د. الشيخ حسين الخشن(*)
ذهب بعض العلماء والباحثين المعاصرين([1]) إلى أنّ الخمار ـ وهو غطاء الرأس ـ ليس واجباً شرعياً على المرأة المسلمة، وإنما هو إجراءٌ تدبيري أَلْزَمَتْ به السلطةُ الإسلاميّة في صدر الإسلام النساءَ الحرائر؛ لحِكْمةٍ معينة، وهي أن تتميَّز الحرائر بذلك عن الإماء. وحيث انتهى عصر الرقّ، وانتفى وجود الإماء في زماننا، فلا يبقى ثمّة مبرِّر للخمار وغطاء الرأس.
وهذا القول باعتقادنا ضعيفٌ، والاستشهادات التي قُدِّمَتْ له ليست ذات قيمةٍ علمية، ولا تصمد طويلاً على طاولة البحث العلمي؛ لوَهْنها، ومجانبتها للصواب من أكثر من جهةٍ، كما سنبين فيما يأتي.
1ـ محاولة إظهار الخلاف في المسألة
وفي البدء لا بأس بالإشارة إلى أنّ صاحب هذا الرأي قد حاول الإيحاء بأنّ المسألة خلافيةٌ، وأنّ للفقهاء فيها وجهتَيْ نظر؛ فمنهم مَنْ يرى وجوب غطاء الرأس وجوباً تشريعياً مولوياً؛ ومنهم مَنْ يرى أنه واجب وجوباً تدبيرياً، أو قُلْ: حكومياً ولايتياً. وبذلك يريد الخروج عن مخالفة الإجماع، أو التخفيف من وطأة الرأي المطروح.
ولكننا ـ في الوقت الذي لا نرى للإجماع حجِّيةً بالأصالة وفي عَرْض الكتاب والسنّة، وبالتالي لا نرى مانعاً من مخالفته ـ نعتقد أنّ هذه المحاولة ضعيفةٌ، ومجافيةٌ للحقيقة من الناحية الصغروية؛ إذ لم نجِدْ في الفقهاء مَنْ تبنّى القول بأنّ وجوب غطاء الرأس هو وجوبٌ تدبيري ظرفي، بل ظاهر كلام الجميع أنّ الوجوب شرعيٌّ مولوي، وليس ولايتياً. وإذا كان بعض المفسِّرين([2]) ذكر أنّ قوله تعالى في آية الجلباب: ﴿ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلاَ يُؤْذَيْنَ﴾ (الأحزاب: 59)، بحَسَب أسباب النزول، نزلَتْ للتفرقة بين الإماء والحرائر فهذا لا يعني أننا نستطيع تحميل هؤلاء أنّهم يقولون بأنّ حجاب الحرّة كان حكماً سلطانياً حكومياً، وليس حكماً تشريعياً. إنّ هذا الاستنتاج لا يخلو من غرابةٍ وتمحُّلٍ وتقويلٍ لهؤلاء ما لم يقولوه.
إذا كان لك أن تستنتج ـ بصرف النظر عن ضعف هذا الاستنتاج، كما سنذكر ـ من بعض الروايات الواردة في المقام، والتي تفرِّق بين الحرائر والإماء، أنّ حكم غطاء الرأس كان حكماً ولايتياً، وليس تشريعياً، فإنّه ليس ما يبرِّر لك أن تُحمِّل الذين أوردوا تلك الروايات في كتب الحديث أو التفسير أو غيرها أنهم يقولون بالتدبيرية، ولا سيَّما أن الآيات والروايات الدالّة على وجوب السِّتْر كثيرةٌ، وإذا كان هناك آيةٌ معيّنة لا تدلّ على كون الحكم تشريعياً فهناك آياتٌ أخرى قد يستفيدون منها التشريعية.
2ـ أصل وجوب الستر على المرأة
إذا اتَّضح ذلك فإننا في مستهلّ الكلام نرغب بالتذكير بأنّ أصل وجوب الستر على المرأة ـ في مقابل التبرُّج والابتذال ـ هو من الضرورات التشريعية، التي لا تخضع للتشكيك والنقاش من أحدٍ من فقهاء المسلمين، بل إن عامّة المسلمين يعلمون أنّ الإسلام يطلب من المرأة أن تتجمَّل بالستر والعفاف، وينهاها عن التبرُّج وإبداء زينتها، إلاّ لجماعةٍ محدّدة في دائرةٍ معينة من الأشخاص، وهم: الأزواج، وبعض الأرحام، بالإضافة إلى النساء. ولهذا الأمر فلسفته الأخلاقية والاجتماعية، وهو يعود بالنفع على المرأة، وعلى الرجل، وعلى المجتمع برمّته، كما أوضَحْنا ذلك في محلٍّ آخر([3]). ولا يخفى أنّ القرآن الكريم قد أَوْلى هذا المسألة، بصرف النظر عن بعض حدودها وتفاصيلها، أهمِّية استثنائية، فتناول موضوع ستر المرأة في العديد من الآيات القرآنية؛ تارةً بشكلٍ واضح ومباشر؛ وأخرى بشكلٍ غير مباشر:
فمن الآيات المباشرة:
أـ آية الجلباب: وهي قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلاَبِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَن يُعْرَفْنَ فَلاَ يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً (الأحزاب: 59). وسيأتي التوقف عندها.
ب ـ آية النهي عن إبداء الزينة: وهي قوله تعالى: ﴿وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آَبَائِهِنَّ أَوْ آَبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ وَلاَ يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ (النور: 31).
ومن الآيات القرآنية التي تدلّ على مطلوبية أصل التستُّر بصورةٍ غير مباشرة:
أـ قوله تعالى: ﴿فَلاَ تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلاً مَعْرُوفاً﴾ (الأحزاب: 32)، بتقريب أنّه إذا كانت المرأة منهيّةً عن أن ترقِّق صوتها؛ لكي لا يطمع الذي في قلبه مرضٌ، فبالأَوْلى أن لا تتبرَّج وتتزيَّن بما يشكِّل عنصر إثارةٍ للرجال. فكلّ ما تفعله المرأة مما يؤدي إلى إغراء الرجال وطمعهم وجذبهم وتحريك شهواتهم يكون منهيّاً عنه.
ب ـ قوله تعالى: ﴿وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ اللاَّتِي لاَ يَرْجُونَ نِكَاحاً فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ (النور: 60). إنّ هذه المرأة الكبيرة في السنّ، والتي لا ترغب في الرجال، ولا يرغب الرجال بها، إنما يُسمح لها أن تُخفِّف من ثيابها شرط أن لا تكون متبرِّجةً بزينةٍ، وأن تستعفف هو خيرٌ لها. وطبيعيٌّ أنّ نفي الجناح عن وضع المرأة العجوز لثيابها يعني أنّه كان هناك جناحٌ قبل بلوغها هذه المرحلة، وهو جناحٌ ناشئ عن الحكم الشرعي. وللأسف فإنّ الفكرة السائدة بيننا اليوم هي على العكس ممّا تضمَّنته الآية، حيث إننا نجد انتقاداً لاذعاً للمرأة الكبيرة إذا خفَّفتْ قليلاً من لباسها، بينما يُقال للشابة: لا بأس عليك، فأنت لا تزالين في مقتبل العمر!
3ـ الدليل على وجوب غطاء الرأس للمرأة
يبقى الكلام في النقطة الأساسية، وهي بيان حدود الستر المطلوب والواجب على المرأة، وهل يمتدّ ليشمل ستر رأس المرأة وشعرها ورقبتها أم أن هذا لا يدخل في الستر الواجب؟
والجواب: إنّ شمول الستر لرأس المرأة وشعرها أيضاً ثابتٌ. ويمكننا إقامة أكثر من دليلٍ على ذلك من الكتاب والروايات والسِّيرة. ولكننا نكتفي بآية الخمار، عنَيْتُ قوله تعالى: ﴿وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ﴾ (النور: 31)، فإنّ الخمار هو غطاء الرأس([4])، والجيب هو فتحة الصدر، وقد أُمِرَتْ المرأة بضرب الخمار على الجيوب؛ والسبب في ذلك أنّ النساء في الجاهلية كُنَّ يرمين طرفي الخمار أو غطاء الرأس على الأكتاف، فتبقى الرقبة وأعلى الصدر بيِّنةً مكشوفة، فنزلت الآية لمنع هذا السلوك. ويُلاحَظْ أن الآية المباركة من ناحية التعبير لم تأمر بارتداء الخمار بالقول للنساء: عليكُنَّ أن تلبسْنَ الخمار، بل أمرتهُنَّ بإيصال الخمار إلى الجيوب، فهي كأنَّما تفترض أنّ الخمار موجودٌ، يعني هي فارغةٌ عن مطلوبيّة الخمار، لكنها تدعو إلى تصحيح ارتدائه، بأن يتمّ وضعه بشكلٍ يستر الجيوب.
