بقلم: السيد كاظم الحائري
بعد فراغه من كتابة مؤلّفه القيّم >البنك اللاربوي في الإسلام<، شرع آية الله الشهيد السيد محمد باقر الصدر في تدريس بعض البحوث الفقهية المتعلّقة بالبنوك، وذلك أيام التعطيل في شهر رمضان عام 1389هـ، فشرع بسلسلة دروس من الرابع منه وحتى التاسع والعشرين، وقد قرّر هذه الدروس سماحة آية الله السيد كاظم الحائري>، أحد خلّص طلاب السيد الشهيد، وقد قدّم لمجلّة >الاجتهاد والتجديد< ـ مشكوراً ـ هذه الدراسة التي تُنشر للمرّة الأولى >مركزُ الأبحاث والدراسات التخصّصية للشهيد الصدر< في مدينة قم الإيرانية، وقد قام الشيخ حيدر حبّ الله بتحقيق وتصحيح هذه المحاضرات العلميّة؛ عبر تقويم نصّها، واستخراج مصادرها، وعنونة موضوعاتها، كما يراه القارئ هنا، واعدين القارئ بنشر سلسلةٍٍ من بحوث السيد الصدر لم يسبق نشرها من قبل، آسفين لتأخّر نشرها إلى اليوم، بعد عقدين ونصف على استشهاده ) (التحرير).
مقدّمة ومباحث تمهيدية
سيدور كلامنا هنا حول المعاملة القرضية المتعارفة في البنوك، وهي تارةً تكون بإيداع المال في البنك مع أخذ الربح، وأخرى بالاستقراض منه مع إعطاء الربح، والربح في الثاني أكبر ــ عادةً ــ منه في الأول، ومقدار التفاوت هو الذي يشكّل منفعة البنك.
والكلام يقع في أنّه: هل يمكن إخراج هذه المعاملة عن العنوان المحرّم، وهو القرض الربوي، وإدخالها في عنوان غير محرّم أو لا؟
ولأجل ذلك، نحن بحاجةٍ هنا إلى تمهيد أبحاث ثلاثة، مقدّمةً لتنقيح المقصود في المقام، وهذه الأبحاث هي:
1 ــ حقيقة القرض.
2 ــ حقيقة الربا في القرض.
3 ــ الواقع الخارجي للمعاملات البنكية.
أولاً: حقيقة القرض وتعريفاته في الفقه الإسلامي
أما البحث الأول ــ وهو الكلام في حقيقة القرض ــ فلم ينفتح الحديث عنه في كلمات الأصحاب، إلا أنّ الشيخ الأعظم الأنصاري ) ذكر عبارةً لدى بيانه حقيقة القرض في باب البيع، الذي عرّفوه بأنه مبادلة مال بعوض، إذ بمناسبة الحديث عن ما سجّل من ملاحظات على ذاك التعريف بالنقض بالقرض، قال: إنّ القرض تمليكٌ بضمان([1]).
وعلى أيّ حال، فما قيل أو يمكن أن يقال في تعريف القرض ــ وهو معاملةٌ عقلائية أمضيت شرعاً ــ تعريفات أربعة:
1 ـ مبادلة مال بعوض
إنّ القرض ــ أيضاً ــ مبادلة مال بعوض، وهذا هو مبنى من جعل القرض نقضاً على تعريف البيع بمبادلة مالٍ بعوض، إلا أنه من الطبيعي أن لا تكون كلّ مبادلة مال بعوض قرضاً، بل هو قسمٌ خاص من هذه المبادلة؛ حيث يؤخذ فيه شرطان:
1 ــ أن يكون العوض ذمّياً لا عيناً خارجيةً.
2 ــ أن يكون العوض من سنخ باب ضمان الغرامة، لا من سنخ باب ضمان المعاوضات، التي يُلحظ فيها جهات خارجية أيضاً، دخيلة في غرض المتعاملين، إضافةً إلى القيمة الأصلية للعين.
ومع فقدان أحد الشرطين لا تعدّ المبادلة ــ بحسب الارتكاز العقلائي ــ قرضاً.
وقد أورد الشيخ الأعظم مرتضى الأنصاري P على هذا التعريف إشكالاً، حاصله: لو كان القرض مبادلة مالٍ بعوض، لدخل فيه ربا المعاوضة، والحال أنّه لا يدخل فيه([2])، وقد كان مقصوده ) أنّ المرتكز في ذهن الأصحاب من معنى القرض ليس ما ذكر؛ فإنّهم لم يتعرّضوا فيه لربا المعاوضة، ولم يحتملوه فيه، مع أنّهم بحثوا في جواز الربا وعدمه في مطلق المعاوضة غير البيع، ومنهم من قال بحرمته أو احتملها.
وقد ذكر السيد الأستاذ (الخوئي) ــ مدّ ظله ــ في مقام تفسير كلام الشيخ الأعظم)، على ما في تقريرات بحثه: إنّ الربا في الربا المعاوضي تلحظ فيه الزيادة الكميّة لا الزيادة في القيمة؛ فلو أبدل فضّةً بفضةٍ أكثر، كان ذلك رباً غير جائز، ولو فرض تساوي العوضين في القيمة، وهذا ما لا يأتي في باب القرض؛ فلو أبدل هناك الريال العراقي ــ الذي يساوي أربعة دراهم ــ بأربعة دراهم؛ لم يكن ذلك رباً، وإن كانت الفضّة في الدراهم الأربعة أكثر منها في الريال([3]).
نقد التعريف الأوّل
ما هو المقصود من مبادلة الريال بأربعة دراهم في باب القرض؟
أ ــ فإن قصد بذلك أنّ تعيين البدل أخذ في نفس المعاملة القرضية ففرض في نفس إنشاء القرض كون البدل أربعة دراهم فليس هذا قرضاً حتى عند من أدخل القرض في باب مبادلة المال بعوض؛ لفقدان الشرط الثاني، وإنما هو بيع، ويكون ربوياً محرّماً حتماً.
ب ــ وإن قصد بذلك أنه أعطي ــ في مقام الوفاء ــ أربعة دراهم بدلاً عن الريال، دون أخذ ذلك في إنشاء المعاملة القرضية؛ فالقرض ــ إذاً ــ لم يدخل فيه الربا بأيّ وجهٍ من الوجوه، نعم يبقى الكلام في هذا الوفاء نفسه؛ فإن بنينا على أن الوفاء ليس سوى تطبيقٍ لما في الذمّة على العين الخارجيّة، كما هو الصحيح، فلا إشكال في الوفاء أيضاً، وإن قلنا أنّ الوفاء معاوضةٌ مستقلة بين ما في الذمّة والعين الخارجيّة جاء إشكال الربا فيه، سواء فرضنا القرض معاوضةً أم لا.
وهناك تفسيرات أخرى يغضّ الشيخ الأعظم ) النظر عنها.
بدورنا نقول ــ في مقام إبطال هذا التعريف للقرض، مضافاً إلى أنه خلاف المرتكز العقلائي في بابه على ما سوف يأتي توضيحه ــ : إنّ هذا مخالفٌ لما يُستفاد من الروايات الواردة في باب بيع المثل بالمثل، والدالّة على أنه إذا كان الشيء مكيلاً أو موزوناً لم تجرِ فيه الزيادة، سواء كان المعوّض حالاًّ أو في الذمة، وإذا كان معدوداً فصّل بين فرض كون العوض حالاًّ وفرض كونه في الذمّة، فالذي يظهر من هذه الروايات أنّ سنخ المعاملة ــ سواء كان العوض حالاً أو في الذمة ــ شيءٌ واحد، وهو البيع.
2 ـ هبة العين مع استئمان المالية، تعريف المحقق الإيرواني
ذكر المحقّق الإيرواني ) أنّ القرض هبة العين مع الاستئمان على المالية؛ فلا يجب عليه ردّ العين؛ لأنه وهبها إيّاه، بل يجب ردّ الماليّة؛ لأنها كانت أمانةً عنده، ويجب ردّ الأمانات.
