ترجمة: محمد عبد الرزّاق
ألقيت هذه الكلمة بتاريخ 13 ـ 12 ـ 1370هـ ش (1991م)
ونُشر نص هذه الكلمة في الموقع الرسمي لحفظ ونشر آثار آية الله العظمى خامنئي http://farsi.khamenei.ir
وهذا هو رابط هذه الكلمة:
http://farsi.khamenei.ir/speech-content?id=2603
بدءاً أرحب بالأخوة والأخوات، متمنياً للجميع التسديد والنجاح.
لا شك أن عملكم من الواجبات ذات الأهمية البالغة.
الإذاعة والبرامج الدينية، ضرورة تقديم الأفضل
أما بالنسبة لقسم المعارف الإسلامية فبعد إلغاء المقدمات لابدّ لي أن أقول: إنّ عملكم هذا إنْ لم يكن هو الأهم والأبرز، فهو واحد من أهم الوظائف والمهام الملقاة على عاتق مؤسسة الإذاعة والراديو؛ وذلك لماهية المجتمع الإسلامية، التي من شأنها أن تتبلور شيئاً فشيئاً وفقاً للأيديولوجيا المطلوبة. فالدولة أسّست على أساس العقيدة والمذهب، وهو مذهب الشعب. فلا يريد الناس من أحد إدخالهم في الإسلام؛ لكنهم بحاجة إلى مواصلة البحث، وبلوغ المزيد من الحقائق والأفكار الإسلامية، وفهم البراهين المقدّمة في المواضيع المبهمة. فعلى مَنْ تقع هذه المهمة؟
قد يقال: إن مؤسسة الإذاعة والراديو لا علاقة لها بموضوع المعارف الإسلامية، فهذا من واجب العلماء الأفاضل، وخطباء المنبر، والرواديد.
فإذا صحّ ذلك هذا بحثٌ آخر، نتساءل من خلاله عن وجود المصلحة فيه من عدمها، لكنْ في حالة تصدّي هذه المؤسسة للمهمّة فينبغي عليها تقديم ما يلزم المجتمع من متطلّبات.
انظروا إلى مستوى المعارف الإسلامية المطروح في البلد، لابدّ للإذاعة أن تقدم ما هو أفضل، وفي أعلى المستويات.
ففي صعيد المنبر الحسيني مثلاً لا يوجد مَنْ هو أفضل من الشيخ محمد تقي فلسفي. ورغم أن عمره ناهز الثمانين فهو لا يزال الخطيب الأول في إيران. انظروا إلى الشيخ فلسفي وأسلوبه في البيان والخطابة، لابدّ أن تكونوا أفضل منه، أو مثله في أقلّ تقدير.
وعلى صعيد العلوم العقلية والفلسفية مَنْ هو الأبرز في الساحة حالياً؟ عندنا في هذا المجال الشيخ مصباح، والشيخ جوادي آملي في (قم). فما تقدِّمونه أنتم في هذا المجال لابدّ أن لا يقلّ شأناً عمّا يقدّمانه.
وهكذا على صعيد موضوع حياة الأئمة^ ـ وهي إعادة للأهمّ في عملكم ـ لابدّ أن تبحثوا عن المستوى الأفضل في هذا المجال، وتضيفوا إليه أيضاً.
هنا قد يُقال: إن المخاطَب ليس من الخواصّ والعلماء، بل عامة الناس، فكيف نتعامل معه؟
نعم، هنا يكمن مربط الفرس. لا شكّ أنّ ثمة فرقاً بين ما يمكن أن تقدّمه إلى عامة الناس وما تقدّمه إلى عوامهم. فعلى الصعيد اللغوي ليس هناك فرق بين مفهومي «العوام» و«العامة»، بَيْد أنهما مختلفان على الصعيد الاصطلاحي.
فلو أردتم بثّ مقطع موسيقي لعامّة الناس لن تختاروا مقطعاً عشوائياً لا صلة له بالمقام، بل ستختارون ما هو أفضل وأنسب، أي ما ينسجم وذوق العامة. فمثلاً: لو أردنا تأليف كتاب في المعارف الإسلامية للصفّ الأول الابتدائي فماذا تتوقَّعون أن نصنع؟ إذ هنا تختبر القدرات والحنكة. لماذا التدريس في الصف الأول الابتدائي أصعب من التدريس في الصف السادس؟ السبب يكمن في هذه المسألة تحديداً، فلابدّ أن تكون المادة المقدّمة في الصف الأول رصينة، وغاية في الجودة، وبلغة بسيطة، وعذبة أيضاً.
وهذا الأمر ينطبق على سائر العلوم والمجالات الفكرية. فحين تدرسون الرياضيات للأطفال في الابتدائية كيف ستنطلقون في مهمتكم؟ ستبدؤون من (2+2=4)، وهي قاعدة واضحة وصادقة لا تقبل الطعن مهما دارت الأزمان والعصور. وهذا ما سيبقى ثابتاً مع الطالب مهما بلغ من المستويات العلمية في الرياضيات، سيبقى يقول: إنّ (2+2=4)، ولن يزيد أو ينقص منها حتّى عُشْراً واحداً.
وبناء على ذلك لابدّ أن تبحثوا عمّا هو أقوى وأفصح في باب التوحيد، فتقدّموه للمستمعين، وأن تبحثوا عمّا هو الأصحّ والأكثر رصانة في موضوع القرآن الكريم وسيرة الأئمة^، فتبثّوه للناس.
علماً أني كنتُ قد التقيت وتحدّثت إلى سائر أقسام الإذاعة والراديو، لكنّ للقائي معكم هذه المرة بُعْداً آخر، تفرضه عليّ المسؤولية والواجب. وقد قلتُ لغيركم من السادة العاملين في هذا المجال([1]) بأنّ كل ما تكتبونه ليقال عبر الراديو، أنا أتحمل مسؤوليته أمام الله تعالى، حتّى وإن كنت جالساً في بيتي، ولا صلة لي بالقائل أو الموظّف في مؤسَّستكم، وليس لي التنصُّل من هذه المسؤولية. وعليه ينبغي لي أن أقدم إليكم النصح والإرشاد إلى ما هو أصلح وأنفع للناس.
هناك أيضاً بُعد آخر في مجال المعارف الإسلامية، وهو كوني خبيراً في عملكم هذا، بمعنى أنّه لو كنتم ترومون استشارة الخبير في هذا الموضوع تعيّن عليكم التحدُّث والتحاور معي. فأنا طالب العلوم الدينية الذي أمضى جلّ عمره في تبليغ المعارف الإسلامية ـ وليس تعلُّمها فحَسْب ـ . ولستُ أبالغ إن قلتُ: إني أمضيت من الوقت ما يضاهي أعمار بعضكم في جلسات من النقاش والتحاور مع الأمّيّ ومع العالم على حدٍّ سواء، وكنتُ على احتكاكٍ مباشر مع سائر طبقات الشعب. فأنا أدرك جيداً معنى المعارف الإسلامية، وموضوع بيانها وتبليغها للناس.
أما الإخوة والأخوات من المزاولين لهذه المهمة فقد قدّمتُم كلّ ما هو رائع، وأنا أستمع لبرامجكم؛ ومنها ما هو قمّة في الجودة، بما لا يترك مجالاً للتفكير بما هو أفضل منه، أو إنْ لم نقل هكذا ـ لأنّ لكلّ أفضل ما هو أفضل منه ـ فهو في مستوىً مقبول ومعقول أيضاً. وهنا أنا مَدين لكم بالشكر والامتنان فعلاً.