وأضِفْ إلى ذلك أنّ قوله تعالى في آخر الآية: ﴿وَلاَ يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِن زِينَتِهِنَّ﴾ واضحٌ في نهي النساء حتّى عن مجرّد الضرب بأرجلهنَّ على الأرض؛ كي لا يُحدثْنَ جَلَبةً، ويجذبْنَ انتباه الرجل، ويُعْلِمْنَه أنّ في أرجلهنّ زينةً أو خلخالاً، الأمر الذي يشكِّل مدخلاً إلى افتتانه. فإذا كانت المرأة منهيّةً عن أن تضرب برجلها؛ للفت النظر، فكيف إذا خرجَتْ بدون غطاءٍ على رأسها، وهي ترسل شعرها على كتفَيْها؟!
وكيف كان، فإنّ إلزام المرأة بالخمار، أي تغطية الرأس، لا يناقش فيه أحدٌ. فالجميع يعترف بأنّ الإسلام أمر النساء وألزمهنّ بغطاء الرأس في صدر الإسلام، وأنّ المسلمات كُنَّ يفعلْنَ ذلك. لكنّ المدَّعى هو أنّ ذلك كان خاصّاً بالحرائر، ولا يشمل الإماء، وأنّ إلزام الحرائر بذلك كان إلزاماً ولايتياً تدبيرياً، وليس تشريعياً، والأحكام الولايتة يمكن تغيُّرها بتغيُّر الزمان والمكان، ولا ينطبق عليها قانون «حلال محمدٍ حلالٌ إلى يوم القيامة، وحرامه حرامٌ إلى يوم القيامة»([5]). وهذا ما علينا أن نتناوله في النقطة التالية.
4ـ غطاء الرأس حكمٌ تدبيريّ، عرضٌ ونقد
إنّ أول ما علينا التنبيه عليه في المقام، وقبل الإجابة عن السؤال المذكور، أنّ آيات القرآن الكريم الآمرة بالخمار ـ أي بما يشمل غطاء الرأس ـ، من قبيل: قوله تعالى: ﴿وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ﴾، مطلقةٌ من جهتين؛ من جهة أصناف النساء، أي إنها تشمل النساء الحرائر والإماء على حدٍّ سواء؛ ومطلقة أيضاً إطلاقاً أزمانياً، أي تدلّ على أنّ الحكم عابرٌ للأزمان كلّها، ولا يختصّ بزمانٍ معيَّن. وعلى المشهور فإنّ الأصل في الأحكام هو التشريعية([6])، فحمل الحكم على التدبيرية ـ لو كان معقولاً([7]) في الآيات ـ يحتاج إلى قرينةٍ.
وكذلك الحال في قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلاَبِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلاَ يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً﴾ (الأحزاب: 59)، بتقريب أنّ «نساء المؤمنين» هو لفظٌ شامل للحرائر والإماء، وتخصيصها بالحرائر، كما عن بعضهم([8])ـ ضعيفٌ؛ لضعف مستنده. والآيةُ دلَّتْ على أنه يجب على المرأة لبس الجلباب، وهو لباسٌ يستر الرأس والصدر([9])؛ قال الشيخ الطوسي: «…فالجلابيب جمع جلباب، وهو خمار المرأة، وهي المقنعة تغطّي جيبها ورأسها إذا خرجَتْ لحاجةٍ»([10])؛ ويشهد له أنه ورد في أسباب النزول عن أمّ سَلَمة، قالت: لمّا نزلَتْ: ﴿يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلاَبِيبِهِنَّ﴾ خرج نساء الأنصار كأنّ على رؤوسهنّ الغربان من الأكسية»([11]).
فيا تُرى ما الذي يجعلنا نرفع اليد عن إطلاق الآيتين، وغيرهما من الآيات والروايات، ونخصِّصها بالحُرّة، دون الأَمَة، أو قُلْ: ما الذي يشهد لكون هذا الحكم خاصّاً بزمانٍ دون زمانٍ؟
الذي يُستفاد من كلام أصحاب هذه الدعوى أنّ هناك طريقين لإثبات مدَّعاهم:
أـ آية الجلباب ومدى دلالتها
وذلك بدعوى أنّ الآية نفسها، ودون الاستعانة بأيّ قرينةٍ من خارجٍ، تدلّ على هذا المعنى؛ لأنها علَّلَتْ لبس الجلباب بقوله تعالى: ﴿ذَلِكَ أَدْنَى أَن يُعْرَفْنَ فَلاَ يُؤْذَيْنَ﴾، ما يعني أنّ الأمر بلبس الجلباب إنما هو لأجل أن تُعْرَف المرأة الحُرّة، وتتميَّز بذلك عن الأَمَة، فلا تؤذى. هذا ما يمكن أن يُقال.
لكنّنا نقول لصاحب هذا الكلام: من أين أتيْتَ بوصفَيْ الحُرّة والأَمَة من الآية نفسها؟! ليس في الآية هذا المعنى أبداً.
وإذا سألتَ: كيف نفهم التعليل المذكور في الآية إذن؟
كان الجواب: إنّ التعليل هو تعليلٌ للأمر بارتداء الجلباب، فيكون المقصود أنها ـ بارتداء الجلباب ـ تُعْرَف بأنها ملتزمةٌ عفيفةٌ فلا تتعرَّض للإيذاء والتحرُّش؛ لأنها بذلك تتميَّز عن غير العفيفة التي لا تلتزم بالستر والعفاف. فجلبابها هو الذي يميِّزها ويُعرِّف الآخرين بهويتها الإيمانية التي خوطبَتْ بها في مستهلّ الآية، فلا تتعرض عندها للأذى. ووجود هذين الصنفين من النساء (العفيفات وغير العفيفات) إبّان نزول الآية ـ كما في كلّ زمانٍ ـ واضحٌ وجليّ؛ فقد نزلَتْ الآية المباركة في مجتمع المدينة، وهو مجتمعٌ متنوِّع؛ فيه المؤمنات المحصنات العفيفات؛ وفيه الفاسقات وغير المحصنات، وفيه اليهوديات والمنافقات. ففي هذا المجتمع، الذي تتعرَّض فيه المرأة للأذى والتحرُّش الجنسي، أُمرَتْ المؤمنة بالستر وغطاء الرأس؛ كي تُعْرَف وتتميَّز عن غيرها، فلا تتعرَّض بعدها للأذى والتحرُّش. وهذا يعني أنّ الحجاب هو لحماية المرأة، وإعلام الآخرين وإشعارهم بأنها مؤمنةٌ عفيفة، ولا تقبل بالتعرُّض لها تعرُّضاً منافياً للفضيلة. وهذا المعنى ـ أعني دَوْر الستر وغطاء الرأس في حماية المرأة من التعرُّض لألسنة الفاسقين ونظراتهم وتصرُّفاتهم اللاأخلاقية ـ هو حكمةُ لبس الحجاب، وهي لا تزال قائمةً إلى الآن، وستبقى مستمرّةً؛ لأنّ الرجل غير العفيف سيبقى ـ بدافعٍ من غريزته التي لا وازع لها ـ يتعرَّض للمرأة إذا وجد لديها قابليةً لذلك، بينما ارتداؤها للحجاب يفترض أن يحدّ من ذلك، وأن يشكِّل رادعاً له عن التعرُّض لها؛ لأنها لا ترضى ذلك، ولا تستدعيه إلى ذلك بتبرُّجها وسوء حجابها. وطبيعيٌّ أنّ المراد باللباس هو الذي يكون مستجمعاً للشرائط، وترتديه المرأة عن قناعةٍ تامّة، فهذا ما يعبِّر عن حصانتها الأخلاقية، وتقواها الداخلية والخارجية. ولو أنك سألتَ الشباب الذين يتحرَّشون بالنساء: مَنْ هي المرأة التي تغريك وتندفع أكثر للتحرُّش بها؟ لأجابك على الفور: إنّه غالباً ما يندفع إلى التحرُّش بغير المحجَّبة؛ وأما المحجَّبة فلا يتحرَّش بها؛ لأنّه يعتبر حجابها حاجزاً يمنعه من مغازلتها والتعرُّض لها.