مناقشة التعريف الثاني
ويرد عليه: أنّه ما هي المالية التي استأمنه عليها؟ هل هي المالية الموجودة في ضمن هذه العين، أو المالية في الذمّة، أو ذات المالية بلا تقييدها بظرف الخارج ولا الذمّة؟
أ ــ فإن قيل بالأول، ورد عليه أنّه لا إشكال في أنّ المقترض مالكٌ لكلّ ما أخذه خارجاً. ولو فرض أنّ ماليّته باقية على ملك المقرض، ويدُ المقترض أمانة عليها لزم الشركة بين المقرض والمقترض فيما هو الموجود خارجاً، وليس الأمر كذلك حتماً.
ب ــ وإن قيل بالثاني، لزم فرض ثبوت ماليّة في ذمّة المقترض في المرتبة السابقة؛ حتى يعقل فرض الاستئمان عليها، ونحن نتكلّم في أنه كيف ثبتت المالية في ذمّة المقترض؟
ج ــ وإن قيل بالثالث، قلنا: إن المالية بلا تعيين طرفٍ لها خارجي أو ذمّي ليست إلا مفهوماً من المفاهيم، لا قيمة له، ولا معنى للاستئمان عليه.
3 ـ التمليك على وجه الضمان، نظرية الأنصاري والخوئي*
ذكر الشيخ الأعظم الأنصاري ) أنّ القرض تمليكٌ على وجه الضمان، والمقصود ــ على ما فسّره السيد الأستاذ مدّ ظله، واختاره هو ــ أنه يملّك المقرض العينَ للمقترض، لا مجاناً؛ حتى لا يكون عليه شيء، ولا في مقابل ورود شيء آخر في عهدته، كالمثل أو القيمة؛ حتى يكون هذا مبادلة مال بمال، بل في مقابل ورود نفس هذا الشيء في عهدته، كما هي الحال في الغاصب الذي يغصب شيئاً؛ فيقع نفس ذلك الشيء ــ بمجرّد الغصب ــ في عهدته.
والفرق بين ما نحن فيه وبين الضمان الثابت في باب الغصب، أنه هناك تصبح العين بذاتها وعينيّتها في عهدة الغاصب، فإذا تلفت بقيت ماليّتها ونوعيتها في عهدته، أمّا فيما نحن فيه فتدخل العين في عهدة المقترض بمقدار المالية والنوعية من أوّل الأمر، وذات العين بما هي عين معيّنة لا تدخل في عهدته؛ فليس عليه إرجاع العين، بل إرجاع المالية([4]).
التعريف الثالث، وقفة نقدية
ويرد عليه، أولاً: إن المالية والنوعية تارةً تفرض شيئاً مستقلاً في قبال العين، وأخرى تفرض وجوداً تنزيلياً لها، فإن فرضت وجوداً تنزيلياً للعين، قلنا: إنّ العرف إنما يعتبرها وجوداً تنزيلياً ومسامحياً لها حينما ينزّل من العين إلى المراتب المتأخرة من النوعية والمالية بالاضطرار، كما هي الحال في باب الغصب؛ فإنه يجب عليه ــ أولاً وبالذات ــ العين، ومن باب الاضطرار وعدم وجودها؛ لتلفها، يتنزل إلى وجود مسامحي وتنزيلي لها، وهو ما يماثلها من المثل أو القيمة؛ ولذا لو رجعت العين وجب عليه أداؤها.
أمّا في المقام، فالمفروض أنه ليس عليه أداء العين وان كانت موجودةً، وإنما أداء النوعية والمالية، فيما ذات العين أضحت مملوكةً له لا يجب عليه ردّها، وهذا معناه أنّ النوعية والمالية لوحظت مستقلّةً، من قبيل لحاظ الكلّي في مقابل الفرد، وهذا يرجع إلى المبادلة؛ فإنّ المبادلة ليست متقوّمةً بكونها بين مالين متباينين، بل يمكن أن تكون بين المصداق والكلّي، كأن يبيع أوقية من الحنطة معيّنةً بأوقية كلّية في الذمّة.
ثانياً: إن ما ذكره ــ دام ظلّه ــ خلطٌ بين باب العهدة والذمة؛ فإنّ العهدة إنما هي ظرف وجوب الشيء على الشخص، والذمّة ظرف استقرار المال عليه، وهما قد يجتمعان، كما فيمن غصب شيئاً وأتلفه؛ فقد اشتغلت ذمّته بالمال ووجب عليه أداؤه، وقد يفترقان، كما فيمن غصب شيئاً ومازالت العين المغصوبة موجودةً بعدُ؛ فيجب عليه ردّها دون أن يكون في ذمّته شيء، فالعهدة هنا موجودة فيما الذمّة غير موجودة، وكما فيمن اشترى شيئاً والبائع بعدُ لم يسلّم العين، فالمشتري ذمّته مشغولةٌ بالثمن، لكن لا يجب عليه أداؤه ما لم يسلّم البائع العين، فالذمة هنا موجودةٌ فيما العهدة مفقودة.
وفي باب القرض، تصبح الذمّة مشغولةً كما يجب عليه الأداء، لا أنه يثبت في عهدته وجوب الأداء فقط، فما ذكره السيد الأستاذ ــ مدّ ظله ــ في تعريف القرض لا يفسّر كيفية اشتغال الذمّة، وغاية ما هناك أنّ المالك جعل هذه العين ــ بمقدار ماليّتها ونوعيّتها ــ في عهدة المقترض.
4 ـ التملّك بالحيازة والضمان باليد، التعريف المختار
والمختار في تعريف القرض أنّ التملّك فيه يكون بالحيازة ويكون الضمان باليد، فيما شغل المالك تعيين لون اليد ونوعها.
وتوضيح المقصود: أنّ لليد اقتضاءين طوليين:
1 ــ التملّك بالحيازة.
2 ــ الضمان في طول تملّك شخص آخر بالحيازة؛ فإذا تملّك أحدٌ شيئاً بالحيازة، ثم وضع شخص آخر يده على ذلك المال، كان لهذه اليد اقتضاءان:
الاقتضاء الأول: التملّك بالحيازة، إلا أن هذه اليد باعتبارها مسبوقةً بيد أخرى، لا تؤثر هذا الأثر إطلاقاً؛ لكون ذلك مخالفاً لحرمة الحيازة السابقة والمالك الأول، فيصبح تأثير هذه اليد مشروطاً برضا المالك الأول بذلك وإذنه به؛ حتى لا يكون منافياً لحرمة ملكه وسلطنته.
الاقتضاء الثاني: الضمان، إلا أنّ هذا حيث كان بلحاظ حرمة ملك المالك الأول يكون ــ أيضاً ــ مشروطاً بعدم رضاه وإذنه في عدم الضمان، وإلا فلا ضمان؛ فالمالك هو الذي يعيّن مصير اليد الثانية ولونها من كونها مؤثرةً الأثرين السالفين: الملكية والضمان، أو غير موثرة لشيء منهما، أو مؤثرة لأحدهما دون الآخر.
فالصور العقلية هنا أربع:
الصورة الأولى: أن تجعل اليد الثانية غير مؤثرة في التملك ولا الضمان، وهذه على قسمين:
القسم الأول: أن يعطي صاحب اليد الأولى المالَ إلى اليد الثانية من باب فرضها كأنها هي اليد الأول، أي بعنوان الاستنابة والأمانة، وذلك كما في الوديعة والتوكيل؛ فاليد الثانية لا تؤثر الملك ولا الضمان من باب السالبة بانتفاء الموضوع؛ إذ كأنّها ليست يداً أخرى حتى تؤثر أثراً جديداً.
القسم الثاني: أن لا يكون عدم تأثير اليد الثانية من باب السالبة بانتفاء الموضوع، كما في القسم الأول، بل من باب أن صاحب اليد الأولى لم يجوّز التملّك، فلا تؤثر اليد الثانية أثر التملّك، كما يرضى بعدم الضمان؛ فلا تؤثر اليد الثانية في الضمان أيضاً؛ وذلك كما في باب العارية.
وبما ذكرناه ظهرت النكتة الفنية للفرق الذي ذهبوا إليه بين الوديعة والعارية؛ من أن شرط الضمان في باب الوديعة يلغو، وفي باب العارية ينفذ([5])، وتلك النكتة هي أنه في باب الوديعة يكون عدم الضمان من باب أن يد الثاني فرضت نائبةً عن اليد الأولى في الحفظ؛ فكأنّها هي اليد الأولى؛ فلا موضوع للضمان؛ فالشرط يلغو؛ أمّا في باب العارية فعدم الضمان من باب أن صاحب اليد لم يُرد الضمان؛ فإذا أراده وسجّله بالشرط تعيّن وثبت لا محالة.
