، من علماء القرن الثامن الهجري، فيكشف عن مداراته في المناقب والفضائل دون بدوٍ ظاهر في المعجز بما هو فعل يقصد إعجاز الآخر، وإثبات حقّ في الإمامة، أو في شأن غير الإمامة، بل هو تصريحٌ بما اختصّ الله تعالى به آل محمد والأئمّة المعصومين، في تبريرٍ ضمني وتلميحٍ عقائدي إلى فرض إمامتهم من الله تعالى، وفرض طاعتهم بعد صدورهم في العلم والدين عن روح القُدُس، الذي تزخر به روايات كتاب البصائر، وتقرنه بليلة القدر، وهي الموعد السنوي والزمن الديني في تزويد أئمّة أهل البيت بكلّ علمٍ وخبرٍ في السماء والأرض، على ما تظهره تلك الروايات([46]).

 وغاية القول: إن المعجز في عقيدته الاصطلاحية لم يظهر وبوضوحٍ يحتجّ به في روايات وصفحات كتاب البصائر، للصفّار وللأشعري القمّي، واعتماداً على مختصره للحلّي، وإنما هي مناقب وفضائل روَتْها كتب الشيعة القديمة في الأصول الأربعمائة، واعتمدتها كتب البصائر هذه.

ونحا محمد بن سلمان الكوفي منحىً آخر في كتابه مناقب أمير المؤمنين، وهو من رجال النصف الثاني من القرن الثالث الهجري، وامتدّ به العمر الى النصف الأول من القرن الرابع الهجري، على خلافٍ في مولده ووفاته. وبهذا فهو معاصرٌ للشيخين الصفّار والأشعري القمّي، صاحبَيْ البصائر، ويختلف عنهما في مذهبه ونشأته، فهو زيديٌّ عاش في الكوفة، وانتقل إلى اليمن بعد خروجه مع عليّ بن زيد الزيدي في خلافة المهتدي العباسي سنة 255هـ.

ويبدأ كتابه بذكر مناقب ومعاجز تخصّ النبيّ محمد|، وتدخل في دلائل النبوة، وقد ذكرَتْها مصادر السِّيَر وكتب الحديث، ثمّ يشرع في ذكر مناقب عليٍّ وآل بيته، ولا يعدو فيها ما ورد في السنّة النبوية من أخبار وأحاديث تنطق بفضلهم وتبيان منزلتهم عند الله تعالى. وهو منحى كتابه وغايته، مبتغياً بها إثبات الولاية والوصية لعليّ بن أبي طالب. ويضيف إلى تلك المناقب بعضاً من الكرامات التي اختصّ الله تعالى بها عليّاً، مثل: نزول آنية ماءٍ يتوضّأ بها من السماء، أو إخباره ببعض المغيَّبات، لكنها بعلمٍ من رسول الله، مثل: إخباره بواقعة الطفّ وما يجري على الحسين. لكنّه علمٌ لا يصل في عقيدته الزيدية إلى مراتب اللدنية أو علم كلّ شيء عن كلّ شيء، مثلما هو عند الإمامية. ولا تقارب الكرامة عنده من الفعل الخارق للعادة، والذي ألفته مصادر وكتب المعاجز عند الشيعة في عصور لاحقة. لكنه مع هذا ينطق في كتابه بخصوصيّةٍ واضحة للإمام مفترض الطاعة عنده، حَسْب روايته عن زيد بن عليّ بن الحسين([47]).

   لكننا نشهد تطوّراً ملحوظاً سابقاً لأوانه في كتاب «الهداية الكبرى»، للحسين بن حمدان الخصيبي الجنبلائي(358هـ). ومحوره عجائبية صادرة عن أئمّة أهل البيت تبلغ قدرة الفعل المباشر، وصورته الغالية تتوخّى تحقيق إعجازٍ يقترن بدعوى، وهو ارتفاعٌ في أحوال الإمام كشفَتْ عنه فكرة «المرتفعة»، التي كان يطلقها علماء وفقهاء الإمامية على الغلاة في عصر الغيبة الصغرى. فقد تحوَّل رأس إنسانٍ إلى كلب بدعوة عليٍّ، وضرب صدر معاوية برجله ومعاوية في الشام وعليٌّ في مسجد الكوفة، وأعاد عليٌّ سَلْباً ليهوديٍّ أخذَتْه منه الجنّ في الصحراء، وكشف لقومٍ من أصحابه عن مشهد يوم القيامة. وقد عبَّر علي عن هذه الحوادث ومثلها بأنها من عجائبه، التي لا يحتملها إلاّ ملك مقرّب أو نبيّ مرسل أو مؤمنٌ امتحن الله قلبه بالإيمان، وفق ما ساقه المؤلِّف في هذا الكتاب.

