ترجمة : مشتاق الحلو
ما هي الفلسفة التحليلية؟ وما هو أصول الفقه؟ ــــــــــ
يفترض، للقيام بدراسة مقارنة بين بحوث الفلسفة التحليلية وعلم أصول الفقه، تعريف كلّ منهما أولاً.
أمّا الفلسفة التحليلية، فليس من السهل تحديد ماهيّتها، إذ تعبّر عن تيار فكري تعرّض لتحوّلات كثيرة، لكن يمكننا القول بشكل مجمل: إنّ الفلسفة التحليلية نوعٌ من النزوع لحلّ المسائل الفلسفية عبر تحليل المفاهيم؛ فهي ـ إذاً ـ منهج لدراسة المسائل الفلسفية من خلال التحليل اللغوي، وليست بموضوع أو اختصاص في الفلسفة، كما لا تعتبر علماً، فقد اتفق الفلاسفة جميعهم على أنّ العمل الفلسفي يعتمد تحليل المفاهيم، ومن خلاله يمكن الإجابة عن الأسئلة الفلسفية أو إلغائها، لكن الفلاسفة وحتى مؤسّسي الفلسفة التحليلية، راسل Russel، مور وفريغهFrege ، اختلفوا في تحديد معنى التحليل المفاهيمي.
والسبب في ذلك يعود إلى مرور الفلسفة التحليلية بمراحل مختلفة، كما اعتقد راسل وآخرون من الفلاسفة في فترة من الزمن، أنها توضح المسائل الفلسفية ولا تجيب عنها، فعلى سبيل المثال، أمور كالاستقراء والعلية ووجود الله تتضح بالتحليل المفاهيمي، لكن حلّها يقتضي الغوص في غمار مناهج فلسفية، وفي فترة زمنية أخرى، اعتقد بعض الفلاسفة التحليليين بعدم وجود مسألة فلسفية في الواقع. بل في رأيهم، كل ما هنالك ألغاز اختلقها التعقيد اللغوي. إذاً ليس عمل الفيلسوف التكلّم عن الكون، بل تحليل اللغة، لذا يقال في بعض الأحيان: إن الفلسفة التحليلية معرفةٌ من الدرجة الثانية.
وبعد الحرب العالمية الثانية، فقدت الأيديولوجيات السابقة رونقها، وعاد الفلاسفة التحليليون للمسائل الفلسفية مرّة ثانية، مستخدمين المنهج التحليلي لحلّها؛ فالفلسفة التحليلية منهج لحلّ المسائل الفلسفية، إذا تناولنا اللغة من خلاله، نحصل على فلسفة اللغة، وإذا تناولنا الأخلاق، نصل إلى فلسفة الأخلاق و…
النقطة الأخرى التي يجدر التنبيه عليها، أن المراد من كون الفلسفة التحليلية علماً من الدرجة الثانية، أنها تتناول قضايا العلم وبحوثه ذات الدرجة الأولى، كالأخلاق نفسها، أو اللغة كذلك و… ولا تتناول أقوال العلماء والفلاسفة وآراءهم، ففي الفلسفة التحليلية تركيزٌ على تحليل اللغة وتفكيك المفاهيم.
فحينما نبحث علاقة الفلسفة التحليلية بعلم أصول الفقه، لا نقصد فلسفة اللغة فقط، بل نتناول مجالات الفلسفة التحليلية برمّتها وتمام البحوث التي تناولها الفلاسفة التحليليون؛ ففي الفلسفة التحليلية أبحاث عديدة، يمكنها أن تخدم علم الأصول وتدفعه إلى الأمام.
أما علم الأصول الذي نبحث علاقته بالفلسفة التحليلية، فله تعريف مشهور، وقد وردت عليه ملاحظات كثيرة، لكننا نستطيع تعريفه ـ وباختصار ـ كما يلي: علم الأصول مجموعةٌ من البحوث التي تنتهي إلى استنباط الحكم الشرعي أو تحصيل الحجّة على الحكم الشرعي.
ويقسّم علم الأصول ـ على أقلّ التقادير ـ إلى أربعة أقسام:
1. بحوث الألفاظ والدلالات: وتهتمّ بفهم ظاهرالألفاظ، كأن نقول: ما هو مدلول المعنى الحرفي؟ ما هو مدلول المشتق؟ ما هو مدلول هيئة الأمر؟ ما هو مدلول مادة الأمر؟ ما هي دلالة أداة العموم؟ و…
2. البحوث العقلية: كالبحث عن وجوب مقدّمة الواجب، وبحث الضدّ، واجتماع الأمر والنهي؛ فهذا النوع من البحوث عقلي، لا علاقة له باللفظ والدلالة.
3. بحث الحجج: كالبحث عن حجيّة القطع والظن، وحجية الإجماع، والتواتر، والشهرة، والظواهر.