الصورة الثانية: أن لا تؤثر اليد الثانية أثر الملك؛ بأن لا يرضى صاحب اليد الأولى بذلك، لكنّها تؤثر أثر الضمان؛ بأن لا يرضى صاحب اليد الأولى بأن يذهب ماله هدراً؛ وذلك كما في باب الغصب؛ فالغاصب لا يملك؛ لعدم إذن المالك في ذلك، وهو يضمن إذا تلفت العين في يده؛ لعدم رضا المالك بأن يذهب ماله هدراً.
الصورة الثالثة: أن تؤثر اليد الثانية أثر الملك؛ بأن يرضى صاحب اليد الأولى بذلك، ولا تؤثر الضمان؛ لرضا المالك بذهاب ماله مجاناً وهدراً، وذلك كما في باب الهبة؛ فالتملّك في الهبة يكون بالحيازة من قبل اليد الثانية، وعقد الهبة شُغلُه تعيين لون اليد وإبراز رضا المالك بذلك، وهذه هي النكتة الفنّية في كون قوام الهبة بالقبض.
الصورة الرابعة: أن تؤثر اليد الثانية الأثرين؛ فالمالك يرضى بتملّك صاحب اليد الثانية، لكنه لا يرضى بذهاب ماله هدراً؛ فاليد الثانية تؤثر كلا أثريها من التملك بالحيازة والضمان باليد، إلا أن الضمان هنا يكون بمجرّد الأخذ، بخلاف باب الغصب الذي كان الضمان فيه بالتلف؛ وذلك لأن هذا المال قد تلف على المالك بمجرّد أخذه منه؛ إذ قد أصبح بذلك ملكاً للثاني بالحيازة.
وما ذكرناه يفسّر لنا أمرين ارتكازيين في باب القرض، هما:
الأمر الاول: عدم رجوع القرض إلى المبادلة، مع كونه في الوقت عينه موجباً للضمان.
الأمر الثاني: كون قوام القرض بالقبض؛ فإن هذا أيضاً أمرٌ ارتكازي عقلائي على طبق القاعدة، فإنه وإن أمكن أحياناً كون القبض شرطاً تعبدياً في بيع الصرف، لكن من البعيد جداً كونه كذلك في باب القرض؛ فإنّ لزوم القبض في القرض أمرٌ تطابقت عليه تمام الاتجاهات الفقهية ــ الشيعية وغير الشيعية ــ وكذا القوانين العقلائية منذ آلاف السنين، الرومانية والفرنسية والألمانية إلى يومنا هذا، وهو المرتكز في ذهننا العقلائي، ومن البعيد جداً كونه أمراً تعبّدياً حصل التطابق العجيب عليه صدفةً بين الاتجاهات الفقهية جميعها على اختلافها، والقوانين العقلائية على تضاربها، وهذا التطابق نفسه حاصلٌ أيضاً في الهبة والعارية والوديعة.
ويؤيّد ذلك المعنى اللغوي للقرض؛ فإن اقترض فسّر بمعنى أخذ وتناول، كما فسّر أقرض بمعنى أعطى وناول منتظراً للمجازاة([6])؛ وهذا كلّه بابه باب الأخذ والعطاء، لا باب إنشاء التمليك والتملّك.
فالتعريف المختار للقرض يفسّر لنا تمام الارتكازات العقلائية في هذا الباب.
ثانياً: حقيقة الربا في القرض
ونبحث هنا عن أمرين:
أولاً: حرمة الربا في القرض إطلاقاً.
ثانياً: تصوير أساليب أخذ الربا في القرض.
1 ـ الحرمة الإطلاقية للربا القرضي
قد يستشكل في حرمة الربا في غير موارد ربا المعاوضة، بأن يخصّص ذلك بخصوص المكيل والموزون، كما هي الحال في ربا المعاوضة؛ وذلك لأحد إشكالين:
الإشكال الأوّل: إجمال المطلقات وقصور الأدلّة الخاصّة، قراءة نقدية
لا يمكن إثبات حرمة الربا القرضي على الإطلاق، لا بالأدلّة العامّة من قبيل الآية الشريفة، ولا بالأدلّة الخاصة.
أ ــ أما الأدلّة العامة، فلإجمالها؛ إذ لو بنينا على إطلاقها لزم حرمة مطلق الزيادة التجارية؛ إذ الربا ــ لغةً ــ بمعنى الزيادة، وهو ما يستلزم تخصيص الأكثر؛ إذ التاجر عادةً إنما يتاجر بداعي الزيادة والربح، ولا إشكال في جواز الزيادات والأرباح المتعارفة في التجارات.
ب ــ وأما الأدلة الخاصّة، فما يمكن الاستدلال به على المقصود روايات أربع:
الرواية الأولى: رواية داود الأبزاري، قال: «لا يصلح أن تقرض ثمرة وتأخذ أجود منها بأرض أخرى غير التي أقرضت منها»([7]).
ويرد على الاستدلال بها على المقصود:
أولاً: أنه ليس فيها شرط الأجودية والزيادة، وإنما هي نهيٌ عن أخذ الأجود في مقام الاستيفاء، وقد ورد النهي عن ذلك في نفسه في عدّة روايات، وهو محمولٌ على الكراهة بقرينة روايات الرخصة في ذلك.
ثانياً: إنّ الرواية تختصّ بالمثليات، ولا يستفاد منها الحرمة على وجه الإطلاق؛ وذلك بقرينة قوله: «وتأخذ أجود منها»؛ فإنه فرض أخذ شيء من جنس ما أعطاه، ولم يفرض أخذ القيمة.
ثالثاً: ضعف السند بداود الأبزاري.
الرواية الثانية: رواية حفص بن غياث، عن أبي عبدالله % قال: «الربا رباءان ــ إلى أن قال ــ : وأما الربا الحرام فهو الرجل يقرض قرضاً ويشترط أن يرد أكثر مما أخذه فهذا هو الحرام»([8])، وهذه أحسن من سابقتها لوجود الشرط فيها.
ويرد على الاستدلال بها:
أولاً: إنّها ــ أيضاً ــ مختصّة بالمثلي؛ بقرينة قوله: «يرد أكثر مما أخذه»؛ فإنّ هذا التعبير يشتمل مثل ما إذا أعطى جاريةً وأخذ آلاف الدنانير.
ثانياً: ضعف السند بالقاسم بن محمّد.
الرواية الثالثة: رواية إسحق بن عمار، عن أبي الحسن %: سألته عن الرجل يكون له مع رجل مال قرضاً، فيعطيه الشيء من ربحه؛ مخافة أن يقطع ذلك عنه، فيأخذ ماله من غير أن يكون شرط عليه، قال: «لا بأس بذلك ما لم يكن شرطاً»([9]).
ويرد على الاستدلال بها:
أولاً: إنه قد يدّعى اختصاصها بالمثلي؛ بقرينة قوله: «فيأخذ ماله»، فإنّ هذا تعبيرٌ يقال في الدرهم والدينار، باعتبار أن ما يأخذه كأنّه نفس ما أعطاه؛ إذ لا يلحظ فيه إلا ماليّته، فلا يشمل هذا التعبير القيميَّ الذي يسترجع ثمنه.
ثانياً: ضعف السند بموسى بن سعدان في طريق الشيخ، وعلي بن إسماعيل في طريق الصدوق.
الرواية الرابعة: رواية إسحق بن عمّار، قلت لأبي ابراهيم %: الرجل يكون له على الرجل المال قرضاً، فيطول مكثه عند الرجل، لا يدخل على صاحبه منه منفعة، فينيله الرجل الشيء بعد الشيء، كراهية أن يأخذ ماله، حيث لا يصيب منه منفعةً، أيحلّ ذلك؟ قال: «لا بأس إذا لم يكن يشرط»، وفي طريق آخر: «إذا لم يكونا شرطاه»([10]).
وهذه أحسن من سوابقها؛ لأنّ سندها معتبر.