 ومنطق العجائب في هذا الكتاب يدور حول المعنى في هذا الحديث الذي ترويه كتب الشيعة عن الإمام عليّ، وفيه يقول: «أمرنا صعبٌ مستصعبٌ، لا يحتمله إلا ملك مقرّب أو نبيّ مرسل أو مؤمنٌ امتحن الله قلبه بالإيمان»، وهو الحديث الذي تأسَّسَتْ ورُويَتْ عليه الكثير من الكرامات والمعاجز في الروايات والأخبار.

 وفي عجائبية أو عجائبيات كتاب الهداية الكبرى تأسَّسَتْ بدايات عقيدةٍ في القدرة على الفعل المعجز، وتنمو من خلال رواياته وأسانيدها التي تنتهي إلى أئمّة أهل البيت، وخصوصاً الباقرين أو الصادقين، وهما: محمد بن علي الباقر وجعفر بن محمد الصادق’. وفيه حديثٌ عن قدرة الله تعالى وهي تنتقل إلى جعفر بن محمد الصادق في رواية الديصاني([48]). لكنه لم يستخدم كلمة المعجز أو لفظه ممّا يكشف عن غياب تنظير ٍعقائدي له بدلالة غياب اصطلاحه. أما المعنى الذي يتوخّى من المعجز فهو مبثوثٌ في رواية الكتاب ونقل أخباره، ونشهد في هذا الحضور المقصود دينياً للعجائبية انشدادها للهداية، وتكمن دلالتها الدينية في الهداية بعد أن نستبين بالحفر في وَعْي الدين هذا الانشداد، أو انبعاث الرشد إلى الهداية عن العجائبية، حين قالت الجنّ ﴿قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآناً عَجَباً﴾      (الجنّ: 1).

 هذه العجائبيات في أفعال الإمام تصدر عند الخصيبي وأصحابه عن عقيدة المرتفعة أو الطيّارة، وتفويض الخلق والأمر إلى آل محمد. وقد أطلق الإمامية عليه وعلى أصحابه في القرن الرابع الهجري اسم المفوِّضة، وأطلقوا هم بالمقابل على علماء الإماميّة الذين استنكروا هذا القول اسم المقصِّرة. وقد دفع الخصيبي عن نفسه تهمة المرتفعة([49]). وتنحو عقيدة الخصيبي وأصحابه منحىً غالياً في أئمّة أهل البيت، دعَتْ علماء القرن الرابع الهجري من الإمامية إلى ذمِّه وذمّ مذهبه، واعتباره فاسد المذهب، وله كتبٌ فيها تخليط، على ما ذهب إليه أحمد بن العباس النجاشي، وهو كذّابٌ وصاحبُ مقالةٍ ملعونة، عند أحمد بن الحسين بن عبد الله الغضائري([50])، وهما من أشهر علماء الرجال من المتقدِّمين عند الشيعة الإمامية.

 

خلاصةٌ في «نشأة ثقافة المعجز عند الشيعة الإماميّة»

كان القرن الرابع الهجري يشفّ عن هذا المعنى في المناقبية والفضيلة، لكننا نشهد في القرنين الخامس والسادس الهجريين ثقافةً شيعية في المعجز بدَتْ حاسمةً في تكوين الذهنية الشيعية العامّة، وعلى وجه الخصوص منها الذهنيّة العامّية. وكان الأهمّ في تلك المصادر في ثقافة المعجز عند الشيعة الإمامية قد ظهر في هذا العصر، وهو كتاب «الخرائج والجرائح»، لقطب الدين الراوندي(573هـ).

