خاتمي و العوّا أنموذجاً
من أبرز ممثلي نزعة الانفتاح السيد محمد خاتمي والدكتور محمد سليم العوا،و سنتطرق إلى آرائهما لجهة الدعوة إلى الانفتاح والحوار بين الثقافات والحضارات، كما سنتناول المبادئ الأساسية في النظام الإسلامي، والتي تتمثل ـ برأيهما ـ بالشورى والعدل والحرية، بما تتضمنه من إقبال على العلم والمعرفة، والمساواة والإفادة من حضارة الغرب وخبراته، وننتهي إلى دراسة دعوتهما إلى النظام الديمقراطي، وإلى التمسك بالدستور؛ لأن ذلك ضمان للمساواة في الحقوق والواجبات.
1ـ الانفتاح الإسلامي في مفهوم محمد خاتمي([1])
إن الدعوة إلى التطور والرقي والتقدم ومواكبة حركة العصر، وتبني مفهوم الحوار (حوار الثقافات والحضارات) فضلاً عن رؤيته في دور الدولة لجهة تنظيم العلاقة بين الحاكم والأمة، هي من المسائل التي شغلت السيّد محمد خاتمي، فكانت مؤلفاته مهتمّة في وضع صيغة معاصرة ترتكز على رؤية جديدة للدين من جهة، وعلى ما قدمته الحضارة الغربية من علم، ومعارف، وتجارب، وخبرات ونظم على مستويات الحكم والإدارة، من جهة ثانية. ومن الأسئلة التي يطرحها في هذا السياق: هل أن أمر الحكومة مفوّض للناس أم لا، حتى ولو كان الدين قد رسم الأطر المناسبة للحكومة؟
الحرية والديمقراطية في فكر السيد خاتمي
ويجيب الدكتور خاتمي عن هذا السؤال بالقول: «إن الحكومة أمر مفوض للناس، والدين قد رسم القواعد الكلية والضوابط العامة للنظام السياسي، إلا أن تحديد ما يناسب هذه الأمور أو ما لا يناسبـها موكول إلى الناس، كما أن قيام الحكومة واستمرارها يتبعان إرادة الناس ورغبتهم…»([2]) في هذه الفقرة نلحظ تشديده على دور الشعب في قيام الدولة والحكم، إذ لا ينبغي مصادرة رأي الناس بحيث يكونون تابعين لإرادة حكامهم، فللشعب الدور الحاسم والأساس في قيام الحكومة، وبالتالي فهو معيار الخطأ والصواب».
ويتناول السيّد محمد خاتمي الحرية فيقسمها إلى جوانب مختلفة: حرية سياسية، وحرية فكرية، وحرية التعبير وحرية الاجتماع، وحرية محاسبة الحكومة ومساءلتها([3]) . وهنا يظهر أن الدولة مبنية على الحرية بكل أنواعها؛ فلا حرية فكرية بدون حرية البحث عن المعرفة، ولا حرية معرفية بدون حرية في التربية، ولا حرية معتقد بدون حرية ممارسة، ولا حرية ممارسة بدون حرية حوار ونقد، ولا حرية شخصية بدون حرية مجتمعية، وأخيراً لا حرية للأفراد ضمن المجتمع والدولة إذا لم يكن نظام الحكم مختاراً بحرية، ضامناً للحريات والحقوق التي تخول الشعب محاسبة الحكومة ومساءلتها.
ويقول الدكتور خاتمي في هذا السياق: «إن الثروة الحقيقية في البلاد ليست الموارد الطبيعية، بل طاقات الإبداع البشرية، وبطبيعة الحال لا إبداع مع القمع، وبالتالي تبدو الحريات العامة أكثر من ضرورة اجتماعية إنسانية»([4]) . ويقول سماحته في الحرية: «لا بدّ من الحرية في المجال الفكري كي يتم التعاطي مع الأفكار بشكل حرّ، والبلاد بحاجة إلى الجهود البحثية لكي تحقق التقدم، حيث تمثل الجامعات والمراكز البحثية أهم قاعدة له»([5]) . فهنا يظهر أن إطلاق حرية العقل في التفكير وفي النقد هو فعل بناء وابتكار وإبداع، فالمعرفة والحرية توأمان، وبالتالي لا مستقبل مُشرق في غياب المجتمع الحر والأحرار؛ فالتقدم يستحيل إلا في أجواء اطمئنان وارتياح على المستوى الاجتماعي والثقافي، وبشكل أوضح إن التقدم والقمع متضادان. وهذا ما ينقلنا إلى تناول مسألة الديمقراطية عنده.
