أحدث المقالات

في وداع.. فقيه العصر ومنبع الفكر

بقلم: محمد طاهر الحسيني

في مطلع شهر تموز المنصرم ودّع العالم العربي والإسلامي في بيروت السيد محمد حسين فضل الله إلى مثواه الأخير، حيث دفن إلى جانب قاعة (الزهراء) في جانب من جوانب (جامع الحسنين)، حيث كان يُلقي مواعظه وخطبه، ويدلي بآرائه ومواقفه..

لقد ودّع العالم العربي والإسلامي مرجعاً فقهياً كبيراً، ومفكراً إسلامياً رائداً، ومصلحاً اجتماعياً، وقائداً سياسياً بصيراً قلّما نجد له نظيراً بين أقرانه، فكان آخر العظماء دونما مبالغة أو تحيّز.

وبرحيل السيد محمد حسين فضل الله يخسر العالم العربي والإسلامي شخصية رائدة وحيّة وفاعلة في الأوساط العلمية الدينية والثقافية والسياسية والاجتماعية، في وقتٍ لا يبدو ثمة أمل في ملء هذا الفراغ الذي تركه، من حيث تنوّع الأدوار وتعدّد الأبعاد التي اتسمت به شخصيته.

لسنا بصدد سرد مناقب السيد محمد حسين فضل الله على كثرتها، بقدر ما نحن بصدد تلمُّس أبعاد شخصيته التي فقدناها في زمن العتمة، فإنّ ثمة علامات فارقة لهذه الشخصية كانت سرَّ نجاحه، وشكلّت مدخلاً لتألقه في الزمن الصعب.

كانت أولى هذه العلامات نجاحه الباهر في إيجاد ما أمكنه من المحافظة على مبادئه وقيمه وأفكاره ورؤاه الإسلامية من جهة، والانفتاح على التيارات الدينية والفكرية الأخرى من جهة أخرى، وذلك بما تحلّى به من روحٍ متسامحة، وتشرّبه بقيم أخلاقية سامية، كانت مثار إعجابٍ لدى معتنقي هذه التيارات قبل غيرهم، مما أسهم في استقطاب الآخر، في وقتٍ لم يجامل فيه على حساب ما يعتقد أو يؤمن به، في عملية شاقة وعسيرة لم يوفق لها إلاّ عدد يسير جداً، إذ تخسر في غالب الأحوال شخصيات مهمة وكبيرة في جانبٍ على حساب جانب آخر، فتقودهم التزاماتهم إلى التشدد أو تدعوهم تنازلاتهم إلى الابتذال، فيخسرون الكثير من أرصدتهم الدينية أو الاجتماعية أو السياسية.. أما السيد محمد حسين فضل الله فقد يكون الأكثر حظاً بين أقرانه في التوفر على رسم فواصل دقيقة بين المجاملة والانفتاح، وبين الاحتفاظ بأصالته.

ويترشح من هذه الخصيصة قدرته على اتخاذ مواقف عقلانية في ظل الزمن المجنون، إن صحّ مثل هذا التعبير، فاستطاع أن يكون راعياً للمقاومة والجهاد دون أن يسمح بالانفلات والتعدي على حقوق الإنسان وكرامته كما يشيع اليوم في العالم الإسلامي، مما شكّل علامة فارقة أخرى في منهجه تميّزه عن غيره من العاملين في هذا المجال. وقد يكون من المستحسن التذكير برأيه في الربع الأول من الثمانينات وهو يُلاحظ على بعض الإسلاميين تأثرهم بالمنهج الماركسي في ممارسة العنف، فكان أن أثبتت الأيام – فيما بعد – تفوّق الإسلاميين هؤلاء على غيرهم في اللجوء إلى العنف والعبث بمقدرات الناس. ولعلّ في مراجعة نصوصه وأدبياته في نقد الحركة الإسلامية – وهو سيّد هذه الحركة – ما يدلّل على قدرته الفائقة في خلق التوازن في الزمن الصعب، وهو ما كان يدعو إليه ويحض أبناء الحركة الإسلامية على الالتزام به، محذّراً من الانغلاق أو الانفلات، ومن التحجّر أو التسيّب، داعياً إلى واقعيةٍ عقلانية من غير استسلام أو انبطاح.