لكن مع ذلك، يرد على الاستدلال بها أنّ المقصود منها المثلي؛ بقرينة قوله: «كراهية أن يأخذ ماله»، هذا إذا لم يدّع أن نفس المال في أمثال هذه الموارد ينصرف إلى النقد، والا فأيّ شيء يأخذه وينمّيه، فما يتعارف أخذه وتنميته هو النقد.
والتحقيق حلّ المشكلة عن طريق تتميم دلالة المطلقات ومنع إجمالها، وتوضيح ذلك: إن تلك المطلقات لا تشمل الأرباح التجارية المتعارفة؛ فإنّ ربا الشيء بمعنى زيادة ذلك الشيء، وهذا لا يصدق في مثل مبادلة عينٍ قيمتُها دينار بألف دينار؛ إذ هنا لم تحصل زيادةٌ في ذلك الشيء نفسه، وإنّما استبدل القليل بالكثير.
وعليه، فحصول الربا ــ بمعنى الزيادة في الشيء نفسه ــ يكون بثلاثة مصاديق:
المصداق الأول: الزيادة في القرض في مقابل التأجيل؛ بأن كان له في ذمّة زيد مقدار من المال؛ فيمهله بشرط أن يكون له في ذمّته أكثر ممّا كان بدينارٍ مثلاً، إذ هنا تصدق ــ حقيقةً ــ الزيادة في الشيء نفسه؛ حيث زاد ما كان له في ذمّته.
المصداق الثاني: الزيادة في القرض نفسه ابتداءً في مقابل التأجيل، كما لو أقرض ديناراً بشرط أن يُرجع إليه دينارين، وهذه ليست ــ بحسب الحقيقة ــ زيادة في ذلك الشيء نفسه، فإن فسّرنا القرض بالتفسير الأول الراجع إلى المعاوضة، رجع إلى ربا المعاوضة؛ فتشترط فيه المثلية، على ما سوف يظهر في المصداق الثالث، وإن فسّرناه بأحد التفسيرات الأخرى التي يوجد لها جامع، وهو رفع المقرض يده عن خصوصيّة العين في المثليات وعن خصوصيتها النوعية أيضاً في القيميات مجاناً، كان الشيء الذي بقى عبارة عن المالية التي فرض فيها الزيادة؛ فيصدق ــ عرفاً وبالمسامحة ــ زيادة الشيء نفسه.
المصداق الثالث: الزيادة في المعاوضة، بشرط كون الثمن مثل المثمن ومن جنسه، كالحنطة بالحنطة؛ فإنه وإن لم يصدق ــ أيضاً ــ زيادة الشيء حقيقةً؛ لما عرفت من أن الزيادة في المبادلة ترجع إلى إعطاء شيء قليل وأخذ شيء كثير في مقابله، وهذا غير زيادة الشيء، إلا أنّه مع ذلك تصدق الزيادة عرفاً بالمسامحة؛ باعتبار أنّ خصوصية العين ليست تحت الأغراض العقلائية النوعية؛ فيغضّ النظر عنها، ويُقصَرُ على جنس ذلك الشيء وماليّته؛ فإنهما الدخيلان في الأغراض النوعية العقلائية؛ فكأنّه يقال في المقام: إنّ الحنطة قد زادت.
إذا عرفت ما ذكرناه، تعلم أن الأخذ بإطلاق أدلّة حرمة الربا لا يستلزم تخصيص الأكثر، نعم يخرج منه بعض الموارد، من قبيل بيع غير الموزون والمكيل، لكنّ هذا ليس تخصيصاً للأكثر.
وبما ذكرناه اتضح بطلان ما ذهب إليه تيّارٌ سُنّي هنا، من عدم تمامية المطلقات بالبيان الماضي أو ما يشبهه، أما أخبارهم الخاصّة، ففي غاية التشويش، وهو ما أدّى ببعضهم إلى إنكار حرمة القرض الربوي.
كما اتضح ــ أيضاً ــ بطلان ما ذهب إليه تيّارٌ شيعيّ في المقام، يقول: إنّ القدر المتيقّن من الأدلة المطلقة لحرمة الربا، هو الربا المعاوضي؛ حيث عرفت أنّ القدر المتيقّن منها هو الربا القرضي في مقابل التأجيل؛ إذ هو الزيادة الحقيقية للشيء وتشمل بإطلاقها الربا القرضي الابتدائي والربا المعاوضي على كلام في خصوص الآية الشريفة باعتبار جعلها الربا في مقابل البيع، فقد يقال: إنها تختصّ بالربا القرضي، ولا تشمل ربا البيع.
الإشكال الثاني: تعارض نصوص المكيل والموزون مع أدلّة الحرمة الإطلاقيّة للربا القرضي
ثمّة روايات تقول: لا ربا إلا في المكيل والموزون، وقد يدّعى أنها شاملة للربا المعاوضي والقرضي معاً؛ فتتعارض ــ في غير المكيل والموزون ــ مع مطلقات حرمة الربا، وتقدّم عليها بالأخصّية، كما تعارض الروايات الدالّة على حرمة الربا بالقرض بالخصوص والعموم من وجه.
وهذه المشكلة لم يتعرّض لها في الفقه الشيعي، كما لم يتعرّض للمشكلة الأولى فيه أيضاً، لكنّ الفقه السنّي الذي كان متعرّضاً للمشكلة الأولى لم يتعرّض أيضاً لهذه المشكلة هنا؛ وذلك لعدم وجود روايات عندهم تقول: لا ربا إلا في المكيل والموزون، فهذا الإشكال إنما يتصوّر على مذهبنا.
ويمكن هنا الاعتذار عن المشهور باعتذارين غير صحيحين، هما:
الاعتذار الأول: إنّ الربا الحقيقي عند الفقهاء إنما هو الربا البيعي، أمّا القرض الذي فرض فيه الزيادة، فليس بربا، وإنما هو حرام بدليلٍ خاص دلّ على حرمته، إذاً فدليل حلّية الربا في غير المكيل والموزون لا يمتُّ إلى القرض الربوي بصلة، وهذا الاعتذار متناسب جداً مع التيار العام الشيعي الذي نقلناه آنفاً.
وجوابه ما مضى من أن القرض الذي فيه الزيادة، إن كانت الزيادة فيه في مقابل التأجيل كان هو القدر المتيقن من الربا، بل كان هو الربا الحقيقي، وإن كانت الزيادة ابتدائيةً كان داخلاً أيضاً ــ بحسب الفهم العرفي ــ في عنوان الربا.
الاعتذار الثاني: قد تمّ عند المشهور الإطلاق في الربا القرضي في الروايات الخاصّة، فأوقعوا المعارضة بالعموم من وجه بينها وبين روايات لا ربا إلا في المكيل والموزون، وتوضيح ذلك أنّ روايات (لا ربا إلا في المكيل والموزون) لها معارضان:
المعارض الأوّل: روايات حرمة الربا المعاملي، والنسبة بينهما هي العموم من وجه.
المعارض الثاني: روايات حرمة الربا القرضي، والنسبة بينهما هي العموم من وجه أيضاً.
لكنّ بعض روايات تجويز الربا في غير المكيل والموزون ورد في خصوص البيع، حيث يقول: لا بأس بمعاوضة المتاع مع الزيادة إذا لم يكن كيلاً ووزناً؛ إذاً فإطلاق روايات حرمة الربا المعاملي يسقط من هذه الناحية، وتبقى المعارضة بالعموم من وجه بين روايات حرمة الربا القرضي وروايات تجويز الزيادة في غير المكيل والموزون على وجه الإطلاق.
وهنا، إما إن نقول بترجيح أدلّة حرمة الربا القرضي بلحاظ أداة العموم في الرواية النبوية المنجبرة بعمل الأصحاب، وهي: «كلّ قرض جرّ منفعةً حرام»، فهذه الرواية قيل: إنها نبويّة، والجابرون يقولون بانجبارها بعمل الأصحاب، والحال أنّها ليست نبويةً أصلاً، وإنما هي مروية عن أميرالمؤمنين % عن طريق السنّة..
وعلى أيّة حال:
أ ــ إما أن يقال بتقديم هذه الرواية المنجبرة بعمل الأصحاب؛ لاشتمالها على أداة العموم.