ومنها ما لم يكن بالمستوى المطلوب ـ ولو في بعض الجوانب ـ، لكنه في طريقه إلى التحسُّن والتطور، فهذه هي البداية.
هذا الراديو والوسيلة التواصلية لم تكن بحوزتنا في السابق. وقد وظِّفت مؤخراً في خدمة الإسلام والدين الحنيف، من خلال دور بعض الشباب المؤمن أمثالكم، ممَّنْ هاجر إلى هناك بداعي الحسّ الديني والوطني. أنتم كذلك لم تحضروا دورات تعليمية في تبليغ الدين، لكنّكم تؤمِّنون الدور بحسٍّ من المسؤولية.
وهنا أعترف لكم بأنّي في غيابكم كثيراً ما أثير هذا الموضوع أمام رجال الدين والعلماء، قائلاً لهم بأن هؤلاء الناس من حقِّهم العَتَب عليكم، والتساؤل: أين ذهبت الحوزة العلمية؟ لماذا لا تمدّ يد العون إلينا؟ فأنتم فعلاً تحمَّلتم مسؤولية كبرى، وينبغي لهم مساعدتكم. وهذا حقُّكم المشروع، وعلينا الإذعان بانعدام التعاون؛ لكنْ، وبغضّ النظر عن نوع الواجب وصاحبه، ماذا ينبغي أن تقدّم؛ لتحقّق ما هو مطلوب؟
أنا ـ شخصياً ـ أرجو من الأخ العزيز السيد مهاجراني([2])، ومن السيد المسؤول في هذا القسم([3])، ومن حضراتكم التنبُّه إلى هذه القضية الهامة، وهي ضرورة أن تقدَّم المعارف الإسلامية بأسمى وأبهى صورة، وعلى أعلى مستوى أيضاً. وليس معنى المستوى العالي هو الصعوبة والتعقيد؛ إذ من الممكن تبسيط ما هو صعب وغامض، بل المقصود هو الكلام الرصين والسديد، أي لابدّ من اختيار الكلام الأقوى والأفصح والأبلغ.
وهنا أروي لكم قصة دارت أحداثها في العام (1978)، حين كنت منفياً في مدينة (إيرانشهر)؛ حيث جاء المرحوم (باهنر) ذات يوم لزيارتي، وقد كنا قبل النفي عملنا مع مجموعةٍ مكونة من عشرة أشخاص في مشروعٍ ما، لكنْ وبعد صدور قرار النفي بحقّي حملت المشروع معي إلى مدينة (إيرانشهر)؛ استغلالاً لأوقات الفراغ في المنفى. وحين وصل (باهنر) كان قد جلب لي هديةً، بعض النسخ من كتب التربية الإسلامية ـ الصادرة حديثاً آنذاك ـ، وكان الشهيد باهنر والشهيد بهشتي (رحمة الله عليهما) والسيد جلال الدين الفارسي هم الذين يكتبون هذه الكتب. وفي الواقع كان (بهشتي) يضع الفكرة العامة، مع التبويب، ومن ثم يأتي دور (باهنر) و(الفارسي) في التحرير. وكان للمرحوم باهنر النصيب الأكبر من المجهود. لذا جاء لي بتلك الكتب، فأعطاني إياها، قائلاً: اطَّلِعْ عليها، فهذا ما نقدِّمه من مستوى لطلبتنا في الإعدادية؛ فإنْ كنت تنوي كتابة شيء فلابدّ أن يكون أعلى مستوى منها.
وكان الشهيد بهشتي في هذه الكتب قد ركَّز ذهنه جيداً ليصوغ ما هو الأفضل والأنسب في هذا المضمار، بلغة فتيّة ومرغوبة لدى الشباب. وعلى هذه الخطى سار (باهنر) أيضاً. ولم يكن هذا بالأمر الهيِّن، بل كان على أعلى مستوى ممكن.
علماً أنّ هناك الكثير من المطالب المطروحة في كتب التربية الدينية ذات مغزى وعمق واسع، يفهم ظاهرها المعلِّم، فيوصلها إلى المتعلِّم. أما الشخص الذي كتبها فقد وقف على مغزى أبعد من ذلك. لكنْ دعونا نكتفي بهذه المطالب، تاركين للقارئ السبر في أغوارها حسب إمكانياته الذهنية؛ ليبلغ المغزى الأبعد. وهذه قضية غاية في الأهمية. فأنتم تدركون المغزى السابع للحديث، فتلقونه على السامع بلغةٍ مبسَّطة، إلاّ أنه يكتفي بفهم المغزى الأول من الكلام، فإذا اتَّسعت مداركه، وزادت معلوماته، وانطبع الكلام في ذهنه سيبلغ المغزى الثاني والثالث. وكلما تطور علمه سيجد أن هذا الكلام صائب، ويستهويه للتعمُّق في معانيه، فترتكز في مخيّلته مضامينه. لذا فإن هذا النوع من الاعتقاد من الصعب أن ينهار لديه. ولو كان الكلام مشوباً بالخطأ أو سطحياً سيتّضح ذلك بمرور الوقت، واتساع مداركه واقعاً، وأنه كان مناسباً لمرحلة طفولته فحَسْب، أما الآن وبعد أن أصبح عالماً، أو متَّقد الذهن في أقلّ تقدير، فلن يكون لذلك الحديث قيمةٌ تذكر، أو سيتّضح بطلانه لديه. وهنا يبرز المحذور الأخطر في انهيار العقيدة والإيمان لدى الناس.
وهذا ما أطمح أن تركِّزوا عليه في بثّ المعارف الإسلامية.
قد تتساءلون، وتقولون: كيف لنا توفير ذلك؟
ضرورة استحضار المختصّين والبارعين
يفترض بكم تشكيل خلية عمل استشارية تعنى بالمضمون، مكوَّنةً من أفضل النخب الموجودة حالياً. مثلاً: اسعوا في دعوة الشيخ مصباح، وألحّوا عليه أيضاً، أو اطلبوا ذلك من تلامذته الأفاضل. فلحسن الحظّ كان من إنجازات الشيخ مصباح اليزدي في (قم) ـ وخلافاً لسائر العلماء الآخرين ممَّنْ بقي علمهم مقتصراً عليهم ـ هو سريان علمه إلى تلامذته المبرَّزين. لذا أفيدوا من الشيخ المحمدي العراقي مثلاً، وغيره من تلامذة هذا العالم الفاضل. كما لا بأس أن تقصدوا بعض الشخصيات المغمورة، أو التي ليس لها حضورٌ على صعيد المعارف الدينية، إذا كانوا مستعدّين لتقديم يد العون إليكم. اقصدوا مثلاً الشيخ محمد رضا الحكيمي، وأفيدوا من خبراته.
وبناء عليه فإن من الضروري تشكيل خلية عمل استشارية؛ لتنهلوا من معين أعضائها علمياً وفكرياً؛ إذ عليهم الدراسة والتخطيط؛ كي يرشدوكم إلى ما هو المطلوب طرحُه هذه الأيام.
فمن البرامج ـ مثلاً ـ «مع أمناء..»، وهو يعنى بالقضايا العرفانية وكلّ ما هو قريب من قلب الإنسان. وأنا أحرص على متابعته كلما سنحت لي الفرصة. لكنْ هناك برامج أيضاً لا تتماشى والحاجة القائمة في المجال الثقافي والديني للمجتمع، بل هي بعيدة كلّ البعد عن تطلُّعاته.