وكان ثاني العلامات الفارقة في شخصيته مصداقيته، وربما هي أغلى ما عنده، حافظ بها على مواقفه وثوابته من دون أن يسمح للانفعال أن يأخذ مداه، وهو الذي اجتمعت على حربه أطراف معروفة، بعضها يُصنَّف على الأقربين فضلاً عن الأبعدين، فكان أنْ احتفظ لهم من باب المثل العربي المعروف (كن أم الولد) بالنصيحة والتأييد، متعالياً على جراحه وأحساسيه، مما وفّر لأنصاره كما لغيرهم عالماً هادئاً – إلى حدٍ ما – وبعيداً عن مظاهر الاحتراب التي تروّج لها دوائر أجنبية، دولية وإقليمية.

مصداقيته هذه أكسبته احتراماً كبيراً، في زمنٍ سادت فيه مظاهر الانتهازية، وطغت على سلوك النخب القائدة والفاعلة في المجتمع النفعية والتذبذب، بما أفقدها التأثير في قواعدها وأنصارها، وأورث هذه المجتمعات ركوداً ملحوظاً، وأسهم في إشاعة روح اللامبالاة وعدم الاهتمام بالقضايا المصيرية.

وثمة علامة فارقة في شخصية السيد محمد حسين فضل الله ميزّته عن أقرانه أيضاً، وهي قدرته على التخطيط في عالم لم يألف ذلك، وقد دأب على ذلك في عدة اتجاهات من حياته، وفي دوائر مختلفة من اهتماماته، لعلّ في مقدمها اهتمامه البالغ بالعمل الاجتماعي، والذي بناه لبنة لبنة، وبجهودٍ فردية متواضعة في بداية هذا النشاط، فكان أنْ ترك (جمعية المبرّات الخيرية) التي تضم عدداً من دور الأيتام والمسنيّن وأصحاب الاحتياجات الخاصة، وعدداً من المدارس والمعاهد العلمية الأكاديمية، فضلاً عن دور الصحة والمستوصفات والمستشفيات، علاوة على النشاط الديني الخاص الذي يقتصر عليه معظم علماء الدين في أعمالهم ونشاطاتهم.

اهتمامه بالمحيط الاجتماعي ينبع من تفهمه الكبير لتحديات عصره، ومتطلبات الناس في هذا العصر، فكان أن تجاوز ما هو المألوف في سلوك الفقهاء من اقتصارهم على المعتاد والسائد، وهو ما يُفسر نزوعه نحو بناء مؤسساتٍ ثقافية وعلمية وصحية واجتماعية عجزت عن بنائها حكومات، في سلوك فريدٍ من نوعه لدى المراجع الدينية وفقهاء الإسلام..

وهو ما يفسر أيضاً سماعه بمشاكل الناس على اختلاف طبقاتهم، وهو (أُذن) صغواء لهم، تعنيه هذه المشاكل وتهمه جداً، فيفكّر طويلاً وبجدٍ في تذليل ما يمكن تذليله، وتجاوز ما يمكن تجاوزه، مما انعكس على مواقفه الفقهية وفتاواه، بعيداً عن ما دأبت عليه المراجع الدينية من الثبات وقلة الاهتمام بالتغيرات، أو المكابرة تجاه الظروف والقناعات والمناخات المستجدة، فكان اهتمام السيد محمد حسين فضل الله بهذه المتطلبات اهتمام الخبير والعليم، من دون أن يعني ذلك تجاوز ثوابت الشريعة وخطوطها الحمراء، فكان حريصاً على توسيع دائرة الملتزمين بها عبر رفع القيود التي لا أساس لها في الشريعة مما وضعه بعض (السدنة) طبقاً لأمزجتهم أو تصوراتهم، فلم يكن السيد فضل الله (كاثوليكياً أكثر من البابا) كما يقولون، إذ لم يجد مصلحة في التضييق على الناس باسم الدين في وقت يرى فيه الدين سمحاً سهلاً، وقد جاء نبي الإسلام بالشريعة السمحاء، ورفع عن الناس الإصر والأغلال، فكان أن غضب قوم، وساء ذلك آخرين، بينهم جاهل متنسك، وآخر انتهازي يتحيّن الفرص، فيما صمت آخرون خشية (الدواهي العظمى)..

