أحدث المقالات

د. حيدر باقري أصل(*)

ترجمة: مرقال هاشم

مقدّمةٌ

لقد تمّ تعريف الوحي وبيانه على مختلف الآراء، وكان لكلّ رأي مبانيه الخاصّة في تحليل الوحي. وإن هذه الآراء تشمل: رؤية المتكلِّمين؛ والفلاسفة؛ والعرفاء؛ والمفسِّرين للقرآن الكريم، بشأن الوحي؛ حيث قام كلّ واحدٍ من هذه الاتجاهات بتقديم تفسيره للوحي في ضوء مبانيه الخاصة، وقدّم نظريات متعدّدة في بيان مفهوم الوحي. وقد تمّ تقديم القسم الأهمّ من هذه النظريات من قِبَل المتكلِّمين وفي إطار الاتجاه الكلامي.

يعمد المتكلِّمون إلى بيان الأبحاث الكلامية الخاصة بالوحي ضمن أربعة محاور، وهي: مبدأ الوحي؛ أسلوب وكيفية الارتباط الوحياني بين الله والنبي؛ والشعور النبوي، والنصّ الوحياني للقرآن الكريم. وقد كان اختلافهم الأكبر يكمن في مبدأ الوحي مع المنكرين للوحي؛ حيث البحث هناك يتجاوز البحث الديني. وأما بحثهم الديني الرئيس فيتلخَّص في محورين، وهما: أسلوب الارتباط الوحياني بين الله والنبي، و«النصّ الوحياني للقرآن الكريم». وكان هؤلاء يفسِّرون الارتباط الوحياني بين الله والنبيّ بالارتباط الكلامي، وتبعاً لذلك كانوا يُفسِّرون النصّ الوحياني للقرآن بالكلام الإلهي، ولكنهم قدّموا نظريات مختلفة في ما يتعلَّق بأسلوب الارتباط الكلامي بين الله والبشر (وأسلوب وكيفية انتساب الكلام والتكلّم والوحي إلى الله). وقد أدّت جهودهم في الناحيتين المذكورتين والوحي إلى إبداء نظرية الكلام النفسي واللفظي للوحي من قِبَل الأشاعرة، ونظرية الكلام الحادث والمخلوق من قِبَل المعتزلة والإمامية، وذهب الحنابلة في مقابل هاتين النظريتين ـ استناداً إلى مبانيهم  ـ إلى القول بالتوقُّف. إن اتجاه هؤلاء المتكلِّمين إلى الوحي في هذه المرحلة كان اتجاهاً لغوياً، ولم يقدِّموا أيّ بحثٍ في هذه المرحلة عن محور الشعور النبويّ أبداً.

وقد ذهب المتكلِّمون في العصر المتأخِّر إلى تفسير أسلوب الارتباط الوحياني بين الله والإنسان والنصّ الوحياني للقرآن على غرار تفسير أسلافهم؛  وأما في العصور اللاحقة فقد انتقلوا بالتدريج من المحورين المذكورين إلى محور الشعور النبوي، وقد أدَّتْ أبحاثهم في هذا المحور إلى تبلور نظرية الوحي أو الشعور الخاصّ. لقد ركّز أصحاب هذه النظرية أكبر جهودهم في تفسير الشعور النبوي، ولم يتعرّضوا إلى البُعْد اللغوي من الوحي إلاّ قليلاً؛ وكان هذا بسبب دخول الاتجاهات الفلسفية والعرفانية إلى بحث الوحي. لقد كان الفلاسفة والعرفاء يفسِّرون هذا المحور من الوحي في ضوء مبانيهم الخاصّة، ومن هنا فقد ركّز المتكلِّمون بدَوْرهم بحثهم ـ في مقام الدفاع عن موقفهم طبقاً لما يقتضيه العصر وتستدعيه الحاجة ـ في هذا المحور أيضاً.

ومع بداية عصر التجديد والاتجاهات الجديدة في عصر الحداثة حصل تحوُّل في الأبحاث القديمة، واصطبغت بصبغةٍ جديدة، وكان من بين خصائص مسألة الوحي في هذه المرحلة تبلور تفسيرٍ جديد في طبيعة «الارتباط الوحياني بين الله والإنسان». لقد عمد هذا الاتجاه الجديد إلى نقل الوحي من الاتجاه اللغوي إلى الاتجاه غير اللغوي، واكتسب عنوان التجربة الدينية.

وعلى هذه الشاكلة قام المتكلِّمون المسلمون بتقديم نظريات متعدّدة حول المحاور الأربعة المذكورة للوحي؛ بَيْدَ أن المحقّقين لم يقدِّموا دراسةً وقراءة متناغمة تعكس نظرياتهم. ومن هنا فقد سعَيْنا في هذه المقالة إلى دراسة هذه النظرية في ضوء الاتجاهين اللغوي وغير اللغوي. إن الاتجاه اللغوي للوحي يشمل نظريات الكلام النفسي واللفظي للأشاعرة، والكلام الحادث المعتزلي / الإمامي، والتوقُّف [الحنبلي]؛ وإن الاتجاه غير اللغوي للوحي يشمل نظريات الوحي أو الشعور الخاصّ والتجربة الدينية.

1ـ نظريّات الوَحْي الإلهيّ

أـ نظريّة الكلام الحادث

لقد تمّ بيان نظريّة الكلام الحادث من قِبَل المتكلِّمين المعتزلة والإمامية في تفسير الوحي. وقد كانت هذه النظرية إحدى النظريات اللغوية للوحي؛ حيث تعمل على تحليل الوحي في ضوء الاتجاه اللغوي. إن هذه النظرية ترى أن النصّ السماوي (القرآن) ـ الذي نزل على النبي وحياً من الله ـ كلامٌ حادث ومخلوق ومركَّب من المعاني والألفاظ (الأصوات والحروف). إن الكلام ـ طبقاً لهذه النظرية ـ قائمٌ بذات الله تعالى، وليس صفةً ذاتية، بل هو من صفات الفعل الإلهي، ومن هنا فإن الله سبحانه وتعالى يخلق هذا الكلام ـ أي الأصوات والحروف المعبِّرة عن المعاني ـ في وجودٍ آخر، من قبيل: «اللوح المحفوظ» أو «جبرائيل» أو «النبي». وفي هذا الرأي عندما يُقال: «إن الله قد أوحى إلى النبي» فهذا يعني أن الله قد خلق وأوجد الكلام المركّب من اللفظ والمعنى في نفس ووجود النبي.

قال القاضي عبد الجبّار ـ وهو من متكلِّمي المعتزلة في القرنين الخامس والسادس الهجريين ـ بشأن النصّ السماوي في الكلام الإلهي: حقيقة الكلام أنه الحروف المنظومة والأصوات المقطّعة. والكلام حيث يوجد في أفراد الإنسان مع النعمة والرزق الإلهي، ويكونون متكلِّمين بالنعمة والرزق الإلهي، يكون الله متكلِّماً أيضاً. ولكنّ ذلك إنما يكون بأن يوجد الله الكلام في غيره، وليس من شرائط الفاعل أن يجري الفعل في مورده أيضاً (بمعنى أن يكون الله متكلِّماً لكي يتمكّن من إيجاد الكلام)([1]).

