أحدث المقالات

د. الشيخ حسين الخشن(*)

من القواعد التي كثر الاستدلال بها في الكتب الفقهية: القاعدة المعروفة بقاعدة التسامح في أدلّة السُّنَن.

وانطلاقاً من أنّ القاعدة شكَّلَتْ مظلّة لتسرُّب الأخبار الموضوعة إلى فضاء التداول الفقهيّ ينبغي أن نوقع البحث في المراحل التالية:

1ـ المعنى الإجمالي للقاعدة

والمراد بالقاعدة، كما تفصح مفرداتها، أنّ السُّنَن لا تحتاج إلى تشدُّد في أسانيدها، بل يمكن أن يُتسامح ويُتساهل فيها، ويُكتفى في إثباتها بأخبار الآحاد ضعيفة السند؛ وذلك خلافاً لما عليه الحال في الأحكام الإلزاميّة، حيث يلتزم بضرورة توفُّر سندٍ صحيح للخبر الذي يُراد الاستدلال به لإثباتها.

2ـ آراء الفقهاء في قاعدة التسامح

بالتتبُّع في أقوال الفقهاء نجد أن لديهم اتجاهين أساسيّين في قاعدة التسامح. وفي ما يلي نستعرض آراء فقهاء الفريقين:

 

أوّلاً: فقهاء الشيعة

يُلاحَظ أنّ المتقدِّمين من فقهاء الشيعة لم يتطرَّقوا إلى قاعدة التسامح بنفيٍ ولا إثباتٍ، فهم ساكتون عنها، وإنما كثر الحديث عنها وتداولها والاستشهاد فيها بين المتأخِّرين. ونرصد لهم ـ أي للمتأخِّرين ـ اتجاهين أساسيّين في الموقف منها:

الاتجاه الأول: ما ذهب إليه المشهور بينهم من القبول بالقاعدة، وبدلالة الأخبار عليها، والاستناد إليها في الحكم بالاستحباب؛ لمجرد وجود خبرٍ ضعيف في المسألة.

وسيأتي عدم صحّة هذا الاتجاه.

الاتجاه الثاني: ما ذهب إليه جمعٌ من الفقهاء، من رفض القاعدة، وعدم القبول بدلالة أخبار «مَنْ بلغ» عليها. ومن هؤلاء: السيد محمد العاملي في المدارك، حيث قال: «وما قيل من أنّ أدلة السُّنَن يُتسامح فيها بما لا يُتسامح في غيرها فمنظورٌ فيه؛ لأنّ الاستحباب حكمٌ شرعي، فيتوقَّف على الدليل الشرعي، كسائر الأحكام»([1]).

وقال الشيخ يوسف البحراني: «والقول بأن أدلّة الاستحباب مما يُتسامح فيها ضعيفٌ»([2]).

وقال السيد محسن الحكيم: «وأما قاعدة (التسامح في أدلة السُّنَن) فغيرُ ثابتةٍ. بل الظاهر من أخبارها أن ترتُّب الثواب على مجرّد الانقياد، فلا طريق لإثبات المشروعية»([3]).

ومن المتأخِّرين الذين ذهبوا إلى رفض هذه القاعدة: السيد الخوئيّ، فهو يرى «أن قاعدة التسامح في أدلة السُّنَن ممّا لا أساس لها»([4]).

وقد أشار السيد المجاهد، في مفاتيح الأصول، إلى هذين الاتجاهين، فقال: «اختلف الأصحاب في ذلك على قولين: الأوّل: إنه لا يجوز إثبات الاستحباب والكراهة بمجرّد الرواية المفروضة، وهو لموضعين من المنتهى، وموضعٍ من المدارك، فقالا: إنّ الاستحباب حكمٌ شرعي، فيتوقَّف على الدليل الشرعي، كسائر الأحكام الشرعية، وزاد الثاني فقال: وما قيل من أن أدلة السُّنَن يُتسامح فيها بما لا يُتسامح في غيرها فمنظورٌ فيه؛ الثاني: إنه يجوز ذلك، وهو للشهيدين في الذكرى والدراية، وابن فهد في عدّة الداعي، والمحقِّق الخوانساري في المشارق، والفاضل الخراساني في الذخيرة، والفاضل البهائي في الوجيزة، والأربعين وجدّي ووالدي العلاّمة»([5]).

وكيف كان، فالاتجاه الثاني ـ وبصرف النظر عمّا سيأتي من تفسيرٍ مختلف للأخبار ـ هو الأقرب، بل المتعين. وأما التفسير المشهور فلا تساعد عليه الأخبار، ولا يخلو من إشكالاتٍ وملاحظاتٍ، وهذا ما سوف نبيِّنه فيما يأتي.

ولكنْ قبل ذلك لا بأس أن نشير إلى أنّ السيد هاشم معروف الحَسَني لم يكتَفِ برفض القاعدة فحَسْب، بل حكم بأنّ روايات «مَنْ بلغ» موضوعةٌ([6]).

ولكننا لا نوافقه على ذلك؛ إذ لا موجب للحكم بوضعها أو تكذيبها، ولا تساعد عليه الشواهد؛ لا من ناحية السند، كيف وبعضها صحيحة الإسناد، كما سنرى؟! ولا من ناحية المضمون، ولا سيَّما أنّ لها تفسيراً معقولاً، ولا تواجهه اعتراضاتٌ تُذْكَر.

نعم، ثمّة مجالٌ للخدشة في إمكان الاعتماد على هذه الأخبار، حتّى لو صحّ سند بعضها، من زاويةٍ أخرى، وهي أن المسألة المبحوثة أصوليّةٌ، والمسائل الأصوليّة لا يعتمد في إثباتها على أخبار الآحاد.

 وقد نوقش هذا الكلام كبروياً وصغروياً؛ أما النقاش في الكبرى فهو أن عدم الاعتماد على أخبار الآحاد إنما هو في أصول العقيدة، لا أصول الفقه؛ وأما في الصغرى فلأن أخبار «مَنْ بلغ» يمكن دعوى كونها «متواترةً أو محفوفةً بالقرينة»([7]).

ولكنّ المناقشتين المذكورتين محلُّ إشكالٍ.

أما ما ذكر في مناقشة الكبرى فيَرِدُ عليه أنّ ثمّة رأياً يذهب إلى كون المستفاد من روايات «مَنْ بلغ» هو مسألةٌ كلامية، كما سيأتي.

وأما ما ذكر في النقاش الصغرويّ فيردّه أنّ دعوى التواتر غيرُ تامّةٍ، فإنّ الأخبار المشار إليها لا تبلغ مستوى التواتر.

 أجل، إننا لا نحتاج ـ على المختار ـ إلى ثبوت تواترها أو حصول اليقين بصدورها، بل يكفي الوثوق بها. ولا شَكَّ أنّ هذه الأخبار ممّا يحصل الوثوق بصدورها، ولا سيَّما إذا أخذنا بالتفسير المختار والآتي لها، والذي يدفع أيّ إشكالٍ أو شبهةٍ عن مضمونها، ممّا قد يُعيق حصول الوثوق والاطمئنان. وهذا ما ألمح إليه المستشكِل بقوله: «أو محفوفة بالقرينة».

 

ثانياً: فقهاء السُّنّة

وقاعدة التسامح في أدلة السُّنَن مطروحةٌ في مصادر أهل السنّة أيضاً.

والاتجاهان المطروحان عند فقهائنا نجدهما عند فقهاء السنّة:

الأوّل: مَنْ اعتقد بالقاعدة، كالإمام أحمد بن حنبل.

قال ابن حجر: «وقد ثبت عن الإمام أحمد وغيره من الأئمّة أنهم قالوا: إذا روينا في الحلال والحرام شدّدنا، وإذا روينا في الفضائل ونحوها تساهلنا»([8]). والمقصود بالفضائل هي المستحبّات، كما يُستفاد من كلمات الفقهاء من أهل السنّة، وبعض الشيعة أيضاً، ممَّنْ عبَّر بفضائل الأعمال.

قال ابن عبد البرّ(463هـ): «وأحاديث الفضائل لا يحتاج فيها إلى مَنْ يحتجّ به»([9]).

وقال الخطيب البغدادي(463هـ)، تحت عنوان «باب التشدُّد في أحاديث الأحكام والتجوز في فضائل الأعمال»: «قد ورد عن غير واحدٍ من السَّلَف أنه لا يجوز حمل الأحاديث المتعلِّقة بالتحليل والتحريم إلاّ عمَّنْ كان بريئاً من التُّهْمة، بعيداً من الظنّة، وأما أحاديث الترغيب والمواعظ ونحو ذلك فإنه يجوز كتبها [كتابتها] عن سائر المشايخ»([10]).

وقال ابن حجر: «اشتهر أنّ أهل العلم يتساهلون في إيراد الأحاديث في الفضائل، وإنْ كان فيها ضعفٌ، ما لم تكن موضوعة»([11]).

وقال النووي في سياق بعض المستحبّات: «إنّ أحاديث الفضائل يتسامح فيها، ويعمل على وفق ضعيفها»([12]).

هذا، ولكنّ الإنصاف أن هذه الكلمات ـ باستثناء كلام النووي ـ لا يستفاد منها تبنّي أصحابها لقاعدة التسامح، بمعنى الإفتاء بالاستحباب استناداً إلى الخبر الضعيف، وإنما غايتها أنّه يجوز رواية الأخبار الضعيفة وكتابتها إذا كانت واردة في فضائل الأعمال؛ ولعلّ ذلك بغرض الوعظ بها.

نعم، قد نسب الشيخ الألباني في كلامه الآتي إلى «كثيرٍ من أهل العلم» جواز العمل بالخبر الضعيف في فضائل الأعمال.

الثاني: مَنْ رفض القاعدة صريحاً.

قال ناصر الدين الألباني، في قاعدةٍ ذكرها بعنوان «ترك العمل بالحديث الضعيف في فضائل الأعمال»: «اشتهر بين كثيرٍ من أهل العلم وطلاّبه أن الحديث الضعيف يجوز العمل به في فضائل الأعمال. ويظنّون أنه لا خلاف في ذلك. كيف لا والنووي& نقل الاتفاق عليه في أكثر من كتابٍ واحد من كتبه؟! وفي ما نقله نظرٌ بيِّنٌ؛ لأن الخلاف في ذلك معروف؛ فإنّ بعض العلماء المحقِّقين على أنه لا يعمل به مطلقاً، لا في الأحكام ولا في الفضائل. قال الشيخ القاسمي& في « قواعد التحديث»: «حكاه ابن سيّد الناس في «عيون الأثر» عن يحيى بن معين، ونسبه في « فتح المغيث» لأبي بكر بن العربيّ، والظاهر أنّ مذهب البخاري ومسلم ذلك أيضاً…، وهو مذهب ابن حزم…»، وأضاف الألباني: «قلتُ: وهذا هو الحقّ، الذي لا شَكَّ فيه عندي…»([13]).

وابن تيمية هو من الرافضين للقاعدة أيضاً، مع إعطائها تفسيراً هو أقرب إلى المعنى الخامس، الآتي في الوجوه الثبوتية المطروحة في تفسير أخبار «مَنْ بلغ»([14]).