فالديمقراطية لدى السيّد خاتمي هي أن الحكومة من الشعب، وفي خدمته، ومسؤولة أمام الناس وتجاههم([6])، ويقول أيضاً: «الديمقراطية ضرورة لنمو الكيان البشري وتقدمه»([7]) فالديمقراطية الحقيقية هي سيادة الشعب الذي ينبغي أن يكون مرجع السلطة الأول والأخير، والنظام الديمقراطي الصحيح يضمن المساواة في الحقوق والواجبات، ويتأسس على ديمقراطية اجتماعية واقتصادية. وينتقد الدكتور خاتمي الحكومات الإسلامية التي تعاقبت منذ انقضاء العهد الراشدي حتى تَعَرُّفِنا إلى الحضارة الغربية، إذ يرى أن هذه الحكومات كانت تتلبس بلباس الدين، وتدعي لنفسها القداسة، وتفرض على الناس طاعتها العمياء، وكانت كل سلطة مهيمنة بيدها مقاليد الحكم، تدّعي لنفسها الشرعية وتطالب الناس بالطاعة. ويقول في هذا السياق: «إن أغلب مصائب المسلمين في تاريخهم نجمت من الحكومة الدينية، التي تدعي فهمها الوحيد للدين، وبالتالي تدعو الناس إلى الطاعة العمياء لها([8]) ،وهنا يقصد ـ بشكل خاص ـ الحكم في العهدين الأموي والعباسي. فهو يعيد أسباب التخلف والانحطاط إلى الحكومات المستبدة التي تدعي حمايتها للدين وتفويضها الإلهي للحكم، حيث كانت تعمد إلى إلغاء الآخر عبر السيطرة، والتسلط، والقهر، والقمع، واستخدام جميع الأساليب التي تثبت سلطتها وسلطانها، وتتحكم برقاب العباد. ويؤكد الدكتور خاتمي على هذه الرؤية قائلاً: «تعد العقلية التي أنتجها الاستبداد خلال عدة قرون أهم أسباب التخلف والإنحطاط، فينبغي السعي لعلاجها بحكمة ورويّة وصبر وواقعية… إنّ جميع الحكومات وفي جميع العصور كانت حكومات مستبدة تقوم على القوة …» ([9])ويرد الدكتور محمد خاتمي على القائلين بأن الحكومة أمر مفوض إلى الناس من مصدر غير بشري (الله أو الطبيعة) وبالتالي فهي مقررة من فوق، وعلى الإنسان الانصياع لها، يردّ بالقول بأن هذا الأمر يتنافى ومبدأ الديمقراطية، وبالنسبة للنظام الإسلامي يرى سماحته: «إنّ مصدر الدين إلهي وهو أنزل من فوق وحدد الإطار للحياة، ولكنه ترك التفاصيل للاجتهاد والتفكير، فالدين هو الجوهر الأساس وطريقة بلوغ الدين تكمن في فهمنا له، وهذا مرتبط بالزمان والمكان»([10]) .
فهنا يظهر فكرة أساسية تبيّن نزعته الانفتاحية الداعية إلى الاجتهاد والتجديد في الدين. فالشيء الثابت والمقدس هو جوهر الدين، أما فهمنا له فأمر بشري ونسبي في الغالب، وبالتالي فهو خاضع للتغيير تبعاً لظروف المكان والزمان. وفيما يتعلق بمسألة الدولة فقد حدد الدين الضوابط الأساسية والإطار العام لها، وأما طريق إقرار الحكومة واستقرارها فيرجع إلى إرادة الناس. ويدعم الدكتور خاتمي رأيه هذا بشواهد من القرآن الكريم، ومن زمن الإمام المعصوم، إذ يقول: «إننا نتصور أنه حتى في زمان المعصوم كانت إرادة الناس ورغبتهم شرطاً لحكومته… إن الناس هم من يوجه إليهم الخطاب وهم المطالبون بإقامة العدل والإحسان، وإن رسالة الرسل محصورة بالبلاغ: مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ (المائدة: 99) لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ (الحديد: 25) وقد استقرت حكومة الرسول وقامت عندما بايعه كل أهل يثرب تقريباً»([11]).
هنا يعيد التأكيد على أن الديمقراطية ورأي الشعب هما السبيل الوحيد لاستقرار النظام السياسي، وهذا ما ينسجم مع الآيات القرآنية التي تظهر دعوة الناس إلى العدالة والمساواة، فالديمقراطية تنسجم مع الدين أو لا تتنافى، طريقاً وسبيلاً، مع الإسلام.
يقول سماحته: «الذين يرفضون الديمقراطية يدعون إلى الديكتاتورية والقهر، وهو ما ابتليت به المجتمعات الإنسانية على مدى اثني عشر قرناً … فاستقرار أية حكومة دينية لا سبيل إليه إلا عن طريق الديمقراطية»([12]) . فمن أجل استقرار الحكومة والسلطة يجب أن تكون عملية التمثيل الشعبي لا تخضع للإكراه، أي يجب أن تتوافر في المواطن، المدعو لاختيار ممثل عنه، سيادته على نفسه وإرادته الحرة.
موقف السيد خاتمي من الحضارة الغربية
أما موقفه من الحضارة الغربية وكيفية اللحاق بها ـ بل الذهاب إلى أبعد ممّا وصلت إليه ـ فيوضحه قائلاً: «…أقول للمسلمين الذين يلاحظون الفرق في الأسس التي تقوم عليها الحضارة الغربية، والأسس التي تبنى عليها حضارتنا، ويرون خللاً في مباني تلك الحضارة، أقول لهم بحتمية أن يكون كل معطى فكري أو ثقافي مفيداً للاحقه، فالحضارة الغربية استفادت كثيراً من الحضارة الإسلامية، وهذه بدورها استفادت من الحضارات الأخرى كاليونانية والفارسية وغيرها، وعليه فالمسألة الأساس الآن هي أن حضارة هذا العصر هي الحضارة الغربية…»([13]) يؤكد في هذا النص على تراكم المعارف والخبرات وبالتالي على الإفادة من حضارات الأمم الأخرى، إلا أنه يدعو إلى عدم الذوبان والتلاشي في الحضارة الغربية، بل ينبغي العمل برأيه للذهاب إلى أبعد مما وصلت إليه الحضارة الغربية عبر اتباع رؤية تجديدية لأصولنا وأسسنا ومنابعنا (القرآن والسنة)، وهذا يقتضي التعرف إلى حاجاتنا ومسائلنا في هذا العصر، وهنا يدعو العلماء والمفكرين إلى تبنّي هذا الخيار. يقول في هذا السياق: ينبغي امتلاك كل معطى قدمته حضارة الغرب والاستفادة منه، كما ينبغي معرفة ما افتقد له الغرب في ضوء معطياتنا وأسسنا([14]) . ويشدد سماحته في هذا النص على أهمية الوعي والمعرفة والعلم، باعتبارها رأسمال عالم اليوم. من هنا فالتراكم العلمي واكتساب الوعي يؤديان إلى التقدم على جميع المستويات. ويدعو الدكتور خاتمي في سياق دراسته سبل التقدّم ومواكبة العصر، وكيفية التخلص من حالة التخلف والتشرذم، إلى التخطيط واستقطاب الكفاءات، لأن ذلك يمثل ـ برأيه ـ واحدة من السياسات المهمة للبلدان الصناعية، فهو يمثل سر تقدّمهم، وفي هذا الإطار يدعو إلى توفير الإمكانيات والظروف لاستقطاب الكفاءات القادمة من بلدان مختلفة، وهذا ما يعود بالنفع العام على النظام والبلاد بأسرها([15]).