وهكذا بالنسبة إلى سيرة الأئمة^، فهي ذات أبعاد واسعة، بدءاً من تواريخ الولادة وعدد الأبناء واسم الزوجة ومدّة العمر، وصولاً إلى المناظرات العلمية، والجدالات السياسية، ومواقفهم من الحكّام، وما روي من نفي وسجن وثورات.
في العام 1959 أو 1960 عندما قصدتُ مدينة (قم) كان لدى العلاّمة السيد محمد حسين الطباطبائي ـ ذلك الفيلسوف والعارف الكبير ـ محاضرات يلقيها على الخواصّ من طلبته، يركِّز فيها على بعض الروايات، ويدرسها من مختلف النواحي. فكان ـ مثلاً ـ يختار رواية من الكافي، قد تكون معروفة ومشهورة لدى الناس، فيتعمَّق في مضامينها؛ ليكشف لها أبعاداً أخرى كانت غائبة عن الجميع.
إذاً ما هي الجوانب التي لابدّ لنا تناولها في برامجنا الدينية؟ وأيّها الأكثر ضرورة لدى الناس؟ وكيف لنا أن نقدّمها إليهم؟
كلّ هذه المواضيع والقضايا لا يمكن أن تجتمع لدى شخصٍ جمع العديد من الشهادات والمصادر والكتب. فهذه بحاجة إلى باحثٍ إسلامي مختصّ. فلا يمكنكم في مجال الأدب ـ مثلاً ـ الاعتماد على شخص لا يملك الخبرة الكافية في هذا المجال؛ لمجرد أنه أخذ في يده ديواناً لشاعر ما، محاولاً استخراج بعض المواضيع من هذا المصدر أو ذاك.
بل لابدّ من الرجوع إلى شخصٍ مختصّ بالأدب، يتسنى له تحديد ما يلزم من المطالب، وبيان معانيها ومن ثمّ يقدّمها لمعدّ البرامج في الإذاعة؛ للإفادة منها.
كما يتعيّن على معدّي البرامج تقديم ما هو ممتع ومأنوس لدى السامع، أي أن يستخرجوا من (الصكّ) المقدّم من قبل المبرمجين حصلة نقدية رشيقة، بالإمكان صرفها، ويسرّ منظرها الرائي. وهذا هو الأهم على هذا الصعيد. وبعد أن ينجز معدّو البرامج عملهم على أحسن وجه يأتي دور مقدّمي البرامج، ويتعين عليهم تقديم البرامج بشكلٍ متكامل ورائع؛ إذ لابدّ أن يمتلك المقدّم صوتاً جهوراً، وأسلوباً أخّاذاً في الكلام.
علماً أنّ هناك من البرامج المتقَنة ما جمع بين هذه المواصفات، من قبيل: برامج «الكنز»، الذي يؤكد للسامع أنه قد أُعِدّ بدقّة وذكاء. وهكذا بعض البرامج الأخرى، لكنْ أحياناً ما تفتقر بعض البرامج لهذه الجودة.
قبل بضع سنوات ـ عندما كان مدير الإذاعة شخصاً آخر ـ كنتُ جالساً في السيارة، وشغّلتُ الراديو، فوجدت قسم المعارف الدينية يبث برنامجاً أثار غضبي كثيراً، وعندما عدتُ إلى القصر الجمهوري طلبت منهم إحضار ذلك المدير؛ لأفهم منه سبب هذه الفوضى. وعندما جاء سألتُه عن رئيس قسم المعارف الدينية، وطلبت استدعاءه أيضاً؛ لأتبيَّن منه سبب بثّ هذا البرنامج على هذا النحو. وقد أجروا بعدها بعض التغييرات على البرنامج، وحسَّنوا من أدائهم آنذاك. القصد من هذه القصّة هو أن المستمع قد يكون مختصّاً في هذا المجال أحياناً، فعندما يستمع لمثل هذه البرامج ستثار حفيظته، وينفذ صبره. أما غير المختصّ فلن يغضب لذلك، لكنه لن يرتضيها، ولن تنال إعجابه. وحتّى من يستمع إلى البرنامج كيفما اتَّفق ـ سواءٌ أعجبه مضمونه أم لم يعجبه ـ فإنه لن ينتفع منه شيئاً.
على المرء أن يقرأ كثيراً. أنا شخصياً عندما كنت أحضِّر لخطبة صلاة الجمعة، التي تستغرق من الوقت ساعة واحدة فقط، كنت أستغرق في المطالعة أربع أو خمس ساعات. علينا أن نخطِّط ونستثمر على أفضل نحوٍ؛ من أجل إذاعةٍ من المفترض أن يصل صوتها إلى ملايين الناس.
ما أرجوه منكم هو بذل قصارى جهودكم من أجل إنجاح عمل قسم المعارف الدينية في الإذاعة. وبعض السادة الحضور هم المعنيون بالعمل على ذلك؛ فأنتم ذوو خبرة ودراية بواجبكم، لكنْ ينبغي أن تتقدِّموا وتتطوَّروا من خلال قناةٍ داعمة لكم، كما أسلفت. لذا ابحثوا عن هؤلاء الأفراد والنخب، واطلبوا منهم أن يكتبوا خصّيصاً لبرامجكم، فهذا عملٌ مقدَّس. فإنْ طلبتم منهم ورفضوا فقولوا لهم: إنكم عندما تؤلِّفون كتاباً ما فكم سيكون عدد النسخ والقرّاء؟ فإذا كنتم قد ألَّفتم كتاباً قبل عشر سنوات، وقد أُعيد طبعه عشر مرّات أيضاً، فلنفترض أن مجموع النسخ سيكون ما يقارب خمسين أو مئة ألف، فهل بإمكانكم الجزم بأنّ قرّاء الكتاب بلغوا مئة ألف؟ فمن الناس مَنْ يقتني الكتاب ويهجره على رفوف المكتبة، وليس جميع ما يُطبع يُقرأ، أما لو كتب المرء مقالاً، وسمعه ملايين الناس في يومٍ واحد، ألا يُعدّ ذلك إنجازاً كبيراً؟ لذا الأحرى بنا أن نجنِّد رصيدنا الثقافي والديني في خدمة الإذاعة. وهذه هي نظرتي لقسم المعارف الدينية فيه.
نعم، هناك من البرامج ما لا طاقة له بهذه الأهداف والآليات، من قبيل: تلك البرامج المصاحبة لأذان الظهر ـ والتي تسنح لي الفرصة أحياناً للاستماع إليها ـ. فهي جيّدة في ذاتها، كأنْ يذهب أحدهم إلى مسجدٍ ما، ويجري حواراً مع إمام المسجد وبعض المصلّين، أو أنْ يقرأ دعاءً أو بعضاً من الآيات القرآنية الشريفة. فهذه الأمور لا تحتاج إلى قناة الدعم تلك. وهكذا بالنسبة إلى البرامج المقدَّمة عند أذان المغرب. علماً أنّي لا أستطيع متابعة برامج أذان الصبح، كما كنتُ في السابق.