والخلاصة: إنّه لا دلالة في الآية نفسها، لا من قريبٍ ولا من بعيدٍ، على أنّ غطاء الرأس كان بهدف أن تتميَّز الحُرّة من الأَمَة، بل إنّ تفسيرها الأقرب إلى الفَهْم العُرْفي ـ وبقرينة مناسبات الحكم والموضوع ـ هو ما ذكَرْناه، من أنها بصدد بيان أن المرأة بسترها التامّ ـ الشامل لغطاء رأسها ـ تُعْرَف أنها مؤمنةٌ عفيفة، فلا يتعرَّض لها الآخرون، ولا يؤذونها.
ب ـ قراءةٌ نقديّة في الأخبار
وهذا هو الطريق الأساس الذي يعتمد عليه القائل بتدبيرية وجوب غطاء الرأس، أو أنه حكمٌ ظرفي. والأخبار التي يمكن أن يستدلّ بها على المدَّعى يمكن تصنيفها إلى مجموعتين:
المجموعة الأولى: ما ورد عن بعض الصحابة والتابعين. ويمكن أن نشير إلى خبرين:
الأوّل: ما رُوي عن الخليفة الثاني عمر بن الخطاب من أنّه كان يأمر الإماء بكشف رؤوسهنّ([12])، ويضربهنّ على ذلك([13])، وأنّ إماءه كنّ يخدمْنَ الضيوف وهُنَّ حاسرات الرأس([14]).
ولكنّ الاستدلال بفعل الخليفة ـ لو ثبت ـ لا يصحّ؛ لأنّ هذا اجتهادٌ منه، ورأيٌ رآه([15])، ولعمر ـ كما هو معروفٌ ـ اجتهاداتٌ كثيرة، وبالتالي فهو لا يمثِّل حجّةً شرعية وفق معظم المذاهب الإسلامية. وهو قد سعى إلى تطبيق اجتهاده هذا على الإماء بصفته حاكماً، لا بصفته مطبِّقاً لمضمون آيةٍ أو سُنّةٍ مأثورةٍ عن رسول الله|.
الثاني: ما ورد عن مجاهد بن جبر (21 ـ 104هـ)، ورُبَما غيره، ممّا يُستفاد منه أنّ الأمر بالتجلبب والخمار كان لأجل تمييز الحُرّة من الأَمَة، فلا تُؤذى ولا يتعرَّض لها الفسّاق؛ فقد جاء في تفسير الطبري عنه ما مفاده أنّ النساء كُنَّ يخرجْنَ، فيتعرَّض لهنّ بعض الفسّاق في الطريق، فأُمِرَتْ الحرائر بارتداء القناع على رؤوسهنّ؛ حتّى لا يتعرّض لهنّ الفَسَقة، كما يتعرَّضون للإماء([16]).
لكنّ اعتراضنا على ذلك:
أوّلاً: إنّ هذه المعنى لم ينقله مجاهد أو غيره عن رسول الله|، وإنما هو رأيٌ لهم، ومجاهد وغيره لا يمثِّلون حجّةً شرعية أيضاً، ولعلّهم اشتبهوا في الأمر، وظنّوا أنّ الآية المباركة هدفَتْ إلى تمييز الحرائر عن الإماء.
ثانياً: بل يمكن القول: إنّ هذه الأخبار التي تورد سبب النزول المذكور مرفوضةٌ ومردودة، لماذا؟ لأن مفادها أن الله تعالى أراد للمرأة الحُرّة أن تتستَّر تمييزاً لها عن الأَمَة؛ كي لا تتعرَّض ـ أقصد الحُرّة ـ للتحرُّش والتغزُّل، ما يعني أو يوحي بأن تعرُّض الإماء للتحرُّش ليس مبغوضاً للمولى عزَّ وجلَّ، أو ليس له تلك الأهمِّية عنده، وإنْ شئتَ قلتَ: إنّ ما يختزنه سبب النزول هذا أن الله ليس غيوراً تجاه الإماء، وإنما هو غيورٌ فقط على الحرائر! وهذا أمرٌ نستعيذ منه، ونبرأ من نسبته إلى الله عزَّ وجلَّ؛ لأنّ التحرش ـ كما هو مرفوضٌ بحقّ الحُرّة ـ هو مرفوضٌ بحقّ الأمة أيضاً. وإذا كان تحرُّش الرجال بالنساء قد استدعى الأمر بالحجاب فإنه يستدعي ذلك بالنسبة إلى الحرائر والإماء معاً، وليس في حقّ الحرائر فقط، كيف وقد كانت مجموعةٌ كبيرة من الإماء آنذاك أمهاتِ أولادٍ لشخصيّاتٍٍ إسلامية مقدَّسة، حتّى أن عدداً من أئمّتنا^ هم أبناءُ إماءٍ، فهل كُنّ يؤمَرْنَ بكشف شعورهنّ؛ تمييزاً لهنّ عن الحرائر؟! ويسمح للفَسَقة بالتعرُّض لهُنَّ؟!
إننا نستغرب من أصحاب هذه الدعوى أو غيرهم كيف ينسبون هذا الأمر إلى الشارع المقدَّس، مع أنّ فيه امتهاناً لإنسانيّة الأمة، واحتقاراً لكرامتها، وتمييزاً غير منطقيٍّ ولا مبرَّر بينها وبين الحُرَة؟!
المجموعة الثانية: وهي الروايات الواردة عن أهل البيت^، والتي تصرّح بأنّ الأمة تُمْنَع من القناع؛ لتُعْرَف وتُميَّز عن الحُرّة. ويمكن عدّ هذه المجموعة أهمَّ مستندٍ لأصحاب الدعوى المذكورة، وهي ـ لو تمَّتْ ـ تصلح مؤشِّراً على صحّة التفسير المتقدِّم للآية المذكور من قِبَل صاحب الدعوى في الطريق الأوّل. وإليك أهمّ روايات هذه المجموعة:
الرواية الأولى: ما رواه البرقي، في المحاسن، عن أبيه، عن يونس بن عبد الرحمن، عن حمّاد بن عثمان، عن حمّاد اللحام قال: سألتُ أبا عبد الله× عن المملوكة تقنِّع رأسها إذا صلَّتْ؟ قال: لا، قد كان أبي إذا رأى الجارية تصلِّي في مقنعةٍ ضربها؛ لتُعْرَف الحُرّة من المملوكة»([17]). ورواه الصدوق، عن أبيه، عن عليّ بن سليمان الرازي، عن محمد بن الحسين، عن أحمد بن محمد بن أبي نصر البزنطي، عن حمّاد بن عثمان، عن حمّاد الخادم([18]).
الرواية الثانية: ما رواه الصدوق أيضاً، عن أبيه قال: حدَّثنا أحمد بن إدريس قال: حدَّثنا أحمد بن محمد بن عيسى، عن عليّ بن الحكم، عن حمّاد الخادم، عن أبي عبد الله×، قال: «سألتُه عن الأمة تقنِّع رأسها في الصلاة؟ قال: اضربوها؛ حتى تُعْرَف الحُرّة من المملوكة»([19]).
الرواية الثالثة: قال الشهيد الأوّل في الذكرى: وروى عليّ بن إسماعيل الميثمي، في كتابه، عن أبي خالد القمّاط قال: سألتُ أبا عبد الله× عن الأمة، أتقنع رأسها؟ فقال: «إنْ شاءَتْ فعلَتْ، وإنْ شاءَتْ لم تفعل. سمعتُ أبي يقول: كُنَّ يُضْرَبْنَ، فيُقال لهنّ: لا تشبَّهْنَ بالحرائر»([20]).