مرجعية الدستور والقانون في الرؤية الإصلاحية لخاتمي
ففي هذه الفقرة يشدد على تنشئة النخبة المتفوقة عبر تنمية العلم والأخلاق والفضيلة والمعرفة، فالبلد الحي والفاعل الذي يتطلع إلى المستقبل ينبغي أن يضطلع بهذا الدور؛ لأن تنمية البلاد من تنمية العلم والمعرفة، وبالتالي من تنمية النخبة. ويؤكد في هذا السياق على توفير الأجواء التعليمية، والسياسية، والاجتماعية، بحيث يكون في وسع جميع الناس طرح ما لديهم من تساؤلات بشكل آمن وخالٍ من التوتر والحساسية، وذلك في إطار القانون([16]) . فالقانون والدستور هما أساس الحركة الإسلامية والرؤية الإسلامية، يقول في هذا السياق:«لا سبيل أمامنا سوى التمسك بالدستور والقانون؛ لأجل تقدم البلاد وتحقيق الأمن الاجتماعي، والحفاظ على مكانة الإنسان بغية استثمار ما نمتلك من طاقات وإمكانيات»([17]) .
فالدستور يبنى على نظام ديمقراطي صحيح يضمن المساواة في الحقوق والواجبات، ويصون حرية الأمة، ويقيم حكم العدالة بين أبنائها. فمشروعه الإصلاحي يؤكد على ضرورة أن تكون المقاليد بأيدي العلماء والمفكرين من خلال رؤية ثقافية وفكرية لعالم السياسة، وبمعنى آخر العمل على تخليص السياسة من سلطة القوة، ليصبح من الممكن بعدئذٍ تحرير الإنسان، وقيام المجتمع المدني.
ونود الإشارة إلى أن السيد خاتمي كان أول من أطلق الدعوة لحوار الثقافات والحضارات بين الأمم والشعوب، حيث لاقت هذه الدعوة أصداءً عالمية، اذ يقول: «إن الحضارات والثقافات تمتلك هويتها الخاصة، ذات العلاقة بما تمتلكه من رؤية إزاء العالم والإنسان والوجود، ولا يعني ذلك أن نخضع للتعصب الأعمى، ونعتقد بقداسة كل ما يحمل بصمة ثقافتنا وضرورة التمسك به بأي ثمن، بينما نرى ان ما لدى الآخر سيء وخاطئ»([18]) . يحدد الدكتور خاتمي في هذه الفقرة أطر الحوار مع الآخرين، إذ ينبغي ان نعرف من نحن، ونكتشف هويتنا والمكانة التي نمتلكها، ثم نبادر إلى فتح باب الحوار بموضوعية ومنطق ورحابة صدر، كي يتحقق التبادل الثقافي، حيث نعطي أشياء كثيرة ونأخذ مثلها، وهذا يستدعي أن نبدي اهتماماً أكبر بالعلوم الإنسانية. ويستشهد سماحته في هذا السياق بقوله تعالى: الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ ۚ أُولَٰئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ ۖ وَأُولَٰئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ ( الزمرـ18). حيث يستخلص من هذه الآية أن المسلمين استناداً إلى هذا الحكم الصريح والواضح، مكلفون وملزمون بالإصغاء لكلام غيرهم من الناس، والتأمل به. فالجدل الحاصل بين الآراء يؤدي إلى التقدم ويحقق التنمية والازدهار.
ويشدد الدكتور خاتمي على نبذ العادات والتقاليد والفهم الخاطئ للقضايا، إذ يقول: «الثقافة الحيّة الفاعلة هي التي تمارس النقد الذاتي لنفسها باستمرار، فتتنامى وتخضع للتنقية والتشذيب»([19]) فتحرير الفكر من القيود، والقَدَرْ، والقسر، والحتمية، فضلاً عن ممارسة النقد الذاتي البنّاء باستمرار، تسهم في تشكل أنماط فكر متنورة ومنفتحة، وفي بناء عقلية تتجاوز المآسي التي يعاني منها المجتمع الإسلامي، بهدف التقدم والإبداع والعقلانية وبناء حضارة أصيلة متميزة.
2ـ الانفتاح الإسلامي في مفهوم محمد سليم العوا([20])
إن التحديات المعاصرة تفرض على الفكر السياسي الإسلامي القيام بتطوير وتجديد نفسه عبر سبل عديدة، منها الحوار والتجديد والاجتهاد، وذلك بمشاركة فقهاء ومفكرين ينتمون إلى مشارب فكرية ومذهبية وقومية ودينية متعددة، أما حقل وموضوعات الحوار، فهي: التجديد والاجتهاد، الدين والدولة، الصحوة الإسلامية، الديمقراطية وحقوق الإنسان، التقريب بين المذاهب الإسلامية، القوميات والطوائف، الإسلام والغرب، تطبيق الشريعة الإسلامية. فهذه الموضوعات والمسائل تشكل هاجس الفكر السياسي الإسلامي المعاصر.