الدقّة في طرح الأمور
وفي خصوص المسائل الشرعية المقدّمة قبيل الظهر عليكم أن تؤكِّدوا على طرح مواضيع لا تجرّ المستمع إلى إساءة الفهم. فعلى سبيل المثال: لجنتنا الرقابية كانت قد قدَّمت لي تقريراً حول أحد البرامج، وكان موضوعها الحكم الشرعي في خصوص اختلاف المرأة والرجل حول مهر الزواج، فضرب مثالاً لعدد المسكوكات الذهبية المطلوبة في العقد بنحوٍ مبالغ فيه، فقيل: لو طلبت المرأة مئة وخمسين مسكوكة، فرفض الرجل، وقال: مئة فقط، فما العمل في المقام؟ لكنْ ما الداعي لذكر رقم كهذا للمهر؟! أنا شخصياً كنتُ قد عيَّنتُ أربع عشرة مسكوكة في قراءة خطبة العقد، ولو زيدت مسكوكة واحدة لرفضتُ قراءة العقد أصلاً. فهل عدد مئة وخمسين مسكوكة ذهبية قضيّة سهلة؟! لا ينبغي حتى تلفظ مثل هذه الأعداد المهولة في هذا الصدد. وكان الأجدر أن يمثَّل بما لو طلبت المرأة عشر مسكوكات، وقال الرجل: تسع فقط، فهنا ماذا عسانا فاعلين؟
أو من قبيل: التعابير الخاطئة في تناول مسألة علاقة الرجل بالمرأة، كأن يقال: إن المرأة أسيرة عند الرجل. فلا أسر على المرأة إطلاقاً. فلكلّ إنسان حرّيته، والله خلق الإنسان حرّاً. فهذا النوع من التعابير والألفاظ ـ وإنْ لم تكن موزونة أصلاً ـ إلاّ أنها جَرَت على الألسُن فعلاً. فإذا تمّ طرق مثل هذه المواضيع في الراديو عليكم التنبُّه إلى مثل هذه الأخطاء، وإصلاحها.
في الواقع أنتم مجموعة مباركة، لكم مكانتكم المرموقة؛ لما تؤدون من أدوار هامّة. ومرادنا هو أن تسعوا قدر الإمكان في ترقية قسم المعارف الدينية، بأن تطرحوا مواضيع حتّى أنا بإمكاني الإفادة منها، فما بالكم بالإنسان العادي من غير أهل الاختصاص. فلابدّ أن يقدم أفضل المذيعين أفضل البرامج.
هنا أودّ الإشارة إلى بعض النقاط، منها: ما يتعلق ببرنامج «قرآن الصباح»([4])، الذي كان يبثّ في السابق أيضاً([5])، لكنْ بنحوٍ أفضل مما هو عليه الآن، مع أنّه ينبغي للبرامج أن تتقدّم وتتطوّر يوماً بعد آخر. وكنتُ كلما خرجت في الصباح للمشي، أو الذهاب إلى الجبل، أحرص على الاستماع إلى البرنامج السابق، وقد أُتَّهم بالمبالغة لو قلتُ لكم: كنتُ أجني الفائدة أيضاً من ذلك البرنامج؛ بمعنى أنّه كان يضيف إلى معلوماتي، حتّى أني كنتُ قد أوعزتُ إلى المسؤولين في الإذاعة ببثّ ذلك البرنامج. أما في الوقت الحاضر فللأسف الشديد لم يعُدْ كما كان عليه، ولا أدري ما الذي جرى؟! على أن البرنامج لم يكن كاملاً ـ فلا نريد أن نقول: ليس هناك ما هو أفضل منه ـ، إلا أنه كان بمستوى جيِّد، إذ يتم خلال نصف ساعة بثّ تلاوة القرآن الكريم، إلى جانب ترجمة النص القرآني، فكان ذا فائدة جمّة فعلاً. أما حالياً فلا يتمتَّع برنامج (قرآن الصباح) بالجودة المعهودة. وكنتُ متعلِّقاً بذلك البرنامج إلى حدّ دعاني إلى أن أطلب من المكتب إبلاغ الراديو برغبتي في تقديم مكافأة عقب الفراغ من ختم القرآن. وهي عادةٌ جَرَت في الكتاتيب سابقاً؛ حيث كانت تقدَّم المكافأة إلى مَنْ يختم تلاوة القرآن. لذا؛ وسيراً على تلك التقاليد، ودَدْتُ تقديم هذه المكافأة للقائمين على البرنامج؛ كونهم أتمّوا ختمة القرآن بالكامل.
لا شكّ أن شرح الآيات، وترجمة نصوصها، وبيان حقائق الرسم القرآني، هي أمور بحاجة إلى المزيد من الإمعان والتدقيق. لذا لابدّ أن تكتب بطريقة خاصة، وتعرض بطريقة خاصة أيضاً، ولا يمكن أن نمر بهذه المواضيع مرور الكرام.
بالطبع لستُ الآن في صدد الخوض في بيان تفاصيل برنامج (قرآن الصباح)، لكن بإمكانكم المقارنة بين هذين البرنامجين، واكتشاف الفوارق بينهما. فالآية التي تتلى في مستهلّ البرنامج لم تُتْلَ بطريقة متقنة، كما أنه لم تذكر البسملة قبلها، فإذا أردت إضافة البسملة إليها ستكون مطولة من جانب، ومفتقدة للنظم الموسيقي من جانب آخر. وهذا الرجل([6]) ضالعٌ في فن الموسيقى، فاطرحوا عليه الموضوع؛ ليحكم في حقيقة الأمر. وإذا حكم لكم فاعملوا برأيه. فأنا لستُ خبيراً في الموسيقى، لكنّ سمعي هو ميزاني. وأنا على يقينٍ أنه لو استمع شخصٌ مضطلع بفنّ الموسيقى إلى تلك الآية لما اقتنع بأداء تلاوتها. لذا لا ضرورة في أن تبدأوا الكلام على هذا النحو، قولوا: «بسم الله الرحمن الرحيم»، ومن ثم اشرعوا في التلاوة.
يعدَ برنامج «وجوه الحكماء» من برامجكم الرائعة؛ نظراً لموضوعه المميَّز، والآلية في عرضه وتقديمه، ولا سيّما أنه يتمتّع بمقدِّم رائع أيضاً. وإنْ كنت أعتقد بأن المقدِّم السابق قد تغيَّر، ولا يتواجد في البرنامج حالياً. ومع ذلك أرى أن المقدِّم الفعلي رائع أيضاً، ويمتلك صوتاً دافئاً.
وخلال البرنامج أحياناً تجرون حواراً مع بعض الشخصيات، فتقتطعون من وقت البرنامج ـ وهو نصف ساعة ـ ربع ساعة؛ للحوار وبثّ كلام السادة المشاركين في الحوار.
ومن وجهة نظري لا داعي لهذا الأمر مطلقاً؛ لأن بعض الكلام مكرَّر أحياناً، كأن يقول مقدم البرنامج أمراً، ويكرِّره بعده الضيف، هذا من جهة.
ومن جهة أخرى لا شكّ أن الشخص الضيف ليس خبيراً في فنّ تقديم البرنامج، وليس مستعدّاً للحوار في الغالب. لذا تجده يسرد قصة من قصص حياته حبلى بالإضافات والهوامش، ممّا لا داعي له.
لذا عليكم حين تحاورون هؤلاء السادة أن تأخذوا زبدة الكلام، ومن ثم تصوغونها في قوالبكم الخاصة. فإذا كان ثمّة أمرٌ لافت في المقام فخصِّصوا لذلك دقيقة أو اثنتان؛ ليبثّ بصوته، شريطة أن يكون صوتاً من الثقات.