كان فقيه عصره بحق، فكان منذ أن تصدى للمرجعية الفقهية يفكّر بعصره، لا كما يدأب عليه المقلِّدة من الفقهاء من حفظة المتون وحرّاس القديم وإنْ كان بالياً، وكان السيد محمد حسين فضل الله فقيهاً بحق، فهو بقدر ما كان وفياً للثوابت الفقهية فإنه يأبى أن يكون صدى للآخرين يردد ما يردّدون، ويفتي بما يفتي به الأسلاف، لمجرد أنهم أسلاف، إذ لو كان كذلك فإنه سيكّف عن أن يكون مجتهداً، وسيكون مجرد مقلِّد واعٍ، كما هو شأن كثير من المتفقهين، أو ممن يقال عنهم فقهاء..

ولأنه فقيه العصر ومعنياً بموقفٍ فقهي تجاه مقلديه وجمهوره والمؤمنين والسائلين، فقد آثر أن يكون صريحاً، فلم يكن للسوق التجارية في فقهه نصيب، ولم يدخل هذه البورصة للمضاربة في هذه السوق، ولذلك – ربما – خسر في بعض الأوساط وإنْ ربح دينه وحاز ثقة أوساط أخرى. ولأنه كان معنيّاً بالفقه المحمدي فقد تنكّر لفقه (البازار)، وما كان سائداً في هذه السوق من عدم الإفصاح عن الفتوى الحقيقية لدواع تجارية، ومضاربات يعرفها تجار هذه السوق.

ولأنه كان معنياً بالإسلام كله، فقد كان الفقيه والمفكّر والداعية والواعظ… فلم يكن ليذعن للأنماط السلوكية السائدة في الوسط المرجعي، والتي اضطرت معظم المراجع الفقهية للاحتجاب والاعتكاف بعيداً عن الناس، فلم يكن السيد محمد حسين فضل الله (شبحاً) يظهر في لحظة ويغيب زمناً آخر، بل كان مرجع الناس، يجيب على أسئلة الصغير كما يجيب على أسئلة الكبير، ويجالس الفقراء كما يجالس الشرفاء (كما يوصفون)، ويجيب المرأة على أسئلتها كما يجيب الرجل ويجالسه.

وهو فوق ذلك لم يكفّ عن وظيفته اليومية، من صلاةٍ بالناس وموعظة هنا وهناك…

الحديث عن السيد محمد حسين فضل الله طويل ومتعدد الجوانب، وهو ما يثير التساؤلات في ظل غيابه، ومآل عدد من القضايا في ظل هذا الغياب..

لقد كان السيد محمد حسين فضل الله مفكراً، وقد أتحف المكتبة الإسلامية برؤاه وأفكاره، فكان (خطوات على طريق الإسلام)، و(قضايانا على ضوء الإسلام)، و(أسلوب الدعوة في القرآن)، و(الإسلام ومنطق القوة) و(الحوار في القرآن)، و(الحركة الإسلامية – هموم وقضايا)، و(دنيا الشباب)، و(دنيا المرأة) و(فقه الحياة)، و(الحركة الإسلامية مالها وما عليها)، و(أحاديث لأجل الإسلام)، و(أحاديث في الوحدة والاختلاف)… في قائمة طويلة من الكتب عالج فيها إشكاليات، وأجاب فيها عن شبهات، وقدَّم بصددها رؤى وأفكار…

ففي ظل هذا الغياب، من الذي سيتولى ملأ هذا الغياب؟ خصوصاً وأننا نعرف أن السيد محمد حسين فضل الله هو ثالث ثلاثة في الوسط الإسلامي الشيعي (محمد باقر الصدر، محمد مهدي شمس الدين، محمد حسين فضل الله) أسهم كل واحد منهم في صياغة رؤية إسلامية أصيلة، إذ أحسب أننا بغيابهم خسرنا بُعدين مهمين على الصعيد الفكري، وهما بُعد الأصالة والمعاصرة، مما توفر في هذا الثلاثي، في وقتٍ تطلع علينا هذه الأيام رؤى لقيطة أو متحجرة خائبة!