وفي ضوء ما تقدَّم اتّضح أمران:

أوّلاً: إن قاعدة التسامح هي قاعدةٌ خلافية، ولا يوجد إجماعٌ عليها، لا عند الشيعة ولا عند السنّة، وسيأتي توضيح ذلك أكثر. وكيف تكون إجماعيّةً والحال أننا لم نجِدْ لها ذِكْراً في كلام السابقين، بحَسَب ما لاحظنا في كتبهم الأصولية أو الرجالية أو الفقهية، هذا مع كون أخبار «مَنْ بلغ» في متناول أيديهم؟! ما يعني أنّهم لم يستفيدوا منها قاعدة التسامح، بل رُبَما نُسب إلى الشيخ الصدوق وأستاذه ابن الوليد عدم الاعتقاد بهذه القاعدة؛ وذلك لأنّ الصدوق قال، في كتاب الصوم من كتاب مَنْ لا يحضره الفقيه: «وأمّا خبر صلاة يوم غدير خمّ، والثواب المذكور فيه لمَنْ صامه، فإنّ شيخنا محمد بن الحسن (رضي الله عنه) كان لا يصحِّحه، ويقول: إنه من طريق محمد بن موسى الهمداني، وكان كذّاباً غير ثقةٍ، وكلُّ ما لم يصحِّحه ذلك الشيخ (قدَّس الله روحه)، ولم يحكم بصحته من الأخبار، فهو عندنا متروكٌ غير صحيح»([15]). فلو أنهما كانا يريان التسامح لم يكن ثمّةَ داعٍ إلى ردِّ الخبر المذكور([16]).

 اللهمّ إلاّ أن يُقال: إنّ ردّ الخبر من قِبَلهما إنما هو بسبب كونه موضوعاً بنظرهما، كما يبدو من الحكم بكذب راويه، ومعه فلا محلّ لقاعدة التسامح؛ لانتفاء موضوعها، وهو البلوغ، فتأمَّلْ.

ثانياً: إنها بصيغتها المشهورة، أعني صيغة «التسامح في السُّنَن أو في فضائل الأعمال»، مطروحةٌ في الفقه السنّي أيضاً، ورُبَما قبل أن تكون مطروحة في الفقه الشيعيّ، فقد عبَّر عنها الإمام أحمد بتعبير: التساهل في أخبار فضائل الأعمال، في مقابل التشدُّد في الحرام والحلال. ومصطلح التسامح مطروح عندهم أيضاً، كما تقدَّم في كلام النووي(676هـ)، وقال أيضاً: «وقد اتَّفق العلماء على أن الحديث المرسل والضعيف والموقوف يُتسامح به في فضائل الاعمال، ويُعمل بمقتضاه»([17]). وأمّا عند الشيعة فقد ظهرت القاعدة بهذه الصيغة في كلمات المتأخِّرين، بدءاً من الشهيد الأول(786هـ)([18])، ومَنْ تلاه، ونُسب ذلك إلى العلاّمة الحلّي في موضعين من المنتهى، كما في كلام مفاتيح الأصول المتقدِّم، ولم نعثَرْ عليهما.

3ـ مستند القاعدة

بمراجعة كلمات الأعلام نجد أنهم استدلّوا على القاعدة بعدّة وجوهٍ:

أـ الإجماع

قال ابن فهد الحلّي، بعد أن أورد بعض أخبار القاعدة: «فصار هذا المعنى مجمعاً عليه عند الفريقين»([19]).

ويَرِدُ عليه:

أوّلاً: إنّ دعوى كون القاعدة مجمعاً عليها بين فقهاء الفريقين غير صحيحة، كما عرفْتَ، فلا إجماع شيعيّاً ولا سنّياً على المسألة. وكيف تكون المسألة إجماعية ولا نجد لها ذِكْراً في كلمات فقهائنا، إلاّ بدءاً من الشهيد الأوّل في القرن الثامن الهجري؟! وقد سجَّل بعضُهم كلام الشهيد الأوّل، الذي جاء فيه: «أحاديث الفضائل يُتسامح فيها عند أهل العلم»([20])، معتبراً أنّ هذه الجملة تدلّ على أنّ التسامح إجماعيّ([21])، والحال أنّ هذه العبارة ينقلها الشهيد الأوّل ـ كما يصرِّح في مستهلّ كلامه ـ عن صاحب الروضة، وهو النووي([22]). وقد لاحَظْنا أنّ الشهيد الثاني أفاد أنّ الأكثر جوَّزوا العمل بالخبر الضعيف في فضائل الأعمال([23])، وسيأتي نقل كلامه لاحقاً. ولكنْ حتّى دعوى الأكثرية غير واضحةٍ؛ بلحاظ ما تقدَّم من سكوت كثيرٍ من الفقهاء عن هذه القاعدة.

ثانياً: إنّ الإجماع ـ على فرض تحقُّقه ـ ليس تعبُّدياً كاشفاً عن رأي المعصوم، فمن المرجَّح أن القائلين بالتسامح قد استندوا إلى الأخبار المذكورة في المسألة.

ب ـ الروايات

وهي العمدة، من قبيل: صحيحة هشام بن سالم، عن أبي عبد الله× قال: «مَنْ سمع شيئاً من الثواب على شيءٍ فصنعه كان له، وإنْ لم يكُنْ على ما بلغه»([24])؛ وغيرها من الأخبار، التي سنذكرها لاحقاً.

ويبدو أنّ تعبير جمعٍ من الفقهاء عن القاعدة المبحوث عنها بقاعدة «مَنْ بلغ» أكثر انسجاماً مع إنكار دلالة الأخبار على التسامح في أدلة السُّنَن، وأقرب إلى العنوان المأخوذ في الأخبار.

4ـ هل القاعدة فقهيّةٌ أم كلاميّةٌ أم أصوليّةٌ؟

 لا يخفى أنّ بعض الفقهاء صنَّفوا القاعدة، وبحثوا عنها، في عداد القواعد الفقهيّة([25])، بينما بحثها جمعٌ آخر في الأصول؛ إما في مبحث حجّية الخبر؛ باعتبارها تمثِّل استثناءً ممّا دلّ على عدم حجّية الخبر الضعيف؛ وإما في مبحث البراءة؛ لمناسبةٍ معيَّنة([26])؛ ورُبَما رأى بعضهم أنها قاعدةٌ كلامية؛ لأنها تطرح مبدأً في نَيْل الثواب الإلهي.

 أقول: إذا كان مناط أصولية المسألة هو في كونها ممّا «يترقَّب أن تكون دليلاً وعنصراً مشتركاً في عملية استنباط الحكم الشرعيّ، والاستدلال عليها، والبحث في كلّ مسألةٍ أصولية إنما يتناول شيئاً مما يترقّب أن يكون كذلك، ويتَّجه إلى تحقيق دليليّته، والاستدلال عليها، إثباتاً ونَفْياً»([27]) فلا ينبغي الشكّ، ولا الاختلاف، في أن قاعدة التسامح أصوليّةٌ؛ لأنّ البحث يتركَّز على دليليّتها؛ إذ محلّ الكلام ومورد النقض والإبرام في دليليّة وحجّية الخبر الضعيف في السُّنَن.

أما لو نظرنا إلى المسألة من زاوية الرأي النهائيّ في القاعدة، ومدى دلالة الأخبار عليها، لا من زاوية ما يتوقَّع ويترقَّب منها، فالرأي سيكون مختلفاً فيها باختلاف الأنظار؛ فمَنْ اعتقد بدلالة الأخبار على التسامح، وجعل الحجّية للخبر الضعيف، فالقاعدة عنده أصوليّةٌ([28])؛ ومَنْ رأى دلالة الروايات على جعل الاستحباب على عنوان البلوغ فالمسألة عنده فقهيّةٌ([29]). وقد نُوقش ذلك بعدم صحّة ما ذُكر في توجيهه([30])؛ ومَنْ رأى أنّ مفاد الروايات هو: «ثبوت الثواب عند خطأ الأمارة للواقع، ليس إلاّ» فالمسألة عنده كلاميّةٌ([31]). وحيث إننا نستقرب ـ كما سيأتي ـ أنّ الأخبار لا تدلّ على جعل الحجّية للخبر الضعيف، ولا الاستحباب على عنوان البلوغ، وإنما الوعد بإعطاء الثواب، فتكون المسألة المستفادة منها كلاميّةً.

5ـ مقتضى القاعدة الأوّليّة

وقبل أن نذكر أدلّة قاعدة التسامح، ونتطرَّق ـ بإيجازٍ ـ إلى بعض المناقشات والملاحظات النقديّة، لا بُدَّ أن نبيِّن ما هو مقتضى القاعدة الأوّلية في المسألة، أعني مسألة اعتماد الخبر الضعيف في إثبات المستحبات والسُّنَن.

وما يمكن أن يذكر هنا في بيان القاعدة:

أوّلاً: إنّ المستفاد من الكتاب والسنّة أنّ الأحكام الشرعية، ومنها: الاستحباب، لا يجوز إثباتها بالظنون. قال تعالى: ﴿وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلاَّ ظَنّاً إِنَّ الظَّنَّ لاَ يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً﴾ (يونس: 36)؛ بل لا يجوز الكلام في دين الله تعالى إلاَّ بعلمٍ، قال تعالى: ﴿آللهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللهِ تَفْتَرُونَ﴾ (يونس: 59)، وقال جلَّ وعلا: ﴿وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً﴾ (الإسراء: 36).

 أجل، ذهب مشهور الفقهاء والأصوليّين إلى خروج الخبر الصحيح، مع كونه ظنّيّ السند، عن عموم ما دلّ على النهي عن اتّباع الظنّ، ومستندهم في ذلك أن أدلّة حجّية الخبر قد خصّصت الإطلاقات أو العمومات المذكورة الناهية عن اتّباع الظنّ.

وفي المقام أيضاً يُدَّعَى أننا نخرج عن مقتضى القاعدة الأوّلية؛ لقيام الدليل أيضاً على ذلك. والدليل هو الأخبار التي تجيز الإفتاء في السُّنَن بالخبر الضعيف. وهذه الأخبار أخصُّ من أدلة النهي عن اتّباع الظنّ، وعدم حجّية الخبر الضعيف، فتتقدَّم عليها تقدُّم الخاصّ على العامّ. وعليه، فقاعدة التسامح؛ بدلالتها على حجّية الخبر الضعيف في السُّنَن، تمثِّل استثناءً من القاعدة الأوّليّة العامّة، أعني قاعدة عدم حجّية الظنّ. كما أنّ قاعدة حجّية الخبر الصحيح في الإلزاميّات أو السُّنَن هي استثناءٌ من تلك القاعدة أيضاً. فلا فرق بين استثناءٍ وآخر؛ فمَنْ قبل بالاستثناء الأوّل في الخبر الصحيح؛ لقيام الدليل عليه، عليه أن يقبل بالاستثناء الثاني في الخبر الضعيف الوارد في السُّنَن؛ للنكتة عينها، أعني قيام الدليل عليه.

هذا، ولكنْ ثمّة اتجاهٌ قريبٌ من الصواب يرى أنّ قاعدة حرمة العمل بالظنّ لم تتعرّض للاستثناء والتخصيص مطلقاً، حتّى بلحاظ الخبر الصحيح الظنّي، فضلاً عن الخبر الضعيف؛ فالخبر الصحيح الظنّي ليس حجّةً، وإنما الحجّة هو الخبر الموثوق نوعاً. وهذا ليس خارجاً على نحو التخصيص من تحت أدلّة عدم حجّية الظنّ، وإنما خرج عنها تخصُّصاً؛ لأن الوثوق علمٌ في نظر العُرْف. ولو تغاضينا وتنزَّلنا وقلنا بالتخصيص الأوّل، أعني خروج الخبر الظنّي من تحت أدلة النهي عن اتّباع الظنّ، فمن الصعوبة بمكان أن نوافق على الاستثناء الثاني؛ فهو أشدّ مؤونة من الاستثناء الأوّل؛ لأنه قد يُقال بأن سيرة العقلاء جرَتْ على الاستثناء الأوّل ـ أعني حجّية الخبر الظنّي الصحيح ـ، أو أنه بدون الأخذ به يلزم انمحاء الدين([32])، وهذا لا يجري في الاستثناء الثاني؛ إذ لا حاجة تفرضه، بل إنه قد تترتَّب عليه الكثير من النتائج السلبيّة، كما سنرى.