العوّا ونقد الانغلاق والتكفير في الصحوة الإسلامية
وفي هذا السياق تأتي دعوة الدكتور محمد سليم العوّا رموز الفكر الإسلامي المعاصر لضمّ جهودهم الثقافية والفقهية والسياسية في سبيل ترشيد ظاهرة التدين، التي سُمّيت اصطلاحاً “بالصحوة الإسلامية” حيث فتحت هذه الصحوة أبواب المعرفة الإسلامية وحببتها إلى الناس.
إلاّ أنه يسجل عليها مساوئ متعددة كانت من نتاج الصحوة الإسلامية نفسها، ولعل أهمها بدعة تكفير المسلمين لمجرد الاختلاف في الرأي، أو في المذهب، أو في الموقف السياسي، ووجد أن هذا التكفير لم يسلم منه حتى صانعوه أنفسهم، فقد كفّـر بعضهم بعضاً، حتى وصلوا إلى استباحة دماء وأموال بعضهم بعضاً([21]) .
فهو يشدد على فكرة أساسية ـ يرى أن الصحوة الإسلامية ـ عانت منها ـ وهي الإنغلاق واحتكار الحقيقة والمعرفة، وبالتالي رفض الآخر وتكفيره، وإلغاؤه لمجرد الاختلاف في الرأي، وبالنتيجة فهي ترفض أي شكل من أشكال الحوار. فالدكتور العوّا يرفض هذا التوجه، باعتباره لا يؤدي بأصحابه إلاّ إلى الهلاك، وهو يحمل التناقض في ذاته، فمن جهة يدعو إلى رفض الاستبداد وإلى التحرر، ومن جهة أخرى يدعو إلى جعل السلطة مطلقة للخليفة باعتباره ممثل الشريعة، برأيهم.
وفي سياق انتقاده هذه الرؤية، يُظهر محدودية معرفة القائلين بها، قائلاً: لقد سمع هؤلاء درساً فظنّوه هو الدرس الوحيد، والتقوا بطالب علم، فاعتقدوا أنه منتهى إقدام العلماء، وقرأوا كتاباً فحسبوا لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه. فالغرب بنظرهم كله شر، والحضارة الغربية كلها فساد([22]). إن أبرز مساوئ هذا الفكر بنظر العوّا، هو الجمود الفكري، وطابعه التسلطي الذي يلغي الآخر، والفكر النهائي المطلق الرافض للحضارة الغربية بكل أجزائها.
المواءمة بين النتاج الفقهي ومتطلّبات العصر
ويشدد الدكتور العوّا على ضرورة المواءمة بين تعاليم الإسلام و مقتضيات الحياة المعاصرة، فيرى أن الباحثين يواجهون هذه المشكلة ـ عادةً ـ بأحد منهجين:
1ـ منهج سلبي، يتمثل في الاكتفاء بتقرير الأحكام التي سبق أن استخرجها الفقهاء المسلمون، ومحاولة إثبات سبق هؤلاء الفقهاء وتفوقهم على غيرهم من المنتمـين إلى المذاهب الحديثة والمعاصرة. ويرى العوّا أن كتابات هؤلاء في النظام السياسي حول وزارة التفويض وولاية العهد والبيعة، وشروط أهل الحل والعقد، وشروط الخليفة، لم يعد لها إلاّ قيمة تاريخية فحسب.
2 ـ منهج إيجابي، يعمل على التوفيق بين الآراء المبثوثة في كتب الفقهاء وبين الواقع المعاصر للدولة الإسلامية، إلا أن معظم أصحاب هذا المنهج ينطلق من التسليم بالآراء التي أبداها الفقهاء المسلمون في المسائل المختلفة([23]).
أما موقفه من هذين المنهجين فكان موقفاً سلبياً يرتكز على حقيقتين:
الأولى: إن تفاصيل النظام السياسي للدولة الإسلامية تُركت أصلاً لكي يختار فيها المسلمون ما يوائم العصور والظروف المختلفة، ولا يوجد نص ملزم في هذا السياق. وبالتالي فإن اجتهادات الفقهاء لا تلزم المسلمين خصوصاً مع تغير العصور والظروف([24]).
الثانية: هي وجود قواعد عامة تلتزم بها الأمة المسلمة، وأجهزة الدولة الإسلامية في ما يتعلق بنظامها السياسي والاجتماعي، وهذه القواعد والمبادئ تتميز بالمرونة عبر الخوض بتفصيلاتها التطبيقية التي تخضع لظروفهم([25]) .
ويضرب العوّا مثلاً على ذلك مبدأ الشورى، فيرى بأن الإسلام قد ألزم المسلمين به، دون تفصيل كيفية تطبيقه لجهة الامور التي يجب أن تكون محلاً للشورى، ولا الصفات الواجب توافرها فيمن يستشار من الناس، ولا القاعدة التي يجب أن تحسم بها مداولات أهل الشورى. فهذا الإغفال في شأن التفاصيل ـ برأيه ـ مقصود حتى يتاح للمسلمين المواءمة بين الالتزام بها وبين الظروف التي تعيشها مجتمعاتهم([26]) .
ففي قوله هذا نلحظ تأكيده على التفريق بين ما يعتبر من أصول النظام السياسي للدولة الإسلامية، وبين ما يعتبر من تاريخ هذا النظام. وهذا يعني مطالبة الدول الإسلامية بأن تقوم مؤسسات الحكم فيها على أساس الالتزام بالقيم الإسلامية في المجال السياسي، أو بالقواعد الدستورية العامة التي جاء بها وفرضها على المسلمين تشريع الإسلام. أما تفاصيل تطبيق هذه القواعد والتزام تلك القيم فمتروكة للأمة، تقرر فيها ما يلائمها وفقاً لظروفها.