 وتطوّرت محاور الكتابة في المعجز في هذا العصر عن مثيلاتها في كتب المناقب، وأكثر عن كتب الحديث، وابتعدَتْ عن الاهتمام بالحديث عن العلم كأولويّةٍ في عقيدة الإمامة؛ باعتباره هداية الإمامة في الأنام، وعن النور واشتقاقه من نور الأَزَل بعد تنقُّله في أصلاب النبوّة الشامخة، ومن ثم أصلاب الإمامة الباهرة، ولم يَعُدْ الحديث عن أدلة الكلام وحُجَج المتكلِّمين الإماميين ذا أهمِّية في كتب المعاجز والكرامات، بعد أن أغنَتْ المعجزة والكرامة عن دليل العقل الكلامي، وأخذَتْ ثقافة الإعجاز والكرامة وانحصار الحقّ فيها، وأعني حقّ ودليل الإمامة، في التسرُّب إلى المجتمع الشيعيّ بقوّةٍ. وقد جاء كتاب عيون المعجزات، للشيخ حسين بن عبد الوهّاب([51])، من علماء القرن الخامس الهجري، وفق هذا المنحى، وعلى غرار هذا المعنى. ونشهد فيه غياب حديث النور والعلم، وافتقاده دليل الكلام، وحضور المعجزة المتعلِّقة بالقدرة الخارقة للعادة في رواياته. ويكشف الشيخ حسين بن عبد الوهّاب عن ثقافة عصره في الاهتمام بالمعجز، وهيمنة المعرفة به وثقافته على الوَعْي الاجتماعي في هذا العصر؛ فقد أراد المؤلِّف أن يكون كتابه على غرار كتاب «بصائر الدرجات في تنزيه النبوات»، وهو يخصّ معاجز الأنبياء، فأراد المؤلِّف أن يتمّه بمعاجز النبيّ وأهل بيته خصوصاً، وأنه وجد كتاباً آخر للشريف أبو القاسم بعنوان: «تثبيت المعجزات»، وأراد له أن يكون في معاجز الأنبياء وآل بيت النبيّ، لكنه لم يَفِ بما وعد في الكتاب، فجاء ناقصاً عن معاجز آل النبيّ^، فشرع صاحب «عيون المعجزات» في تأليف كتابه هذا؛ ليكون تتمّةً مباشرة لكتاب «تثبيت المعجزات»([52]). واللافت في ظروف صدور هذا الكتاب هو استشعار الحاجة إلى التأليف على غرارها أو إتمامها، كما يستشفّ من كلام صاحب الرياض في ترجمة الشيخ حسين بن عبد الوهّاب. وهو يعكس تسالم هذا العصر على هذه التأليفات والتصنيف فيها. واستشعار الحاجة هذه ناتجٌ عن سلطةٍ تمارسها المعرفة في موضوع المعجز على العقول والنفوس بآنٍ واحد.

 وللشيخ أبي الحسن محمد بن أحمد بن عليّ بن الحسن القمّي، المعروف بابن شاذان، وهو أيضاً من أعلام القرن الخامس الهجري، كتاب «مئة منقبة»، ذكر فيها عدداً من مناقب أهل البيت، بلغَتْ مئة منقبة من طرق العامّة. وفي الثقافة المناقبية تبدو مهمّة لغة الأعداد، فهي بذاتها منقبةٌ تزداد كلما زاد العدد فيها. وتحولت إلى تقليد في كتابة المعجز، فقد أثبَتَ المحدِّث الحُرّ العاملي في إثبات الهداة 720 معجزةً للنبيّ و1907 معجزات للأئمّة الاثني عشر. وللشيخ ابن شاذان هذا كتاب «الفضائل»، الذي وصف بأنه ممحّصٌ في المناقب، وهو غير كتاب الفضائل، لأبي الفضل سديد الدين بن جبرائيل بن إسماعيل القمّي، نزيل المدينة المنورة، والمتوفَّى سنة 660هـ، وله كتاب «ردّ الشمس على أمير المؤمنين»، وكتاب «بستان الكرام»، وكتاب «المناقب»، وهو غير كتاب مائة منقبة. وقد اعتمدت كتب المناقب التي أُلِّفت بعد عصره على كتابه «مائة منقبة»، مثل: كتاب «المناقب»، لأبي المؤيَّد الموفق بن أحمد الخوارزمي(528هـ)، وكتاب «فرائد السمطين»، للمحدِّث إبراهيم بن محمد بن المؤيد الحمويني الخراساني(730هـ)، نقلاً عن أبي المؤيد الخوارزمي، وهم من علماء السنّة، وكذلك نقل عنه علماء الشيعة، مثل: أبو الفتح محمد بن عليّ بن عثمان الكراجكي، والسيد رضي الدين الطوسي في كتابه «اليقين في إمرة أمير المؤمنين»([53]).