فعلى سبيل المثال: قبل بضعة أشهر كان الموضوع يتعلَّق بالشيخ البهائي، وجرى الحوار آنذاك مع الشيخ حسن زاده آملي، وهو خبيرٌ في هذا المجال، لكنّه كان قد قدَّم للموضوع بإسهاب. ومع أن تلك المقدمة المطوّلة قيِّمة في حدّ ذاتها، إلّا أنها لا تنسجم مع موضوع بيان سيرة الشيخ البهائي. فلا أجد ضرورة في الخوض في تفاصيل من هذا النوع هنا. وإذا كان الشيخ حسن زاده آملي قد ذكر هذه المقدّمة المسهبة تعيَّن عليكم اقتطاف ما يلزم منها، أي استخراج ما هو ضروري لبرنامجكم، وتدوينه في نصّه، لكنْ لم تكن ثمّة ضرورة لبثّ جميع ما قيل من بداية البرنامج وحتّى منتصفه، أو من المنتصف وحتّى الخاتمة. فهذا في رأيي توظيفٌ زائد للكلام.
وقد لا يتمتَّع بعض الضيوف بلغة جيدة، أو بيان مقبول، وقد يتسبَّب ذلك بإفشال برنامجكم. لذا لا مانع من إجراء الحوارات والإستفادة من أصحابنا، لكن قلِّلوا من الاعتماد على كلامكم في البرامج.
أتذكَّر أنّه قبل سنوات كان لكم حوار مع السيد موسى الزنجاني حول شخصية الشيخ آغا بزرگ([7]). والزنجاني رجل خبير في هذا المجال، وهو خبيرٌ في علم الرجال والتراجم. لكنّه حين صار أمام السادة في برنامج «وجوه الحكماء» تطرَّق إلى ذكر حادثة حصلت للشيخ آغا بزرگ حين عبر نهر دجلة في سامراء وسقطت كتبه في الماء… مثل هذه المواضيع لا ضرورة لذكرها هنا. لا شكّ أن السيد شبيري الزنجاني هو نابغة، وعلَمٌ من أعلام البحث العلمي في الحوزة، لكنّ طرح مثل هذه المواضيع عليه بصورة مباشرة استدرجه إلى التحدُّث عمّا لا طائل فيه. لذا استمعوا إلى كلامه، وتخيَّروا منه ما يروي لكم من حقائق لا يعلمها أحدٌ غيره، ومن ثمّ بثّوا ذلك بصوت جهور على الناس، ولا تعتمدوا أبداً على صوت الشخصيات الحاضرة في الحوار.
ومن أمثلة ذلك أيضاً: ما حصل مع الشيخ أستادي، وهو نابغة في علم التراجم، وقد سمعتُه يتحدّث عن أسرة المسجد شاهي في إصفهان، ومن النجفي([8]) ـ وهي أسرة عريقة، لها تشعبات كثيرة ـ بني مفضل. فالعالم الباحث في موضوع الرجال والتراجم من حقِّه أن يخوض في سرد التفاصيل هذه. وهي ميزة في شخص هذا العالم تحديداً، فهو يحفظ العديد من السِّيَر عن ظهر قلب، ويستحضر جميع تلك المعلومات دون الرجوع إلى مصدرٍ يذكر، في حين تتطلب هذه المهمة من غيره مطالعة العديد من المصادر والمراجع، لكنّه سريع البديهة، وصاحب المعلومة الحاضرة دائماً. لكنّ هذا كلّه لا يتعلّق ببرنامجكم وطبيعته، بل يتعيَّن عليكم تلخيص ما يلزم من الكلام، وحذف الزائد، مع التركيز على زبدة المطالب في برنامجكم؛ كي تتحقق الفائدة المرجوّة للمستمع.
موضوع سيرة الأئمّة من أهل البيت
أما في ما يتعلّق بموضوع برامج حياة الأئمة^ فيكفي أن أقول لكم: إن ما تقدمونه عبر أثير إذاعتكم في هذا المجال لهو أدنى ممّا هو أقلّ من الجيد في الوقت الحاضر!
أنا شخصياً عملت قبل الثورة في هذا المجال. وكان موضوع سيرة الأئمة^ من الاختصاصات المحبَّذة لديّ، وكانت المجالس عامرة بالمحاضرات عن هذا النوع، وكان هناك مَنْ يهتم بهذا الموضوع، فيقتبس الكلام وينشره هنا وهناك. لكنّني أرى اليوم، وفي عهد الثورة الإسلامية، أنّه لا أثر يُذكَر لما قلتُه في الأعوام 1971 ـ 1974م عن حياة الأئمة الأطهار^. فعلى الأقل حاولوا إيصال مستوى برامجكم الإذاعية إلى ذلك المستوى القديم. إنّ المرء ليعتصر قلبه ألماً إزاء هذه البرامج المتواضعة. ففي ما يتعلّق بجوانب سيرتهم^ الاجتماعية والعلمية عليكم تقديم برامج حين يستمع إليها المرء تبعثه على التقرُّب من شخصية الأئمة^ في أقلّ التقادير، إنْ لم نقل ببلوغ مرحلة الفهم والإدراك لكُنْهِ شخصية الإمام×؛ إذ هو مطلبٌ صعب المنال على ما يبدو.
قضية النعي والشعائر واللطم
القضية الأخرى في هذا السياق هي شعائر الخطابة المنبرية، والنعي، ولطم الصدور. فهي أمورٌ لابدّ منها، لكنْ ليس مع كلّ مناسبة. فاعلموا أن النعي وقراءة المصيبة على المنابر ـ وهي سنّة راجحة ـ لا تتعلّق بجميع الأئمة^، بل ببعضهم على وجه التحديد. نعم قد يحصل في جلسةٍ ما أن يقرأ أحدهم المصيبة، ويثير عَبْرة مَنْ في المجلس، فلا ضير في ذلك.
لكنّ مبدأ إقامة العزاء شيء، والنعي على المنبر واللطم شيءٌ آخر. فالنعي واللطم هي من مختصّات عزاء الإمام الحسين×، أو ببعض الأئمّة في أقصى حدّ، لا أن تعمَّم القضية بهذا الشكل. لا بأس ـ مثلاً ـ في إقامة العزاء واللطم في ليالي تاسوعاء وعاشوراء، وكذلك في ليلة الحادي والعشرين من شهر رمضان، لكنّ هذا لا يسري إلى مناسبة استشهاد الإمام الكاظم× ـ وإنْ كانت من المناسبات الجديرة بالعزاء ـ، إلاّ أنّي لا أرى ضرورة في اللطم على الصدور بهذه المناسبة؛ أو من قبيل ذكرى استشهاد السيدة الزهراء÷؛ إذ ليس من المناسب أن يمارس اللطم والنعي في هذه المناسبة، بل الأجدر في مثل هذه المناسبات أن نتطرَّق إلى بيان المصائب وكشفها؛ فهو أمرٌ يعلو على البكاء أيضاً.
فأنا ـ مثلاً ـ قد لا أتمكَّن في أيام محرم من التواجد في المجالس، لكنّني، وكأيّ شيعي يحمل في قلبه اللوعة والرغبة في الحضور، أعمد إلى سدّ ذلك بمطالعة كتاب «نَفَس المهموم»، للشيخ عباس القمي([9])، وهو باللغة العربية. وهذا عمل يدعو إلى الاستعبار أيضاً. وبالنسبة لي فإنّه يضاهي دور أكثر من خطيب ورادود. فليس من الضروري أن يقرأ العزاء على النحو التقليدي المعهود، حيث يقرأ في المستهلّ نصّاً عن المصيبة، حتّى يبلغ مرحلة النعي، واللطم على الصدور، بل حاولوا أن تبيِّنوا جوانب من الحياة والسيرة، كأنْ يقدِّم أحدكم، وبلحنٍ حزين، صورةً عن حالة الإمام الكاظم× وهو قابعٌ في السجن، مستعرِضاً التفاصيل المريرة في تلك المرحلة العصيبة، ومن ثمّ ينتقل إلى رواية تفاصيل الاستشهاد ومراسم التشييع. وبهذا سيحنّ قلب كلّ مَنْ يستمع إلى هذا الحديث، ويستعبر أيضاً.