وقال الجرجاني في شرح المواقف، بالنظر إلى الكلام المنقول أعلاه عن القاضي عبد الجبّار المعتزلي: هذا ما يقوله المعتزلة. ونحن بدَوْرنا لا ننكره أيضاً، فنحن نقوله أيضاً، ونعتبره كلاماً لفظياً (وحياً لفظياً)، ونعترف بحدوثه، وأنه ليس قائماً بذات الله. ولكنْ لدينا كلامٌ فوق ذلك([2]).

وعلى هذا الأساس فإن ظاهر المسألة هو أن جميع المسلمين يؤمنون بأن الله تعالى متكلِّمٌ بهذا المعنى، وليس هناك خلافٌ حول هذه المسألة بين الفِرَق الإسلامية. إنما الاختلاف في حصر التكلُّم بهذا المعنى([3]).

يُصرّ الإمامية والمعتزلة على أصل قضية (اتصاف الله بالتكلُّم) على أساس تفسيرهم، ويرَوْن أن الدليل على اتصاف الله تعالى بالتكلُّم نقلي (قرآني). وقد وصف القرآن الكريم الله بصفة التكلُّم، كما في قوله تعالى:

ـ ﴿وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللهُ إِلاَّ وَحْياً﴾ (الشورى: 51).

ـ ﴿وَكَلَّمَ اللهُ مُوسَى تَكْلِيماً﴾ (النساء: 164).

ـ ﴿مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللهُ﴾ (البقرة: 253).

ـ ﴿وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ﴾ (الأعراف: 143).

وقد استندوا لإثبات حدوث الكلام الإلهي والنصّ السماوي للقرآن الكريم بقضيةٍ منطقية. وشكل هذه القضية كما يلي:

إن النصّ السماوي للقرآن وكلام الله قد تركَّب وتألَّف من أجزاء متفاوتة ومتعاقبة؛

وكلّ ما كان كذلك فهو حادثٌ؛

وعليه فإن كلام الله تعالى (الوحي الإلهي) حادثٌ([4]).

إنهم يستنبطون هذه القضية المنطقية من أدلّة عقلية متعدّدة، ومن ذلك ـ على سبيل المثال ـ:

أوّلاً: قولهم: إن القرآن ممكن الوجود، وكلّ ما كان ممكن الوجود فهو مخلوقٌ وحادث، وعليه فإن القرآن مخلوقٌ وحادث.

الدليل الآخر: إن القرآن الكريم، مثل سائر الكتب السماوية، يشتمل على حوادث وأمور حدثت في عصر النبيّ الأكرم| ـ من قبيل: الاحتجاج على أهل الكتاب والمشركين، وما حصل في الحروب والمعارك ، وهذه الأخبار قد نقلت في الكتب السماوية ـ، وكلّ ما كان كذلك فهو حادثٌ ومخلوق، وعليه يكون القرآن الكريم والكتب السماوية مخلوقةٌ وحادثة([5]).

إن الإمامية والمعتزلة يصلون من خلال هذا الأدلة إلى نتيجتين، وهما: أوّلاً: إن صفة التكلُّم صفة فعل الله، وليست صفة ذات الله. وثانياً: إن صفات من قبيل: العلم والقدرة والحياة ـ وكل ما يعود إليها ـ قديمةٌ، وليست مخلوقةً وحادثة، وفي الوقت نفسه يرَوْن أن ذات الألفاظ والعبارات التي تعبِّر عن هذه الصفات حادثةٌ ومخلوقة.

ب ـ نظرية الكلام النفسيّ واللفظيّ

لقد تمّ بيان هذه النظريّة من قِبَل الكُلاّبية والحنابلة من أصحاب الحديث والأشاعرة. إنهم يُفسِّرون النصّ السماوي للقرآن بكلام الله. وقد أقام أساس هذه النظرية أصحاب الحديث. وقد اعتبروا القرآن وكلام الله قديماً وغير مخلوق، بل كان أصحاب الحديث يرَوْن حتى الخط ونسخة القرآن المقروءة والملفوظة قديمةً غير مخلوقة أيضاً([6]).

كما كان للحنابلة ـ من أهل السنّة ـ مثل هذا الرأي في مورد كلام الله والقرآن الكريم.

قال أحمد بن حنبل: إن القرآن كلام الله ليس مخلوقاً؛ فمَنْ قال: إن القرآن مخلوقٌ فهو كافرٌ مطرود؛ ومَنْ قال: إن القرآن كلام الله تعالى وتوقَّف، ولم يقُلْ: إنه مخلوقٌ أو غير مخلوق، فهو أخبث من الأوّل؛ ومَنْ قال: إن ألفاظنا في تلاوة القرآن مخلوقةٌ، والقرآن كلام الله، فهو مطرودٌ أيضاً؛ وكلُّ مَنْ لم يكفِّر هؤلاء فهو مثلهم([7]).

وعندما سُئل أحمد بن حنبل عن عقيدته في القرآن أجاب قائلاً: «الذي أعتقد وأذهب إليه، ولا أشكّ فيه، أن القرآن غير مخلوق»([8]).

وقد ذهب الأشاعرة ـ تَبَعاً لعقيد أصحاب الحديث والحنابلة ـ إلى القول بأن الوحي وكلام الله (القرآن) قديمٌ وغير مخلوق.

قال أبو الحسن الأشعري: «إن كلام الله غير مخلوق، وإن مَنْ قال بخلق القرآن فهو كافرٌ»([9]).

لقد التفت الأشاعرة إلى بطلان نظرية أصحاب الحديث والحنابلة في القول بقِدَم كلام الله وعدم خلق القرآن؛ إذ لم يكن بمقدور العقل السليم القبول بأن القرآن المقروء والملفوظ بقراءتنا وتلاوتنا للقرآن قديمٌ وغير مخلوق. ومن هنا صاروا في صدد البحث عن حلٍّ لهذه المشكلة؛ فأبدعوا لذلك نظرية الكلام النفسي والكلام اللفظي. فاعتبروا أن الكلام النفسي لله قديمٌ وغير مخلوق، والكلام اللفظي حادثٌ ومخلوقٌ، وفسّروا كلام الله والقرآن بالكلام اللفظي في مقابل الكلام النفسي.

يرى الأشاعرة في ضوء بعض الأدلة أن الكلام النفسي عبارةٌ عن معانٍ قائمة بوجود الله سبحانه وتعالى. إن الكلام النفسي هو ذات محتوى الوحي والكلام والقرآن القديم وغير المخلوق، ويرَوْن أن الكلام اللفظي هو القضايا التي تعبِّر عن محتوى الوحي والكلام والقرآن. وفي هذه الرؤية، عندما نقول: «إن الله قد أوحى» فهذا يعني أن الله قد أظهر كلامه النفسي ـ بوصفه صفةً ذاتية وقديمةً قائمةً بذاته ـ ونزَّله في مرتبة ومرحلة الكلام اللفظي.