وثمّة معضلةٌ([33]) ثانيةٌ تواجه الاستثناء الثاني، وهو أنه ينافي ـ بالإضافة إلى عمومات النهي عن اتّباع الظنّ ـ منطوقَ قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ﴾ (الحجرات: 6)، والأمر بالتبين إرشادٌ إلى عدم حجّية خبر الفاسق، فيكون الأخذ به في المستحبّات مستلزماً لتخصيصٍ آخر لعامٍّ قرآني. وهذا ما يجعل الوثوق بهذا التخصيص أشدّ مؤنة من الاستثناء الأوّل. اللهمّ إلاّ أن يُقال: إن التعليل الوارد في الآية يؤشِّر إلى نظرها إلى الأحكام الإلزاميّة، دون المباحات بالمعنى الأعمّ؛ لأنّ هذه لا يترتَّب على تركها أو الخطأ فيها ندامةٌ.

ثانياً: ذكر بعض العلماء أنّ القول بالاستحباب، استناداً إلى أدلّة «مَنْ بلغ» وقاعدة التسامح منافٍ لما دلّ على حرمة الكذب([34]) على الله تعالى: ﴿آللهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللهِ تَفْتَرُونَ﴾ (يونس: 59).

ويُلاحَظ عليه: إنه ـ إذا لم يكن ناظراً في كلامه إلى ما ذكرناه في الوجه الأوّل ـ لا محلَّ للكذب في المقام؛ وذلك لأنّ الكذب إمّا أن يكون في الفتوى التي تضمَّنها الخبر الضعيف؛ وإمّا في الإفتاء استناداً إلى الخبر الضعيف، أي في الطريق.

فإنْ أراد الأوّل فيردّه أنّ الفقيه إنما يحكم باستحباب العمل في المورد الذي جاء فيه خبرٌ محتمل الصدور والمطابقة للواقع، وعليه فلا يصحّ وصف الخبر الضعيف مع كونه محتمل المطابقة بالكذب، إلاّ بضربٍ من التنزيل المحتاج إلى الدليل، كما في اتّهام الذين يرمون المحْصَنات دون إقامة الشهود بأنّهم كاذبون، كما نصَّ عليه الذكر الحكيم([35])، مع أنّهم رُبْما كانوا صادقين وليس لهم شهود.

وإنْ أراد الثاني فيردّه أنّه إذا استفَدْنا من روايات «مَنْ بلغ» استحباب العمل الوارد في خبرٍ ضعيف، سواء أكان الاستحباب على عنوان البلوغ أو على العنوان الوارد في الخبر الضعيف، فهذا يعني أنّ الله تعالى قد أذن بنسبة الأمر إليه، فلا يعود الأمر من مصاديق الكذب والتقوُّل على الله تعالى.

6ـ الاحتمالات الثبوتيّة في المراد بأخبار «مَنْ بلغ»

إنّ الاحتمالات الثبوتيّة في أخبار «مَنْ بلغ» هي ـ حَسْب ما أنهاها بعض الأعلام([36]) ـ خمسةٌ:

الأوّل: أن تكون بصدد جعل الحجّية الظاهرية للخبر الضعيف غير المشمول لأدلة الحجّية، فيُستفاد من أخبار «مَنْ بلغ» إسقاط شرائط حجّية الخبر في باب المستحبّات، وأنه لا يعتبر فيها ما اعتبر في الخبر القائم على وجوب شيءٍ، من العدالة والوثاقة. وهذا الاحتمال هو المناسب لقولهم بالتسامح في أدلة السُّنَن.

الثاني: أن تكون في مقام إنشاء استحبابٍ واقعيّ نفسيّ على طبق البلوغ بوصفه عنوانا ثانوياً، وعليه فلا يُفتى في مورد الخبر الضعيف باستحباب العنوان الوارد فيه، بل يُفتى بالاستحباب؛ لكون ذلك ممّا قد بلغ عليه الثواب.

الثالث: أن تكون بصدد الإرشاد إلى حكم العقل بحُسْن الاحتياط، واستحقاق المحتاط للثواب؛ لانبعاثه نحو فعل ما يُحتَمَل كونه مطلوباً للمولى، فيكون ترغيباً صادراً عن المولى بما هو عاقلٌ، لا بما هو مولى.

الرابع: أن تكون إخباراً ووَعْداً مولوياً بالثواب؛ لمصلحةٍ في نفس الوَعْد، ولو كانت هذه المصلحة هي الترغيب في الاحتياط؛ باعتبار حُسْنه عقلاً، وبعد حصول الوعد نقطع بالوفاء لا محالة.

الخامس: إن أخبار «مَنْ بلغ» تهدف إلى حثّ المكلَّف على فعل الطاعات وأعمال الخير المفروغ من خيريّتها، والتي قد تفتر همّة المكلَّفين وعزيمتهم عن فعلها؛ لسببٍ أو آخر، فإذا ورد بشأنها ثوابٌ معين في بعض الأخبار، وكان هذا القدر من الثواب ممّا لم يقُلْه النبيّ|، فحثّاً للمكلَّف على عمل الخير ذاك يُقال له، من خلال أخبار «مَنْ بلغ»: إنْ أتيْتَ به لأجل ذاك الثواب، أو رُبَما مطلقاً، فإنّ الله تعالى سيعطيك الثواب الوارد في الخبر الضعيف، ولو لم يكن الأمر على ما بلغك. ولا دلالة لها على أنه يُعطى الثواب الوارد في الخبر الضعيف على العمل الذي لم تثبت خيريّته أصلاً في المرتبة السابقة.

يقول السيد الشهيد في بيان هذا الاحتمال: «أن يكون المقصود تكميل محرّكية الأوامر الاستحبابيّة فيما إذا فرض بلوغ ثواب على مستحبٍّ مفروغٍ عن استحبابه، ولكنْ حيث إنّ ذلك البلوغ ليس قطعيّاً فتنقص وتضعف محرّكية الأمر الاستحبابيّ، الذي لا ضَيْرَ في تركه بحَسَب طبعه، فمن أجل حثِّ المكلَّفين على عدم إهمال المستحبّات، وطلبها، وعد بنفس الثواب، وأكمل محرّكية ذلك الأمر الاستحبابيّ. وهذا الترغيب المولوي، وإنْ كان طريقيّاً أيضاً، ولكنّه لا يستبطن طلباً وأمراً، بل مجرّد ترغيب بالوَعْد المولوي على الثواب؛ لجبر ضعف محرّكية الاستحباب والطلب النَّدْبي، وعلى هذا لا يُستفاد من هذه الأخبار استحباب عملٍ لم يثبت خيريّته واستحبابه في المرتبة السابقة؛ لأن ذلك قد أُخذ في موضوعها، فيكون التمسُّك بها في مورد الشكّ في أصل الاستحباب من التمسُّك بالعامّ في الشبهة المصداقيّة، بل تكون هذه الروايات من أدلّة الترغيب في الطاعة والحثّ على عدم إهمال المستحبّات الشرعيّة، من خلال جعل ثوابٍ ترغيبيّ تفضيليّ في ذلك المورد»([37]).

النقاش في هذه الاحتمالات، والترجيح بينها

وقد وقع الكلام بين الأعلام في هذه الاحتمالات، وما هو الأقرب منها إلى مفاد الأخبار. واحتدم النقاش بينهم بطريقةٍ عميقةٍ تُظْهِر قدرة العقل الأصوليّ على التحقيق والبحث، ولا سيَّما على يدَيْ الشيخ الأنصاري والمحقِّقين من بعده، ومنهم: الآخوند الخراساني والنائيني والأصفهاني. وطبيعيٌّ أنّ بحث هذه الوجوه، وما قيل فيها، وبشأنها، وبيان آراء هؤلاء الأعلام ونقاشاتهم، هو عملٌ وجهدٌ خارج عن موضوع بحثنا، وهو موكولٌ إلى علم الأصول، وإنما نكتفي في المقام بإطلالةٍ إجمالية ومختصرةٍ على بعض النقاشات المطروحة في كلام العلمَيْن الخوئي والصدر، مع ترجيح ما يمكن ترجيحه.

أما الاحتمال الأوّل، وهو أن تكون روايات «مَنْ بلغ» بصدد جعل الحجّية الظاهرية للخبر الضعيف في المستحبّات، فهو الأساس في قاعدة التسامح، وبانهياره تنهار.

وقد ردّه السيد الخوئي بأنه «بعيدٌ عن ظاهر الروايات غاية البُعْد؛ لأنّ لسان الحجّية إنما هو إلغاء احتمال الخلاف، والبناء على أنّ مؤدّى الطريق هو الواقع، كما في أدلّة الطرق والأمارات، لا فرض عدم ثبوت المؤدّى في الواقع، كما هو لسان هذه الأخبار. فهو غير مناسبٍ لبيان حجّية الخبر الضعيف في باب المستحبّات، ولا أقلّ من عدم دلالتها عليها»([38]).

وقريبٌ منه ما ذكره الإمام الخمينيّ([39]).

وناقشه السيد الشهيد في البحوث([40]) بمناقشتين:

الأولى: «إنّ الأمر الطريقي الظاهري لا ينحصر في أن يكون بمعنى جعل الحجّية للخبر الضعيف، بل يُعْقَل ذلك على مستوى الحكم بالاحتياط، وهو لا ينافي مع التعبير المذكور».

الثانية: إنّ اعتراضه إنما يتمّ بناءً على «مصطلحات مدرسة الميرزا، من ملاحظة ألسنة الجَعْل في الأحكام الظاهرية الطريقية، وأنها في الأمارات بلسان جَعْل الطريقيّة، وإلاّ فقد عرفْتَ بما لا مزيدَ عليه أنّ حقيقة الحكم الظاهريّ وروحه واحدةٌ، سواء كان بهذا اللسان أو بغيره»([41]).

وما طرحه السيد الشهيد في المناقشة الأولى هو وجهٌ آخر لبيان طريقيّة أخبار «مَنْ بلغ»، وقد مال إلى تبنّيه في تقريرات درسه، ومفادُه أن المقصود بها «جعل إيجاب الاحتياط الاستحبابيّ في مورد بلوغ الثواب، من دون جعل الحجّية للخبر الضعيف، وترتيب آثار ذلك عليه»([42]). وهذا لا ينافيه تعبير: «وإنْ كان الرسول| لم يقُلْه».

أقول: ورُبَما يُلاحَظ عليه:

أوّلاً: أمّا عدم منافاة التعبير المذكور مع الاحتياط فيَرِدُ عليه أنّ الاحتياط؛ حيث كان لمراعاة مصلحة الواقع والترغيب بإدراكه، فلا يناسبه التعبير بقوله: «وإنْ لم يكن قد قاله»، بل يناسبه التعبير: «افعَلْ ذلك، فعسى أن يكون قد قاله». فمنطلق الاحتياط وغايته هو عدم فَوْت الواقع، ورجاء إدراكه.