العوّا ودراسة موقف الإسلاميين من الحضارة الإنسانية
ويُظهر الدكتور العوّا التفاوت في الرؤى والمواقف بين رجال الإصلاح الإسلامي المنفتحين وبين المتشددبن من رجال الصحوة الإسلامية. فالآراء التي تصدر عن رجال الإصلاح الإسلامي تؤكد أن الحضارة المعاصرة هويتها إنسانية، لا شرقية ولا غربية، والمسلمون ساهموا في صنعها، بما أهدوه للبشرية من العلوم والمعارف والصناعات والاكتشافات النظرية والتطبيقية، التي لولاها لما كنّا اليوم كما نحن، وأنه لو شاء الله لجعل الناس أمة واحدة، ولكنه تركهم مختلفين ليبلوهم أيهم أحسن عملا ًـ ومهما قيل ـ في أن التعدد الديني في المجتمع الإسلامي مصدر قوة ومنعة، وأن أهل الأديان الأخرى من مواطنينا لهم حقوق الاخوة، فقد بقي هؤلاء على ما عرفوه لا يزحزحهم شيء([27]) .
إنه يظهر هنا تعددية مصدر الحضارة الإنسانية، لجهة مشاركة جميع الشعوب في صنعها، ولا سيما المسلمين، وبالتالي فإن تراكم المعارف والعلوم والاكتشافات أسهم في صنع هذه الحضارة التي ننعم بها في عصرنا الحالي، من هنا يأتي تشديده على تقبل الآخر؛ لأن التعددية على المستوى الديني والفكري مصدر قوة ومنعة، خصوصاً أن الشريعة الإسلامية حمتها وكرّستها، إلا أن التعصب والانحراف الديني دفعا بعض رجال الصحوة الإسلامية إلى رفض هذه الحقائق، بحيث أصيبوا بمرض التفرد بالصواب والغلو والجمود.
فالفكرة الأساس التي نلحظها في هذا النص، هي تراكم العلوم والمعارف والإفادة من تجارب الأمم واكتشافات الشعوب، فالتقدم والتطور والرقي عناصر تتأتى من متابعة ما سبقنا الغرب إليه من أفكار وتجارب، وعمل فكري وثقافي، إلا أنه لا يدعو إلى أن نكون نسخة عن الفكر الغربي، وإنما إلى سلوك طريق وسط بين من يدعو إلى العودة إلى التراث والتأصيل ونبذ كل جديد، وبين من يدعو إلى تقليد الغرب في كل شيء ونبذ كل ما يرتبط بالتراث والدين.
وفي سياق رؤيته الإصلاحية على المستويات الاجتماعية، والاقتصادية، والسياسية، يشدد الدكتور العوّا على ضرورة تثمير الأموال في مشاريع مفيدة للأمة، إذ يقول: ولو أن بعض المال الذي ينفق على بناء المساجد وتزيينها، أو الذي ينفق في تكرار فريضة الحج عشرات المرات لآلاف من المسلمين، أو الذي ينفق في احتفالات تسمى دينية رسمية وشعبية، لو أن بعض هذا المال خصص لدراسة تصورات المشروع الحضاري الإسلامي، وكيف يمكن صياغته؟ وما السبيل الأمثل للتحدي به محلياً وعالمياً؟ وما الخطاب الذي يجب أن نوجهه إلى أنفسنا ثم إلى غيرنا؟… لو فعل ذلك لاختفت مظاهر مرضية كثيرة في تيار الصحوة الدينية، ولحقق المال فوائد أشمل وأبقى مما يحققه إنفاقه في الذي وصفنا من أمور([28]) .
هنا ينتقد الطرق التي تنفق فيها الأموال في مشاريع لا تجني أية مردودات إيجابية، إذ يدعو إلى ضرورة تثميرها بما يخدم الأمة الإسلامية والمشروع الحضاري الإسلامي، خصوصاً أن هذه الأمة تواجه في عصرنا الحاضر تحدياً حضارياً في المقام الأول، إنه التحدي الحقيقي الوحيد أمام الحضارة الغربية بعد انهيار النظام الشيوعي، فهذه الحقيقة يجب أن تقودنا إلى بناء مشروع إسلامي للنهضة العصرية.
ويرى الدكتور العوّا أن انحراف الصحوة الإسلامية، وانهيار الوحدة الوطنية يؤديان إلى مظاهر مدمرة، حيث يحدد نتائج ومساوئ هذا الانحراف بأربع:
1 ـ يؤدي إلى فقد الناشئة ثقتهم بأديانهم وأوطانهم معاً.
2 ـ يؤدي إلى تمكين الإستبداد في أرضنا تحت دعوى حماية الأوطان من الفوضى، وبالتالي يرسخ أقدام الطغيان بدعوى أن هذه الشعوب لم تتجاوز مرحلة الطفولة إلى مرحلة الحرية المسؤولة .
3 ـ يؤدي إلى تمكين المغرّبين، والغزاة المثقفين منا، فإنه إذا لم يكن في الإناء ما يملؤه، استطاع كل حامل ماء أن يصب فيه بعض مائه.
4 ـ إن ما يصيبنا من جرّاء انحراف الصحوة الدينية، وانهيار الوحدة الوطنية، هو فتح أبواب النزعات العرقية والطائفية، فهذه النزعات تموت في الأمة القوية المتماسكة المتراصة الصفوف، وتحيا في الأمة الهشة الممزقة. وينتهي الدكتور العوّا إلى القول بأنه إذا وقع ذلك كله، فإنه كفيل بأن يقضي على كل أمل في مشروع النهضة، وعلى كل رجاء في الاستجابة إلى عوامل التحدّي([29]) .