قال القوشجي في (شرح التجريد) في مورد الكلام النفسي والكلام اللفظي [ما معناه]: إن الذي يبيّن صيغة الأمر أو النهي أو النداء أو الإخبار أو الاستخبار أو غير ذلك يجد في دخيلته ونفسه معنىً يُعبّر عنه بالألفاظ. إن هذه الألفاظ المعبِّرة تسمّى كلاماً حسّياً، والمعنى الذي يتمّ العثور عليه في الدخيلة والنفس، وإن الألفاظ المذكورة تعبّر عنها، ووجودها دائر مدار حياة النفس، ولا تختلف باختلاف العبارات بحسب الأوضاع والمصطلحات، ويقصد المتكلِّم إيصالها إلى السامع، تُسمّى بالكلام النفسي([10]).

وقال الفضل بن روزبهان في كتاب (نهج الحقّ)، المطبوع ضمن (دلائل الصدق): «إنّ الكلام عندهم [الأشاعرة] لفظٌ مشترك، تارةً يطلقونه على المؤلَّف من الحروف المسموعة [ويسمّون هذا النوع من الكلام بالكلام اللفظي أو الحسّي]؛ وتارةً يطلقونه على المعنى القائم بالنفس، الذي يُعبَّر عنه بالألفاظ، ويقولون: هو الكلام حقيقة، وهو قديمٌ قائم بذاته [تعالى]»([11]).

يقول الفضل بن روزبهان: لا بُدَّ من إثبات هذا الكلام؛ فإن العُرْف لا يفهمون من الكلام إلا المؤلَّف من الحروف والأصوات. فنقول أوّلاً: ليرجع الشخص إلى نفسه، أنه إذا أراد التكلّم بالكلام فهل يفهم من ذاته أنه يُزوّر ويرتّب معاني، فيعزم على التكلّم بها؟ كما أن مَنْ أراد الدخول على السلطان أو العالم فإنه يرتّب في نفسه معانيَ وأشياء، ويقول في نفسه: سأتكلَّم بهذا. فالمنصف يجد من نفسه هذا ألبتّة. فهذا هو الكلام النفسي. ثمّ نقول على طريقة الدليل: إن الألفاظ التي نتكلّم بها لها مدلولات قائمة بالنفس، فنقول: هذه المدلولات هي الكلام النفسي [كما أن تلك الألفاظ التي تدلّ على تلك المعاني الذهنية تُسمّى كلاماً لفظياً أو كلاماً حسّياً]([12]).

وقد استدلّ السيد الشريف الجرجاني بأن الإخبار عن شيء ـ وهو الكلام النفسي ـ غير العلم، فقال [ما معناه]: «إن الكلام النفسي يعني المعنى القائم في النفس [ذهن المتكلِّم]. وفي الإخبار لا يتغيّر الخبر بتغيير العبارات، وعليه يكون الكلام النفسي غير العلم؛ إذ تارة يُخبر شخصٌ عن شيء لا يعلمه، بل يعلم خلافه أو يشكّ فيه، [وعليه يكون الإخبار بالشيء غير العلم به]»([13]).

كما استدلّ السيد الشريف الجرجاني على أن الإنشاء الدالّ على الكلام النفسي هو غير الإرادة والكراهة. وقال في ذلك [ما معناه]: «يوجد في الإنشاء شيء غير الإرادة والكراهة، وذلك هو الكلام النفسي؛ إذ قد يأمر شخصٌ تارةً بشيء لا يريده، كالذي يختبر خادمه ليراه مطيعاً أم لا، وعليه فالمقصود هو الاختبار، دون امتثال الأمر أو القيام بالفعل. لا يوجد هنا أمرٌ ولا نهي، ولا الإرادة والكراهة، وإنما الموجود هو الاختبار فقط. وهذا هو الكلام النفسي»([14]).

وعليه فإن خلاصة استدلال الأشاعرة هي أن هناك في ما وراء الجُمَل والعبارات الخبرية والإنشائية الموجودة في ذهن المتكلِّم، وفي ما وراء التصوُّرات والتصديقات في الجُمَل الخبرية، وفي ما وراء الإرادة والكراهة في الجُمَل الإنشائية، هناك شيءٌ يُسمّى بالكلام النفسي، وأن الكلام اللفظي تعبيرٌ عن ذلك المعنى الذهني (الكلام النفسي). وعليه فإن الكلام النفسي هو غير علم الله وإرادته. ومن هنا كما أن الله سبحانه وتعالى عالمٌ ومريد فهو متكلِّمٌ أيضاً. وجميع هذه الأمور من الصفات الذاتية لله سبحانه وتعالى.

إن الأشاعرة بهذا الكلام يرَوْن أن الكلام والتكلُّم والوحي من الصفات الذاتية لله سبحانه وتعالى، ويصفون الله بصفة الكلام النفسي، ويقولون: إن الكلام النفسي هو غير صفة العلم والإرادة والكراهة.

وقد استدلّ الأشاعرة على قِدَم وذاتية صفة كلام الله من خلال إقامة قياسٍ منطقيّ على النحو التالي: إن كلام الله صفةٌ له، وكلّ ما كان صفةً لله فهو قديمٌ وذاتي، إذن كلام الله قديمٌ وذاتي([15]).

ثم ذكروا بعض الأدلة النقلية ـ ولا سيَّما الآيات القرآنية ـ لعدم مخلوقية الكتاب السماوي([16]). ومن بين الآيات التي يستدلّ بها الأشاعرة على عدم خلق القرآن قوله تعالى: ﴿إِنْ هَذَا إِلاَّ قَوْلُ الْبَشَرِ﴾ (المدّثر: 25).

يقول الأشاعرة استناداً إلى هذه الآية: «من زعم أن القرآن مخلوق، فقد جعله قولاً للبشر، وهذا ما أنكره الله على المشركين»([17]).

كما استدلّ الأشاعرة على عدم خلق القرآن وكلام الله بهذه الآية([18]): ﴿إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾ (النحل: 40). فإذا كان القرآن مخلوقاً وجب أن يقع مقولاً لقول: «كُنْ فيكون»، وإذا كان الله قائل «كُنْ» وجب أن يكون لهذا القول قولٌ أيضاً، وهذا يستوجب واحداً من أمرَيْن؛ فإما أن تعود المسألة إلى هذا الأمر، وهو أن قول الله ليس مخلوقاً، أو أن كلّ قولٍ سوف يقع بقولٍ آخر، وهكذا إلى ما لا نهاية، فيلزم منه التسلسل. وحيث يستحيل التسلسل سوف يثبت أن قول الله ليس مخلوقاً. وهذا هو الصحيح([19]).

كما استدلّ الأشاعرة على عدم خلق كلام الله بقوله تعالى: ﴿وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ﴾ (الأعراف: 54). فإن الله سبحانه وتعالى في هذه الآية يفصل «الأمر» عن «الخلق». إن المراد من «الخلق» هو كلّ نوع من أنواع الخلق، فيدخل فيه جميع المخلوقات، والمراد من «أمر الله» كلام الله، وهذا يدلّ على أن كلام الله غير مخلوق لله([20]).