ثانياً: أمّا أن الحُجَج الظاهرية لا تحتاج إلى لسانٍ خاصّ، وأن الأساس فيها قوّة الاحتمال الكاشف عن الواقع، بصرف النظر عن لسان جعل الحجّية، فهو أمرٌ لا نوافقه عليه. والظاهر أنّ الحُجَج الظاهرية الطريقية تعتمد على لسانٍ خاصّ، وتحتاج إليه، واعتماد اللسان هو أمرٌ عقلائيّ، والشارع لم يخرج عن سيرة العقلاء في التعبير عن أغراضه الشرعية، مضموناً وشكلاً، ثمّ سلّمنا أنّ الحُجَج الظاهرية لا تحتاج إلى لسانٍ خاصّ، ولكنْ شرط أن لا يُستخدم لسانٌ ينافيها، كما هو الحال في المقام، حيث صرّحَتْ الأخبار بأن الثواب محفوظٌ، حتّى مع كون الخبر مخالفاً للواقع.

ثالثاً: يرِدُ على أصل الاحتمال الأوّل ـ سواء بتفسير المشهور من ظهور أخبار «مَنْ بلغ» في جَعْل الحجّية الظاهرية للخبر الضعيف، أو بتفسير الشهيد الصدر من ظهورها في جَعْل الاحتياط الاستحبابيّ ـ أنّ الأخبار المذكورة ليست بصدد الجَعْل أصلاً، سواء أكان جَعْلاً للحكم الظاهري أو جَعْلاً للاحتياط الاستحبابي، وإنما هي في مقام الوَعْد أو الإرشاد، كما سيأتي.

 وأما الاحتمال الثاني فمعضلتُه هو صعوبة استظهاره من أخبار «مَنْ بلغ». قال السيد الخوئي، اعتراضاً على الاحتمال المذكور: «لا دلالة، بل لا إشعار، للأخبار المذكورة على أنّ عنوان البلوغ مما يوجب حدوث مصلحةٍ في العمل، بها يصير مستحبّاً، فالمتعين هو الاحتمال الأوّل([43])؛ فإنّ مفادها مجرّد الإخبار عن فضل الله تعالى، وأنه سبحانه بفضله ورحمته يعطي الثواب الذي بلغ العامل، وإنْ كان غير مطابقٍ للواقع، فهي ـ كما ترى ـ غير ناظرةٍ إلى العمل، وأنه يصير مستحبّاً لأجل طروء عنوان البلوغ»([44]).

وأما الثالث، وهو الظاهر من السيد الخوئي، كما مرّ للتوّ في كلامه، فلا يصحّ الاعتراض عليه بأنّ الثواب على عملٍ فرعُ كونه مطلوباً؛ لأنّ ذلك مردودٌ «بأنه يكفي حُسْن الاحتياط عقلاً ملاكاً للثواب»([45]). أجل، قد اعترض عليه السيد الشهيد في البحوث باعتراضٍ آخر، وهو أنه «خلاف ظاهر حال الخطاب الصادر من المولى في أنه صادرٌ عنه بما هو مولى، لا بما هو عاقلٌ، سواء كان بلسان الأمر والطلب أو بلسان الوَعْد على الثواب»([46]).

 ولكنّه في محلٍّ آخر (أي الحلقات) رأى أن هذا الاحتمال الثالث هو المتعين، «ولكنْ مع تطعيمه بالاحتمال الرابع؛ لأن الاحتمال الثالث بمفرده لا يفسِّر إعطاء العامل نفس الثواب الذي بلغه؛ لأنّ العقل إنما يحكم باستحقاق العامل للثواب، لا شخص ذلك الثواب، فلا بُدَّ من الالتزام بأن هذه الخصوصيّة مردُّها إلى وَعْدٍ مولويّ»([47]). وما تضمَّنه الخبر من وَعْدٍ مولويّ بالثواب هو ما يكفي لردّ ما اعترض به السيد في البحوث على هذا الوجه، بمخالفته للظاهر من الحديث في كون الخطاب صادراً عنه بصفته المولويّة، لا بصفته عاقلاً، فإنّ المولوية هي في هذا الوَعْد بالثواب المحدَّد؛ لأن العقل لا يضمن للعبد مقدار الثواب على انقياده، وإنما الذي يعرف ذلك المقدار ويضمنه للعبد هو المولى عزَّ وجلَّ.

وأما الرابع فقد ردَّه السيد الشهيد في البحوث بأنّه «خلاف ظهورها في أنها بصدد الحثّ والترغيب والطلب، لا مجرد الإخبار أو الوَعْد الصِّرْف»([48]).

وقد عرفْتَ للتوّ أنّ هذا الوجه يصلح لتتميم الوجه الثالث؛ ليغدو المقصود بأخبار «مَنْ بلغ» تقديم وإعطاء وَعْدٍ مولويٍّ بالثواب لمصلحةٍ في نفس الوعد، ولو كانت هذه المصلحة هي الترغيب في الاحتياط؛ باعتبار حُسْنه عقلاً([49]).

والذي يبدو أن هذا الاحتمال هو أقرب الاحتمالات، إلاّ إذا تمّ الاحتمال الخامس التالي.

وأما الخامس فعلَّق عليه السيد الشهيد بأنه «وإنْ كان وارداً في نفسه، وقد يُستشهد عليه بما ورد في لسان بعض الروايات: «مَنْ بلغه ثوابٌ على شيءٍ من الخير»، الظاهر في المفروغية عن خيريّة ورجحان العمل الّذي بلغ عليه الثواب في المرتبة السابقة، إلاّ أنّ حمل كلّ أخبار الباب، حتّى المطلق منها، على ذلك لا موجب له»([50]).

وما يمكن أن نقوله بشأن الاحتمال الخامس، وما أورده السيد الشهيد عليه، عدّة أمور:

الأمر الأوّل: إنّ غاية ما تدلّ عليه أخبار «مَنْ بلغ»، بناءً على هذا الاحتمال، هو أنّ الثواب الذي يُعطاه المكلَّف ليس هو على العمل الذي لم يقُلْه النبيّ| من الأساس، بل على عمل الخير الذي قاله|، ولكنْ لم ينقُلْه الراوي طبقاً لما قاله|، لجهة درجة الثواب ومقداره. فالاشتباه الذي رُبَما وقع فيه ناقلُ الخبر المتضمِّن لعمل الخير أو للثواب عليه ليس هو الاشتباه في أصل صدور عمل الخير وثوابه عنه|، وإنّما في مرتبة الثواب، كيفيّةً وكمّيةً. فأصل مرغوبيّة العمل وخيريّته ـ وبالتالي كونه مستوجباً للثواب ـ هو أمرٌ مفروغ منه، وإنما التفضُّل الذي أضافَتْه هذه الروايات هو أنّ الله تعالى يعطي العبد ثواب ما بلغه، ولو كان أزيد من ثواب العمل عنده واقعاً. فلو فرضنا أنّ الرواية الضعيفة المرويّة عنه| تقول: «إنّ مَنْ تصدَّق رفعه الله درجةً في الجنة»، فتصدَّق العبد طمعاً في هذه الدرجة، ولم يكن الأمر كما بلغه، أعطاه الله تلك الدرجة. ولو فرض أن النبيّ| واقعاً كان قد قال: «مَنْ تصدَّق كان له درجة»، لكنّ الرواية الضعيفة نقلَتْ عنه|: «أنّ من تصدَّق له درجتان»، وتصدَّق العبد؛ طمعاً بالدرجتين، فإنّ الله تعالى سيكون عند حُسْن ظنّ عبده به، ويعطيه الدرجتين. وفي المثالين يُلاحَظ أنّ أصل العمل ثابتُ المشروعيّة بدليلٍ آخر، وأنه من أعمال الخير والبرّ والصدقة. وبناءً على هذا التفسير لا شمول لهذه الأخبار لصورة الشكّ في صدور الحديث المتضمِّن للثواب.

الأمر الثاني: إنّ هذا الوجه فيما يبدو ليس مجرّد احتمالٍ مطروحٍ حديثاً([51])، بل هو مطروحٌ في كلمات السابقين؛ فقد نقله الشيخ البهائي عن بعض الفضلاء، وأنه قال: «إن معنى قولهم: يجوز العمل بالحديث الضعيف في فضائل الأعمال، دون مسائل الحلال والحرام، أنه إذا ورد حديثٌ صحيحٌ أو حَسَنٌ في استحباب عملٍ، وورد حديثٌ ضعيفٌ في أن ثوابه كذا وكذا، جاز العمل بذلك الحديث الضعيف، والحكم بترتُّب ذلك الثواب على ذلك الفعل»([52]).

ويبدو أيضاً من الشيخ الحُرّ العاملي المَيْل إليه، قال: «واعْلَمْ أنّ هذه الأحاديث لا تدلّ على إثبات الاستحباب بالخبر الضعيف، ولا على إثبات الإباحة به، بل لا بُدَّ من العلم بالإباحة والمشروعيّة والاستحباب من طريقٍ معتمد، وإنّما يثبت بالخبر الضعيف ترتُّب الثواب أو مقداره، لا غير»([53]).

وقد حكاه الشيخ الأنصاري([54]) عن جماعةٍ.

وذهب إليه بعض علماء السنّة ممَّنْ تقدَّمَتْ كلماتهم.

الأمر الثالث: إنّ ما يدلّ على ترجيح هذا الوجه هو بعض الروايات، من قبيل: ما رواه الصدوق، عن أبيه قال: حدَّثني عليّ بن موسى، عن أحمد بن محمد، عن عليّ بن الحكم، عن هاشم بن صفوان، عن أبي عبد الله× قال: «مَنْ بلغه شيءٌ من الثواب على شيءٍ من خيرٍ، فعمله، كان له أجرُ ذلك، وإنْ كان رسول الله| لم يقُلْه»([55]).

وهي واضحةُ الدلالة على أنّ خيريّة العمل ثابتةٌ بدليلٍ سابق على البلوغ.

بَيْدَ أنّ الرواية ضعيفة السند بعليّ بن موسى.

 والدلالة عينها نجدها في ما رواه الصدوق، عن محمد بن يعقوب، بطرقه إلى الأئمّة^: «إنّ مَنْ بلغه شيءٌ من الخير، فعمل به، كان له من الثواب ما بلغه، وإنْ لم يكن الأمر كما نُقل إليه»([56]).

وهذه أيضاً ضعيفة السند بالإرسال، فتصلح لتأييد سابقتها.

وفي خبر محمد بن مروان قال: سمعتُ أبا جعفر× يقول: «مَنْ بلغه ثوابٌ من الله على عملٍ، فعمل ذلك العمل؛ التماس ذلك الثواب، أوتيه، وإنْ لم يكن الحديث كما بلغه»([57])، فإنه؛ وبلحاظ ذَيْله، مُشْعِرٌ ـ إنْ لم يكن ظاهراً ـ بأنّ الحديث حَتْماً صادرٌ عنه|، لكنّ الراوي لم يبلغه كما هو، أي إنّ أصل بلوغ الحديث المتضمِّن للثواب ثابتٌ.

ولكنْ في المقابل يوجد طائفةٌ أخرى من الأخبار ـ وفيها الصحيح ـ مطلقةٌ من هذه الجهة، وتدلّ على أنّ العمل البالغ، سواءٌ كان مفروغاً من خيريّته أم لا، يُؤجَر صاحبه ويُثاب على فعله بالثواب الوارد في الخبر الضعيف. ومن هذه الطائفة: صحيحة هشام، عن أبي عبد الله× قال: «مَنْ بلغه عن النبيّ| شيءٌ من الثواب، فعمله، كان أجرُ ذلك له، وإنْ كان رسول الله| لم يقُلْه»([58])؛ وفي صحيحةٍ أخرى لهشام بن سالم، عن أبي عبد الله× قال: «مَنْ سمع شيئاً من الثواب على شيءٍ، فصنعه، كان له، وإنْ لم يكن على ما بلغه»([59]).