انطلاقاً من كل هذه المخاطر المحدقة بنا، الناتجة عن سوء تدبير أمورنا، ومن الانحراف الذي يسير عليه رجالات الصحوة الإسلامية، نجد الدكتور العوّا يؤكد على ضرورة ترشيد الصحوة الدينية لا حربها، وتقويمها لا مواجهتها، وتقويتها لا الهجوم عليها، وترسيخ الوحدة الوطنية بين بني الأديان المختلفة وبين أبناء الدين الواحد، وبين بني الوطن جميعاً وبين بني المذاهب الفكرية والثقافية والعلمية، فالكل بالكل يبقى. أما الفردنة والانقسام فشقاء وفناء.
فالتعددية وقبول الآخر واستيعاب بني الأديان والمذاهب الأخرى والعمل الجماعي مع كل تيارات الأمة، تؤدي إلى بناء مستقبل حضاري زاهر.
المبادئ الأساسية في النظام السياسي الإسلامي عند العوّا
ويتناول العوّا المبادئ الأساسية في النظام السياسي الإسلامي، حيث يحددها بالشورى، والعدل، والحرية، والمساواة. وسنبين رأيه باختصار في كل واحدة منها:
1 ـ الشورى: يُعد هذا المبدأ، برأيه، من أهم المبادئ الدستورية الإسلامية، فهو يعرّف الشورى: « إنها اتخاذ القرارات في ضوء آراء المختصين في موضوع القرار في كل شأن من الشؤون العامة للأمة»([30]).
هذا التعريف يُظهر أن الشورى تتم عبر استشارة العلماء وأهل الإختصاص. أما الجوانب التي تشملها الشورى فهي كل جوانب حياة المسلمين، ولا سيما المجال السياسي، فهي واجبة على الحكام وحق للحكوميين، وطريق أمثل للوصول إلى صواب ما يراد النظر فيه من أمور الأمة العامة، وبالتالي ينبغي العلم بما ينتهون إليه من قرارات بشأنها.
ويستشهد الدكتور العوّا، تأكيداً على وجوب الشورى ووجوب الإلتزام بنتائجها، بآيتين صريحتين، قوله تعالى: وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْر (آل عمران: 159) وقوله تعالى في آية أخرى: وَأَمْرُهُمْ شُورَىٰ بَيْنَهُمْ (الشورى:38)، أما حدود الشورى، أي المسائل التي يمكن أن تكون محلاً لها، فيحددها بأمرين:
الأول: إن الشورى لا تكون في أي مسألة ورد فيها نص تفصيلي قطعي الدلالة في القرآن أو السنّة.
الثاني: لا يجوز أن ينتهي رأي المستشارين إلى نتيجة تخالف نصوص الشريعة([31]) . فالالتزام بهذه الحدود يمنع الإستبداد والظلم، ويؤدي إلى سيادة العدل والحق والصواب.
وفي مسألة المماهاة بين الشورى والديمقراطية يقول: «وإذا كان جوهر الديمقراطية يبدو لكثيرٍ من الباحثين غير متعارض مع أسس النظام السياسي الإسلامي… فلماذا نستبدل به غيره تقليداً للغرب أو للشرق؟([32]) ففي قوله هذا يُظهر رغبته في تطبيق النظام السياسي للدولة الإسلامية على أسس الشورى، بالرغم من إعلانه مع كثيرٍ من الباحثين عدم التعارض بين النظام الشوروي وجوهر الديمقراطية.
2 ـ العدل: من الآيات القرآنية التي يستشهد بها الدكتور العوّا والتي تشدد على مسألة العدل وتأمر به، قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَىٰ أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ (النساء: 58)، ومنها: وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا (الأنعام:152)، فهاتان الآيتان تؤكدان على مبدأ العدالة في تطبيق الأحكام، والعدل بذلك من أسس ومرتكزات النظام السياسي الإسلامي.
3 ـ الحرية: يعرّف معناها سياسياً بالقول: «هي عدم استبداد الحاكمين بالمحكومين، وحق المحكومين في المشاركة في إدارة شؤونهم العامة بغير قيود، سوى ما تستلزمه مصلحة الجماعة». ويرى الدكتور العوّا أن الإسلام يدعو إلى احترام كل أنواع الحريات، حرية العقيدة، حرية التعليم، حرية الملكية، والحرية الشخصية([33]) .
ويشدّد هنا على مبدءٍ أساس ينبغي أن يلتزم به الحاكم وهو الحرية، فعدل الحاكم وحرية الرعية يتلازمان دائماً، أما ظلم الحاكم وجوره فيقترنان دائماً باختفاء الرأي الحر والكلمة الصادقة، خصوصاً أن جوهر الإسلام يؤكد على صون الحريات واحترامها.
4 ـ المساواة: يعرّف الدكتور العوّا هذا المبدأ بقوله: هو أن يكون الأفراد المكوّنون لمجتمع ما متساوين في الحقوق والحريات والتكاليف والواجبات العامة. وألا يكون هناك تمييز في التمتع بها بينهم بسبب الجنس أو الأصل أو اللغة أو العقيدة…([34])؛ فمبدأ المساواة يشدد عليه العوّا مستنداً إلى آيات قرآنية في هذا السياق، منها: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا ۚ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (الحجرات:13). هنا يُظهر فكرة هامة وهي وحدة الأصل الإنساني: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَىٰ باعتبارها أساس مبدأ المساواة، كما أن تقرير هذا المبدأ في الشريعة الإسلامية كان جزءاً من أحكام هذه الشريعة.