وعلى هذا الأساس فإن الأشاعرة يرَوْن الكلام النفسي في مورد الإنسان ـ بحَسَب حدوث ذاته ـ حادثاً، ولكنهم يعتبرونه في مورد الله تعالى ـ بحَسَب قِدَم ذاته ـ قديماً؛ خلافاً للكلام اللفظي الذي هو حادثٌ على كلتا الحالتين.

ج ـ نظريّة التوقُّف

لقد تمّ عرض نظريّة التوقُّف من قِبَل إمام الحنابلة أحمد بن حنبل وأتباعه. إن هذه النظرية تقول بالتوقُّف بين نظرية المعتزلة ونظرية الأشاعرة، ولا تبدي رأياً في مقابل مخلوقية وعدم مخلوقية القرآن والكلام الإلهي.

يقول أحمد بن حنبل: «مَنْ زعم أن القرآن مخلوق فهو جُهمي، ومَنْ زعم أنه غير مخلوق فهو مبتدع»([21]).

إن أحمد بن حنبل ـ بالنظر إلى انتمائه إلى أصحاب الحديث ـ كان يرفض البحث في المسائل التي لم يخُضْ فيها السلفُ الصالح. إنه كان يرى أن العلم عبارة عن شيء تعرَّض له السلف، والبدعة عبارة عن المسائل التي لم يتعرَّض لها السلف. ومن بين المصاديق التي كان يذكرها على ذلك بحث «كلام الله»، وكان يقول: حيث إن مسألة الكلام لم تحْظَ باهتمام السلف، ولم يبحثوها، يكون الخائض فيها مبتدعاً. ومن هنا كان يحكم بالتوقُّف في البحث عن كلام الله([22]).

وعلى هذا الأساس، فإن الحنابلة في مرحلة توقُّفهم لم يكونوا يذهبون إلى أيٍّ ممّا قاله المعتزلة والأشاعرة، وكانوا يذكرون نظرية التوقُّف، التي هي قولٌ ثالث في المسألة.

ورد في كتب التاريخ أن سبب اشتهار أحمد بن حنبل يعود إلى ثباته وإصراره على هذه المسألة، وأن الفقهاء عندما كانوا يسألونه عن خلق القرآن لم يكن يُقرّ بخلق القرآن، وقد سُجن على ذلك لما يقرب من ثمانية عشر شهراً، تحمَّل خلالها صنوف العذاب والجلد، ولكنّه على الرغم من ذلك كله لم يتراجع عن رأيه([23]).

يذهب المحقِّقون إلى الاعتقاد بأن القول بالتوقُّف كان يعود إلى بداية حياة أحمد بن حنبل. حيث كان يرى في هذه المرحلة أن البحث في كون القرآن مخلوقاً أو غير مخلوق بدعةٌ. وفي هذه المرحلة تعرّض إلى أنواع الأذى، من قبيل: السجن والتعذيب. ولكنْ في المرحلة اللاحقة ـ ولا سيَّما بعد زوال الأذى عنه، عندما حظي بدعم وتأييد المتوكّل العباسي، وطالبه بالأدلة على مدّعاه ـ اختار القول بعدم خلق القرآن، وعلى الرغم من ذلك لم نجِدْ له أثراً في إثبات قِدَم القرآن([24]). ومن هنا قيل في هذه المرحلة بشأن أحمد بن حنبل: «سأل العباسُ أبا عبد الله [أحمد بن حنبل] ـ رحمه الله ورضي عنه ـ فقال له: قومٌ هاهنا قد حدَّثوا يقولون: القرآن لا مخلوق ولا غير مخلوق. فقال: هؤلاء أضرّ من الجهمية على الناس. ويلكم فإن لم تقولوا ليس بمخلوقٍ، فقولوا مخلوقٌ. قال أبو عبد الله: هؤلاء قوم سوءٍ. فقال العباس: ما تقول يا أبا عبد الله؟ فقال: الذي أعتقد وأذهب إليه، ولا أشكّ فيه، أن القرآن غير مخلوق. ثم قال: سبحان الله ومَنْ يشكّ في هذا؟!»([25]).

ومن هنا كان أحمد بن حنبل في فترة اعتقاده بعدم خلق القرآن وكلام الله يقول [ما معناه]: «إن القرآن كلام الله ليس مخلوقاً؛ فمَنْ قال: إن القرآن مخلوق فهو كافر مطرود؛ ومَنْ قال: إن القرآن كلام الله تعالى وتوقَّف، ولم يقُلْ: إنه مخلوق أو غير مخلوق، فهو أخبث من الأوّل؛ ومَنْ قال: إن ألفاظنا في تلاوة القرآن مخلوقة، والقرآن كلام الله، فهو مطرودٌ أيضاً؛ وكلُّ مَنْ لم يكفِّر هؤلاء فهو مثلهم»([26]).

2ـ نظرياتٌ في بشريّة الوَحْي

أـ نظريّة الوَحْي أو الشعور الخاصّ

إن نظريّة الوَحْي أو الشعور الخاصّ ـ التي ذكرها العلاّمة محمد حسين الطباطبائي بعنوان الشعور الخفيّ([27]) ـ عبارةٌ عن نظريةٍ تنظر إلى البُعْد غير اللغوي من طبيعة الوحي، وتركّز بحثها على محوري طبيعة الارتباط الوحياني لله والنبيّ وشعور النبيّ الخاصّ.

إن هذه النظرية ترى أن ماهية الوحي عبارةٌ عن التفهيم السريع والخفيّ لسلسلة من الحقائق والمعارف والآراء الفكرية والتعاليم السلوكية المتناسبة مع العصر من قِبَل الله للمنتجبين من البشر (الأنبياء)، حيث تحصل من طريق آخر غير الطريق العام للمعرفة ـ من قبيل: التجربة والعقل والشهود العرفاني ـ، أي من طريق شعور مستقلّ وخاصٍّ بالنبيّ، وتقول: إن الله يبلغ خطابه إلى الناس من طريق شعور خاصّ.

ومن بين العلماء المتقدِّمين في علم الكلام الذين ارتضوا هذه النظريّة يمكن الإشارة إلى: الكندي المتكلِّم والفيلسوف(256هـ)([28])، ومحمد بن النعمان المعروف بالشيخ المفيد(413هـ)([29])، وأبي حامد محمد الغزالي(505هـ)([30])، والسيد الشريف علي بن محمد الجرجاني(816هـ)([31]).

ومن بين العلماء المتأخِّرين الذين قالوا بهذه النظرية في الوحي يمكن لنا ذكر: صبحي الصالح([32])، ومحمد عبده([33])، ومحمد رشيد رضا([34])، ومحمد حسين الذهبي([35])، ومحمد حسين الطباطبائي([36])، ومرتضى مطهَّري([37]).

إن المستفاد من أقوال هؤلاء العلماء في تعريف الوحي هو أنهم يعتبرون «طبيعة الارتباط الوحياني بين الله والنبيّ» موهبةً إلهية أو عطاءً سماوياً. كما اعتبروا وسيلة الارتباط الوحياني بين الله والنبي شعوراً مستقلاًّ خاصّاً بالنبيّ، وغير قابل للاكتساب. وهم يسمون هذا الارتباط الوحياني الخاص ـ الذي يتحقَّق من طريق الشعور النبويّ الخاصّ ـ بالهداية الإلهية الخاصّة لجميع الناس، وهي الهداية التشريعية.