والسؤال: هل من تعارضٍ بين الطائفتين؟ وما هو وجه الجمع؟

 ذهب الشيخ الأنصاري والسيد الشهيد ـ وهما المعترفان، بنظر الطائفة الأولى، إلى صورة المفروغيّة عن كون العمل خَيْراً في نفسه ـ إلى «أنّ حمل كلّ أخبار الباب، حتّى المطلق منها، على ذلك([60]) لا موجب له»([61]) و«في إطلاق البواقي كفايةٌ»([62]).

ولا مجالَ للاعتراض على كلامهما بأنّه ما دامت طائفة من الأخبار مطلقة والأخرى مقيّدة فيحمل المطلق على المقيّد؛ لأنه يمكن أن يُجاب على ذلك: إنّ «المقيّد هنا لا يعارض المطلق حتّى يحمل المطلق عليه»([63]). والوجه في عدم التعارض والتنافي بينهما أن الطائفتين في المقام مثبتتان.

ونلاحظ على ذلك أنّ هذه الأخبار من الطائفتين هي بمجموعها تشير إلى معنىً واحدٍ، أو قُلْ: هي بصدد بيان موضوعٍ ومطلوبٍ واحد، فلا معنى للتفكيك بينها، وقراءتها بهذه الطريقة التجزيئيّة، واعتبار بعضها مطلقاً والآخر مقيّداً، ومن ثمّ دعوى أنّ المقيّد لا ينافي المطلق، بل يتعين قراءتها بطريقةٍ مجموعية؛ لأنها تشير إلى معنىً واحد، فيحمل المطلق على المقيّد.

على أنّ الطائفة الثانية تحتمل النظر إلى ما جاء في الأولى؛ فصحيحة هشام الثانية رُبَما كان النظر في قوله× فيها: «وإنْ لم يكن كما بلغه» ليس إلى الخطأ في أصل نقل الثواب، بل في درجته. والاحتمال عينه ـ ولو بدرجةٍ أضعف ـ واردٌ في صحيحة هشام الأولى؛ بلحاظ أن الشيء من الثواب في قوله: «مَنْ بلغه شيءٌ من الثواب» أقرب إلى إرادة حصّةٍ من الثواب، وهي الحصة المجامعة لكون العمل خَيْراً في نفسه، وإلاّ لم يكن ثمّة داعٍ للتعبير المذكور، واقتصر على القول: «بلغه ثوابٌ»، وأما الضمير في قوله: «وإنْ كان رسول الله| لم يقُلْه» فهو يعود إلى الشيء، لا إلى الثواب، فيُراد به ما أُريد بالشيء.

وبالإضافة إلى أنّ الأخذ بالإطلاق يترتَّب عليه بعض التَّبِعات الآتية، فإن ذلك يدفعنا إلى التشكيك في أصل دلالة الطائفة الثانية على الإطلاق.

الأمر الرابع: إذا اتّضح دلالة الأخبار على هذا المعنى فإيجاد تفسيرٍ ثبوتيّ له ليس عسيراً، فمن الممكن القول: إن هذا الثواب الذي يُعطاه العبد هو تفضُّلٌ من الله تعالى، أي إنّ هذه الأخبار تنبئ عن سعة كرم الله تعالى، وأنه عند حُسْن ظنِّ عبده به، وأنه يريد مكافأة العبد المنقاد له، وهي لا تخلو من وَعْدٍ إلهيّ بذلك. ومن الممكن القول أيضاً: إن الغرض من هذه الأخبار ـ كما ذكر السيد الشهيد ـ هو تكميل محرّكية الأوامر الاستحبابيّة.

وختام الكلام: إنّه في حال تمّ الاحتمال الخامس يتعيَّن حمل أخبار «مَنْ بلغ» عليه. ونقطة الضعف فيه هي ضعف الأخبار الدالّة عليه سنداً. لكنّه ـ رغم ذلك ـ يبقى محتَمَلاً.

وأما إذا لم يتمّ فالأقرب عندها حمل أخبار «مَنْ بلغ» على الاحتمال الثالث مطعَّماً بالرابع.

وأما الوجهان الأوّل والثاني فلا دلالة للأخبار عليهما، كما سلف.

وعليه، تسقط قاعدة التسامح في أدلة السُّنَن عن الاعتبار، ويتبين أنه لا أصل لها.

ويؤيِّد ذلك أنّ هذه الأخبار، مع كونها في متناول الأصحاب والفقهاء، لم يحتمل أحدٌ منهم ـ باستثناء المتأخِّرين ـ دلالتها على التسامح في أدلة السُّنَن.

وأما الاحتمال الأول فلا دلالة لها عليه، ولو سلَّمنا بدلالة بعضها عليه ففي كفايتها لإثبات المسألة الأصوليّة المخالفة للقاعدة تأمُّلٌ كبير.

ومع سقوط القاعدة، وانكشاف ضعفها، لا يبقى ثمّة حاجة لبعض البحوث التفصيلية، والفروع المرتبطة بها، باستثناء بعض النقاط الآتية، التي نرى أهمّية التطرُّق إليها؛ لصلتها ببحثنا ومقاربتنا للمسألة.

7ـ النتائج السلبيّة للأخذ بهذه القاعدة

بالإضافة إلى ما تقدَّم ـ من عدم تماميّة الدليل على قاعدة التسامح، بناءً على التفسير المشهور لها ـ فقد ترتَّب على الأخذ بها العديد من النتائج السلبيّة وغير المحمودة، على الصعيدين النظريّ والعملي. وهذا في الواقع من المؤشِّرات على عدم إرادة التفسير المشهور لها؛ لأن ما يترتَّب عليه مفاسد كثيرة لا يصدر عن المشرِّع الحكيم، أو لا يكون مراداً له. وهذه بعض النتائج التي أفرزها الأخذ بهذه القاعدة:

 

أـ التهيئة لتقبُّل الأخبار الواهية

إنّ هذه القاعدة قد هيَّأَتْ النفوس لتقبُّل الأخبار الواهية والخرافية، وخلقَتْ أرضيّةً ملائمة لذلك؛ حيث يُلاحَظ أنّ الأذهان المسكونة بهذه القاعدة تحاول جاهدةً إيجاد تبريرٍ لكلّ تراث الغلوّ، بل لكلّ خبرٍ ضعيف لا أصل له. وهذا ما فتح الباب واسعاً أمام تسرُّب الأكاذيب والموضوعات، ولا سيَّما التي تبالغ بالحديث عن ثواب الله تعالى العظيم والجزيل على بعض الأعمال السَّهْلة، بحجّة أنّ الخبر حتّى لو رواه الكذّابون فاحتمال صدقهم قائمٌ، ولذا يجوز نقله، بل يجوز الإفتاء على ضوئه بالاستحباب، بناءً على المشهور.

وقد أسلَفْنا أن صلاة الرغائب، مع أنها ـ فيما يبدو من بعض الشواهد ـ موضوعةٌ من قِبَل بعض الصوفيّة، تمّ إضفاء الشرعيّة عليها بـ «بركة» قاعدة التسامح.

إنّ المتتبِّع لموارد الاستشهاد بالقاعدة في الفروع الفقهيّة المختلفة سيكتشف أنّه في ضوئها قد تمّ استنباط مئات الفتاوى، وأُدخلت آلاف الأخبار الضعيفة، ورُبَما الموضوعة، إلى الفضاء الديني عموماً، والفقهي خصوصاً.

ولم يقتصر الأمر في ما أدخلَتْه القاعدة وأضفَتْ عليه نوعاً من الشرعيّة على التراث الشيعي الضعيف، بل امتدّ ذلك إلى تراث الغلاة، وكذلك التراث السنّي، حتّى الذي حكم أهل السنّة بوَهْنه. وكلُّ هذا التراث كان من السهل رفضه؛ بسبب وَهْنه وعدم صحّته سنداً، بَيْدَ أنّ القاعدة سمَحَتْ بإبقائه «حيّاً» وقيد التداول.

ب ـ التصوُّر السيّئ عن الدين والمؤمنين

إنّ قاعدة التسامح ـ ولا سيَّما بلحاظ بعض التوسُّعات التي شهدَتْها، ومنها: تطبيقها على العناوين أو الأحكام التي ينتزع منها مفاهيم عامّة ـ قد أعطَتْ تصوُّرات سيِّئة ومشوَّهة عن الدين أو الجماعة المؤمنة، وساهمَتْ ـ من خلال ما أتاحَتْه من سعةٍ في الأخذ بالأخبار الضعيفة ـ في الترويج للكثير من المفاهيم القلقة والملتبسة، بل الأفكار المصادمة للتعاليم الإسلامية الصحيحة. وبيان ذلك: إنّ الكثير من الأخبار الضعيفة تتضمَّن مفاهيم إسلامية عامّة متّصلة بالحياة والإنسان، وهذه المفاهيم لا مجال للتسامح في أدلّتها؛ لأنّ قاعدة التسامح ـ لو تمَّتْ في نفسها ـ إنما يؤخَذ بها في مجال المستحبّات، ورُبَما المكروهات أيضاً، وأما تعميمها إلى المفاهيم فلا وَجْهَ له إطلاقاً، ولا سيَّما أنّ هذا التساهل في أدلّة المفاهيم الإسلامية العامّة ساهم في تقديم صورةٍ مشوَّهة عن الإسلام، وعن موقفه ورؤيته في كثيرٍ من القضايا.

إنّ المفاهيم الإسلاميّة، من قبيل: الزهد، الحرّية، العزّة، القوّة، النظرة إلى المرأة وموقعها في الحياة، وسواها من المفاهيم، لا يمكن أن يتمّ إثباتها وبلورة الموقف الإسلامي منها استناداً إلى أخبارٍ واهيةٍ وضعيفةِ السند، ولا سيَّما أنّ أمثال هذه المفاهيم تعكس صورة الإسلام العامّة، ويتفاعل معها الناس، ولها تأثيرٌ بالغ في نفوسهم، أكثر ممّا تعكسه بعض الأحكام الشرعية الجزئيّة والتفصيلية([64])، التي يرفض الفقهاء التسامح في أدلّتها.

وكما أن تطبيق القاعدة على المفاهيم بشكلٍ مباشر غير مبرَّر، ويترتَّب عليه ما ذكرناه من السلبيّة، فإن تطبيقها على مجمل المستحبّات والمكروهات المبثوثة في الكتب الفقهية، والتي تبلغ آلاف الفتاوى، يؤدّي إلى النتيجة عينها؛ لأن هذا العدد الكبير جدّاً من المستحبّات والمكروهات هو بنفسه يعطي ويعكس تصوُّراً خاصّاً عن الإسلام ورؤيته للأمور. فصورة الإسلام لا تُؤخَذ من الواجبات والمحرَّمات فحَسْب، بل ومن السُّنَن أيضاً، فالتساهل في أسانيدها سوف ينعكس على صورة الإسلام نفسه.