ويمكن تقريب الاستدلال بهذه المجموعة بأنّها حتّى لو كانت ـ لا أقلّ الروايتين الأولى والثانية ـ واردةً في الصلاة بَيْدَ أنّه لا يبعد القول: إنّ الحكم بإلزم الإماء بنزع غطاء الرأس لا يختصّ بالصلاة، بل هو مطلقٌ وشامل لغير حالة الصلاة، بل هو شاملٌ أيضاً لصورة وجود الأجانب من الرجال. والذي يشهد لهذا الإطلاق من الجهتين عموم التعليل، أعني قوله×: «لتُعْرَفَ الحُرَّة من المملوكة»؛ فإن الحاجة إلى التمييز بينهما لا تنحصر بالصلاة، ويكون الوجه في تركيز السؤال على حكم لبس القناع في خصوص الصلاة هو ورود احتمال أن يكون للصلاة خصوصيّةٌ تسمح بلبسهنّ للقناع، ما يعني أنّ الأماء كُنَّ لا يرتدين القناع خارج الصلاة؛ لمنعهن من ذلك، فيسأل الرواي عن حكم كشفه في الصلاة؛ لأنّ من المحتمل أنّ جوازه لا يمتدّ إلى الصلاة، فجاء الجواب من الإمام× بالمنع من غطاء الرأس حتّى في الصلاة؛ لعلّة التمييز. ويشهد لذلك أيضاً أن الرواية الثالثة لم تَرِدْ في خصوص الصلاة.
وتعليقاً على الاستدلال بهذه المجموعة نسجِّل عدّة ملاحظاتٍ:
الملاحظة الأولى: إنها ضعيفة السند:
أما الخبر الأوّل فسبب ضعفه هو عدم وثاقة حمّاد اللحام([21]). وأما حمّاد الخادم الوارد في رواية العلل؛ فإنْ كان هو اللحّام نفسه، كما لا يبعد([22])، وقد حصل شيءٌ من التصحيف في الاسم، فالحال فيه واضحٌ؛ وأما إنْ كان شخصاً آخر فهو مجهولٌ.
وأما الخبر الثاني فسبب ضعفه هو جهالة حمّاد الخادم، كما عرفت.
وأمّا الرواية الثالثة، وهي التي رواها الشهيد في الذكرى، من كتاب «عليّ بن إسماعيل الميثمي»، فلا يسعنا التعويل عليها، ولا على غيرها ممّا تفرَّد الشهيد برواياته من كتاب الميثمي([23])، لا لعدم ثبوت وثاقة الميثمي نفسه، كما أفاد السيد الخوئي([24])؛ إذ لا يبعد وثاقته؛ وذلك لرواية أحد الثلاثة الذين لا يروون ولا يرسلون إلاّ عن ثقةٍ، وهو صفوان، عنه، وهي قرينةٌ مهمّة على الوثاقة؛ وأضِفْ إليها أنّ الرجل هو من المعاريف جدّاً، وذُكر في ترجمته أن له كتباً ورواياتٍ، ومع ذلك لم يَرِدْ فيه قدحٌ، وهذه أمارةٌ أيضاً على الوثاقة، كما أوضَحْنا في مجالٍ آخر؛ كما أن أبا خالد القمّاط ثقة([25])؛ وإنما السبب في عدم التعويل على الرواية أن طريق الشهيد الأوّل إلى كتاب الميثمي غير معلومٍ إطلاقاً، وإذا كان أخذ الروايات من أصله ـ كما لا يبعد ـ بدليل عدم وجودها في مصادر الحديث فإن السؤال: ما هو طريقه إلى هذا الأصل؟ وإذا كان قد وصله بالوجادة فلا ندري حال تلك النسخة، وهل هي موثوقةٌ أم لا؟
الملاحظة الثانية: ولعلّها الأهمّ في المقام، وخلاصتها: إننا سلَّمنا بصحة هذه الأخبار وبأنها دلّت على أنّ الحكم المذكور هو لتمييز الحرّة عن الأمة، وأنّ الحكم مطلقٌ حتى لصورة وجود الأجنبي، لكنْ من أين استُفيد منها أنّ لبس الحرّة للقناع ليس واجباً في أصل الشرع؟! إنّ هذه الاستفادة غريبةٌ؛ إذ ظاهر الأخبار أنّ للحاكم منع الإماء من لبس القناع؛ للحؤول دون تشبُّههنّ بالحرائر، فيكون المنع المذكور هو الحكم السلطاني في المسألة، وليس إلزام الحرّة بلبسه، فمن أين استُفيد أن إلزام الحرّة به كان لتمييزها عن الأمة، لا لكونه واجباً في أصل الشرع؟ لا دليل على ذلك، بل الأمر على العكس تماماً، أي إن منع الأمة من لبسه هو الحكم السلطاني، فيكون الأمر بلبس غطاء الرأس للحرّة على ظاهره من كونه حكماً تشريعياً، وليس سلطانياً، وهو مطلقٌ، ويؤخذ بإطلاقه الأزماني، بينما تمنع الأمة منعاً سلطانياً من لبسه. فشتّان بين دعوى أنّ وجوب ستر الرأس للحرّة كان لتمييزها عن الأمة، وبين القول: إن منع الأمة من القناع كان لغرض أن تُعْرَف أو لغرض منع تشبُّهها بالحرّة، والثاني هو ما دلَّتْ عليه الأخبار، وليس الأول.
إنْ قلتَ: إنّ ما ذكرتموه من أنّ الحكم السلطاني ليس هو إلزام الحرّة بالخمار، بل هو منع الأمة من لبسه، بعيدٌ للغاية؛ لأنّ معناه أنّ الأمة مع كونها في أصل الشرع ملزمةً بالخمار بَيْدَ أنّ ثمّة منعاً سلطانياً قد حرَّم عليها ذلك تحريماً ولايتياً، وهل يُعْقَل أن يمنع أو يحرِّم الإمام× ما أوجبه الله تعالى؟!
قلتُ: إنّ ما ذُكر يمكن دفعه ـ بالإضافة إلى أنّ ثمّة قولاً يرى سعة صلاحيات الحاكم لإصدار حكمٍ تدبيري يمنع ممّا أوجبه الله تعالى([26])، ما دام ذلك منعاً ظرفياً ومؤقَّتاً ـ بأنّه إنما يكون تامّاً لو كان غطاء الرأس بالنسبة إلى الأمة مطلوباً في أصل الشرع على نحو الوجوب، مع أنّه بالإمكان القول: إنها مخيَّرةٌ في ذلك، كما دلَّتْ على ذلك بعض الأخبار التي استند إليها القائل بالتدبيرية، ومنها ـ بالإضافة إلى ما جاء في خبر الميثمي المتقدِّم: «إنْ شاءَتْ فعلَتْ، وإنْ شاءَتْ لم تفعل» ـ: خبر أبي بصير، عن أبي عبد الله× أنه قال: «على الصبيّ إذا احتلم الصيام، وعلى الجارية إذا حاضَتْ الصيام والخمار، إلاّ أن تكون مملوكةً فإنه ليس عليها خمارٌ، إلاّ أن تحبّ أن تختمر، وعليها الصيام»([27]). فهذا دالٌّ على عدم وجوب القناع على الإماء في أصل الشرع، ما يعني أنّ الحكم الشرعي بالنسبة إليهنّ هو التخيُّر بين القناع وعدمه، وهذا المعنى ـ إذا قبلناه، وتمّ دليلُه، وكان هذا الدليل صالحاً لتقييد مطلقات وجوب غطاء الرأس على جميع النساء، أعمّ من الحرائر أو الإماء ـ يمكن فَهْمه على أنه تخفيفٌ تشريعيّ على الإماء، كما خفَّفَتْ الشريعة على العبيد والمماليك في الكثير من الأحكام. وهذا الأمر لا بُدَّ من متابعة البحث فيه في محلِّه.
وقصارى القول: إن اشتمال الأخبار الواردة في الأمة على هذين اللسانين، وهما: منعها من غطاء الرأس؛ وأنها بالخيار في ذلك، هو خيرُ دليلٍ على التدبيرية في روايات المنع، وأنّ الأمر الحكومي كان متوجّهاً إلى خصوص الأمة بعدم تغطية رأسها، ثمّ أُبيح لهنّ بعد ذلك التغطية. وهذا ما يُستفاد من خبر الميثمي المتقدّم، حيث إنّ الإمام الصادق× ـ بناءً على صحّة الخبر ـ، مع أنه نقل عن أبيه أنهنّ كُنّ يُضْرَبْنَ على لبس القناع، خيَّرها، وقال: «إنْ شاءَتْ فعلَتْ، وإنْ شاءَتْ لم تفعَلْ». فهو× يشير بذلك إلى أنّ هذا الحكم بمنع تقنعهنّ كان في السابق، وينقله عن أبيه الباقر×، فكأنّه لم يدرك ذلك الزمن، وأمّا اليوم فهُنَّ بالخيار؛ ولعله لارتفاع الحاجة إلى التمييز في زمانه، ومعلومٌ أن تغيُّر الحكم من زمانٍ إلى آخر يؤشِّر إلى أنّ الحكم السابق هو حكمٌ ظرفي.