دراسة مقارنة في الانفتاح الاجتهادي بين خاتمي والعوّا
إذن إنّ دين الأمم، وأفكارها، وأخلاقها، وأعمالها، هي التي تحدد مصيرها و موقعها وحالتها الحضارية لجهة رقيها ونهوضها. كما أن الأوهام والخرافات تسهم في الاستبداد والقهر وفي انهيار الأمم وسقوطها.
وهكذا نلاحظ أن الدين عندهما له ارتباط وثيق بقوة الأمة ووحدتها، وأنه العامل الأساسي في رقي الأمم، ومدى قوة الأمم مرتبط بمدى قدرة أبنائها على إنزال قيم وأخلاق هذا الدين من سماء النظر إلى أرض الواقع ـ برأيهما ـ وأهم هذه القيم هي الشورى، الحرية، المساواة، الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
وقد لاحظنا من خلال دراستنا لفكرهما، دعوتهما المسلمين إلى أن يتكيفوا مع متطلبات حياتهم اليومية، وأن يطوروا مفاهيمهم الدينية في هذا الاتجاه، وذلك عبر المواءمة بين تعاليم الإسلام ومقتضيات الحياة المعاصرة، فتفاصيل النظام السياسي للدولة الإسلامية ـ برأيهما ـ تُركت لكي يختار فيها المسلمون ما يوائم العصور والظروف المختلفة.
وقد رأى هذان المفكران أن الحكومة أمر مفوض للناس، بالرغم من أن الدين قد رسم القواعد الكلية والضوابط العامة للنظام السياسي، كما أن استمرار الحكومة يعود إلى إرادة الناس ورغبتهم، فهم يشددون على دور الشعب الأساسي والحاسم في قيام الدولة والحكم، ويؤكدون على مبدأ الحرية بكل جوانبها (السياسية والفكرية والدينية…)، فلا حرية للأفراد ضمن الدولة، إذا لم يكن نظام الحكم مختاراً بحرية، والثروة الحقيقية تتأسس على الفكر والإبداع البشري، ولا إبداع مع القمع، وإطلاق حرية العقل في التفكير والنقد هو فعل بناء وابتكار وإبداع، فالتقدم والإبداع، والقمع والقهر، متضادان.
والديمقراطية الحقيقية عند محمد خاتمي و محمد سليم العوّا تنسجم وتتوافق مع الشورى في النظام الإسلامي، وبالتالي لا تعارض بين المبدأين، فلا خلاف بين الشريعة والديمقراطية، أو بين الحرية والناموس.
والديمقراطية ـ بنظرهما ـ ضرورة لنمو الكيان البشري وتقدمه، وهذا النظام يضمن المساواة في الحقوق والواجبات.
وقد هاجم هذان المفكران الحكومات التي كانت تتلبس بلباس الدين، وتدّعي لنفسها القداسة، وتفرض على الناس طاعتها العمياء، إذ رأيَا أن أغلب مصائب المسلمين تعود إلى الحكومات الدينية التي تدعي فهمها الوحيد للدين، أما أسباب التخلف والانحطاط فتعود ـ برأيهما ـ إلى الحكومات المستبدة التي تدعي حمايتها للدين وتفويضها الإلهي للحكم، حيث كانت تعمد إلى إلغاء الآخر عبر السيطرة والتسلط والقهر، وتتحكم برقاب العباد، فالدين الإسلامي أُنزل فحدد الأطر العامة للحياة، ولكنه ترك التفاصيل للاجتهاد والتفكير. إن الشيء الثابت والمقدس هو الدين، ولكن طريقة فهمنا له قابلة للتغيير تبعاً لظروف المكان والزمان. فالناس هم مَنْ يُوجّه إليهم الخطاب، وهم المطالبون بإقامة العدل، والديمقراطية، ورأي الشعب هو السبيل لاستقرار أية حكومة واستمرارها، ونجاح النظام السياسي الإسلامي. والذين يرفضون الديمقراطية يدعون إلى الديكتاتورية والقهر.
وقد دعا هذان المفكران إلى الإفادة من تجارب ومعارف وثقافات الغرب والحضارة الغربية، كما استفادت هذه الأخيرة من الحضارة الإسلامية، وكما استفادت الحضارة الإسلامية سابقاً من الحضارتين: اليونانية والفارسية وغيرهما، فأكدا على تراكم المعارف والخبرات من أجل الخروج من حالة التخلف والانحطاط. فيما العلم والمعرفة هما رأسمال عالم اليوم وسبيل تقدم الأمم ومواكبة العصر، فتنمية البلاد من تنمية العلم والمعرفة وبالتالي من تنمية النخبة، وشدد هذان العالمان على القانون والدستور وعلى التمسك بهما، لأجل تقدم البلاد والحفاظ على مكانة الإنسان، فالدستور يُبنى على نظام ديمقراطي يضمن المساواة والحقوق والواجبات ويصون حرية الأمة، ويقيم العدالة بين أبنائها، فتحقيق الأهداف العليا يتطلب المزيد من الجهد من قبل الشعوب الإسلامية والعربية ومن قبل الحكام، من هنا ينبغي أن تتوحد مصالح وأهداف الشعوب والعلماء والملوك.
الهوامش
(*) باحث، وأستاذ في الجامعة اللبنانية، من لبنان.