أمثلةٌ واقعيّة

وإليك بعض الأمثلة على التسامح في الأحكام المتّصلة بالمفاهيم، وما تركه من انعكاساتٍ سلبيّة:

1ـ ذمّ بعض الأعراق: تضمّنت بعض الروايات الضعيفة ذمّاً لبعض الأقوام (كالأكراد مثلاً)، أو الشرائح الاجتماعية (كذوي العاهات)، ودعوة إلى مقاطعتهم اجتماعياً واقتصادياً. وهذه الأخبار([65])، مع ضعفها السندي، قد أفتى بها بعض الفقهاء([66])؛ استناداً إلى قاعدة التسامح([67]). وهذا ما تسبَّب بتقديم نظرةٍ سلبية عن التشريع الإسلاميّ، وأوحى بإقراره بهذه النظرة العنصريّة المقيتة تجاه هؤلاء! مع أن الإسلام إنما جاء برفض كلّ أشكال العنصريّة. وهكذا، فإنّ الروايات الواردة في ذمّ المرأة، والمبيِّنة لنقصان عقلها وحظّها وإيمانها، والداعية إلى ترك مشاورتها…([68])، إنّ هذه رواياتٌ ضعيفة، بَيْدَ أنّ بعضهم لم يَرَ مانعاً من الالتزام بمفادها؛ لأنّها لا تتضمَّن أحكاماً إلزامية([69])، مع أنّها تعكس صورة الإسلام عن المرأة، وهي صورةٌ محلّ جَدَلٍ كبير، ورُبَما يرى البعض أنها السبب وراء القمع الذي تتعرَّض له المرأة في الكثير من الدول العربيّة والإسلامية.

2ـ النظرة إلى الطبّ والمداواة: نلاحظ أن العلاّمة المجلسي يعترف أنّ كتاب طبّ الأئمة^ «ليس في درجة سائر الكتب؛ لجهالة مؤلِّفه». ولكنه يعقِّب على ذلك قائلاً: «ولا يضرّ ذلك؛ إذ قليل منه يتعلَّق بالأحكام الفرعية، وفي الأدوية والأدعية لا نحتاج إلى الأسانيد القويّة»([70]). مع أنّ الروايات الطبّية، وإنْ لم ترتبط بالعمل والسلوك، لكنّها ترتبط بنظرة الإسلام إلى الطبّ من جهة، وهي نظرةٌ إذا أُريد أخذُها من خلال ما جاء في مثل هذا الكتاب فهي تعطي انطباعاً وتصوُّراً بدائياً، وهي ترتبط بصحّة الإنسان من جهةٍ أخرى، ممّا لا يصحّ التساهل فيها وتعريضها للمخاطر. فلا يسوغ وضعُ الأحاديث ذات الطابع العلاجيّ ـ قبل توثيقها ـ في متناول عامّة الناس، كوصفات وإرشادات طبيّة منصوصٍ عليها، خَوْفاً من آثارها السلبيّة المحتملة على صحّتهم.

3ـ شرعنة السلوكيات المشوِّهة لصورة المذهب: فقد أفتى بعضٌ باستحباب ممارسة التطبير، والذي يُقْدِم بعضٌ عليه في أيام عاشوراء؛ لورود خبرٍ مرسل ينصّ على أنّ السيدة زينب÷ نطحت رأسها بمقدم المحمل، حتّى سال الدم من تحت القناع([71]). ومع كون الخبر ضعيفاً فإنّ البعض استند إليه في الإفتاء باستحباب التطبير؛ للتسامح في أدلة السُّنَن، مع أنّ هذه الممارسة العامّة تعطي انطباعاً سلبيّاً عن المذهب، كما أوضَحْنا ذلك في كتاب (فقه الشعائر).

4ـ نحوسة الأيّام: لو أننا أخذنا بعين الاعتبار الفتاوى المشهورة التي تقول بكراهة الزواج والقمر في برج العقرب، وكراهة إيقاع العقد يوم الأربعاء، أو إيقاعه في أحد الأيّام المنحوسة في الشهر، وهي الثالث، والخامس، والثالث عشر، والسادس عشر، والحادي والعشرون، والرابع والعشرون، والخامس والعشرون، أو كراهة إيقاعه في محاق الشهر، وهو الليلتان أو الثلاث من آخر الشهر([72])، وهي فتاوى تمّ بناؤها على قاعدة التسامح، فإنّ هذا يعطي تصوُّراً حسّاساً عن نظرة الإسلام للزمن، وانقسامه إلى: أيام سعد؛ وأيام نحس. أيعقل أن نقدِّم تصوُّراً عن نحوسة الأيام استناداً إلى أخبارٍ ضعيفةٍ واهية؟ إنّ هذا أمرٌ في غاية الغرابة! إننا نرفض فكرة نحوسة الأيام، كما أوضحنا ذلك في بعض ما كتبناه([73]).

ج ـ التزهيد بالواجبات

إنّ الالتزام بقاعدة التسامح، وإضفاء الشرعيّة على العمل العباديّ استناداً إليها، سوف يؤدّي إلى حالةٍ من الارتخاء لدى الكثير من المؤمنين، فتضعف همّتهم عن تهذيب النفس ومجاهدتها، وعن القيام بالمسؤوليات الدينيّة الأساسيّة والمهامّ الجهاديّة، على اعتبار أنهم ركنوا إلى روايةٍ هنا أو هناك قد جعلَتْ لهم ثواباً عظيماً على عملٍ صغير، وأعطَتْهم ضماناً بعدم دخول النار؛ بسبب هذا العمل، كما هو الحال في ثواب صلاة الرغائب، أو ثواب بعض الزيارات. إنّ هذا الثواب العظيم سيدفع الكثيرين إلى الزهد بالأعمال الكبيرة، والمسؤوليات الاجتماعية المهمّة، مكتفين بـ «الانتصارات» السَّهْلة التي تضمنها لهم قاعدة التسامح في أدلة السُّنَن. والحقيقة أنّ التوسُّع الذي عرفَتْه القاعدة، وأبواب التسامح الذي دخلَتْها، قد زاد المحاذير، وأدخل الكثير من تراث الوضّاعين إلى الفضاء الدينيّ. وسوف نشير في النقطة اللاحقة إلى بعض الأبواب التي توسَّعت القاعدة لتشملها.

د ـ بناء القِيَم الأخلاقية على أسسٍ ضعيفة

إنّ المجال الأخلاقي هو بنظر الفقهاء من المجالات التي تدخل في نطاق السُّنَن، فيمكن التسامح فيها بالاعتماد على الأخبار الضعيفة. وهذا الأمر له تأثيرٌ سلبيّ بالغ على سلوكيات الفرد المسلم، كما سنرى بعض أمثلته. وما يزيد في الطين بِلّةً، ويدعو للاستغراب، أنّ العقل الفقهيّ لا يزال بعيداً إلى حدٍّ كبير عن التأصيل النظري للفقه التربويّ، ويتعامل مع الموضوع بشيءٍ من الاستخفاف؛ كونه يتّصل بالأخلاقيات والآداب المحكومة ـ لدى هذا العقل ـ بقاعدة التسامح في أدلّة السُّنَن. ومضافاً إلى ذلك، فإنّ نمط الاستنباط الفقهيّ السائد لا يساعد على إنتاج فقهٍ من هذا القبيل؛ لأنّه يعتمد منهجاً تفكيكياً ذا آليّاتٍ صناعية لا تُعنى كثيراً بالاعتبارات التربويّة والأخلاقية، ولا تأخذ ذلك بعين الاعتبار في الممارسة الاجتهاديّة. وهذا المنحى التفكيكي في العملية الاجتهادية ليس خافياً على هؤلاء الفقهاء، بل إنهم يتبنَّوْنه عن وَعْيٍ تامّ؛ لاعتقادهم بأنّ ذلك ضروريٌّ من الناحية المنهجيّة؛ منعاً لتداخل العلوم المختلفة ذات الآليّات المتنوِّعة. ولذا كثيراً ما يواجهنا في كلام بعض الفقهاء اعتراضهم على دلالة حديثٍ معيّن بأنّ مفاده ليس حكماً شرعياً إلزاميّاً، وإنّما هو حكمٌ أخلاقيّ، أو يُقال: «إنّ هذه المسألة أخلاقيّة، وليست فقهية»([74])! وهذه الثنائية في تصنيف الدِّين قد تعطيك انطباعاً مخادعاً بأنّ الفقه هو مجرّد تعاليم جامدة، لا تمتّ إلى الأخلاق بصلةٍ، والحال أنّ الأخلاق هي روح الفقه.

إننا نسجِّل تحفُّظاً منهجيّاً سريعاً على هذا النَّمَط الاجتهاديّ، وحاصله: إنّ هذا التفكيك الصارم بين الفقه والأخلاق غير دقيق؛ لأنّه عُمِلَ في ضوئه على عزل التقنين والتشريع عن الاعتبارات التربويّة والأخلاقيّة، وكأنّ الفقيه يمارس مهمّته الاجتهادية في جزيرةٍ معزولة لا وجود للإنسان فيها! أو كأنّ الفقه مجرّد قوالب جامدة لا علاقة له بالاعتبارات الأخلاقيّة والروحيّة. مع أنّ الأخلاق في الحقيقة ينبغي أن تكون روح القوانين، ولا بُدَّ أن يستهديها المقنِّن؛ باعتبارها واحدةً من أهمّ مقاصد الدِّين، وفقاً لقول رسول الله|: «إنما بُعثْتُ لأتمِّم مكارم الأخلاق»([75]).

وقد كان لهذا المنهج التفكيكي، الذي يغفل مقاصد التشريع، ويتعامل مع النصوص بطريقةٍ هندسيّة، نتائج غير محمودة على المجالين الفقهيّ والتربويّ معاً. إنّ عزل الفقه عن الأخلاق والتربية سيجعلنا أمام نتائج فقهيّة تشكِّل فاجعةً من الناحيتين الأخلاقية والتربوية([76]).

ومن باب المثال: لك أن تتساءل: عند الحديث الفقهيّ عن مشروعية التورية اختياراً ـ دون ملزمٍ لها، كما في حالات الاضطرار ـ إلى أيّ حدٍّ يراعي الفقيه البُعْد الأخلاقيّ والتربويّ، ويستهديه، مع أن التورية تربّي الإنسان على قول خلاف الحقيقة؟!

وإلى أي حدٍّ يراعي ذلك عند الحديث عن بعض الحِيَل الشرعيّة، في الرِّبا أو غيره، والتي قد لا يكون لها ضرورةٌ ملحّة؟

صحيحٌ أنّ المسائل الأخلاقيّة قد تأتي في كلمات الفقهاء قسيماً للأحكام الإلزاميّة([77]). وبالتالي قد يُقال: إن هذا اصطلاحٌ، ولا مشاحّة في المصطلحات، كما أنّ من الطبيعي أن من حقّ الفقيه أن لا يرى في هذه الآية أو في ذاك الحديث دلالة إلزاميّة.

لكنْ أقول: هذا صحيحٌ، ولا نمانع من ذلك. ولكنّ المشكلة هي أنّه مع الأخذ بعين الاعتبار المبنى الفقهيّ القائل: إنّ الأحكام غير الإلزاميّة (الاستحباب، الكراهة، الإباحة) لا يتعيَّن على المجتهد دراستها، والاجتهاد فيها([78])، فستكون النتيجة أنّ الفقيه غيرُ ملزَمٍ بالبحث في القضايا الأخلاقية، وبالتالي لا يلزمه استحضار واستهداء كلّ هذا التراث الوارد في نطاق الأخلاق في عمله الفقهيّ، مع أنّ هذا التراث هو تراثٌ غنيّ، وقد أصابه ما أصاب غيره من الوَضْع أو التأويل والتحريف، فيحتاج إلى دراسةٍ نقديّة موسَّعة، ولا يَسَع الفقيه إهماله، كيف وهو أقرب ما يكون إلى المقاصد الكلِّية التي لا بُدَّ من استهدائها في العمل الفقهي؛ كي لا نكون أمام فتاوى بعيدة عن روح الأخلاق؟!