الملاحظة الثالثة: إنّ هذه الأخبار، حتّى لو سلَّمنا بإطلاقها من الجهة الأولى المشار إليه سابقاً، أعني جواز كشف غطاء الرأس في غير صورة الصلاة أيضاً، ولكنْ لا يسعنا التمسُّك بإطلاقها من الجهة الثانية، أعني صورة كون ذلك بمرأى الأجنبيّ؛ فإنّ بعضها وإنْ كان مطلقاً، بَيْدَ أنّ بعضها الآخر خاصٌّ، وقُيِّد جواز الكشف فيه بأن لا يكون هناك أجنبيٌّ يراها، من قبيل: ما جاء في صحيحة محمد بن إسماعيل بن بزيع قال: سألتُ أبا الحسن الرضا× عن أمّهات الأولاد، ألها أن تكشف رأسها بين أيدي الرجال؟ قال: تقنَّع»([28]). وتجويز الشريعة([29]) للإماء كشف رؤوسهنّ في الصلاة هو من نوعٌ من التخفيف عليهنّ، أو هو تعبُّدٌ يُقتَصَر فيه على موضعه.
وهذه الملاحظة جيدةٌ. لكنْ قد يُقال: إنّ هذه الصحيحة إنما تدلّ على وجوب التقنُّع على أمهات الأولاد، دون سائر الإماء، واحتمال الخصوصية لأمهات الأولاد قويٌّ جدّاً؛ لتشبُّثهنّ بالحُرّية، كما هو معروفٌ في الفقه.
الملاحظة الرابعة: إنّ مضمون هذه الأخبار مريبٌ، فلا بُدَّ من ردّ علمها إلى أهلها؛ لأنّ ما يرمي إليه هذا الإصرار على التمييز بين الإماء والحرائر يدور بين احتمالين:
الأوّل: إنها ترمي إلى القول بأنّ ستر الرأس هو لأجل تمييز الحرّة عن الأمة؛ كي لا تتعرض الحرّة للتحرُّش والأذى من قِبَل الفُسّاق.
ولكنّ هذا المعنى بعيدٌ عن ظاهر هذه الأخبار، إذ المفروض أنّ السؤال في الأخبار عن لبس الأمة المقنعة أثناء الصلاة، وهذا الظرف ليس مظنّة التحرُّش بها من الفُسّاق؛ لأنها إما أن تصلّي في بيت سيدها ـ كما هو الغالب ـ أو في المساجد، وعلى التقديرين من البعيد تعرُّض الفُسّاق لها.
الثاني: إنّها ترمي إلى إيجاد وتكريس فارقٍ بين الإماء والحرائر يحفظ الفاصل الطبقيّ بينهما، وهذا ما تؤكِّده الرواية الثالثة التي ذكَرَتْ أنّهنّ كُنَّ يُضْرَبْنَ كي لا يتشبَّهْنَ بالحرائر، ما يعني أن أصل التشبُّه مبغوضٌ في نفسه، وليس ما يترتَّب عليه من تعرُّض الفُسّاق للحرّة عند عدم تميُّزها عن الأمة، وإلاّ ما هو الموجب لضربها على لبس القناع أثناء الصلاة؟!
وهذا المعنى (إيجاد فاصلٍ طبقي) هو في حدّ ذاته أمرٌ على خلاف تعاليم الإسلام، الداعية إلى إذابة ومحاربة مثل هذه الطبقيات المقيتة، وهو ما يثير الرِّيبة في هذه الروايات.
ولهذا لا يَسَعنا إلاّ ردّ هذه الأخبار.
ولكنْ قد تُدْفَع هذه الملاحظة ببيان أنّ فرض هذا التمييز ـ لو ثبت كونه مطلوباً ـ لا يهدف إلى منع تعرُّض الحرائر للتحرُّش، ولا إلى إيجاد فاصلٍ طبقي بينهنّ وبين الإماء، وإنما الغرض منه هو أمرٌ ثالث، وهو التمييز لداعٍ أو غرضٍ تنظيمي اجتماعي، فكشف الأمة لرأسها يُراد به إشعار الآخرين ممَّنْ يتعاملون معها أنّها أمةٌ، ما يعني أنها لا تملك من أمرها شيئاً، فلا تستطيع التصرُّف فيما تحت يدها، ولا تملك أمر بضعها، فإذا أريد الزواج منها يكون ذلك عن طريق الطلب من سيّدها ليزوِّجها أو يبيعها.
ودعوى أنّ مسألة الطبقية لا تتّصل بنوايا المشرِّع بقدر ما تتّصل بالأفعال التي يُلزم عباده بها، وعليه فإقراره بهذا التمييز في اللباس بين الحرّة والأمة سيؤدّي عملاً إلى تكريس واقعٍ طبقيّ بغيض، ضعيفةٌ ومردودة؛ لأنّ المفروض أنه تمييزٌ شكلي وتفصيلي، ولا يقوم على قاعدة أنّ الأمة لا بُدَّ أن تلبس الثياب الرديئة مثلاً، وتترك الأجناس الثمينة للحرائر، كما أنه لا يختزن ولا يترتَّب عليه من ناحيةٍ شرعية تفضيلاً للحرّة على الأمة في ميزان القِيَم والأخلاق والعدل الإلهي.
وفي ضوء ما تقدَّم يغدو واضحاً أنّ وجوب غطاء الرأس للحرّة هو حكمٌ تشريعيّ، وليس أمراً ولايتياً حكومياً، فهو باقٍ ومستمرّ، ولا سيَّما أنّ حكمته ـ أو علّته ـ باقيةٌ ومستمرّة.
5ـ استثناء الإماء من وجوب الخمار، فهومٌ متكاملة
وهذه النقطة الأخيرة من هذا البحث مهمّةٌ، لأنّه في ضوئها يمكن فَهْم طبيعة الحكم الشرعي المتَّصل بالخمار، وكونه تشريعياً أو تدبيرياً.
وفي مستهلّ هذه النقطة نشير إلى أنّ القائلين بكون وجوب الخمار حكماً تشريعيّاً، وليس تدبيرياً، قد ينتصرون لرأيهم بأنّ كشف المرأة لشعرها هو سببٌ لإثارة الغرائز، وبالتالي فوجوب التغطية لا يمكن أن يكون ظرفياً ومؤقَّتاً، لأنّ الإثارة مستمرّةٌ وباقية، كما لا يخفى.
ولكنْ قد أُجيب على ذلك بـ «أنّه إذا كان عدم تغطية شعر المرأة بشكلٍ عامّ هو سبب الإثارة ورواج الفساد في المجتمع الإسلامي، واعتُبر هذا سبباً لضرورة تغطية شعر المرأة المسلمة، لكان رسول الله| والأئمّة المعصومون^ لم يسمحوا لعددٍ كبير من الإماء في المجتمع المسلم بالظهور في الأماكن العامّة بدون غطاء الشعر»([30]).
ولكنّنا نقول تعليقاً على ذلك:
أوّلاً: إنّ شعر المرأة هو بلا شكٍّ مصدر جمالٍ، وعنصر جَذْب للرجل. وهذا المعنى لا يكاد يُنْكَر، فهو أمرٌ ملموس، حتّى ورد في بعض الأخبار «الشعر أحد الجمالين»([31]). وعليه يكون الأمر بستره هو سدٌّ لبابٍ من أبواب الإثارة، كما يكون تحريم الخلوة بين الجنسين، أو تحريم المصافحة ـ على المشهور ـ، لسدّ هذا الباب أيضاً.