والسؤال المطروح على القائلين بهذه النظرية هو: هل هم من الذين ينكرون البُعْد اللغوي من الوحي، أو الذين يقولون مع هذه النظرية بالبُعْد اللغوي للوحي أيضاً؟ وفي الحالة الأخيرة كيف يمكن تفسير وجمع نظريّتهم؛ إذ يبدو من ظاهر نظريتهم هو الظهور في البُعْد غير اللغوي للوحي؟

هناك مَنْ سعى إلى الاستنتاج قائلاً: إن المتكلمين والفلاسفة الذين يفسّرون الوحي على هذه الشاكلة قد اعتقدوا ـ بشكلٍ عام ـ بالاتجاه غير اللغوي في الوحي، وقالوا: إن المتكلمين والفلاسفة، ابتداءً من الفارابي وابن سينا وصولاً إلى الغزالي وغيره، كان لهم مثل هذه الرؤية في مسألة الوحي، ثم صرَّحوا بأن تقرير الشهيد المطهَّري للوحي يستند إلى هذه الرؤية تماماً([38]).

ورغم أن تفسير الفلاسفة المشائين ـ ولا سيَّما الفارابي([39]) وابن سينا([40]) ـ للوحي يُراد منه في أغلب الظن هو الوحي غير اللغوي؛ وذلك لأن الوحي في الفلسفة المشائية وفي كلام ابن سينا والفارابي وأضرابهم عبارةٌ عن اتصال قوي وارتباط استثنائي بين نفس النبي والعقل الفعّال([41])، وإن أخذ الوحي من العقل الفعّال كان أخذاً بسيطاً، ولا يمكن أن يكون له بُعْدٌ لغوي؛ بَيْدَ أن كلّ تحليل ينكر البُعْد اللغوي من الوحي لا يكون قابلاً للإسناد إلى جميع هؤلاء المتكلِّمين والعلماء. كما لا يمكن الاستناد إلى ظاهر أقوالهم ونظرياتهم وتطبيق آرائهم على الاتجاه غير اللغوي؛ لأن هؤلاء المتكلِّمين ـ وحتى بعض الفلاسفة والعرفاء ـ كانوا في مقام تحليل البُعْد غير اللغوي من الوحي، وقدّموا نظرياتهم في مقام تحليل هذا البُعْد من الوحي، ولو سُئل هؤلاء المتكلِّمون والفلاسفة عن البُعْد اللغوي من الوحي لكانوا قد قبلوا بوحيانية ألفاظ الوحي أيضاً.

توضيح ذلك: أوّلاً: نعلم أن الشخص إذا كان في مقام بيان أمرٍ ما، وبيَّن جميع مراده عن ذلك الأمر، عندها يمكن لنا الاستناد إلى كلامه واكتشاف مراده منه؛ وأما إذا لم يكن في مقام البيان، أو كان في مقام البيان ولكنه لم يبيِّن جميع أجزاء مراده، لا يمكن الاستناد إليه.

ونحن ندّعي أن مقام البحث من النوع الثاني، وهو أن هؤلاء العلماء كانوا في مقام بيان وتحليل الشعور الخاصّ بالنبي، ولم يكونوا في مقام بيان الوحي اللغوي.

وثانياً: إن بعض هؤلاء المتكلِّمين قد تعرَّضوا في مواضع أخرى من آثارهم في مقام البحث عن الوحي إلى البُعْد اللغوي للوحي أيضاً، وقبلوا بوحيانية ألفاظ الوحي أيضاً. ولكن حيث إن إثبات هذا البحث يحتاج إلى استعراض آثارهم ومؤلَّفاتهم، وهو يؤدّي بنا إلى إطالة الكلام، فإننا نؤثر غضّ الطرف عن ذلك، ونحيل الراغبين في الوصول إلى حقيقة الأمر في هذا الشأن إلى آثارهم.

ب ـ نظرية التجربة الدينيّة في الوَحْي الإسلامي

إن نظريّة التجربة الدينية للوَحْي في الكلام الإسلاميّ ظهرت بوصفها صدى للتجربة الدينية للوحي في الكلام المسيحي. إن الدافع الرئيس لطرح نظرية التجربة الدينية في الكلام المسيحي كان يكمن في العمل على حلّ ثلاث مشاكل أساسية تتعلَّق بالكتاب المقدَّس، وهي:

أوّلاً: حلّ مشكلة ثبات الوحي والتحوُّل والتغيير في المعارف البشرية في مساحة الزمان والمكان.

ثانياً: حلّ مشكلة التناقضات والاختلافات الكثيرة بين النصوص المقدّسة وكيفية انتسابها بأجمعها إلى الله.

ثالثاً: حلّ مشكلة العلاقة الجَدَلية بين العلم والدين.

بَيْدَ أن السبب الجوهري في طرح نظرية التجربة الدينية في الكلام الإسلامي إنما يكمن في حلّ مشكلة ثبات الوحي وتغيُّر المعارف البشرية في إطار الزمان والمكان؛ إذ لا وجود لمشكلة اختلاف النصوص المقدّسة وانتسابها إلى الله في مورد القرآن.

كما أن العلاقة بين العلم والدين وإنْ كانت مطروحةً في الإسلام، ولكنها ليست مشكلةً؛ وذلك لأن جوهر وذات الدين الإسلامي متناغمةٌ مع العلوم، وإن الموارد التي تبدو متناقضةً قابلةٌ للحلّ والجواب. وعلى أيّ حال فإن الأمر لا يصل إلى التعارض بين الوحي والدين.

بَيْدَ أن حلّ مشكلة ثبات الوحي وتحوُّل المعارف البشرية في بُعْد الزمان والمكان أصبحت مؤثِّرةً في طرح نظرية التجربة الدينية للوحي في الكلام الإسلامي، وإنْ كانت العناصر الأخرى، من قبيل: المباني الفلسفية والعرفانية والكلامية الخاصة وغيرها، هي الأخرى مؤثِّرةً في بيان هذه النظرية.

وعلى أيّ حال فإن الدافع الأصلي في بيان هذه النظرية هو الزعم القائل بأن الجمع بين ثبات الوحي وتحوّل المعارف البشرية لا يمكن حلّه إلاّ بهذه الطريقة([42])؛ بمعنى أنه من حيث كانت جميع الأديان السماوية تنبثق من مصدرٍ واحد فإنه يجب أن لا يكون هناك اختلافٌ في مضامينها، ومن جهةٍ أخرى فإن حياة البشر ومعارفهم هي عرضةٌ للتغيير والتحوُّل المستمرّ.