وختاماً أقول: إنّ هذه المحاذير ما كانت لتغيب عن ذهن الإمام× عندما تكلَّم بمضمون الأخبار المتقدِّمة، وعليه يمكن القول: إنّ المحاذير المذكورة هي من قبيل: القرائن المحتفّة بالنصّ، ممّا يمنع من التوسُّع في فهمه إلى الحدّ الذي يوقع في المحذور؛ أو قُلْ: إنّه سيكون شاهداً إضافيّاً على أن مراده× ليس هو ما فهمه القوم من روايات «مَنْ بلغ».

ـ يتبع ـ

الهوامش

(*) باحثٌ إسلاميّ، وأستاذ الدراسات العليا في الحوزة العلميّة. له أعمالٌ متعدِّدة. من لبنان.

([1]) مدارك الأحكام 1: 13.

([2]) الحدائق الناضرة 4: 198.

([3]) مستمسك العروة الوثقى 7: 171.

([4]) مصباح الأصول 2: 320.

([5]) مفاتيح الأصول: 345.

([6]) انظُرْ: كتابه الموضوعات: 220 ـ 222.

([7]) أوثق المسائل في شرح الرسائل: 300.

([8]) القول المسدَّد في مسند أحمد: 20.

([9]) التمهيد 6: 39.

([10]) الكفاية في علم الرواية: 126.

([11]) نقله عنه الألباني في تمام المنّة: 36.

([12]) المجموع 5: 43.

([13]) تمام المنّة: 34.

([14]) قال: «قَوْلُ أَحْمَد بْنِ حَنْبَلٍ: إذَا جَاءَ الْحَلالُ وَالْحَرَامُ شَدَّدْنَا فِي الأَسَانِيدِ؛ وَإِذَا جَاءَ التَّرْغِيبُ وَالتَّرْهِيبُ تَسَاهَلْنَا فِي الأَسَانِيدِ؛ وَكَذَلِكَ مَا عَلَيْهِ الْعُلَمَاءُ مِن العَمَلِ بِالْحَدِيثِ الضَّعِيفِ فِي فَضَائِلِ الأَعْمَالِ: لَيْسَ مَعْنَاهُ إثْبَات الاسْتِحْبَابِ بِالْحَدِيثِ الَّذِي لا يُحْتَجُّ بِهِ؛ فَإِنَّ الاسْتِحْبَابَ حُكْمٌ شَرْعِيٌّ، فَلا يَثْبُتُ إِلاَّ بِدَلِيلِ شَرْعِيٍّ، وَمَنْ أَخْبَرَ عَنْ اللهِ أَنَّهُ يُحِبُّ عَمَلاً مِن الأَعْمَالِ مِنْ غَيْرِ دَلِيلٍ شَرْعِيٍّ فَقَدْ شَرَعَ مِن الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللهُ، كَمَا لَوْ أَثْبَتَ الإِيجَابَ أَوْ التَّحْرِيمَ. وَلِهَذَا يَخْتَلِفُ الْعُلَمَاءُ فِي الاسْتِحْبَابِ، كَمَا يَخْتَلِفُونَ فِي غَيْرِهِ، بَلْ هُوَ أَصْلُ الدِّينِ الْمَشْرُوعِ، وَإِنَّمَا مُرَادُهُمْ بِذَلِكَ: أَنْ يَكُونَ الْعَمَلُ مِمَّا قَدْ ثَبَتَ أَنَّهُ مِمَّا يُحِبُّهُ اللهُ، أَوْ مِمَّا يَكْرَهُهُ اللهُ، بِنَصٍّ أَوْ إجْمَاعٍ، كَتِلاوَةِ الْقُرْآنِ؛ وَالتَّسْبِيحِ؛ وَالدُّعَاءِ؛ وَالصَّدَقَةِ؛ وَالْعِتْقِ؛ وَالإِحْسَانِ إِلَى النَّاسِ؛ وَكَرَاهَةِ الْكَذِبِ؛ وَالْخِيَانَةِ؛ وَنَحْوِ ذَلِكَ. فَإِذَا رُوِيَ حَدِيثٌ فِي فَضْلِ بَعْضِ الأَعْمَالِ الْمُسْتَحَبَّةِ وَثَوَابِهَا، وَكَرَاهَةِ بَعْضِ الأَعْمَالِ وَعِقَابِهَا، فَمَقَادِيرُ الثَّوَابِ وَالْعِقَابِ وَأَنْوَاعُهُ إذَا رُوِيَ فِيهَا حَدِيثٌ لا نَعْلَمُ أَنَّهُ مَوْضُوعٌ جَازَتْ رِوَايَتُهُ، وَالْعَمَلُ بِهِ، بِمَعْنَى أَنَّ النَّفْسَ تَرْجُو ذَلِكَ الثَّوَابَ أَوْ تَخَافُ ذَلِكَ الْعِقَابَ». الفتاوى 12: 65.

([15]) مَنْ لا يحضره الفقيه 2: 91.

([16]) بحر الفوائد في شرح الفرائد 2: 66.

([17]) المجموع 2: 94. وقال أيضاً: «إن العلماء متَّفقون على التسامح في الأحاديث الضعيفة في فضائل الأعمال ونحوها ممّا ليس من الأحكام». المجموع 8: 262. ومقصودُه بالأحكام ما فيه إلزامٌ بحَسَب سياق كلامه.

([18]) بتتبُّعنا لم نجِدْها مذكورةً قبل الشهيد. والشيخ الأنصاري ـ عند التطرُّق لكلمات الفقهاء ـ نقل أوّل الأمر كلام الشهيد، ولم ينقُلْ كلاماً للسابقين عليه. انظُرْ: رسائل فقهيّة: 137.

([19]) عدّة الداعي ونجاح الساعي: 10.

([20]) ذكرى الشيعة 2: 34.

([21]) هداية المسترشدين 3: 466.

([22]) راجِعْ: روضة الطالبين 1: 655.

([23]) الرعاية: 94.

([24]) الكافي 2: 87.

([25]) العناوين الفقهية 1: 420؛ 3: 325؛ ورجَّح البجنوردي أنها فقهيّة، انظُرْ: القواعد الفقهية 3: 334.

([26]) وذلك أنهم طرحوا في تنبيهات مبحث البراءة مسألة الاحتياط في العبادة، وحاجته إلى وجود أمرٍ؛ حيث ذهب الشيخ الأنصاري إلى أن منشأ احتمال الوجوب إذا كان خبراً ضعيفاً فلا ضرورة للتمسُّك بأخبار الاحتياط، ويكفي التمسُّك بأخبار «مَنْ بلغ». فرائد الأصول 2: 153. وقد تبعه القوم على تناول المسألة في هذا المبحث. وطبيعيّ أن بحثه في باب حجّية الخبر هو الأنسب.

([27]) دروس في علم الأصول، الحلقة الثانية: 144.

([28]) وهذا ما أصرّ عليه الشيخ الأنصاري، رسائل فقهية: 133.

([29]) وهذا ما ذهب إليه السيد البجنوردي، القواعد الفقهية 3: 334.

([30]) قيل في توجيه كونها فقهيّة: إنّ مصبّ الكلام هو في استحباب كلّ فعلٍ بلغ الثواب عليه، فلا يكون الخبر الضعيف دليلاً على الحكم، وإنّما هو محقِّقٌ لموضوعه.

ورُدَّ بأنه مخالفٌ لعنوان المسألة، ومعقد إجماعهم.

على أن ما ذُكر في توجيه إرجاع الكلام فيها إلى المسألة الفقهيّة هو كلامٌ لا محصّل له؛ وذلك لأنّ «ما ذكر في التعبير عن المسألة باستحباب كلّ فعلٍ دلّ على استحبابه خبرٌ ضعيف عبارةٌ أخرى عن حجّية الضعيف في المستحبّات، ويجوز مثل هذا التعبير في حجّية الخبر الصحيح أيضاً بأن يُقال الكلام فيه في وجوب كلّ فعلٍ دلّ الخبر الصحيح على وجوبه، واستحباب كلّ فعلٍ دل ّالخبر باستحبابه، وكذا الحرمة والكراهة والإباحة». راجِعْ: أوثق الوسائل في شرح الرسائل: 301.

([31]) طرحه المحقِّق النائيني احتمالاً. أجود التقريرات 2: 207؛ وفوائد الأصول 3: 409.

([32]) حيث يرَوْن أنه إذا لم نعمل بأخبار الآحاد يلزم مَحْو الدين، بل إنّ بعضهم قال هذا الكلام في مواجهة التقسيم الرباعي للحديث.

ولكنّ هذه الدعوى في المجالين هي مجرد تهويلٍ، فلا يصغى إليها.

([33]) قال الشيخ البهائي: «وقد شاع العمل بالضِّعاف في السُّنَن، وإنْ اشتدَّ ضعفُها، ولم ينجبر. والإيرادُ بأنّ إثبات أحد الأحكام الخمسة بما هذا حاله مخالفٌ لما ثبت في محلِّه مشهورٌ. والعامّة مُضْطَرِبون في التفصّي عن ذلك. وأمّا نحنُ ـ معاشرَ الخاصّة ـ فالعملُ عندنا ليس بها في الحقيقة، بل بحَسَنَة: «مَنْ سَمِعَ شيئاً من الثواب»، وهي ممّا تفرَّدْنا بروايته». الوجيزة، مدرجةٌ ضمن رسائل في دراية الحديث 1: 542.

([34]) يظهر ذلك من السيد هاشم معروف الحَسَني في كتاب الموضوعات: 221.

([35]) قال تعالى: ﴿لَوْلا جَاؤُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ﴾ (النور: 13).

([36]) أنهاها السيد الخوئي إلى ثلاثة. انظُرْ: مصباح الأصول 2: 319؛ بينما أنهاها السيد الشهيد إلى خمسة. انظُرْ: بحوث في علم الأصول 5: 122.

([37]) بحوث في علم الأصول 5: 122.

([38]) مصباح الأصول 2: 319. وقال الإمام الخميني: «إنّ هذا الاحتمال بعيد غايته عن مساق الأخبار؛ فإن لسان إعطاء الحجّية هو إلقاء احتمال الخلاف، وكون المؤدّى هو الواقع، وهو ينافي فرض عدم كون الحديث كما بلغه، أو فرض عدم صدوره عن رسول الله|». أنوار الهداية 2: 135.

([39]) المصدر السابق 2: 136.

([40]) لكنّه في الحلقات أشار إلى أن الاحتمال الأوّل مخالفٌ للظاهر. انظُرْ: الحلقة الثانية: 262؛ والحلقة الثالثة 2: 157.

([41]) بحوث في علم الأصول 5: 122.

([42]) المصدر السابق 5: 126.

([43]) الاحتمال الأوّل عنده هو أنّ «مفادها الإرشاد إلى حكم العقل بحسن الانقياد، وترتُّب الثواب على الإتيان بالعمل الذي بلغ عليه الثواب وإنْ لم يكن الأمر كما بلغه». مصباح الأصول 2: 319. وهذا هو الاحتمال الثالث بحَسَب تصنيفنا.

([44]) المصدر السابق 2: 319.

([45]) الحلقة الثانية: 262.

([46]) بحوث في علم الأصول 5: 122.

([47]) الحلقة الثانية: 262.

([48]) بحوث في علم الأصول 5: 122.