ثانياً: إنّ أمر الأماء بكشف شعورهنّ، أو إباحة ذلك لهنّ، لا ينفي حقيقة كون الشعر من حيث المبدأ عنصر جمالٍ وجَذْبٍ وإثارةٍ، ولكنْ مع كونه كذلك أُبيح الكشف لهنّ؛ لنكتةٍ ومصلحة اقتضَتْ ذلك، وهذه المصلحة أو النكتة المعقولة هي أحد أمور قد تكون بمعظمها أو بأجمعها سبباً لهذا التفريق:
الأمر الأوّل: منع تشبُّههنّ بالحرائر، لا من زاوية تكريس واقعٍ طبقيّ، ولا من زاوية حماية الحرائر دون الإماء من التحرُّش الجنسيّ، فإن هاتين النكتتين باطلتان، كما أسلَفْنا، بل من زاوية وجود حاجةٍ نظاميّة إلى التمايز بين الصنفين (الإماء والحرائر). فنكتة التميُّز المذكورة؛ للاعتبارات الشرعية والاجتماعية المشار إليها في التعليق على الملاحظة الرابعة المتقدّمة في الفقرة السابقة، هي التي أباحَتْ الخروج عن القاعدة في أمر الحجاب، والسماح بكشف شعر الرأس للإماء.
الأمر الثاني: مصلحة التخفيف على الإماء؛ فإنّ ظروف حياتهنّ جعلتهنّ في موقع العمل والخدمة لأرباب البيوت وما يَفِدُ عليهم من الضيوف، فاقتضى الأمر أن لا يكنّ معزولاتٍ في خِدْرهنّ، كما هو الحال في الكثير من الحرائر، بل هُنَّ حاضراتٌ دائماً في العمل بين الرجال وغيرهم، يقدِّمْنَ الطعام ويغسِلْنَ ويكنِسْنَ ويستقين ويقُمْنَ بحوائج أهل البيت من الرجال والنساء، فهُنّ في حركةٍ دائمة وتنقُّلٍ مستمرّ، يدخلن ويخرجن على كافّة مَنْ في البيوت ويخدمْنَهم، مع أن كثيراً ممَّنْ يقُمْنَ بخدمتهم في البيت أو خارجه ليسوا ممَّنْ يحلّ لهم النظر إليهنّ، فيكون إلزامُهنّ الدائم بقيود الستر الذي تُلْزَم الحرّة بمراعاتها متعباً لهنّ وشاقّاً عليهنّ، فرفقاً بهنّ رخَّص الشارع الأقدس لهنّ عدم تغطية الرأس؛ لأنه ما جعل على عباده من حَرَجٍ أو مشقّةٍ. فيكون ذلك نظير ما ذهب إليه بعض فقهاء المسلمين([32])، من أنّ عبد المرأة الحرّة ـ ولا سيَّما إذا كان خصيّاً أو مجبوباً ـ مَحْرَمٌ لها، فيجوز له النظر إلى شعرها؛ واستدلّوا على ذلك بقوله تعالى: ﴿أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ﴾ (النور: 31). وذكر الشيخ الطوسي أنّ هذا وجهٌ في المسألة، وإنْ اختار الرأي الآخر، وهو عدم كونه مَحْرَماً، واعتبره الأشبه بالمذهب.
إنْ قلتَ: أليس قد قلتُم سابقاً: إن الله غيورٌ، وإنّ مقتضى غيرته أن لا يسمح للإماء ـ كما الحرائر ـ بكشف شعورهنّ، فكيف ينسجم التخفيف عن الإماء مع غيرته المذكورة؟!
قلتُ: إنّ ما استَنْكَرْناه هناك، انطلاقاً من كون الله تعالى غيوراً، ليس هو مجرّد السماح للأمة بكشف شعرها، وإنما إلزام الحرّة فقط بالخمار؛ كي لا يتعرَّض لها الفُسّاق بالتحرُّش، وهو ما يوحي بعدم البأس بتعرُّض الفُسّاق للإماء. وشتّان بين الأمرين.
الأمر الثالث: إنّ الإماء في ذلك الزمن كُنّ ـ في غالبيتهنّ العظمى ـ غير مسلماتٍ، وجيء بهنّ من خلال السَّبْي، وغيرُ المسلمات كما هو معلومٌ لم يكنّ ـ بحَسَب الظاهر ـ يلتزمْنَ بالخمار، ولا سيَّما بالطريقة الإسلامية، ومعلومٌ أنّ الإسلام أقرّ أهل الكتاب على شريعتهم ودينهم وطقوسهم([33])، والحكم بتمييز غير المسلمين عن المسلمين في اللباس والأزياء هو أمرٌ معروف ومطروح في الفقه، ووردَتْ فيه العديد من الروايات، وقد بحَثْنا المسألة في كتابنا القواعد الناظمة لفقه العلاقة مع الآخر، فليُراجَعْ. وبناءً عليه، يكون منع الإماء من لبس القناع، لا لغرض التمييز بين الإماء والحرائر، ولا لكون الحجاب غير واجبٍ في أصل الشرع، وإنّما منعاً لتشبُّه غير المسلمات بالمسلمات. وهذا ما يشهد له خبر الميثمي المذكور في ذكرى الشيعة، للشهيد الأول، حيث جاء فيه: «كُنّ يُضْرَبْنَ، ويُقال لهنّ: لا تشبَّهْنَ بالحرائر». وإذا صحّ ما ذكره بعضٌ، من أنه «كان من شروط المسلمين الأوّلين على أهل الذمّة أن تكشف نساؤهم عن سوقهنّ وأرجلهنّ؛ لكي لا يتشبَّهْنَ بالمسلمات»([34])، فيكون الأمر واضحاً في أنّ المنع هو لتمييز غير المسلمة عن المسلمة؛ منعاً لتشبُّهها بها في اللباس الإسلامي الخاصّ بالمسلمات. هذا، وتجدر الإشارة إلى أننا لا نوافق اليوم على مثل هذا الإجراء؛ لأننا قد اختَرْنا في محلٍّ آخر([35]) أنّ تمييز المسلم عن غيره في اللباس، ومنع تشبُّهه به، هو تمييزٌ تدبيريّ، وليس تشريعياً.
ويلاحَظ عليه: إنّ الكثير من الإماء آنذاك كُنَّ مسلماتٍ أيضاً؛ إما لكونهنّ قد أسلَمْنَ؛ أو لأنّ أحد آبائهم أو أمّهاتهم أسلم من قبل، والولد يتبع الأبوين في الإسلام، كما هو مقتضى قاعدة «التَّبَعيّة لأشرف الأبوين»، بل قد ورد في بعض الأخبار المتقدّمة أنّ محور السؤال والحديث عن لبس الأمة لقناع الرأس في الصلاة، ما يعني أن محلّ الكلام شاملٌ للأمة المسلمة([36]).
الأمر الرابع: إنّ الفتنة بالإماء في الصدر الأوّل كانت أقلّ بكثيرٍ منها بالحرائر؛ لأنّ الغالب في الإماء ـ بحَسَب مواصفاتهنّ الجَسَدية الناشئة والمتأتِّية إما عن طبيعة الجنس الذي يتحدَّرْنَ منه؛ وإما من ظروف الحياة التي أحاطَتْْْ بهنّ، حيث لازمتهُنَّ قسوة العيش وشظف الحياة وقلّة ذات اليد، المانعة من التجمُّل، والانشغال الدائم في العمل والخدمة، فلا يعتنين كثيراً بأجسادهنّ، ولا يتمكَّنّ من إبراز مفاتنهنّ ـ لم يكُنّ من النوع الجاذب للأنظار والمثير للغاية، كما هو الحال في الحرائر مثلاً، ولذا من المعقول أن يتساهل ويتسامح التشريع مع الأمة بما لا يتسامح به مع الحرّة. ونحن الآن، وعلى الرغم من انتهاء عصر العبودية في زماننا، نجد أنّ ثمة صنفاً من النساء العاملات المعدّات للخدمة في البيوت، والمنتشرات بكثرةٍ في العديد من الدول العربية وغيرها، هُنَّ في الغالب غير محجَّباتٍ، ومع ذلك لا يشكِّلْنَ عنصر إثارةٍ كبير، بحَسَب حالتهنّ وظروف حياتهنّ، إلا للبعض، وفي ظروفٍ خاصّة.