صوت البوق في أيّام العزاء
ومن الأصوات الناشزة صوتُ البوق، الذي يبثّ في أيام العزاء بين برنامج وآخر. وهو حقّاً مزعج للآذان. وكنتُ قد طرحتُ على بعض الزملاء أن يستقدموا في فواصل البرامج أصواتاً تشبه صوت اصطكاك الملعقة بجدار كأس معدنية. ولا أدري ما الضرورة إلى أن تكون الفواصل موسيقيّة تحديداً؟! ألأنّ الموسيقى في مثل هذه الأيام محرَّمة أصلاً، ولابدّ من تجنُّبها ـ وإنْ كانت غير محرَّمة في سائر الأيام ـ، جئنا بصوت البوق المزعج والنبرة المتحشرجة؟!
لذا لابدّ أن نحسن الاختيار. وقد كان النظام السابق يعتمد على مثل هذه الأصوات أيضاً. وقد رأيتُ أن ما كان يستخدم في تلك الحقبة جاء مرة أخرى في مثل هذه المناسبات. حاولوا أن تقدِّموا شيئاً جديداً ومناسباً، عِلْماً أنّه لا ينبغي أن يفهم كلامي خطأً، فيقال: إن فلاناً رفض فكرة الأبواق، إذاً لنستعِضْ عنه بآلة القانون أو الكمان ـ مثلاً ـ . بالطبع لا، أنا أقول: لا للاعتماد على الموسيقى هنا. إذا كنتم لا ترومون بثّ الموسيقى ـ وهو أمرٌ لا ضير فيه ـ فلا تبثّوها أصلاً، لكنْ إذا كان لديكم ما يناسب المقام فلا بأس به.
البحث عن خطباء ورواديد جدد
حاولوا الاستعانة في اللطم والنعي بالخطباء والرواديد الجدد، ممَّنْ لهم أصواتٌ جميلة وجهورة، فقد تبرز بعض الأصوات الرديئة، فتبثّونها، الأمر الذي قد يثير حفيظة المستمع، وانزعاجه منها، ويتساءل: ما هذه الأصوات؟!
اذهبوا وابحثوا عن الأصوات الجيدة. كما يمكن الاعتماد على عامة المطربين؛ كي ينشدوا الأشعار في المدح أو الرثاء، فهل سيترفَّعون عن ذلك؟!
كثيراً ما يتحفنا الشعراء في مدح ورثاء أهل البيت^. ولعل المقاطع الاثنا عشر للشاهي المحتشم هي من أروع ما قيل في هذا المضمار. فالمحتشم لم يبدع في شعره كما أبدع في هذه الأبيات. وكنت قد اطَّلعتُ على ديوانه كلّه فوجدت أن هذه الأبيات بالذات هي قمّة عطائه. وهي من الناحية الفنية غاية في الإبداع أيضاً. وقد تمّ نظم هذا الشعر بطريقة رائعة أيضاً. لكنْ هل يعقل أن يترفَّع فلان عن قراءته مثلاً؟!
ولحسن الحظّ لدينا قرّاء ومنشدون شباب، يتمتَّع البعض منهم بأصوات رائعة. لذا قدِّموا إليهم هذه النصوص؛ لقراءتها على المستمعين.
برامج مواليد أهل البيت
المسألة الأخرى هي في ما يتعلَّق بمواليد الأئمة^ وبرامجها في الراديو. فالفرح أو الاحتفال بها لابدّ أن يكون باعثاً على السرور، إلاّ أن الاحتفال بمواليد الأئمة^ ينبغي أن يكون مختلفاً عن الاحتفالات في أعياد الربيع. وإن كان معنى ولادة الإمام هو الابتهاج، كما في تلك الأعياد، كأنْ يأتي أحدهم يروي لنا طرائف تُضحك مَنْ يسمعها.. لا أمانع في ذلك. لكنْ لا ينبغي تصنيف تلك البرامج في حقل المعارف الدينية، علماً أنّه لا ينبغي أن تكون برامجكم في هذا المجال ذات طابع حزين، أو تستعرض الجوانب المأساوية في حياة الأئمة^، والنعي عليها. وإذا كنتم بصدد تحليل السيرة ـ وهو أمر لا ضير فيه ـ فحاولوا تحليل ما لا يشتمل على الجوانب والأحداث المأساوية؛ إذ لابدّ في مناسبات الولادة من سرد مناقبهم^ وكراماتهم.
البرامج العرفانية
وكذلك في خصوص برامجكم العرفانية فذلك البرنامج، الذي قلتُ لكم: إنه كان قد أثار غضبي، كان من هذا النوع تحديداً. نعم، يحتوي برنامج (مع العزلة الطيبة) على معانٍ عرفانية..؛ لكن أحياناً ما يدور الحديث في المواضيع العرفانية بطريقة عبثية لا جدوى منها، ولا يمكن للمرء تحديد المراد من الحديث فيها، أي تُوظَّف الاصطلاحات العرفانية في غير محلّها. في حين ينتظر من تلك الكلمات أن تقرِّب الإنسان إلى بارئه. فحقيقة العرفان هذه لا غير، أي إنه يبعث الذكر الإلهي في صميم الإنسان، ليخلق البصيرة اللازمة لديه في مخاطبة البارئ عزَّ وجلَّ. وهو حضورٌ له درجات متفاوتة أيضاً؛ فالإنسان كلّما قصد الله عزَّ وجلَّ نال درجة من الحضور والتقرب؛ أما على صعيد العرفاء فإن الحضور سيكون في أعلى مراتبه، وأبلغ معانيه وأنقاها. إذاً لابدّ للعرفان أن يخلق نقاوة في نفس الإنسان لا يمكن إيجادها بألفاظ فظّة ومعكَّرة، لا تحتوي على معنى يؤثِّر في السامع. لذا أرى أنّه بإمكانكم تقديم برامجكم العرفانية بالاعتماد على القصص المأثورة، ونقل أحاديث بعض العرفاء ـ ممَّنْ عُدَّ عارفاً فعلاً ـ، وبهذا يتسنّى لكم تقديم العرفان الواقعي للناس.
تطرَّقنا إلى ذكر السلبيات في البرامج العرفانية، وجاء دور ذكر الإيجابيات فيها. كنتُ ذات مرّة أستمع لأحد برامجكم العرفانية، فلفت انتباهي جملة رويتموها من كتاب الأربعون حديثاً للإمام الخميني رحمه الله، وتركت تأثيراً كبيراً في أعماقي. والغريب أني كنتُ قد طالعت هذا الكتاب، وعندي نسخة منه، لكنّي لم أصادف تلك العبارة أبداً، وهي تتعلَّق بموضوع عن الإنسان وطريقة طلب الرحمة من الخالق عزَّ وجلَّ، لذا قيل: لا ينبغي للإنسان أن يقول للخالق: عامِلْني بعدلك؛ لأنّ معنى هذا عقابٌ شديد. فتلك العبارة المقتضبة للإمام كانت غاية في الروعة والتأثير في النفس. وهذا هو العرفان فعلاً. فالإمام واحد من العرفاء أصحاب الأحوال والأقوال، وما يردِّده على اللسان كان قد أحسَّه بالقلب صِدْقاً وحقّاً، ولذلك من شأنه أن يترك ها الحجم من التأثير لدى السامع.