ب ــ أو لا نقبل ذلك؛ لعدم قبول ترجيح أداة العموم على الإطلاق، أو لعدم الموافقة على الانجبار بعمل الأصحاب، أو لعدم معلومية استناد الأصحاب إلى هذه الرواية؛ فنقول بترجيح روايات حرمة الربا القرضي باعتبار موافقتها لإطلاق الكتاب المحرّم للربا، بناء على مرجّحية الكتاب في مورد المتعارضين ولو بالعموم من وجه.
ج ــ أو نقول: إن الطائفتين تعارضتا وتساقطتا؛ فنرجع إلى أدلّة تحريم الربا إطلاقاً، نعم لولا الدليل الخاصّ على جواز الزيادة في غير المكيل والموزون في البيع لكان لأخبار: (لا ربا في المكيل والموزون) معارضان ــ كما مرّ ــ : أحدهما دليل حرمة الربا القرضي، والثاني دليل حرمة الربا المعاملي، ولا يمكن تقديم كليهما على أخبار: لا ربا إلا في المكيل والموزون؛ إذ لا يبقى له موردٌ؛ فيقع التعارض بين نفس دليلي حرمة الربا في القرض وحرمته في البيع، ولا يمكن الرجوع إلى العام الفوقاني؛ لأنّه مُخصّصٌ بأخبار: لا ربا إلا في المكيل والموزون، هذا هو محصّل الاعتذار الثاني.
لكن هذا الاعتذار غير صحيح أيضاً؛ إذ هذه الصناعات إنما تكون إذا لم يكن دليل نفي حرمة الزيادة بلسان الحكومة، وأما إذا كان بلسانها، كما في قوله: «لا ربا إلا في المكيل والموزون»، المفروض فيه نفيه لحرمة الربا في غير المكيل والموزون بلسان الحكومة، فهو مقدّم على كلّ ما يعارضه، سواء كان هذا أخصّ منه وجهاً أو أخصّ منه مطلقاً.
والتحقيق في حلّ المشكلة: إنه إمّا أن يُحمَل قوله: لا ربا إلا في المكيل والموزون على أنه نفي حقيقي واقعي، أي أنه يبيّن أنّ الزيادة لا تتحقق حقيقةً في غير المكيل والموزون، فحينئذٍ لابد أن نقول: إنّ المراد من المكيل والموزون هنا المثلي، وأن تكون هذه الرواية إشارة إلى النكتة العقلائية التي بيّناها سابقاً من أن الزيادة في باب البيع إنما تتحقق ــ عقلائياً ــ في المثلي، أما القيمي فلا تتحقّق الزيادة فيه غالباً؛ فتختصّ هذه الروايات ــ لا محالة ــ بالبيع، ولا تجري في القرض، وإنما عبّر بالمكيل والموزون؛ لأنه لم يكن ــ إلى عصر الأئمة ( ــ في الفقه الإسلامي وجودٌ لاصطلاحي: المثلي والقيمي على ما يبدو بالتتبّع الكامل، فكلمة المثلي والقيمي غير موجودة في شيء من الروايات في باب الضمانات وغيرها، وأحد التفسيرات الأولية للمثلي والقيمي في الفقه الإسلامي هو المكيل والموزون، حيث يقولون: المثلي والقيمي يعنيان المكيل والموزون، وهو ما يشهد على أنّ سَير اصطلاحات ولغة الفقه الإسلامي كان بهذا النحو، أي أنه حينما كان يراد التعبير عن المثلي يعبّر عنه بالمكيل والموزون، ولهذا حينما جاء ــ بعد ذلك ــ اصطلاح المثلي والقيمي بقي تعريف المثلي بالمكيل والموزون على أساس أنهما أوضح مصاديق المثلي، وبالجملة: لو قلنا بهذا التفسير للروايات في المقام، يشفع له عقلائية مفادها ــ اختصّت الروايات حينئذٍ بباب البيع.
أمّا إذا لم نقل ذلك، بل حملناها على النفي بلسان الحكومة من باب نفي الموضوع، من قبيل: هذا العالم جاهل أو الجاهل عالم، ونحو ذلك مما استبعد جداً وقوعه في لسان الروايات، فنقول: إن روايات نفي الربا في غير المكيل والموزون وردت بثلاثة تعابير:
1 ــ «لا ربا في المكيل والموزون»([11]).
2 ــ «لا ربا إلا فيما يُكال أو يوزن»([12]).
3 ــ «لا ربا إلا في ما إذا كان فيه كيل أو وزن»([13]).
والتعبير الثالث ظاهرٌ في أنه ليس المقصود من ذلك أنّه لا ربا في أيّ معاملة تقع على أيّ مال إلا ذاك المال الذي لو بيع لبيع بالكيل أو الوزن حتى يكون هذا بإطلاقه شاملاً للقرض الربوي، وإنما المقصود أنه لا ربا في معاملةٍ تطرء على مالٍ لا يكون مكيلاً وموزوناً في تلك المعاملة نفسها، أي لا يكون محتاجاً إلى الكيل والوزن فيها؛ إذاً لابد أن تكون تلك المعاملة سنخ معاملةٍ يكون المكيل والموزون فيها محتاجاً إلى الكيل والوزن، وغير المكيل والموزون غير محتاج إلى ذلك، وهو البيع، هذا حال التعبير الثالث، وأنا ادّعي أن التعبيرين الأولين أيضاً ظاهران في هذا المطلب، وإن لم يكونا ظاهرين فيه فلا أقلّ من الإجمال، وإذا لم نقبل هذا الكلام بأن لم نقل بظهور هذه التعابير في إرادة الكيل والوزن بالفعل في هذه المعاملة، ولم نقل بالإجمال أيضاً، قلنا: إنّ هذه الروايات ــ إذاً ــ تتعارض مع الآية الكريمة وتسقط عن الحجيّة؛ إذ ليست نسبتها إلى الآية الكريمة في مقام نفي حرمة الربا القرضي في غير المكيل والموزون نسبة المقيّد إلى المطلق؛ ذلك أنّ مركوزيّة نكتة حرمة الربا القرضي في ذهن العقلاء تجعل ملازمةً بين حرمة الربا القرضي في المكيل والموزون وحرمته في غيرهما، بحيث لا يكون تقييد الآية تقييداً مقبولاً، من سنخ سائر تقييدات الإطلاقات، ولا يكون التفكيك بينهما عقلائياً.
2 ـ أساليب أخذ الزيادة في القرض
يقع البحث في أساليب أخذ الزيادة في القرض على مرحلتين:
المرحلة الأولى: الأساليب المتصوّرة لجعل الفائدة حدوثاً في القرض بغضّ النظر عن الأجل.
المرحلة الثانية: الأساليب المتصوّرة لجعل الفائدة بقاءً، أي في مقابل الأجل.
أ ـ أساليب جعل الفائدة حدوثاً
والأساليب المتصوّرة في ذلك في بادئ الأمر ثلاثة:
الأسلوب الأوّل: أن تؤخذ الزيادة بنحو الجزئيّة من البدل، تمليكاً أو تملّكاً، وبتعبير آخر: بما هو فعل إلى أن يملّك درهماً، وبما هو نتيجة إلى أن يُملك درهماً.
الأسلوب الثاني: أن تؤخذ الزيادة بنحو الشرطية.
الأسلوب الثالث: أن تؤخذ الزيادة بنحو التعليق؛ بأن يعلّق القرض على إعطاء الزيادة.
وفرق الأخير عن الأول واضحٌ، وفرقه عن الثاني أنّ الشرط في الثاني كان يقصد بالمعنى الفقهي، بمعنى الالتزام في الالتزام، فلو شرط مثلاً في البيع خياطةَ ثوبه لم يكن البيع معلّقاً على خياطة الثوب، أما الثالث فقد قصد به الشرط بالمعنى العقلي والمنطقي، أي أنّ القرض لا يكون إلا بشرط الزيادة.
1 ــ أما الأسلوب الأول:
أ ــ فمن الواضح معقوليّته في القرض بالتعريف الأول من التعاريف الماضية له؛ إذ القرض كان ــ على ذاك التعريف ــ مبادلةً؛ فقد يبادل الدينار بدينار، وقد يبادله بدينارٍ ودرهم.