([49]) الحلقة الثانية: 262؛ والحلقة الثالثة: 155.

([50]) بحوث في علم الأصول 5: 122 ـ 123.

([51]) قد كنتُ أثناء التدريس بعض المتون الأصوليّة أرجِّح هذا الوجه، وخِلْتُه حينها غير مسبوقٍ، بَيْدَ أنّي وجدْتُ أنّ بعض كلمات الفقهاء غير بعيدةٍ عنه.

([52]) الأربعون حديثاً: 204.

([53]) الفصول المهمة إلى أصول الأئمّة 1: 617. وكلامه في الوسائل مُشْعِرٌ بذلك أيضاً، فقد أورد روايات «مَنْ بلغ» في باب «استحباب الإتيان بكلّ عملٍ مشروع رُوي له ثوابٌ عنهم^». وسائل الشيعة 1: 80.

([54]) رسائل فقهية: 150.

([55]) ثواب الأعمال: 132؛ وعنه: وسائل الشيعة 1: 80، الباب 18 من أبواب مقدّمة العبادات، ح1.

([56]) عدّة الداعي ونجاح الساعي: 9؛ وعنه: وسائل الشيعة 1: 82، الباب 18 من أبواب مقدّمة العبادات، ح8.

([57]) الكافي 2: 87.

([58]) المحاسن 1: 25.

([59]) الكافي 2: 87.

([60]) صورة المفروغيّة عن خيريّة العمل.

([61]) بحوث في علم الأصول 5: 122 ـ 123.

([62]) رسائل فقهية: 150.

([63]) المصدر نفسه.

([64]) يقول السيد فضل الله: «ليس هناك فرقٌ في الفتوى بين الواجب أو المحرَّم أو المستحب أو المكروه أو المفهوم؛ فقد يكون المفهوم الإسلامي الذي يطرح على الناس بمثابة الفتوى التي تحرِّك واقعاً معيَّناً، ممّا يشكِّل خطورة أكبر من خطورة الخطأ في حكمٍ شرعي فرعيّ». كتاب النكاح 1: 161.

([65]) من قبيل: ما رواه الكليني، بسنده عن علي بن الحكم، عمَّنْ حدَّثه عن أبي الربيع الشامي قال: «سألتُ أبا عبد الله×، فقلتُ: إنّ عندنا قوماً من الأكراد، وإنّهم لا يزالون يجيئون بالبيع، فنخالطهم ونبايعهم؟ فقال: يا أبا الربيع، لا تخالطوهم؛ فإنّ الأكراد حيٌّ من أحياء الجنّ، كشف الله عنهم الغطاء، فلا تخالطوهم». الكافي 5: 158. وقال المجلسي: «ورُبَما يؤوَّل كونهم من الجنّ بأنهم؛ لسوء أخلاقهم، وكثرة حِيَلهم، أشباه الجنّ، فكأنّهم منهم، كشف عنهم الغطاء». مرآة العقول 19: 145.

وروى الكليني، بسندٍ فيه إرسالٌ، عن أبي عبد الله×: «لا تعامل ذا عاهةٍ؛ فإنّهم أظلم شيءٍ». الكافي 5: 158، وعنه×: «احذروا معاملة أصحاب العاهات؛ فإنّهم أظلم شيءٍ». مَنْ لا يحضره الفقيه 3: 164. وكراهة معاملة ذوي العاهات لا تزال يُفتى بها إلى يومنا هذا. راجِعْ: منهاج الصالحين 2: 12. وقد سجَّلنا عليها في كتاب «من حقوق الإنسان في الإسلام» الملاحظات التالية: أوّلاً: إنّ هذا الحديث، لو صحّ سنداً ـ وهو غير صحيح ـ، ناظرٌ ـ بمقتضى التعليل الوارد فيه ـ إلى المعوّقين الذين لم يعمل المجتمع على تهذيبهم وتربيتهم نفسيّاً وخُلُقيّاً بما يشعرهم بإنسانيّتهم الكاملة، بل أبقاهم معزولين عن سائر الناس، كأنّهم وحوش مفترسة أو مصابون بأمراض مُعْدية، ولذا من الطبيعي أن يكون لهم ردّة فعلٍ ناقمة على المجتمع، وأن يكونوا أظلم شيءٍ. ثانياً: إنّ الفتوى المذكورة، وبالإضافة إلى افتقارها إلى المستند الصحيح، تساهم في خَلْق مشكلةٍ إنسانية، وتعمِّق من عزلة المعاق، وتزيده حَنَقاً على الآخرين. وهي من هذه الجهة أشبه بفتوى كراهة معاملة الأكراد ومخالطتهم وتزويجهم؛ لجهة مخالفتها لروح القرآن الكريم، ومقاصده الداعية إلى تكريم الإنسان. وأعتقد أنّ هذه الفتاوى هي من نتائج الاعتماد على قاعدة التسامح في أدلّة السُّنَن، مع أنها قاعدةٌ غير صحيحة، ولو تمَّتْ فلا مجال لها في المقام. ثالثاً: إنّ أمثال هذه الفتاوى تستغلّ ضدّ الدين؛ لتشويه صورته. وهي تدفع البعض إلى التشكيك بالإسلام. ولا رَيْبَ أنّ لها تأثيراً سلبيّاً على المعوّق نفسه، وهي تجعله يسيء الظنّ بالله تعالى، ويعتقد أنه تعالى ظَلَمه ظلماً تشريعياً، بالإضافة إلى ما قد يعتقد أنّه ظلمٌ تكوينيّ، كما أنّها تثير في نفسه الحَنَق على المجتمع، ورُبَما دفعه ذلك إلى الانتقام بطريقةٍ أو بأخرى.

([66]) يقول العلاّمة الحلّي في بيان المعاملات المكروهة: «ومعاملة الظالمين والسَّفَلة والأدنين والمحارفين وذوي العاهات والأكراد، ومجالستهم، ومناكحتهم، وأهل الذمة». قواعد الأحكام 2: 6؛ وقال: «وكذا تكره معاملة ذوي العاهات والأكراد، ومجالستهم، ومناكحتهم؛ لما رُوي من أنّهم حيٌّ من الجنّ». تذكرة الفقهاء 12: 138.

([67]) أشار إلى ضعف أسانيدها، وإمكان الإفتاء بمضمونها؛ استناداً إلى قاعدة التسامح، في كتاب ما وراء الفقه 6: 226. لكنّه رفض ذلك بوجهين، فراجِعْ.

([68]) أوضَحْنا الكلام حول ذلك بشكلٍ مفصَّل في كتاب «المرأة في النصّ الدينيّ، قراءة نقدية في روايات ذمّ المرأة».

([69]) وهذا ما رأى فيه البعض سبباً لإقدام الشريف الرضي على حذف أسانيد كتابه. قال السيد الأمين&: «ولم يكن قصده ـ أي الشريف الرضي ـ أن تُؤخَذ منه الأحكام ومسائل الحلال والحرام، ليذكر أسانيده، وإنّما قصد جمع مختاراتٍ من كلامٍ له حظٌّ في الفصاحة والبلاغة والمضامين العالية؛ لينتفع قرّاؤه بذلك». انظر: أعيان الشيعة 1: 540.

([70]) بحار الأنوار 1: 30.

([71]) استدلّ به الفاضل الدربندي(1285هـ) في إكسير العبادات في أسرار الشهادات 3: 248؛ وأشار إليه فيه 1: 141. واستشهد به على نحو الاستئناس الشيخ عبد الله المامقاني في المواكب الحسينية. انظُرْ: رسائل الشعائر الحسينية: 231 ـ 232. واستدلّ به السيد حسن الشيرازي،. انظر: الشعائر الحسينية: 127. ولاحِظْ: فتاوى العلماء في الشعائر الحسينية: 100، 141.

([72]) العروة الوثقى 2: 678.

([73]) راجِعْ: كتاب «مفاهيم ومعتقدات»: 69.

([74]) تعليقاً على الحديث التالي: «مَنْ استدان دَيْناً فلم ينْوِ قضاءه كان بمنـزلة السارق» يقول بعض الفقهاء: «فلا يبعد كون نيّة الوفاء كنيّة أداء سائر الواجبات من الواجبات الأخلاقية». انظُرْ: السيد الحكيم، مستمسك العروة الوثقى 5: 296. مثالٌ آخر: يقول السيد الحكيم& أيضاً، تعليقاً على قوله تعالى: ﴿وَعَاشِرُوهُنَّ بِالمَعْرُوفِ﴾ (النساء 20): إنه «ناظرٌ إلى الجهات الأخلاقية، لا غيرها». المصدر السابق 12: 302. ويعلّق السيد الخوئي& على روايةٍ معيَّنة بالقول: «إنها ناظرةٌ إلى الجهة الأخلاقية، فلا تكون مدركاً في الأحكام الفرعيّة». انظُرْ: مصباح الفقاهة 256. مثالٌ آخر: يذكر السيد الخوئي دليلاً على حرمة الغِيبة، وهو: «ما دلّ على أن مَنْ اغتاب مسلماً أو مسلمةً لم يقبل الله صلاته ولا صيامه أربعين يوماً وليلة، إلاّ أن يغفر له صاحبه»، ثمّ يعلِّق على الرواية قائلاً: «وفيه: أوّلاً: إنه ضعيف السند؛ وثانياً: إنه لا بُدَّ من حمل نظائر هذه الأخبار على الأحكام الأخلاقية؛ فإنه لم يتفوَّه أحدٌ ببطلان عبادة المغتاب ـ بالكسر ـ، ووجوب القضاء عليهم بعد التوبة». مصباح الفقاهة 1: 518؛ وانظُرْ: كتاب الحجّ (تقريرات درس السيد الخوئي) 1: 375.

([75]) الطبرسي، مكارم الأخلاق: 8.

([76]) من قبيل: فتوى الرضاع من الكبيرة. ولا يبتعد عن ذلك الفتوى التي تسمح بالتمتُّع، ولو في حدودٍ معيَّنة، بالزوجة الرضيعة!

([77]) يقول السيد الخوئي&، تعليقاً على بعض الروايات: «راجعة إلى الجهات الأخلاقية، فتحمل على الاستحباب». انظُرْ: مصباح الفقاهة 1: 544؛ ويقول في موردٍ آخر: إن جميع ما ورد في حقوق الإخوان محمولٌ على الجهات الأخلاقية، فيحمل على الاستحباب إلاّ ما ثبت وجوبه في الشريعة. انظُرْ: المصدر نفسه 1: 545.

([78]) يقول السيد الخوئي، تعليقاً على قول السيد اليزدي في العروة: (يجب التقليد في المستحبّات والمكروهات والمباحات): «إذا احتمل معها (المستحبّات والمكروهات والمباحات) حكماً إلزاميّاً أيضاً، كما إذا احتمل أن يكون ما هو المستحب واجباً واقعاً، أو يكون المكروه أو المباح حراماً كذلك، فإنه عند احتمال حكمٍ إلزاميّ معها لا بُدَّ من تحصيل المؤمِّن على ترك ما يحتمل وجوبه أو ارتكاب ما يحتمل حرمته، ولا مؤمِّن سوى الاجتهاد والتقليد والاحتياط. وأما لو جزم بالجواز، وإنْ لم يعلم بأنه مباحٌ أو مستحبّ أو مكروه، فلا حاجة فيه إلى التقليد، ولا إلى قرينَيْه»، أي الاحتياط والاجتهاد. انظُرْ: التنقيح في شرح العروة الوثقى (التقليد): 256.

Facebook
Twitter
Telegram
Print
Email

اترك تعليقاً