([1]) هو ابن عالم دين، فوالده آية الله خاتمي الصديق لآية الله الخميني، والمعروف عن والده النـزاهة والاعتدال في الرأي وتحكيم العقل في شؤون الحياة وعدم العنف يعد خاتمي ابن الثورة الإيرانية، وأحد المساهمين فيها، ميزته الأولى عمق ثقافته، فقد بدأ في فترة مبكرة بتوزيع بيانات تدين تبعية نظام الشاه للولايات المتحدة. وكان من أبرز دعاة الثورة الإسلامية في الثمانينات، وقد يكون خاتمي من أكثر علماء الدين اطلاعاً على الثقافة الغربية، فهو يجيد الإنجليزية والألمانية، ومن الباحثين في فكر الفيلسوف الألماني وقد درس العلوم الدينية في قم، ثم درس علم التربية والفلسفة، ولاحقاً أوكل إليه إدارة المركز الثقافي الإسلامي في هامبورغ (ألمانيا)عام 1978م، وفي سنة 1979 عاد إلى إيران وتولى إدارة معهد كيهان الذي كان ينشر صحفاً عدة، وعين عام 1982م وزيراً للثقافة والإرشاد، وهذا ما أتاح له تشجيع حركة فكرية نقدية لها أثرها في صياغة خطاب سياسي يجتذب الشارع الإيراني. راجع مجلة الأسبوع العربي، العدد 1964 (الاثنين 2 حزيران 1997م/27 محرم 1418هـ): 8 ـ 9 .
([2]) محمد خاتمي، مطالعات في الدين والإسلام والعصر، (دار الجديد، بيروت، ط1، 1998م)، ص 84 ـ 85.
([4]) مجلة الأسبوع العربي، العدد 1964، م.س.، ص6 ـ 7.
([5]) محمد خاتمي، المجتمع المدني، ترجمة سرمد الطائي، (دار الفكر، دمشق، دار الفكر المعاصر، بيروت، ط1، 1422هـ/2001م) ص122ـ 123.
([6]) محمد خاتمي، مطالعات في الدين والإسلام والعصر:93 ـ 94
([7]) نود الإشارة أن السيّد خاتمي تأثر كثيراً بالمفكر الفرنسي الكسي دو توكفيل الذي عُرف بنقد صارم للتجربة السياسية في الولايات المتحدة، حيث اعتبر أن السياسة الأميركية خانت الديمقراطية وقيمتها، ويؤكد خاتمي تكراراً أنه استخلص من دوتوكفيل عبرة أساسية وهي أن «الديمقراطية ضرورة لنمو الكيان البشري وتقدمه» وقد نقل سماحته كتابات دوتوكفيل إلى الفارسية. فهو لا يرى حرجاً في التعامل تدريجياً مع الغرب، غير أنه ليس معجباً بالنموذج الغربي وبالسياسات الأميركية، وهو يمارس أولاً الانفتاح الثقافي على الغرب، فليس هناك مفكر غربي واحد ـ له شأنه ـ قديماً أو معاصراً، إلا وحاول الاطلاع على مؤلفاته، وشجع الصحف والمفكرين الإيرانيين عل الاهتمام به. وهو يعتبر أن القيم الإسلامية الأساس في توجهه الفكري غير أنه لا يعتبر الديمقراطية على تناقض مع هذه القيم. راجع مجلة الأسبوع العربي، العدد 1964. ص8 ـ 9.
([8]) محمد خاتمي، مطالعات في الدين والإسلام والعصر: 95.
([9]) محمد خاتمي، الدين والفكر في شراك الاستبداد، جولة في الفكر السياسي للمسلمين، ترجمة ماجد الغرباوي، (دار الفكر المعاصر، بيروت، دار الفكر، دمشق، 1422هـ/2001م)، ص 64 ـ 65.
([10]) راجع محمد خاتمي، مطالعات في الدين والإسلام والعصر:96.
([11]) راجع محمد خاتمي، م.س:98.
([12]) راجع محمد خاتمي، مطالعات في الدين والإسلام والعصر: 99 ـ 100.
([15]) راجع محمد خاتمي، المجتمع المدني، ترجمة سرمد الطائي، ص 113.
([18]) محمد خاتمي، المجتمع المدني، ص114.
([19]) محمد خاتمي، م.س.، ص 115.
([20]) هو مفكر مصري معاصر له اهتمامات بقضايا الفكر الإسلامي المعاصر، وله العديد من المؤلفات، أبرزها: في النظام السياسي للدولة الإسلامية، الحق في التعبير، أزمة المؤسسة الدينية.
([21]) راجع محمد سليم العوا، ونخبة من الكتاب، رؤى إسلامية معاصرة، الكتاب الخامس والأربعون، (مجلة العربي، الكويت، ط1، 15/7/2001)، ص 6 ـ 7.
([23]) راجع محمد سليم العوّا، في النظام السياسي للدولة الإسلامية، (دار الشروق، بيروت، 1410 هـ/1989م)، ص 240 ـ 241.
([27]) راجع محمد سليم العوا، رؤى إسلامية معاصرة:7 ـ 8.
([30]) راجع محمد سليم العوا، في النظام السياسي للدولة الإسلامية: 179.
([31]) راجع محمد سليم العوا، نفسه المصدر.، ص 183 ـ 185.
([33]) راجع محمد سليم العوا، في النظام السياسي للدولة الإسلامية:210 ـ 219. ومن الروايات في هذا السياق عن أبي جعفر المنصور، ثاني خلفاء بني العباس، يدعو سفيان الثوري فيقول له: عظني أبا عبد الله، فيجيبه سفيان: وما عملت يا أمير المؤمنين فيما علمت حتى أعظك فيما جهلت؟ فيقول المنصور ما يمنعك أن تأتينا؟ فيقول سفيان: قال الله تعالى: )وَلا تَرْكَنُوا إلى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمْ النَّارُ( (هود، الآية: 113)العقد الفريد، 1: 67. فهنا يظهر مدى شجاعة العلماء لجهة إيمانهم بحقهم في إبداء الرأي وواجباتهم في التبليغ و البيان والنصح للحكام.