ولكنّ هذا الأمر ليس تامّاً على إطلاقه؛ لأنّ الإماء الحسناوات والمعروفات بالجمال قد دخَلْنَ إلى العالم الإسلامي في صدر الإسلام، وتحديداً مع بدء الفتوحات التي طالَتْ البلدان التي عُرِفَتْ نساؤها بالجمال، وفي هذه المرحلة الزمنية كان الحديث عن جواز كشف الأمة لشعر رأسها مطروحاً في الأوساط.
إنّ الأمور الثلاثة الأولى قد لا يكون كلّ واحد منها بمثابة العلّة التامّة للحكم المذكور بالتخفيف على الأمة؛ ليدور الحكم مداره وجوداً وعدماً، بل رُبَما كان لها بمجموعها دَوْرٌ في الترخيص المذكور، ورفع اليد عن الحكم الأوّلي في المسألة، وهو لزوم غطاء الرأس.
6ـ غطاء الرأس حدٌّ فاصل بين سلوكين
ثمّ إننا، وفي ختام الكلام لا بُدَّ أن نلفت الأنظار إلى أمرٍ واقعيّ، وليس علمياً، ألا وهو أنّ غطاء الرأس يمثِّل في الواقع الخارجي حدّاً فاصلاً بين سلوكين ومسارين للمرأة: الأول: مسار التبرُّج؛ والثاني: مسار التستُّر والعفة؛ حيث إننا نلاحظ أنّه عندما تخلع المرأة غطاء الرأس فهي عمليّاً قد اختارَتْ مسار التبرُّج، وهو مسارٌ متدرِّج في الانحدار والتردّي، ولن يقف عند حدود أو ضوابط معينة، وقد وصل الانحدار في زماننا إلى حدٍّ أصبحت المرأةُ عنصرَ إغراءٍ، وغدا جسدها مادّةً للاتجار في سوق النخاسة الجديد، وأصبح تعرِّيها وتهتُّكها وتبرُّجها أمراً مألوفاً، ولا يثير إشكالاً أو اعتراضاً، ولا يمثِّل انتقاصاً من كرامتها؛ أما حجابها وسترها فهو الذي تُسلَّط عليه الأضواء، ويُقدَّم بوصفه دليلاً على القَهْر والعبودية التي تتعرَّض لها!
ولستُ أدَّعي وجود ملازمةٍ عقلية بين الأمرين ـ أي بين نزع غطاء الرأس وبين التبرُّج الكامل ـ، لكنّ الواقع الخارجيّ يشهد لوجود ما يمكن أن نسمِّيه الملازمة العُرْفية الغالبية؛ إذ قلَّما تجد امرأةً تخلَّتْ عن غطاء الرأس وبقيَتْ ملتزمةً بالستر المطلوب لسائر بدنها وجسدها، بما يجنِّبها الوقوع في فخّ التبرُّج المحرَّم. ولهذا يجدر بالباحث والفقيه أن يلتفت إلى هذا الأمر عند إطلاق رأيٍ في المسألة؛ كي لا يسهم من حيث لا يشعر في إيجاد عُذْرٍ للذين يريدون التفلُّت من الأحكام الشرعية وضوابطها الأخلاقية.
الهوامش
(*) باحثٌ إسلاميّ، وأستاذ الدراسات العليا في الحوزة العلميّة. له أعمالٌ متعدِّدة. من لبنان.
([1]) طرح هذا الرأي بعض الباحثين والكتاب من مصر وسوريا وغيرها من البلدان، وآخرهم أحد العلماء الشيعة، وهو قاطن في كندا، انظر:
http://www.hoseini.org/Esteftaatـarabi.asp
([2]) كعلي بن إبراهيم القمي، انظر: تفسير القمي 2: 1196؛ الطبرسي في جوامع الجامع 3: 81، ومجمع البيان 8: 181.
([3]) راجع كتابنا: إليك يا ابنتي ـ رسالة أبوية حول الحجاب وحجاب «الموضة».
([4]) كما يقول أهل اللغة، قال ابن الأنباري(328هـ) في الزاهر في معاني كلمات الناس: 306: «الخمار سُمِّي بذلك؛ لتغطيته الشعر»؛ وراجع: الثعالبي، فقه اللغة وسرّ العربية: 222. وإلى هذا ذهب الفقهاء، يقول العلامة الحلي في تذكرة الفقهاء 2: 12: «والخمار هو القناع؛ لأنه يخمر به الرأس». وقد ورد في أحاديث أهل البيت النهي عن المسح على الخفين والخمار، في الخبر عن الميسر بن ثوبان قال: سمعتُ علياً× يقول: سبق الكتاب الخفين والخمار». تفسير العياشي 1: 297. وفي المقابل روى أهل السنّة أن النبيّ| مسح على الخفين والخمار. انظر: صحيح مسلم 1: 159.
([5]) وهي قاعدةٌ ثابتة ومنصوصة، ففي صحيحة زرارة قال سألت أبا عبد الله×عن الحلال والحرام فقال: «حلال محمدٍ حلالٌ أبداً إلى يوم القيامة، وحرامه حرامٌ أبداً إلى يوم القيامة، لا يكون غيره ولا يجيء غيره…». الكافي 1: 58.
([6]) أصالة التشريعية في الكلام هو ما يراه غير واحد، ولكنْ لنا في ذلك كلامٌ مفصّل طرحناه في كتابنا: أبعاد الشخصية النبوية، فليراجع.
([7]) لا يخفى أنّ الأحكام الحكومية التدبيرية تصدر عن الرسول| أو الإمام× بصفتهما الولايتية، وهي تقع في مقابل الأحكام التشريعية التي يبلِّغها النبي| عن الله تعالى، وعليه، فلا معنى للحكم الحكومتي بالنسبة لله تعالى. نعم، يعقل في أحكام الله تعالى أن تكون ظرفيةً أو صادرةً على نهج القضية الخارجية، ولكنّ هذا يحتاج إلى دليلٍ.
([8]) قال ابن تيمية: «قَوْلُهُ: ﴿قُلْ لأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلاَبِيبِهِنَّ﴾…الآية دليلٌ على أنّ الحجاب إنّما أمر به الحرائر دون الإماء؛ لأنّه خصّ أزواجه وبناته، ولم يقُلْ: وما ملكت يمينك وإمائك وإماء أزواجك وبناتك، ثمّ قال: ﴿وَنِسَاءِ المُؤْمِنِينَ﴾، والإماء لم يدخلن في نساء المؤمنين، كما لم يدخل في قوله: ﴿نِسَائِهِنَّ﴾ ما ملكت أيمانهنّ». مجموعة الفتاوى 15: 448.
ويردّه أن إطلاق ﴿وَنِسَاءِ المُؤْمِنِينَ﴾ لا موجب لتقييده. وما ذكره من القرينة، أعني قوله تعالى: ﴿وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آَبَائِهِنَّ أَوْ آَبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ﴾، غير تامٍّ، لأنّ إرادة خصوص الحرائر من هذه الآية هو لقرينةٍ خاصة في الآية، وهو لا يوجب حمل نسائهنّ في سائر الموارد على الحرائر. وقد لاحظنا أنّ كثيرين قد فسَّروا ﴿نِسائِهِنَّ﴾ بالنساء، الأعمّ من الحرائر والإماء، ومنهم: المحقق الكركي، جامع المقاصد 12: 33، والشهيد الثاني، مسالك الأفهام 7: 46، والفيض الكاشاني، مفاتيح الشرائع 2: 376.
([9]) قال الفراهيدي(175هـ) في كتاب العين 6: 132: «والجلباب: ثوب أوسع من الخمار، دون الرداء، تغطّي به المرأة رأسها وصدرها».
([10]) التبيان في تفسير القرآن 8: 361.
([11]) سنن أبي داوود 2: 269، وفي نقلٍ آخر، عن أمّ سلمة، أنه لما نزلت الآية «خرج نساء الأنصار كأنّ على رؤوسهن الغربان من السكينة، وعليهن أكسيةٌ سودٌ يلبسنها». تفسير القرآن للصنعاني 3: 123.
([12]) في مصنف عبد الرزّاق 3: 135، عن ابن جريج قال: أخبرني عطاء أن عمر بن الخطاب كان ينهى الإماء من الجلابيب أن يتشبَّهن بالحرائر، قال ابن جريج: وحُدِّثْتُ أن عمر بن الخطاب ضرب عقيلة أمة أبي موسى الأشعري في الجلباب أن تجلبب».