ب ــ كما أنّه من الواضح عدم معقوليّته، بناء على تعريف المحقق الإيرواني؛ إذ ليس القرض عنده سوى هبة مع استئمان المالية، أما الهبة فمجانيّة لا يعقل فرض شيءٍ في مقابل ما وهبه، بزيادةٍ أو بلا زيادة، وأمّا الاستئمان فليس معاوضةً أيضاً، حتى يكون في مقابل بدلٍ يؤخذ فيه الزيادة بنحو الجزئية.
ج ــ وأمّا بناءً على مبنى السيد الأستاذ، من أنّ القرض تمليكٌ في مقابل الضمان، فهنا يعقل أخذ الزيادة جزءاً، فهو وإن لم يكن مبادلة، لكنّه على أيّ حال قد تصوّر مقابلاً للتمليك وهو الضمان، فيعقل تصوير جعل الفائدة بنحو الجزئية، بأن يقال: إنّ المقرض يملّك هذا المال في مقابل أن تضمنه، وأن تشتغل ذمّتك بدرهم.
د ــ وأمّا على المبنى الرابع المختار من أن التملّك والضمان يكونان بنفس اقتضاء الحيازة واليد، وأما المالك فهو يعيّن لون اليد، أي أنه يأذن في التملّك مع الضمان، فقد يقال: إنه لا يتصوّر أخذ الزيادة بنحو الجزئية؛ إذ الضمان ليس بجعل المالك، إنما هو ضمان اليد الثابت ــ على القاعدة ــ بوضع اليد وإتلافها للمال، حيث إنه بمجرّد وضع اليد تلف المال على المالك بالتملّك، فلا معنى لجعل الزيادة جزءاً من ذلك، وغاية ما بيد المالك أنّ التملك والضمان يتمّان بإذنه.
إلا أن الصحيح معقولية الجزئية في المقام؛ وذلك لأن الضمان هنا وإن كان ضمان الغرامة الثابت عقلائياً بنفس اليد والإتلاف، إلا أنّ ضمان الغرامة العقلائي إنما يكون ضماناً بالمثل أو القيمة بلا زيادة ولا خصوصية أخرى، إن لم يتفق الآذن والمأذون له مسبقاً على كون الضمان بنحوٍ مخصوص؛ ولذا قالوا: إنّه لو تبانيا في المثلي على كون الضمان بالقيمة أو بالعكس صحّ ذلك، والحاصل أنه لو اتفق الضامن والمضمون له على بدلٍ آخر غير المثل والقيمة الثابت بالطبع الأولي، تعيّن ذلك، لا بمعنى تعيّنه بجعل المالك، بل بمعنى أنه يثبت بنفس قانون ضمان الغرامة؛ فقانون ضمان الغرامة يُثبت أن كلّ من وضع يده على مال الغير فهو ضامن له وتشتغل ذمّته بالبدل الواقعي ما لم يكن توافق على بدل آخر، وإلا فباليد الأخرى، إذاً يمكن في المقام أن يتفقا على بدل آخر تكون الزيادة جزءاً منه.
2 ــ وأما الأسلوب الثاني: وهو الشرط، فهو معقول على المباني الثلاثة الأولى، وغير معقول على المبنى المختار، وذلك بناءً على المباني المشهورة في الشرط والتي أمشي عليها الآن، ولا يسع المجال لتحقيق بديلها.
وتوضيح ذلك: إنّ الشرط ــ بناءً على المباني المشهورة ــ يتقوّم بأن يكون مأخوذاً في ضمن عقد، وقد قسّم الفقهاء العقود إلى عقود إذنية وعقود عهدية؛ فالعقود الإذنية عبارة عن المعاملات التي لا يرجع محصّلها إلا إلى الإذن والترخيص، من قبيل الوديعة والعارية والإذن في التصرّف والإذن في البيع والشراء وحتى الوكالة على قول. أمّا العقود العهدية فهي العقود التي تتكوّن من التزامين من قبل الطرفين، أحدهما معقودٌ بالآخر ومرتبط به، فالقسم الأول من العقود قالوا فيه: إنّه ليس عقداً حقيقةً؛ إذ ليس فيه عقدٌ وربط بين التزامين من قبل شخصين؛ إذاً فليس عقداً في اللغة، وإنما يسمّى عقداً بالاصطلاح، والعقد الحقيقي ليس سوى العقود العهدية؛ من هنا خصّصوا الشروط التي تكون شروطاً حقيقةً بخصوص الشروط التي تقع ضمن العقود العهدية.
وعلى هذا نقول: إنّ القرض ــ بناء على المبنى الرابع ــ إنما هو من العقود الإذنية؛ إذ ليس للمالك سوى الإذن في التملّك مع الضمان؛ فلا يتعقّل فيه الشرط، وهذا بخلاف المباني الثلاثة الأولى؛ فعلى المبنى الأول يكون القرض معاوضةً؛ فيعقل فيه الشرط كسائر الشروط في المعاوضات، ويترتب عليه أحكام الشرط، لولا أدلّة تحريم الربا، وكذا الأمر على المبنى الثاني، وهو كون القرض تمليكاً مجانياً للعين مع استئمان المالية، فإنّ هذا عقدٌ من العقود أيضاً، فيه جنبةٌ معاملية، ولا يقلّ عن عقد الهبة، فكما يصحّ الشرط في ضمن عقد الهبة من قبل الواهب على المتهب، كذلك يصحّ الشرط هنا من قبل المقرض على المقترض، وكذلك الحال على المبنى الثالث، وهو كون القرض تمليكاً على وجه الضمان.
3 ــ وأما الأسلوب الثالث: وهو التعليق، فهو غير معقول ولا صحيح في نفسه، بغضّ النظر عن أدلّة حرمة الربا، على المباني الثلاثة الأولى؛ لما ذكروا من كون التعليق مبطلاً للعقد.
ويمكن أن يقال: إنه معقول وصحيح في نفسه ــ بغض النظر عن أدلة حرمة الربا ــ بناءً على المبنى الرابع؛ إذ عمدة الدليل على مبطلية التعليق في العقد إنما هو الإجماع، والمتيقن منه هو العقود العهدية، أمّا مجرّد الإذن فبالإمكان أن يكون معلّقاً على أمر ومشروطاً به؛ فيقول ــ مثلاً ــ : أنت مأذونٌ في التصرّف في المال إذا كنت تعمل العمل الفلاني، كالرواح إلى كربلاء مثلاً، والقرض على المبنى الرابع ليس إلا مجرّد إذنٍ في التملّك مع الضمان؛ فلا مانع من التعليق فيه.
إلا أنّ الإنصاف أنّ التعليق غير صحيح في المبنى الرابع أيضاً، لا للإجماع على مبطليّة التعليق في العقود، حتى يقال: إنه ــ أي الإجماع ــ مختصّ بالعقود العهدية، بل لأن التعليق في القرض ليس عقلائياً؛ فالعقلاء لا ينشؤون ــ مثلاً ــ القرض معلّقاً على نزول المطر، وأدلّة صحة القرض شرعاً إنما تدلّ على إمضاء المعاملة العقلائية المألوفة بين الناس، دون أن يكون لها إطلاق أزيد من ذلك؛ وعليه فلا دليل على صحّة هذا القرض في نفسه بغض النظر عن دليل حرمة الربا.
هذا كلّه لو غضضنا النظر عن دليل حرمة الربا، وقد تبيّن أن أخذ الزيادة بنحو الجزئية يصحّ فيما عدا المبنى الثاني، وبنحو الشرطية يصحّ فيما عدا المبنى الرابع، وبنحو التعليق لا يصح مطلقاً.