4. بحوث الأصول العملية: كبحث البراءة، والتخيير، والاحتياط، والاستصحاب و…
وثمّة أمور أخرى تبحث في علم الأصول أيضاً، بيد أنها ليست من بحوثه، إنما يضطرّ لتناولها الأصولي اضطراراً، كالمقدّمات الثلاثة عشر التي ذكرها المحقّق الخراساني الهروي في مقدّمة كتاب: كفاية الأصول. مثل: الوضع، المعنى الحرفي، استعمال اللفظ في أكثر من معنى، الحقيقة والمجاز، الحقيقة الشرعية، الصحيح والأعم. وليست هذه البحوث أصوليةً بتمامها، ذلك أن نتائجها لا تؤدي إلى إثبات الحكم الشرعي، بل تدخل في عملية الاستنباط بعد عدّة وسائط. وهكذا الحال مع بحث الحسن والقبح، إذ إنه بحث كلامي، أو البحث عن حقيقة الاعتبار، وهو بحث فلسفي، وكلّها تبحث في أصول الفقه.
والذي يبدو أن هذه المسائل يجب فصلها عن أصول الفقه، وتسميتها بفلسفة علم الأصول أو مبادئ علم الأصول.
أما العلاقة بين علم الأصول والفلسفة التحليلية، فإنني أعتقد بوجود علاقة وثيقة بينهما؛ ففي فلسفة اللغة، وفلسفة الأخلاق، وفلسفة القانون، وفلسفة المنطق والرياضيات، من المسائل ما يمكن مقارنته وقياسه على بعضه، لكن قبل عدّ موارد المقارنة والقياس هذه، يجب أن نبيّن إمكان المقارنة بين علم الأصول والفلسفة التحليلية.
ويمكننا القول: إنّ فريقين من العلماء والباحثين تناولا البحوث اللغوية بالدراسة والتحليل:
أ ـ المهتمّون باللغة نفسها، والباحثون فيها، كعلماء اللسان.
ب ـ من يعتبرون اللغة وسيلةً، ويهتمون بها لحلّ المسائل الفلسفية.
قد يقول البعض: بما أن علماء الأصول لا يهتمّون باللغة لحلّ المسائل الفلسفية، فهم ـ إذاً ـ من القسم الأول، وعلى هذا لا يمكن مقارنة بحوث علم الأصول ببحوث الفلسفة التحليلية، لكننا نجيب: إن الأصوليين أيضاً لا يهتمّون باللغة بحدّ ذاتها، بل يتناولون بحوث الألفاظ للوصول إلى حجّةٍ للحكم الشرعي، فالأصول والفلسفة التحليلية يبحثان مسألةً واحدة، وإن اختلفت أهدافهما فيها؛ فكلاهما ـ على سبيل المثال ـ يسأل عن المجاز وما فيه، وهل النقل يتمّ في المعنى أو التطبيق؟ فالاشتراك في البحث موجود وإن اختلفت الأغراض، فالفلسفة وعلم الأصول يشتركان ويقتربان من بعضهما البعض في أماكن كثيرة. إذاً يمكننا مقارنة بحوث علم الأصول ببحوث الفلسفة التحليلية، سواء في اللغة أو غيرها.
وفي الختام، نشير إلى بعض الموضوعات التي يتناولها العلمان معاً، ويمكن مقارنتهما ببعضهما على ضوئها:
1. بحث الحكم من البحوث المهمّة في الأصول، وأهمّ ما فيه مسألة الإلزام التي تُبحث ـ أيضاً ـ في الفلسفة التحليلية، كما تبحث في فلسفة القانون وفلسفة الأخلاق.
2. موضوع الحسن والقبح من المسائل التي تبحث في الأصول وفلسفة الأخلاق.
3. بحث الوضع، وهل هو جعلي أم تكويني؟ وذهني أم له حيّز خاص؟
4. بحث المعنى الذي يعدّ من مسائل الأصول الهامّة، ويبحث بصورة واسعة في الفلسفة التحليلية، كما يعدّ محوراً لفلسفة اللغة.
5. علاقة المعنى بنيّة المتكلم: ما هي العلاقة بين المعنى وإرادة المتكلّم؟
6. المجاز.
7. الدلالات.
8. الأفعال القولية.
9. موضوع الأوامر، الذي يعدّ مهماً في كلا العلمين.
10. الجمل الشرطية التي تبحث في علم الأصول عند الكلام عن الواجب المشروط.
11. فحوى أداة العموم، وقد تناولها راسل في فلسفة الرياضيات.
12. بحث الاعتباريات، ويبحث في الفلسفة التحليلية تحت عنوان: mحقائق مؤسّساتية Institutionalfactn، وهو قريب جداً من بحث الاعتباريات في علم الأصول.
أكتفي بهذه الموارد مراعاةً للاختصار، وثمّة موارد أخرى يمكن استخراجها بالبحث والتمحيص.
(*) أستاذ في الحوزة والجامعة، وعضو مجلسي صيانة الدستور والخبراء، من أهمّ النقاد لنظريات الدكتور سروش في إيران، له مصنفات عدّة قيّمة، منها: المعرفة الدينية، القبض والبسط في القبض والبسط الآخر، الفلسفة التحليلية و..