إن الجمع بين ثبات (الوحي) وتحوُّل (النموذج المعرفي) ممكنٌ؛ ببيان أن ذلك الأمر الثابت لا يكون من مقولة اللفظ، وإنما هو من مقولة المعنى، وحقيقةٌ شاهدها جميع الأنبياء من خلال التجربة الدينية، وإن كلّ نبيّ قد تحدَّث عن تجربته الدينية بالنظر إلى المحدوديات الأربعة ـ أي: المحدودية التاريخية، واللغوية، والاجتماعية، والجسمانية ـ، وكذلك فرضياته السابقة أيضاً.

إن هذه المحدوديات الأربعة والفرضيات المسبقة تعمل دائماً على إخفاء تلك الحقيقة الكامنة والوحي (الإلهي). وإن كل تعبيرٍ يواجه الانهيار تارةً، وتارةً يواجه سوء التعبير، ويواجه الوَهْم والخيال حيناً، ويواجه المحدوديات السابقة في أحيان أخرى. وعلى أيّ حال فإن ذلك الجوهر الإلهي قد عبَّر عنه كلّ نبيٍّ بشكل مختلف، ورُبَما تمّ التعبير عنها بشكل متنافٍ ومتعارض أيضاً. وبذلك فإنه من خلال القول بهذه النظرية سوف يتمّ الصلح بين «الأبدية» و«التغيير»، كما سوف يتمّ حلّ مشكلة التعارض بين العلم والدين، ومشكلة انتساب النصوص المقدّسة إلى الله أيضاً([43]).

هناك اختلافٌ كبير بين العلماء والمنظِّرين في بيان ماهية التجربة الدينية. ومع ذلك كلّه يقول فورمن إل. كيسلر: يذهب الجميع إلى الاعتقاد بوجود عاملين رئيسين وجوهريين في كلّ تجربةٍ دينية، وهما: أوّلاً: العلم بالأمر الإلهي وإدراكه. وثانياً: الخضوع والانصياع التامّ والكامل لذلك الأمر المتعالي بوصفه الغاية والمقصد النهائي([44]). وعلى هذا الأساس، وبغضّ النظر عن اختلاف المنظِّرين، يمكن تعريف التجربة الدينية على هذا النحو: «إن التجربة الدينية نوعٌ من الإلهام والمكاشفة (أو الحضور والتجلّي المتشخّص لله في الإنسان) التي يحظى بها كلّ إنسان، غاية ما هنالك أنهم يخطئون من حينٍ لآخر في التفسير الصحيح لذلك الأمر المتعالي الذي وقع مورداً للتجربة»([45]).

إن مضمون الوحي في هذه الرؤية ليس مجموعةً من الحقائق بشأن الله، بل إن الله سبحانه وتعالى يدخل في دائرة التجربة البشرية من خلال التأثير في التاريخ([46]). إن هذا التأثير في التاريخ والدخول إلى التجربة البشرية إنما يتحقَّق من طريق ذات الله سبحانه وتعالى في الموحى إليه، سواء أكان نبياً أو أيّ بشرٍ آخر. وعلى هذا الأساس فإن هذا الفهم غير اللغوي للوحي إنما يتناسب مع التأكيد المتجدِّد في المرحلة الجديدة على الخصوصية المتشخّصة لله، وهذه الرؤية القائلة بالارتباط الإلهي / البشري المتشخّص، يشمل شيئاً يتجاوز الإبلاغ والقبول بالحقائق الكلامية([47]).

هناك مَنْ يعمد إلى بيان سرّ خاتمية الدين الإسلامي من خلال طرح التجربة الدينية للوحي بتفسيرٍ مختلف، ويقول: إن الوحي الإسلامي قد تمّ عرضه على الناس ووضعه بين أيديهم بشكلٍ غير مفسَّر؛ كي يتمّ تفسيره والتعبير عنه في كلّ عصرٍ بما يتناسب وظروف وشرائط ذلك العصر؛ بمعنى أنه خلافاً لسائر الأنبياء السابقين ـ الذين كانوا يعرضون تجاربهم الباطنية على الناس ـ قامت المشيئة الإلهية في خصوص النبيّ الأكرم|، على وضع «عين التجربة الباطنية للنبي» في متناول الناس دون تفسير؛ بمعنى أن ذات القرآن الكريم يمثِّل تجربة لنا تتكرَّر في كلّ جيلٍ وفي كلّ عصر([48]).

إن هؤلاء يذكرون مفهومين للنبوّة، وهما: أوّلاً: المهمّة والاضطلاع بدَوْر الدعوة والرسالة. وثانياً: التجربة الدينية. ويرَوْن أن النبي يحظى بخصوصيتين، ويرَوْن امتياز النبي من سائر الأشخاص في عنصر المهمّة، واشتراك سائر الأشخاص مع الأنبياء في أصل التجربة والمكاشفة الدينية، ويعرِّفون التجارب العرفانية بوصفها من سنخ تجارب الأنبياء.

وقال بعضهم في هذا الشأن: «إن عنصر المهمّة يندرج في النبوّة، وهو الذي ينعدم في تجارب العرفاء. وتنحسر هذه المهمّة في الخاتمية، ولكنْ يبقى أصل التجربة والمكاشفة قائماً»([49]).

إن من بين المفكِّرين المسلمين المجدِّدين الذين دافعوا عن نظرية التجربة الدينية في الوحي الإسلامي بقوّةٍ، واعتبروا هذه الرؤية عاملاً لإحياء التفكير الديني في الإسلام، بالإضافة إلى الدكتور عبد الكريم سروش، كلاًّ من: محمد إقبال اللاهوري([50])، ومحمد مجتهد شَبِسْتَري([51])، ومحمد أركون([52]).

خلاصةٌ واستنتاج

لقد افضَتْ جهود المتكلِّمين قديماً في محوري طبيعة النصّ الوحياني، وأسلوب الارتباط الوحياني لله والنبيّ، إلى تبلور نظرية الكلام النفسي واللفظي للوحي على يد الأشاعرة؛ ونظرية الكلام الحادث من قِبَل المعتزلة والإمامية؛ بينما ذهب الحنابلة إلى القول بنظرية التوقُّف في مقابل هاتين النظريتين. إن اتجاه هذه الطائفة من المتكلِّمين إلى الوحي كان اتجاهاً لغوياً، بحيث يمكن تسمية نظريّاتهم بـ «نظريات الوحي اللغوي». يكمن الاختلاف بين نظرية الأشاعرة ونظرية المعتزلة والإمامية في أن المعتزلة والإمامية يرَوْن أن ألفاظ الوحي سماوية أيضاً، بالإضافة إلى معاني الوحي ومضامينه، ويعتبرون أن هذه الألفاظ والمعاني من الأفعال والمخلوقات الإلهية، وأنها قد تألَّفت وتركَّبت على شكل ألفاظ ومعاني نزلت على النبيّ؛ في حين يذهب الأشاعرة إلى التفريق بين الكلام اللفظي والنفسي، وقالوا بأن الكلام النفسي عبارةٌ عن المعاني التي تشكّل محتوى الوحي ومضمونه، وأن هذا الكلام النفسي صفة من صفات الذات الإلهية، وكان لها حضورٌ قديم في ذات وجود الله سبحانه وتعالى، وأما الكلام اللفظي فهو عند الأشاعرة عبارةٌ عن القضايا التي تعبِّر عن محتوى الكلام النفسي المذكور آنفاً، وحيث يكون الكلام النفسي عبارةً عن إحدى الصفات الذاتية والقديمة لله، وإنه في وجود الله سبحانه وتعالى غير صفة العلم والإرادة، فإن الكلام اللفظي بدَوْره عبارةٌ عن القضايا ـ أي الألفاظ والأصوات ـ التي تحكي عن ذلك الكلام النفسي ـ أي الكلام الذاتي والقديم ـ لله تعالى. وهذا هو المراد من كون الوحي قضية في هذه النظرية؛ وذلك لأن الكلام اللفظي ـ في ضوء هذه النظرية ـ هو الآخر مخلوقٌ إلهي، وأن الله سبحانه وتعالى من خلال إيجاد وخلق الكلام اللفظي يعمل على إظهار الكلام النفسي. وإن الكلام اللفظي يتبع الكلام النفسي، ومن هنا لا يكون الكلام اللفظي تعبيراً من قِبَل النبي للكلام النفسي. وهذا مكمن الاختلاف الهامّ جدّاً، والذي يميِّز نظرية الوحي عند الأشاعرة من نظرية الوحي عند المعتزلة والإمامية من جهةٍ، ومن نظرية التجربة الدينيّة من جهة أخرى.