أمّا بالنظر إلى دليل حرمة الربا، فلا إشكال في أنّ هذا الدليل يحرّم القسم الأول والثاني من الأخذ بنحو الجزئية أو الشرطية؛ إذ الربا ليس إلا عبارة عن الإلزام بالزيادة عن طريق رأس المال الذي يعطيه، أما القسم الثالث ــ وهو الأخذ بنحو التعليق، بناءً على صحّته في نفسه ــ فيشكل إثبات حرمته بأدلّة حرمة الربا، إذ ليس هذا إلزاماً بالزيادة؛ لأنّ القرض معلّق على الزيادة، والمعلّق لا يُلزم بالمعلّق عليه، إذ ينتفي بانتفائه، نعم، يترتب على ذلك تمام مفاسد الربا، فليس هذا إلا حيلةً من الحيل للتهرّب من الربا، ونحن نقول في كلّ عملية لا تقع دائماً إلا متقمّصةً قميص الحيلة للتهرّب عن حرمة الربا ويترتب عليها تمام مفاسده، أي بالإمكان ــ دائماً أو غالباً ــ إرجاع الربا إليها.. تثبت حرمة تلك العملية بأدلّة حرمة الربا؛ بالملازمة العقلائية، إلا أن هناك فرقاً بين هذه الحيلة بالخصوص وسائر الحيل، وهو أنّ سائر الحيل يُلزم ــ بحسب النتيجة ــ الشخص بإعطاء الزيادة، لكنّ هذه الحيلة بالخصوص لا تُلزمه بذلك، غاية الأمر أنه لو لم يعط الزيادة يكشف عن أن القرض كان باطلاً، لكن مع ذلك لا يبعد القول بتمامية الملازمة العقلائية في المقام. وعلى أي حال، فقد عرفت أن القرض بنحو التعليق في نفسه غير صحيح، بغض النظر عن دليل حرمة الربا.
ب ـ أساليب جعل الفائدة بقاءً
يتصوّر هذا على نحوين:
النحو الأول: أن يُلزِمَ المدين بالزيادة في مقابل الأجل، وذلك بأحد أساليب ثلاثة:
1 ــ جعل المبادلة بين التأجيل والزيادة.
2 ــ جعل الزيادة بنحو الجعالة، بأن يقول: من أجّل ديني فله درهم، من قبيل قوله: من ردّ عليّ ضالّتي فله درهم.
3 ــ إلزام الدائن للمدين إلزاماً تكليفياً بالجامع بين وفاء الدين فوراً وإعطائه للزيادة بنحو العطيّة.
ودليل حرمة الربا يحرّم تمام هذه الأقسام الثلاثة، سواء كانت المقابلة بين الزيادة والأجل بنحو إسقاط حقّ الفور للدائن ــ بناء على أنّه حقّ للدائن قابل للإسقاط، على كلام مربوط ببحث النقد والنسيئة ــ أو بنحو إيجاد حقّ التأجيل للمدين فيسقط حقّ الدائن ــ بناء على إمكان إيجاد حقّ من هذا القبيل للمدين، على كلام مربوط ببحث النقد والنسيئة ــ أو لم تكن الزيادة في مقابل إسقاط حقّ أو إيجاد حقّ، بل في مقابل أن لا يطالبه بالفعل بدينه، فإنه على أي حال يكون إلزاماً بالزيادة، وهذا هو الربا الذي دلّ الدليل على حرمته.
النحو الثاني: أن لا تجعل الزيادة في مقابل الأجل، بل يشترط التأجيل في ضمن بيع محاباتي، بأن يبيع المدين ــ مثلاً ــ شيئاً تكون قيمته ألف دينار بخمسمائه دينار من الدائن، ويشترط في ضمن العقد تأجيل ما عليه من الدين، وهذا أيضاً ربا محرّم؛ إذا كان الدائن قد ألزمه بذلك، بأن ألزمه بالجامع بين وفاء الدين فوراً والبيع المحاباتي، فإن البيع المحاباتي شيء له مالية عقلائية، فإلزامه به إلزامٌ بالزيادة عن طريق ماله من رأس المال، وهذا هو الربا المحرّم.
وقد وردت بعض الروايات بجواز ذلك، وعمل بها جملةٌ من الفقهاء، إلا أنّ الصحيح عدم إمكان العمل بها؛ وذلك لأن الظاهر منها ــ كما فهمه العاملون بها ــ أن هذا ليس تخصيصاً في دليل حرمة الربا، وإنما هو علاج للفرار منه، ولهذا تعدّى العاملون بها إلى أسلوب آخر، وهو أن يهبه شيئاً ويشترط في ضمن الهبة تأجيل الدين.
إذن، فمفاد هذه الروايات تحويل الحرمة المستفادة من الآية الشريفة من مصبّها الذي يفهم عرفاً من كلمة الربا، وهو الإلزام بالزيادة الشامل لمثل الإلزام بهذا البيع المحاباتي، إلى مصبّ آخر كالمبادلة بين الأجل والمال مثلاً، فكأنّها تقول: إنّ بيع الأجل غير جائز من قبيل ما يقال من أن بيع المصحف غير جائز مثلاً أو أن بعض الحقوق غير قابل للبيع كحقّ الحضانة وحقّ الشفعة، ولا يكون ذلك مربوطاً بحرمة الإلزام بالزيادة، فتكون هذه الروايات مخالفةً لظاهر العنوان المأخوذ في الكتاب، لا مقيّدةً له؛ فتسقط عن الحجيّة بمخالفتها القرآن، على أنّ جملةً من تلك الروايات لا تشتمل على قصّة إلزام الدائن للمدين بذلك، ومن المعلوم أنه لا إشكال في البيع المحاباتي إذا لم يكن بإلزام من قبل الدائن، كما لو لم يطالب الدائن بالأداء، وكان يسمح بالتأخير، لكن المدين خاف أن يرجع الدائن في رأيه عن ذلك؛ فأوقع معه بيعاً محاباتياً مشترطاً في ضمنه تأجيل القرض، فإنّ هذا ليس من الربا في شيء، وإن وجد في تلك الروايات ما يشتمل على مسألة الإلزام التي بها قوام الربا، فلا يوجد في أكثر من روايتين، فنسقطهما عن الحجية بالمعارضة مع الكتاب الكريم، فإنها ليست كثيرةً حتى يستغرب سقوطها لاستفاضتها مثلاً.
وقد ظهر ممّا ذكرناه الحال في أخبار العينة التي يسأل فيها الراوي الإمام % عن أنه يحلّ أجل الدين، فأذهب إلى الدائن وأشتري منه ما يسوى بمثل عشرة دنانير باثني عشر بثمن مؤجّل إلى ستة أشهر، ثم أبيعه إياه بعشرة بثمن نقدي، وقد كنت مديوناً له بعشرة دنانير فأوفيه العشرة، ويبقى عليّ اثنا عشر ديناراً مؤجلاً إلى ستة أشهر، فيقول الإمام: لا بأس بذلك، فإنّ هذه الأخبار أكثرها لا يستبطن الإلزام من قبل الدائن، وإنما المدين هو الذي يسأل عن فعل ذلك، وعلى تقدير أنّ فيها ما يستبطن الالزام تسقط بالمعارضة مع الكتاب فيما يقرّه من قانون: >وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ<.
الواقع الخارجي للمعاملات البنكية([14])
لا بأس هنا باستعراضٍ مختصر لتاريخ عمل الصيارفة في النظام الرأسمالي الأوروبي فنقول: كان عمل الصيارفة منذ البدء أن يقضوا حاجة الناس في تبديل عُملةٍ بأخرى، ويرتزقوا عن هذا الطريق، فكان لابد لهم من ادّخار مقدار من النقود بعملات مختلفة، وهو ما يحتاج إلى صناديق حديدية وأقفال حديدية محكمة، تدّخر فيها الأموال؛ لكي تسلم من سرقة السرّاق، في وقت لم يكن النظام الأوروبي فيه على درجة يمنع من كثرة السرقة، فهيّئوا صناديق وأقفالاً حديدية لذلك.
ثم أصبح الإقطاعيون المتموّلون يفكّرون في إيداع أموالهم عند هؤلاء الصيارفة؛ لأنهم يملكون مكاناً مأموناً لحفظ هذا الأموال؛ فبدؤوا يودعون الأموال عندهم، لكي تحفظ في صناديقهم بدلاً عمّا كان يُصنع فيها سابقاً، من دسّها في جوف الأرض أو الحائط، وكان الصيارفة يأخذون أجرةً على هذا الحفظ، تختلف ــ قلّةً وكثرة ــ حسب اختلاف المال المستودع.