([13]) في تفسير السمعاني 4: 307: «كان عمر إذا رأى أمةً قد تقنَّعَتْ وتجلببت علاها بالدرّة، ويقول: أتتشبَّهين بالحرائر؟!».
([14]) عن أنس بن مالك قال: كنّ إماء عمر يخدمننا كاشفاتٍ عن شعورهن تضرب ثديّهن». البيهقي، السنن الكبرى 2: 227.
([15]) قال العلاّمة الحلي في تذكرة الفقهاء 2: 449، تعليقاً على فعل الخليفة: «وجاز أن يكون فعله عن رأيٍ رآه».
([16]) روى الطبري، بإسناه عن مجاهد، «قوله: ﴿يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلاَبِيبِهِنَّ﴾ (الأحزاب: 59) يتجلببن فيعلم أنهنّ حرائر، فلا يعرض لهن فاسقٌ بأذىً من قولٍ ولا ريبة». جامع البيان عن تأويل آي القرآن 22: 58. وقال: حدَّثنا ابن حميد، قال: ثنا حكام، عن عنبسة، عمَّنْ حدثه، عن أبي صالح قال: «قدم النبيّ| المدينة على غير منـزلٍ، فكان نساء النبي| وغيرهنّ إذا كان الليل خرجْنَ يقضين حوائجهنّ، وكان رجال يجلسون على الطريق للغزل، فأنزل الله: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلاَبِيبِهِنَّ﴾ (الأحزاب: 59)، يقنعن بالجلباب؛ حتّى تعرف الأمة من الحرّة». جامع البيان عن تأويل آي القرآن 22: 58.
([18]) علل الشرائع 2: 345. وعنه وسائل الشيعة 4: 411، الباب 29، من أبواب لباس المصلي، ح9.
([21]) وقد صرّح بذلك في الحدائق الناظرة 7: 18. وأوضح السيد الخوئي ذلك في معجم رجال الحديث 7: 253.
([22]) ولذا قال في وسائل الشيعة 4: 411، تعليقاً على رواية العلل: في نسخةٍ: اللحام.
([23]) روى الشهيد عن الميثمي عدّة أخبار لا وجود لها في غير الذكرى. انظر على سبيل المثال: الذكرى 1: 116؛ 2: 71، 432،
([24]) قال السيد الخوئي: «قال النجاشي: «علي بن إسماعيل بن شعيب بن ميثم بن يحيى التمار، أبو الحسن، مولى بني أسد، كوفيّ، سكن البصرة، وكان من وجوه المتكلِّمين من أصحابنا، كلّم أبا الهذيل والنظّام. له مجالس وكتب، منها: كتاب الإمامة، كتاب الطلاق، كتاب النكاح، كتاب مجالس هشام بن الحكم، كتاب المتعة». وقال الشيخ: «علي بن إسماعيل بن ميثم التمار، وميثم من أجلّة أصحاب أمير المؤمنين علي×، وعليّ هذا أول مَنْ تكلَّم على مذهب الإمامية، وصنّف كتاباً في الإمامة سمّاه الكامل، وله كتاب الاستحقاق، رضي الله عنه»». معجم رجال الحديث 12: 300. قال السيد الخوئي، تعليقاً على روايةٍ وقع الهيثمي في سندها: «إن سندها لا يخلو عن الخدش، وإنْ عبّر عنها بالموثَّقة في بعض الكلمات؛ نظراً إلى أن علي بن إسماعيل وإنْ كان من وجوه المتكلِّمين، وقد كتب في الإمامة كتاباً على ما نصّ عليه الشيخ والنجاشي، إلاّ أنه لم يَرِدْ فيه أيّ مدحٍ أو توثيقٍ، ما عدا رواية صفوان عنه، الذي هو من أصحاب الاجماع، وقد ذكرنا غير مرّةٍ أن رواية هؤلاء عن أحدٍ لا تدلّ على توثيقه بوجه». موسوعة الإمام الخوئي 30: 54، وراجِعْ أيضاً: 33: 204.
([25]) وثَّقه النجاشي، كما في رجال النجاشي: 452،
([26]) كما أوضحنا ذلك في كتاب أبعاد الشخصية النبوية: 180.
([29]) قال المحقّق الكركي في جامع المقاصد 2: 98: «وكذا لا يجب على الأمة ستر رأسها، بإجماع العلماء، إلاّ مَنْ شذّ».
([30]) انظر: الموقع الرسمي للعلاّمة السيد رضا حسيني نسب:
http://www.hoseini.org/Esteftaat-arabi.asp#H9
([31]) قال الصدوق في مَنْ لا يحضره الفقيه 3: 388: «قال×: «إذا أراد أحدكم أن يتزوّج فليسأل عن شعرها كما يسأل عن وجهها؛ فإن الشعر أحد الجمالين». وهو مرويٌّ في دعائم الإسلام 2: 169. وفي صحيحة عبد الله بن سنان الواردة في دية مَنْ أزال شعر المرأة، قال×: «…إن شعر المرأة وعذرتها شريكان في الجمال…». تهذيب الأحكام 10: 262.
([32]) قال الشيخ الطوسي: «إذا ملكت المرأة فحلاً أو خصياً فهل يكون محرماً لها؛ حتى يجوز له أن يخلو بها ويسافر معها؟ قيل: فيه وجهان: أحدهما: وهو كالظاهر، أنه يكون محرماً؛ لقوله: ﴿وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ لِبُعُولَتِهِنَّ إلى قوله أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ﴾ (النور: 31)، فنهاهنّ عن إظهار زينتهنّ لأحدٍ إلاّ مَنْ استثني، واستثنى ملك اليمين، ورُوي عن النبيّ| أنه دخل على فاطمة وهي فضل، فأرادت أن تستتر، فقال×: لا عليك، أبوك وخادمك، ورُوي أبوك وزوجك وخادمك. والثاني: وهو الأشبه بالمذهب، أنه لا يكون محرماً، وهو الذي يقوى في نفسي، وروى أصحابنا في تفسير الآية أن المراد به الإماء، دون الذكران». المبسوط 4: 161، وراجِعْ: الخلاف 4: 249.
([33]) كما أوضَحْنا ذلك في كتاب القواعد الناظمة للعلاقة مع الآخر، الذي هو في طَوْر الإعداد للطباعة.
([34]) اقتضاء الصراط المستقيم: 59، ونقله الأباني في جلباب المرأة المسلمة: 82.
([36]) اللهمّ إلا أن يُقال، تعليقاً على هذا الترقّي: إنّ ما ورد في أن للأمة أن تصلي بدون قناعٍ على رأسها لا يصلح لإثبات المدَّعى، لأنّ ما ورد في الصلاة فيه احتمال الخصوصية لستر المرأة في الصلاة، ومعلومٌ أن سترها وحجابها في الصلاة قد يختلف عن سترها وحجابها في غير الصلاة (على سبيل المثال: إن الستر الصلاتي ليس من شرطه أن لا يصف ويشخِّص مفاتن المرأة بخلاف الستر أمام الرجال الجانب فيشترط ذلك، والستر الصلاتي ليس من شرطه أن لا يكون زينةً في نفسه لكن الستر أمام الأجانب يشترط يشترط فيه ذلك…). والدليل على وجود خصوصية للستر الصلاتي أنّا نجد في أخبار الباب أنّ الحرة أيضاً لها أن تخلع غطاء الرأس في الصلاة، منها: موثَّقة عبد الله بن بكير، عن أبي عبد الله× قال: «لا بأس بالمرأة المسلمة الحرّة أن تصلّي وهي مكشوفة الرأس». تهذيب الأحكام 2: 218؛ وفي روايةٍ أخرى لابن بكير، عن الصادق× قال: لا بأس أن تصلّي المرأة المسلمة وليس على رأسها قناع». المصدر نفسه. وحملها على الصغيرة أو على صورة عدم التمكُّن من القناع، كما ذكر الشيخ (المصدر نفسه) خلاف الظاهر. وطبيعيّ أنّ هذا إنما يكون مع عدم وجود أجنبيٍّ، فليس النظر فيه إلى الحجاب عن الناظر الأجنبي، كما هو مفروض الكلام. ولسنا هنا في موقع تبنّي أو رفض القول بأن للحرّة كشف رأسها في الصلاة، فبحث ذلك وتحقيقه موكولٌ إلى محلّه.