وهذا ينطبق أيضاً على برنامجكم الذي تمّ بثّه العام الماضي في شهر رمضان المبارك على شاشات التلفاز؛ إذ رُوي خلال البرنامج حديثٌ لواحد من كبار العرفاء، وكان له وقع خاص في إيجاد ثورة عارمة في روح الإنسان. وهذا هو ما ينبغي أن تكون عليه البرامج العرفانية في الإذاعة والتلفزيون؛ وإلّا فإنّ مجرد الترنُّم ببعض المصطلحات، كالجبروت والملكوت، لن ينتج أمراً نافعاً.
تاريخ الإسلام التحليلي، وضرورة التعريف بالسيرة النبوية
إنّ من جملة ما تفتقد إليه برامج المعارف الدينية هو موضوع تاريخ الإسلام التحليلي. وكان لابدّ أن يهتمّ ذوو الاختصاص بهذا الموضوع. مع أنّي لا أزال أتذكّر ما قدّم كموسوعة عن تاريخ الإسلام على شكل محاضرات يلقيها أحد رجال الدين في قم مرّة كلّ أسبوع. ومن وجهة نظري لم يكن البرنامج بالمستوى المطلوب، فلا الإلقاء كان جيِّداً، ولا المضمون. فهنالك مَنْ هم متمرِّسون في مجال التاريخ الإسلامي، وباستطاعتهم تحليل القضايا الإسلاميّة ـ من قبيل: هجرة الرسول| ـ بطرق مثلى.
أودّ أن أقول: إنّ مجتمعنا لا يعلم شيئاً ـ تقريباً ـ عن حياة الرسول|، وعن حروبه التي خاضها. وجُلُّ ما يعلمونه هي مقتطفات من هنا وهناك، كأنْ يسمع الناس الخطيب يتحدَّث عن قضيةٍ ما، ثم قاده الحديث إلى الحديث عن معركة الخندق، هنا يدرك السامعون بأنّ معركة بهذا الاسم دارَتْ آنذاك، لكنهم لا يعلمون شيئاً عن طبيعة تلك المعركة، وفي أيّ زمن دارت؟ وضدّ مَنْ؟ وكيف انطلقت شرارتها؟ وإلى أيّ مدى تحرّك فيها الرسول|؟ ومَنْ القاتل؟ ومَنْ المقتول؟ وما هي نتيجة المعركة؟ فالناس حقّاً لا يعلمون جميع هذه التفاصيل. وهذا من قبيل معركة (حنين)، التي ورد ذكرها في القرآن الكريم في قوله تعالى: ﴿وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ﴾ (التوبة: 25)، فالكثيرون لا يعلمون شيئاً عن تفاصيل هذه المعركة، بل حتّى عن معركة (أُحُد)، التي كثيراً ما تذكر؛ لأهمّيتها المفصلية في التأريخ الإسلامي.
ينبغي أن يكون المجتمع على اطلاع بتاريخ الرسول|، وغزواته، وفي أيّها كان | حاضراً، وفي أيّ المعارك كان غائباً؟ ومَنْ هم خصومه| في تلك المعارك؟ وماذا كان شعاره فيها؟ عليكم تتبُّع هذه التفاصيل أوّلاً، ومن ثم يأتي دور عصر ما بعد الرسول|، ومرحلة الخلفاء الثلاثة، وصولاً إلى عصر الإمام أمير المؤمنين×.
كما أنّ عامة الناس لا يعلمون الشيء الكثير عن خلافة الإمام علي×، باستثناء نبذة موجزة عن بعض الحروب.
وهكذا بالنسبة لحادثة صلح الإمام الحسن×، فهم لا يعلمون عنها إلاّ بعض الكلمات والشعارات المعتادة، في حين هناك مَن كَتَبَ في هذا المجال، وحقَّق في التفاصيل.
أنا شخصيّاً كنت ـ قبل سنوات مضت ـ قد ترجمتُ كتاباً([10]) للشيخ راضي آل ياسين ـ وهو من كبار العلماء في العراق ـ، وذلك في العام 1919. ولا شك أنّ مضمونه قد استهلك، وأن الأفكار والأذهان تطوَّرت، ولديها الجديد في هذا الباب، إلاّ أنّها لا تنشر على مسامع الناس. وهذا مؤسِفٌ حقّاً.
الطعن بالخلفاء علناً!! وحرمة الإساءة لمقدّسات الآخرين
يظنّ البعض أنّهم إذا أرادوا التطرُّق إلى سيرة الخلفاء فلابدّ لهم من الطعن فيهم. والحال أنّ طعنهم في الراديو محرَّم شرعاً. وإذا كنتُ لم أذكر هذه النقطة في اللقاءات السابقة أقولها الآن: إن الإساءة للخلفاء في الراديو غير جائزةٍ مطلقاً، وهي في الوقت الحاضر محرَّمة شرعاً.
فنحن نزعم تصدير ثورتنا إلى العالم. أيّ عالم؟ هو العالم الإسلامي تحديداً. وإذا كان العالم الإسلامي مكوَّناً من مليار ومئتي مليون نسمة فإنّ 80% منهم يرَوْن في هذه الأسماء عقيدتهم الراسخة والمقدَّسة، فكيف لكم أن تسيئوا إلى مقدَّساتهم؟! وهل ستصدَّر الثورة في هذه الحالة؟!
جديرٌ بكم أن تعلموا ـ ومنكم مَنْ يعلم ذلك ـ أنه عندما انطلقت بوادر الحركة الحالية في الجزائر كان من جملة المهامّ التي نُفِّذت هناك أنهم نشروا رسالة حول العقائد الشيعية في الخلفاء؛ كي يقضوا على أيّ صلة بينها وبين الثورة. في حين إذا كان أحدهم يحمل عقيدةً ما، وطرح أفكاره في مكانٍ ما، فما علاقة ذلك بي وبكم؟! لذا لابدّ من أن نتنبَّه إلى عملنا في الراديو، وأن نمنع مثل هذه الأفكار فيه. نحن اليوم في صدد قيادة المجتمع الإسلامي، لذا لا ينبغي المساس بمقدَّسات سائر المسلمين.
قصّة مهمّة عن الإمام الخميني حول التعرّض لمعاوية
لا بأس هنا أنْ أروي لكم قصّة حصلَتْ معي، وإن كنت قد رويتها للعديد من الأصدقاء في السابق. لقد كان الإمام الخميني في بدايات الثورة يذكر اسم معاوية في خطاباته بشيءٍ من الطعن، وتعلمون أنّي كنت قد أقمتُ زمناً في إقليم بلوشستان، وكانت تربطني بعلمائهم صداقة قوية، وكان العلماء السنّة هناك يقدِّسون معاوية، لذا قلتُ للإمام: إن في شرق البلاد مئات الملايين ممَّنْ يقدِّس معاوية، بل يعدّونه خال المؤمنين ـ بغضّ النظر عن صحّة المعتقَد من عدمه، فهذه قضية متروكة إلى حلقات البحث والتحقيق ـ، وإنّ معظم سكان الهند وباكستان وبنغلادش وأفغانستان هم من الأحناف، وهم يقدِّسون معاوية. وهنا ردَّ الإمام الخميني رحمه الله: عجيب! لم أكُنْ أعلم بهذا، ولم أرَ الإمام بعد ذلك اليوم يتعرَّض لمعاوية طيلة العشرة أو الأحد عشر عاماً.