ثم رأى الصيرفي ــ بحسب تجاربه ــ أنّ ما يودع عنده لا يُسترجع منه أزيد من العُشر عادةً على سبيل البديل، بل قد يكون أقلّ إلى أن يصل إلى نسبة الواحد من المائة، وذلك عندما لا توجد حروب بين الإقطاعيين تكلّفهم سحب شيء من أموالهم من عند الصيارفة وصرفها، فأخذوا يعرضون تسعة أعشار الودائع إلى التجار مع أخذ الفائدة، بالرغم من أنهم لا يمكلون ذلك من تلك الودائع، وسعر الفائدة يختلف حسب قانون العرض والطلب، كما هي الحال في سائر السلع، ثم رأى هذا الصيرفي أنّ التجار يقترضون منه، وبدلاً من أن يسحبوا ما اقترضوه يأخذون سندات ويتعاملون بها عن طريق الحوالة على الصيرفي، ولا يسحبون ما اقترضوه إلا نادراً، وحيث يحتاجون أحياناً إلى استهلاك عين المال لمصرف الزواج ونحوه، أخذ يقرض قدراً أكبر مما عنده بعشر مرّات، والنتيجة أنه حينما يستودع من شخص عشرة دنانير يُقرض بقوّة ذلك تسعين ديناراً.
ثم جاء دور الصناعات الكبيرة والمشاريع الضخمة، من قبيل استخراج النفط ونحو ذلك، واحتاج أصحابها إلى أموال هائلة لإنجاز المشروع، ولا يمكنهم جمع المال من الناس بسلطتهم جبراً وقهراً عليهم؛ لأنّ ذلك خلاف منطق الرأسمالية، كما لا يمكنهم جمعها عن طريق التبرّعات إذ قد تربّى الناس على العقلية المصلحية، وكلّ واحد منهم إنما تعاون واشترك في إمضاء قوانين الرأسمالية وإنجازها بدافعٍ من مصلحته الخاصّة؛ فمتى يسوغ لهم بذل المال في مشروع مجاناً بداع التبرّع؟!
وهنا قال الصيرفي: إنّني أستطيع أن أجمع لكم فاضل أموال الناس؛ ففتح باب أخذ المال من الناس بعنوان الاقتراض مع إعطاء الفائدة، بدلاً عما كان يصنعه سابقاً من أخذ الودائع مع تقاضي الأجرة على حفظ المال؛ فأخذ الناس يدفعون فاضل أموالهم، بل أخذوا يحبّذون الضغط على أنفسهم في المعيشة حرصاً على أخذ الفائدة، وأخذ الصيرفي يقتصر في إعطاء الفائدة على أقلّ قدر ممكن منها، مما يفي بجلب أموال الناس، ثم يعطي هذه الأموال الهائلة إلى أصحاب تلك المشاريع مع أخذ الربا منهم.
وقد تمخّض هذا الدور عن لا مساواة غريبة بين الناس؛ فاجتمعت الأموال الهائلة والمنافع الكثيرة في جيوب جماعةٍ معينين منهم هم الصيارفة، بل أصبحوا بذلك يتحكّمون في البلاد، ويؤثرون على العباد بغية سنّ قوانين لصالح معاملاتهم الربوية، وقد كان ذلك في البلاد الأوروبية في ظلّ شروط خاصّة وحالات نفسية معينة، ولو أنه طُبّق في مكان آخر ــ يختلف عنها في هذه الظروف والخصوصيات ــ قانونُ الشركة في التجارة بدلاً عن الودائع الربوية، وذلك بأن يكون نفس أصحاب الأموال مشتركين في ذلك المشروع أو تلك الصناعة أو المؤسّسة، فيكون لهم ما لصاحب المشروع من منافع وعليهم ما عليه من خسائر؛ لحصلت الفوائد عينها، ومشى المشروع ولم تحصل تلك المضارّ الهائلة.
ومن المفاسد التي ترتّبت على الربا انحسار التجارة عمّا لا يكون ربحه أكثر من سعر الفائدة الربوية، بينما قد يكون ذلك الشيء أهمّ من مشروع آخر يتّجه إليه التجار، لكون ربحه أكثر بكثير من سعر الفائدة الربوية، ومن المفاسد أيضاً أنّ المرابي حينما يعطي المال لا يفكّر في نجاح المشروع وإنجاحه والظروف التي يعيشها المشروع ومن يتبنّاه إلا بالقدر الدخيل في قدرة المدين على دفع الفائدة الربوية إن لم يكن قادراً على الدفع عن طريق آخر، بينما لو كانت المعاملة على أساس الشركة في التجارة لكان دافع المال إلى ذلك التاجر يفكّر ــ أيضاً ــ في نجاح المشروع وإنجاحه.
على أنّ الحركة الربوية تناقض دائماً الحركة التجارية والمصلحة التجارية؛ إذ يجري المرابون على سعر الفائدة قانون العرض والطلب؛ فحينما يشتدّ احتياج التجّار إلى المال يمتنعون عن بذله إلا بسعرٍ غال، وحينما يقلّ احتياجهم يضعون الأموال على المسرح ويبذلونها بفائدةٍ رخيصة.
وقد أثر رواج الربا على هذا المنوال في علم الاقتصاد والفكر الاقتصادي أيضاً؛ فأخذوا ينسجون من وجهة النظر العلمية مبرّرات للربا، وإذا تسنّت الفرصة لنا وبقي مجال، نعقد في آخر البحث خاتمةً نستعرض فيها جملةً من تلك المبررات التي نسجوها في المقام.
وبالرغم من كون المرابين طفيليين على مائدة أموال الناس، والمترقب أن يكون حظّهم أقلّ من حظّ أصحاب الموائد أنفسهم، إلا أنّه ــ أي حظّهم ــ أصبح أكثر؛ وذلك لصيرورة نفعهم مضموناً، سواء ربحت التجارة أو خسرت؛ فهم يرون أنفسهم مالكين لمالين طوليين: أحدهما نفس المال الذي يُقرضونه، وثانيهما الأجل، فكأنّ المال تلقائياً ينمو بمضيّ الزمن عليه في ذمة الناس، بلا حاجة إلى أيّ تعب من قبل صاحب المال، فيرون لأنفسهم حقّ إلزامين طوليين: أحدهما الإلزام بوفاء الدين مع القدرة، والثاني الإلزام بالفائدة عند عدم الوفاء.
والإسلام ــ اجتذاذاً لأصول الربا وفكرة استحقاق هذا الإلزام ــ لم يقتصر على المنع عنه، بل منع ــ رأساً ــ عن إيقاع المعاوضة على الأجل، ولو مع رغبةٍ من المدين ودون إلزامٍ له.
وبهذا ينتهي الكلام في المباحث التمهيدية الثلاثة التي عقدنا العزم على بحثها، لننتقل ــ بعد ذلك ــ إلى استعراض التخريجات الفقهية فيما يخصّ المعاملات البنكية السائدة.
ـ يتبع ـ
* * *
الهوامش
([1]) الأنصاري، المكاسب 3: 15، طبعة لجنة تحقيق تراث الشيخ الأعظم.
([2]) المصدر نفسه.
([3]) الخوئي، مصباح الفقاهة 2: 69.
([4]) الأنصاري، المكاسب 3: 15؛ الخوئي، مصباح الفقاهة 2: 68.
([5]) انظر ـ على سبيل المثال ـ : الإصفهاني، حاشية المكاسب 5: 388.
([6]) انظر: ابن منظور، لسان العرب 7: 217.
([7]) الحر العاملي، وسائل الشيعة 18: 194.
([8]) المصدر نفسه 18: 160 ـ 161.
([9]) المصدر نفسه 18: 354.
([10]) المصدر نفسه 18: 358.
([11]) الصدوق، من لا يحضره الفقيه 3: 281؛ ووسائل الشيعة 18: 155.
([12]) وسائل الشيعة 18: 133؛ والنوري، مستدرك الوسائل 13: 343.
([13]) وسائل الشيعة 18: 134.
([14]) كان المفروض حذف هذا البحث؛ لضيق الوقت، وكفاية البحثين الأولين في توضيح التخريجات الآتية، إلا أنّ إصرار بعض حضّار درس السيد الشهيد دفعه إلى الشروع في هذا البحث، ولو لأجل تكثير عدد المحاضرات (المقرّر).