 وتحدَّث أبو المجد الحلبي، وهو من علماء القرنين الرابع والخامس الهجريين، في كتابه «إشارة السبق»، وهو كتابٌ في الفقه، عن المعجز ودلالته في إثبات الإمامة ومطابقته الدعوى فيها، وذلك راجعٌ إلى صدق دعواهم في الإمامة، حَسْب ما يقرِّره الحلبي، وهي عنده من جملة ما اختصّ به أئمّة أهل البيت، إضافة إلى آياتٍ في القرآن وأحاديث مخصوصة بهم. ويعتبر تلك المعاجز في الرواية والنقل حكمها حكم النصوص فيهم([54]). وهنا نشهد تضمين دلائل الإمامة عند الشيعة دليلاً من نوعٍ آخر غير النصّ، لكن حكمه حكم النصّ في عقيدة الإمامة، وهو تطوُّرٌ جديد في نظرية الإمامة عند الشيعة، ظهر بعد التطوُّر الكلامي الشيعي الإمامي في القرنين الرابع والخامس الهجريين، واشتمال حكم النصّ على المعجز في وثوقه الديني، ووثوق الاعتقاد به، يعكس تحوُّل المعجز نحو قاعدةٍ في الدين، وركيزةٍ اجتماعية في الحياة الدينية.

 وتكشف ملاحظة الشيخ أبو عبد الله الحسين بن جبير، من أعلام القرن السادس الهجري، عن هيمنة وسعة انتشار هذه الثقافة في عصره، حين يتحدَّث عن ألف مصنَّف في المناقب والمعاجز قد اطَّلع عليها، ولعلّه طالع الكثير منها عند شروعه في تأليف كتابه «منتخب المناقب في فضائل أهل البيت»([55]).

 وبذلك تشكّل ثقافة هذا العصر في القرنين الخامس والسادس الهجريين، والمعرفة الدينية السائدة فيه، مصدراً رئيساً في ترويج رواية المعجز وخبره، وتزويد الوَعْي الاجتماعي بثقافته. واستحكمت وجهته نحو اللامعقول، بعد تجاوزه استثناء المعجز في الدين، وتحوُّله إلى قاعدةٍ في الدين. وقد تمّ ذلك بمروره من خلال الحاجة النفسية والاستجابة لها في الدين، واعتماده الروح الشيعية المؤمنة بكلِّية الإمامة، وقدرة الإمام، التي تتجلّى فيها قدرة الله تعالى، بغير تجسُّدٍ أو حلولٍ أو اتحادٍ، في منظور العقيدة الشيعية الإمامية.

الهوامش

(*) باحثٌ وكاتبٌ في الحداثة والتراث. من العراق.

([1]) السيد مرتضى العسكري، معالم المدرستين 3: 20، دار كميل ـ البحرين، ط4، 1412هـ.

([2]) الشيخ محمد محسن آغا بزرگ الطهراني، الذريعة الى تصانيف الشيعة 2: 126، مطبعة الغري، النجف الأشرف، 1355هـ.

([3]) الطهراني، الذريعة الى تصانيف الشيعة 2: 129.

([4]) الميرزا محمد باقر الموسوي الخوانساري، روضات الجنات في أحوال العلماء والسادات 6: 113، تحقيق: أسد الله إسماعيليان، دار المعرفة، بيروت ـ لبنان.

([5]) المصدر السابق: 6: 116.

([6]) العسكري، معالم المدرستين 3: 350.

([7]) هنا نستشهد بحادثة إبراهيم في حادثة الطيور الأربعة، ورغبته في الاطمئنان، حيث خاطبه الله تعالى: ﴿أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي﴾ (البقرة،260).