إن المتكلِّمين المسلمين في العصر المتأخِّر قد عمدوا إلى تفسير الوحي أسوةً بأسلافهم، ولكنهم مع ذلك دخلوا بالتدريج في بحث الشعور النبوي؛ حيث قام بعض المتكلِّمين المسلمين بتفسير الشعور النبوي، وعمد إلى تحليله في ضوء مبانيه الخاصة. وقد أفضَتْ جهود هذه الطائفة من المتكلِّمين إلى تبلور نظرية الوحي أو الشعور النبوي الخاصّ. وعلى الرغم من تركيز هذه النظرية لتفسيرها عن الوحي في الشعور النبوي الخاصّ، فهي تُعَدّ من هذه الناحية نوعاً من النظريات غير اللغوية في تفسير الوحي. وقد عمدنا لذلك إلى إدراجها ضمن النظريات غير اللغوية. ولكنْ حيث كان أصحاب هذه النظرية في مقام تفسير ماهية الشعور النبوي الخاص فحَسْب، فإنهم لم يكونوا في صدد البحث عن البُعْد اللغوي من الوحي، وإلاّ فإنهم بدَوْرهم يقولون بسماوية ألفاظ الوحي أيضاً، وهذا ما تثبته سائر أعمال بعض هؤلاء المتكلِّمين. وقد عمدنا بدَوْرنا إلى بيان نظرية بعض المتكلِّمين الآخرين أيضاً؛ حيث لم يكونوا في مقام بحث الناحية اللغوية من الوحي، وإلاّ فإنهم يقولون بالبُعْد اللغوي من الوحي أيضاً.

وقد عمد المتكلِّمون المسلمون المجدِّدون في عصر الحداثة مرّةً أخرى إلى الاهتمام بأسلوب الارتباط الوحياني لله مع البشر، وماهية النصّ الوحياني للقرآن مع بداية العصر الجديد، وبنوعٍ من التغيير الفكري، وعملوا على بيان الوحي في إطار الاتجاه غير اللغوي والتجربة الدينية. إن الاختلاف الجوهري لهذا البيان المذكور من قِبَل المتكلِّمين المتقدِّمين والمتأخِّرين عن بيان أصحاب التجربة الدينية يكمن في أن المتكلِّمين المتقدِّمين والمتأخِّرين كانوا يعتبرون ألفاظ الوحي ـ بالإضافة إلى معاني الوحي ـ سماويةً أيضاً، في حين يذهب أصحاب التجربة الدينية إلى القول بأن الوحي كان ينزل على شكل معانٍ بسيطة على النبي وغيره، وإن النبي والإنسان هو الذي يعمل لاحقاً على صبّ تلك المعاني البسيطة في قالب الألفاظ، ويعبّرون عنها بحَسَب المصطلح.

وعلى هذا الأساس، يمكن القول في ضوء الاستنتاج العام: إن المسار التحوُّلي لدى المتكلِّمين المسلمين في تفسير وبيان الوحي قد بدأ من اللغوي، وانتهى إلى غير اللغويّ، رغم أن هناك من المتكلِّمين في البين مَنْ قدَّم تفسيراً لغوياً عن الوحي في جميع العصور، ولم تتغيَّر نظريّتهم عبر العصور، كما هو الحال بالنسبة إلى نظرية المعتزلة والإمامية بشأن الوحي.

الهوامش

(*) عضو اللجنة العلميّة في كلِّية المعارف الإسلاميّة، ورئيس المكتبة المركزيّة ومركز الوثائق، في جامعة تبريز.

([1]) القاضي عبد الجبار المعتزلي، شرح الأصول الخمسة: 528، مكتبة القاهرة، القاهرة؛ السيد الشريف علي بن محمد الجرجاني، شرح المواقف 1: 495، منشورات الشريف الرضي، قم، 1370هـ.ش.

([2]) الجرجاني، شرح المواقف 1: 77.

([3]) انظر: جعفر السبحاني، إلهيات (الإلهيات) 1: 193، المركز العالمي للدراسات الإسلامية، قم، 1412هـ. (مصدر فارسي).

([4]) انظر: المصدر السابق 1: 191.

([5]) انظر: المصدر السابق 1: 212؛ آل عمران: 181؛ المجادلة: 1.

([6]) انظر: القاضي عبد الجبار المعتزلي، الإبانة: 21، 76؛ أحمد بن حنبل، السنن: 49، دار إحياء التراث العربي.

([7]) أحمد ابن حنبل، السنن: 49.

ملاحظة: هذا الكلام وإنْ كان مشهوراً عن أحمد بن حنبل، ولكننا لم نجده في أيٍّ من أعماله، ولا حتّى في مسنده المعروف بالسنن، وإنما هو منقولٌ عنه في كتب غيره، كما في كتاب (كشف الأوهام والالتباس عن تشبيه بعض الأغبياء من الناس) على النحو التالي: «وقد قال الإمام أحمد& في عقيدته المشهورة عنه: مَنْ زعم أن القرآن كلام الله ولم يقُلْ: ليس بمخلوقٍ فهو أخبث من الأول، ومَنْ زعم أن لفظنا بالقرآن وتلاوتنا له مخلوقة والقرآن كلام الله فهو جهمي، ومَنْ لم يكفر هؤلاء القوم فهو مثلهم». فكان الأجدر نقله عن هذا المصدر، فلاحِظْ. (المعرِّب).

([8]) القاضي عبد الجبار المعتزلي، الإبانة: 69.

ملاحظة: كتاب الإبانة لأبي الحسن الأشعري، وليس للقاضي عبد الجبار المعتزلي، فلاحِظْ. (المعرِّب).

([9]) المصدر السابق: 21.

([10]) القوشجي، شرح التجريد على كشف المراد في شرح الاعتقاد: 420، الطبعة الحجرية.