وفي ظل غياب السيد محمد حسين فضل الله يتزايد البحث عن شخصية إسلامية جامعة تكون ملتقى للمسلمين سنة وشيعة، إذ مع غيابه خسر المسلمون من السنة والشيعة ما يجمعهم، في زحمة التدافع والتنافر التي تخطط لها بعض الدوائر، وتنفذها دوائر أخرى، من شخصيات دينية وقنوات فضائية، بعضها يُصنَّف على أهل السنة، وأخرى تُحسب على الشيعة.

كان السيد محمد حسين فضل الله موضعاً للاحترام والتقدير من المسلمين (وغيرهم أيضاً)، ومن الطائفتين الإسلاميتين الكبيرتين، ومن غيرهم من المذاهب الإسلامية الأخرى، وبغيابه تتضاعف مسؤولية المراجع الدينية، في وقتٍ تتمترّس فيه هذه المراجع بطوائفها دون تفكيرٍ جدي بجدوى التفتيش عن القواسم المشتركة، وهو ما أفقدها المصداقية لدى هذا الطرف الإسلامي أو ذاك.

وفي ظل هذا الغياب تبدو الخسارة كبيرة على المستوى الشيعي الخاص، وفي وقتٍ تصاعدت فيه موجات الغلو وتقديس الخرافة، وفي ظل صمت مراجع دينية مهمة، إذ مع وفاة الإمام الخميني سُمِحَ لعدد من الواجهات الدينية بالظهور، وانطلقت مسابقات محمومة لاستقطاب الجمهور الشيعي العام واستدرار تأييده، للترويج لعقائد لم يجمع عليها علماء الشيعة، ولم يكن في مواجهة هذه الحملة غير السيد محمد حسين فضل الله الذي دأب على تقديم الصورة الإسلامية المثالية لمذهب أهل البيت (ع) وشيعتهم، مستنداً إلى جرأته في الحق وشجاعته وصبره على الأذى، وهو أذى أسهم فيه فرقاء كثر، لا يجمعهم جامع سوى إعلان الحرب عليه لدواعٍ عديدة وأهداف وغايات شتى.

وعلى المستوى السياسي أيضاً تبدو الخسارة بالسيد محمد حسين فضل الله كبيرة، فهو شخصية سياسية جامعة يجتمع عليه أفرقاء سياسيون من اتجاهات متناقضة أحياناً، مما يسهم في التوحيد والتأليف، خصوصاً وأن للسيد محمد حسين فضل الله في السياسة تجربة طويلة وواعية وبصيرة.

وفي ظل غياب السيد محمد حسين فضل الله تتزايد الأسئلة وتتوالى، لتبحث عن أجوبة، نأمل أن تكون على قدر خسارتنا فيه.

لقد رحل السيد محمد حسين فضل الله عن عمرٍ قضاه في العمل والحراك المتواصل، وفي مجالات متنوعة ومتعددة، ليورث خلفاءه تركة ثقيلة يلزمهم تحمّلها والصبر على ذلك، دون أن يكون لهم الحرية في الاختيار، فليس من الوفاء له ولمنهجه التملص من المسؤولية والانقلاب على الأعقاب.

إن السيد محمد حسين فضل الله منهج وخيار فكري، ولن يموت هذا المنهج بوفاته، وأظن أن الحشود الهائلة التي خرجت في تشييعه، في ظاهرة غير مسبوقة تمثل استفتاءً على صوابية منهجه، ومدى عمقه وتجذره في الوسط الجماهيري، سواء على مستوى عامة الناس أو على مستوى النخب، متدينين وغير متدينين، مسيَّسين وغير مسيّسين.

Facebook
Twitter
Telegram
Print
Email

اترك تعليقاً