([8]) السيد أبو القاسم الخوئي، معجم رجال الحديث 15: 277، مطبعة الآداب، النجف الأشرف، ط1.

([9]) المصدر السابق 15: 277.

([10]) الشيخ محمد تقي المجلسي، روضة المتقين في شرح مَنْ لا يحضره الفقيه 14: 240، مؤسّسه فرهنگي إسلامي، قم‌.

([11]) الميرزا عبدالله الأفندي، رياض العلماء وحياض الفضلاء 2: 126، منشورات مكتبة المرعشي النجفي، قم، 1403هــ

([12]) أبو جعفر محمد بن الحسن بن فرّوخ الصفّار، بصائر الدرجات الكبرى في فضائل آل محمد 2: 228 ـ 231، تحقيق: محمد السيد حسين المعلم، المكتبة الحيدرية، ط1، 1326هـ.

([13]) أبو الحسين سعيد بن عبد الله القطب الراوندي، الخرائج والجرائح 3: 973 ـ 1040، تحقيق: مؤسسة الإمام المهدي ـ قم، دار الكتاب الإسلامي، بيروت ـ لبنان، ط1، 1409هـ.

([14]) المصدر السابق 2: 1039.

([15]) محمد بن النعمان المفيد، أوائل المقالات: 68 ـ 69، تحقيق: الشيخ إبراهيم الأنصاري، دار المفيد، بيروت ـ لبنان، ط2، 1414هـ ـ 1933م.

([16]) الراوندي، الخرائج والجرائح 3: 1040.

([17]) المصدر السابق 3: 22 ـ 23.

([18]) المصدر السابق 3: 974 ـ 975.

([19]) المصدر السابق 3: 974 ـ 975.

([20]) المصدر السابق 3: 976.

([21]) المصدر السابق 3: 971.

([22]) محمد بن جرير بن رستم الطبري الإمامي، نوادر المعجزات في مناقب الأئمّة الهداة: 10، تحقيق ونشر: مؤسّسة الإمام المهدي، قم، ط1، 1410هـ‍.

([23]) هامش الخرائج 2: 490، هناك كتاب للشيخ الصدوق(381هـ) بعنوان: (أعلام النبوة).

([24]) هناك كتاب لمحمد بن جرير الطبري الآملي الإمامي، من أعلام القرن الرابع الهجري، بعنوان: (دلائل الإمامة).

([25]) راجع: الخرائج، ج2، الباب الرابع عشر.

([26]) المولى أحمد النراقي، عوائد الأيام 1: 211، مكتبة بصيرتي، قم، ط3، 1408هـ.

([27]) أبو الحسن علي بن الحسين بن بابويه القمّي، الإمامة والتبصرة من الحيرة: 92، تحقيق ونشر: مدرسة الإمام المهدي، قم، ط1، 1404ه‍.

([28]) الطبري الإمامي، نوادر المعجزات في مناقب الأئمة الهداة: 9.

([29]) ابن منظور، لسان العرب 14: 90، ضبط: علي شيري، دار إحياء التراث العربي، ط1، 1408هـ ـ 1988م.

([30]) الشيخ محمد بن محمد بن النعمان المفيد، جوابات أهل الموصل في العدد والرؤية: 19، تحقيق: الشيخ مهدي نجف، المؤتمر العالمي لألفية الشيخ المفيد ـ مؤسسة آل البيت^ لإحياء التراث، ط1، 1413هـ.

([31]) الراوندي، الخرائج والجرائح 2: 792.

([32]) المصدر السابق 2: 812.

([33]) السيد هاشم البحراني، مدينة المعاجز 1: 7، تحقيق: علاء الدين الأعلمي، مؤسّسة الأعلمي، بيروت ـ لبنان، ط1، 1423هـ ـ 2002م.

([34]) في الكافي عن الصادق×: إن الله عزَّ وجلَّ اتَّخذ إبراهيم عبداً قبل أن يتَّخذه نبياً، وإن الله اتَّخذه نبيّاً قبل أن يتَّخذه رسولاً، وإن الله اتَّخذه رسولاً قبل أن يتَّخذه خليلاً، وإن الله اتَّخذه خليلاً قبل أن يتَّخذه إماماً، فلما جمع له الأشياء قال: ﴿إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً﴾. (السيد محمد حسين الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن 1: 276).