([11]) محمد حسن المظفَّر، دلائل الصدق: 146، دار العلم، ط4، القاهرة، 1398هـ.

([12]) انظر: المصدر السابق: 146.

([13]) الجرجاني، شرح المواقف 2: 94.

([14]) المصدر السابق: 94.

([15]) انظر: السبحاني، الإلهيات 1: 191.

([16]) انظر: القاضي عبد الجبار المعتزلي، الإبانة: 51 فما بعد.

([17]) انظر: المصدر السابق: 56.

([18]) المصدر السابق: 52.

([19]) انظر: المصدر السابق: 52 ـ 53.

([20]) انظر: المصدر السابق: 51 ـ 52.

([21]) الإمام محمد أبو زهرة، تاريخ المذاهب الإسلامية في السياسة والعقائد وتاريخ المذاهب الفقهية: 468، دار الفكر العربي، القاهرة.

([22]) انظر: المصدر السابق: 468.

([23]) انظر: محمد حسين الذهبي، سير أعلام النبلاء 11: 252، مكتبة الوهبة، بيروت.

([24]) انظر: المصدر نفسه؛ الإمام محمد أبو زهرة، تاريخ المذاهب الإسلامية في السياسة والعقائد وتاريخ المذاهب الفقهية: 468.

([25]) القاضي عبد الجبّار المعتزلي، الإبانة: 69.

([26]) أحمد بن حنبل، السنن: 49، دار إحياء التراث العربي.

وقد تقدَّمت الملاحظة في هذه الإحالة في هامشٍ سابق؛ إذ لم نجد هذه المسألة في مصدر الإحالة، وإنما هي من مشهورات أحمد بن حنبل. (المعرِّب).

([27]) انظر: محمد حسين الطباطبائي، وحي يا شعور مرموز (الوحي أو الشعور الخفي)، تقديم وتهميش: الشيخ ناصر مكارم الشيرازي، انتشارات دار الفكر، قم. (مصدر فارسي).

([28]) انظر: الشيخ المفيد، مصنَّفات الشيخ المفيد (أوائل المقالات) 4: 11 ـ 13، المؤتمر العالمي لألفية الشيخ المفيد، ط1، قم، 1413هـ.

([29]) انظر: المصدر السابق.

([30]) انظر: محمد الغزالي، معارج القدس في مدارج معرفة النفس: 107، مصر.

([31]) انظر: الجرجاني، شرح المواقف 2: 217.

([32]) انظر: صبحي الصالح، پژوهش هايي درباره قرآن ووحي (دراسات حول القرآن والوحي) 1: 32 ـ 33، ترجمه إلى اللغة الفارسية: محمد مجتهد شبستري، مكتب نشر الثقافة الإسلامية، قم، 1362هـ.ش.

([33]) انظر: محمد عبده، رسالة التوحيد: 57، مصر، 1385هـ.

([34]) انظر: محمد رشيد رضا، الوحي المحمدي، مكتبة القاهرة، بيروت، 1360هـ.ش.

([35]) انظر: محمد حسين الذهبي، الوحي والقرآن الكريم: 10، مكتبة الوهبة، بيروت، 1406هـ.

([36]) انظر: محمد حسين الطباطبائي، وحي يا شعور مرموز (الوحي أو الشعور الخفي): 157 ـ 158.

([37]) انظر: مرتضى مطهَّري، ختم نبوت (ختم النبوّة): 3 ـ 4، مؤسسة النشر الإسلامي، قم.

([38]) انظر: علي رضا قائمي نيا، وحي وأفعال گفتاري (الوحي والأفعال القولية): 40 ـ 43، أنجمن معارف إسلامي إيران (جمعية التربية الإسلامية الإيرانية)، ط1، طهران، 1381هـ.ش.

([39]) انظر: محمد الفارابي، آراء أهل المدينة الفاضلة ومضاداتها: 67، مطبعة محمد علي صبيح، مصر.

([40]) انظر: أبو علي (ابن سينا)، الإلهيات من الشفاء، المقالة العاشرة، الفصل الأول، المبدأ والمعاد: 436، منشورات مكتبة المرعشي النجفي، ط1، قم، 1404هـ.

([41]) انظر: عبد الرزاق اللاهيجي، گوهر مراد (جواهر المراد): 257، وزارة الثقافة والإرشاد الإسلامي، طهران، 1372هـ.ش. (مصدر فارسي).

([42]) انظر: محمد مجتهد شبستري، پلوراليسم ديني، مدرنيسم ووحي (التعدُّدية الدينية والحداثة والوحي)، مجلّة كيان، العدد 29: 18، السنة الخامسة؛ عبد الكريم سروش، بسط تجربه نبوي (بسط التجربة النبوية): 108 ـ 109. (مصدر فارسي).

([43]) انظر: إيان باربور، علم ودين (العلم والدين): 267 ـ 276، و119 ـ 121، و22 ـ 24، ترجمه إلى اللغة الفارسية: بهاء الدين خرمشاهي، مركز نشر دانشگاهي (مركز النشر الجامعي)، ط2، طهران، 1374هـ.ش؛ محمد مجتهد شبستري، پلوراليسم ديني، مدرنيسم ووحي (التعدُّدية الدينية والحداثة والوحي)، مجلّة كيان، العدد 28: 4، 12.

([44]) انظر: فورمن إل. كيسلر، ؟؟؟ 1: 51.

([45]) انظر: محمد مجتهد شبستري، پلوراليسم ديني، مدرنيسم ووحي (التعدُّدية الدينية والحداثة والوحي)، مجلّة كيان، العدد 28: 21.

([46]) انظر: جون هيك، فلسفه دين (فلسفة الدين): 149، ترجمه إلى اللغة الفارسية: بهزاد سالك، انتشارات بين المللي المهدي (منشورات المهدي العالمية)، ط1، طهران، 1376هـ.ش.

([47]) انظر: المصدر السابق.

([48]) انظر: عبد الكريم سروش، فربه تر أز إيدئولوژي (أسمى من الأيديولوجية): 77 ـ 78، مؤسسه فرهنگي صراط (مؤسسة الصراط الثقافية)، ط6، طهران، 1378هـ.ش. (مصدر فارسي).

([49]) سروش، بسط تجربه نبوي (بسط التجربة النبوية): 6.

([50]) انظر: محمد إقبال اللاهوري، احياء فكر ديني در اسلام (إحياء الفكر الديني في الإسلام): 35 ـ 73، ترجمه إلى اللغة الفارسية: أحمد آرام، رسالت قلم، طهران.

([51]) انظر: محمد مجتهد شبستري، هرمنوتيك كتاب وسنّت (هرمنيوطيقا الكتاب والسنّة)، انتشارات طرح نو، ط1، طهران، 1375هـ.ش. (مصدر فارسي).

([52]) محمد أركون، إسلام ديروز وإمروز نگرشي نو به قرآن (إسلام الأمس وإسلام اليوم، رؤية جديدة إلى القرآن)، ترجمه إلى اللغة الفارسية: توسلي، دفتر نشر فرهنگ إسلامي، ط1، 1369هـ.ش.

Facebook
Twitter
Telegram
Print
Email

اترك تعليقاً