([35]) في المناقب، لابن شهرآشوب، قال الحارث: سألتُ أمير المؤمنين× عن هذه؟ قال: والله إنا لنحن أهل الذكر، نحن أهل العلم، نحن معدن التأويل والتنـزيل. (الشيخ عبد علي بن جمعة الحويزي، تفسير نور الثقلين 3: 4).

([36]) كتاب بصائر الدرجات، لمحمد بن الحسن الصفّار(290هـ)؛ كتاب بصائر الدرجات، لعبد الله بن سعد الأشعري القمّي(299هـ)؛ كتاب مناقب أمير المؤمنين، لمحمد بن سليمان الكوفي(300هـ)، ولكن هذا الكتاب الأخير لا نجد فيه تلك المعاجز التي نجدها في كتاب البصائر أو الكتب التي وُضعَتْ بعده في المعجز، وأغلب أخباره في المناقب الدينية والفضائل الإلهية التي اختصّ بها أمير المؤمنين×.

([37]) البحراني، مدينة المعاجز 1: 13.

([38]) الطبري الإمامي، نوادر المعجزات في مناقب الأئمة الهداة: 9.

([39]) الراوندي، الخرائج والجرائح 1: 11 (مقدّمة التحقيق).

([40]) المصدر السابق 2: 792.

([41]) المصدر السابق 2: 791

([42]) المصدر السابق 1: 19.

([43]) المصدر السابق 3: 975.

([44]) عماد الدين محمّد بن علي الطوسي، الثاقب في المناقب 1: 40، تحقيق: الشيخ نبيل رضا علوان، مؤسسة أنصاريان للطباعة والنشرـ

([45]) المصدر نفسه.

([46]) الشيخ حسن بن سليمان الحلّي، مختصر بصائر الدرجات، المطبعة الحيدرية، النجف الأشرف، ط1، 1370هـ.

([47]) راجع: الحافظ محمد بن سليمان الكوفي القاضي، مناقب الامام أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب×، تحقيق: الشيخ محمد باقر المحمودي، مجمع إحياء الثقافة الإسلامية ـ قم، ط1، 1412هـ.

([48]) راجع: أبو عبد الله الحسين بن حمدان الخصيبي، الهداية الكبرى، تحقيق: الشيخ مصطفى صبحي الخضر، شركة الأعلمي للمطبوعات، بيروت ـ لبنان، ط1، 1422هـ ـ 2011م؛ ورواية الديصاني: 309 ـ 310؛ وحديث القدرة: 521.

([49]) الخصيبي، الهداية الكبرى: 520.

([50]) الخوئي، معجم رجال الحديث 5: 228، وفيه: قال النجاشي: «الحسين بن حمدان الخصيبي (الحصيني) الجنبلائي، أبو عبد الله، كان فاسد المذهب، له كتب، منها: كتاب الإخوان، كتاب المسائل، كتاب تاريخ الأئمّة، كتاب الرسالة تخليط». وقال ابن الغضائري: «كذّابٌ فاسد المذهب، صاحبُ مقالةٍ ملعونة، لا يلتفت إليه».

([51]) راجع: الشيخ حسين بن عبد الوهّاب، عيون المعجزات، المطبعة الحيدرية، كتب المقدّمة له: محمد علي الأوردبادي. وقد وردت له تسمياتٌ أخرى في رياض العلماء 2: 124، أعرَضْنا عن ذكرها.

([52]) رياض العلماء 2: 125.

([53]) الشيخ أبي الحسن محمد بن علي بن أحمد القمي (المعروف بابن شاذان)، مائة منقبة من مناقب أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب والأئمة من ولده عن طريق العامّة 1: 16 (مقدمة التحقيق)، تحقيق: مدرسة الإمام المهدي.

([54]) أبو الحسن عليّ بن الحسن بن أبي المجد الحلبي، إشارة السبق 1: 63، تحقيق: إبراهيم بهادري، مؤسّسة النشر الإسلامي، ط1.

([55]) البحراني، مدينة المعاجز 1: 7.

Facebook
Twitter
Telegram
Print
Email

اترك تعليقاً