وهذا كان ديدني أيضاً في خطب صلوات الجمعة، فكنت إذا تحدَّثتُ عن معركة (صفين) وغيرها من حروب الإمام عليّ× لا أتعرَّض أبداً بالإساءة لأيّ شخصية في التاريخ. فرواية التاريخ شيءٌ، والإساءة شيء آخر. نعم لابدّ من البحث والتحقيق في مفاصل التاريخ، لكنْ دون الإساءة إلى الخلفاء بأيِّ شكلٍ من الأشكال.
المحاضرات الدينية
الموضوع الآخر هو المحاضرات الدينية. ففي السابق كنتم تبثّون المحاضرة كلّ يوم قبل أخبار الساعة الثانية، باستثناء يوم الجمعة؛ وأحياناً تعتمدون على بعض الخطباء غير الكفؤين. وكنتُ قد أبلغتُ مسؤول الإذاعة يوماً ما أنه من الضروري بثّ محاضرات جديدة، ولخطباء مجيدين أيضاً، وليس أولئك الذين إذا استمعْتَ إليهم تصوَّرْتَهم يمارسون تمارين في الخطابة، وليسوا خطباء. فما الداعي لكي تعتمدوا على خطباء لا يمتلكون ناصية الخطابة؟! ألمجرد انتمائهم الحزبي والسياسي؟! إنّ هذا خطأٌ فادح.
كما أن إلغاء بثّ المحاضرات الدينية ـ الأمر الذي درج عليه الراديو خلال السنوات الأخيرة ـ ليس بالقرار الصائب أبداً. فحَسْب الظاهر كانوا عصر أيام الجمعة يبثّون محاضرة أو اثنتين من هذا القبيل، والحال أنّ لهذا التوقيت مستمعين من نوعٍ آخر. ولابدّ من اختيار محاضرات رصينة فعلاً، وهذا لا يعني اختيار أيّ محاضرة للخطيب الجيّد والمرموق، بل عليكم اختيار ما يناسبكم من محاضراته. لذا عليكم البحث عن مثل هذه المحاضرات القيِّمة، وتقديمها للجمهور.
نعم، ما كان يُبثّ من كلمات الإمام الخميني([11]) ـ قبل أخبار الثانية ـ هو عملٌ رائع ومناسب فعلاً. ولأني أرى كلّ إنسان بحاجة إلى جرعة من منشِّطات كلام الإمام فعلينا أن نواظب على تلقّي هذه الجرعة بشكلٍ يومي؛ لأنّ فيتامينات الإنسان في تناقصٍ مستمرّ. وينبغي أن يتمّ اختيار الأفضل والأنسب لكلّ مقام. مع الحرص أيضاً على النمط الظاهري للبحث وانتظام صورته. وأحياناً ما يحسّ السامع أنّ خللاً يطرأ، فيقطع كلام الإمام عليه، فلابدّ من التنبُّه لمثل هذه الهفوات.
حول قراءة القرآن والتواشيح
ومن القضايا الأخرى ما يتعلق بتلاوة القرآن الكريم والتواشيح. فمنذ مدّة ليست بعيدة أحسستُ بوجود إرباك في عمل الإذاعة والتلفزيون، من قبيل: تكرار بثّ تلاوة قرآنية لأربعة أيّام على التوالي. ولا أدري ما الداعي إلى مثل ذلك؟! وهناك ما هو أسوأ. وبما أن موضوعه يتعلَّق بمؤسسة التلفزيون سنعرض عن ذكره هنا. وكنتُ في هذا الخصوص ـ قد عيَّنتُ أشخاصاً مختصّين يشرفون على نوعية التلاوة المختارة في الراديو والتلفزيون. وعليكم الالتزام بما يُبْدون من آراء في هذا المضمار. وبشكل عام أقول لكم: إذا أردتم بثّ تلاوة من القرآن الكريم فلابدّ لكم من البحث عمّا هو الأفضل، لا أن نبثّ تلاوةً ما بغرض تشجيع صاحبها؛ كونه من المبتدئين الشباب. نعم، لدينا من الأصوات الشابّة، أمثال: (جواد فروغي)، يقرؤون القرآن في أفضل مستوى. علينا أن ندرك أنّ هذا الكلام ليس شاملاً لجميع أعمال (فروغي) وتلاواته القرآنية، بل هو خاصٌّ بقسمٍ منها، الذي هو غاية في الروعة، وهذا ما لمستُه شخصياً.
وهنا أعرِّج على ما طرحه الأخ([12])، أي مراعاة قواعد الموسيقى في التواشيح. ويبدو أنّكم قد بدأتم في تطبيق هذه الأهداف. وهذا غاية في الأهمية. فأحياناً أجد الفارسي يقرأ بنولة عربية، دون الالتزام بقواعد الموسيقى العربية، وإنْ كانت المقامات واحدة لدى الجميع. فالعربي حين يقرأ سيقرأ بمقامات البيّات والعجم و… والمستغرب أنه أحياناً يُطلق عليها التسمية ذاتها. وكان المرحوم أميري فيروز كوهي ـ وهو من المختصّين في الموسيقى ـ يقول: إنّ أيّ صوت يخرج من الفم سينتظم في واحدٍ من تلك المقامات، حتى وإن كانت النغمة غريبة.
ولا شكّ أن كلام (فيروز كوهي) حجّة علينا في هذا المجال.
وفي الموسيقى الإيرانية لو أنّ شخصاً خرج في أدائه عن المقام، فإن ذلك يعدّ طفرة في عرف أرباب الموسيقى. أما في الموسيقى العربية فإنّ من ضروراتها الانتقال من مقامٍ إلى آخر، وهو ما يعدّ طفرة لدى الآخرين. لذا تجد الموسيقار الإيراني لا يروق له هذا النوع من التلاوة القرآنية؛ حيث يقول بأن القارئ قد خرج عن المقام، متناسياً أنّ الخروج والانتقال من مقامٍ إلى آخر إنّما هو من مبادئ القرّاء العرب، وهم يعلمون بذلك جيداً. لذا قد نراهم يتدرّجون في التلاوة للمرور على خمسة مقامات أحياناً، ثم يختمون بما بدأوا به من مقام. فإن بدأوا بالبيات ختموا به أيضاً، بعد أن يعبروا مقامات أخرى قبل الختام. وهذا ما يفسِّر لنا اتّحاد المقام بين (بسم الله الرحمن الرحيم) و(صدق الله العلي العظيم).
وبناءً عليه فإذا جئنا لنقرأ القرآن أو التواشيح العربية دون مراعاة مبادئ الموسيقى العربية فإنّ ذلك سيبدو عملاً مرتبكاً، ولا يروق للسامع أبداً. فإذا كان القرار هو التلاوة والقراءة في هذا المضمار تحديداً فلابدّ حينها من الالتزام بالقواعد والأسس المحدَّدة.
كما لا ينبغي الاعتماد على التواشيح العربية بكَثْرةٍ مفرطة. وقد رأيتُ شبابنا عندما يُنشدون مقطعاً فإنَّهم يكرِّرون ما قاله المنشدون العَرَب بالحرف الواحد. فما هي الضرورة في هذا التقليد الصِّرف؟! ما أكثر الشعر العربي والأدعية التي تصلح لمثل هذه المناسبات، من قبيل: قصيدة «البردة»([13])! وما أروعها إنْ تمّ إنشادها أيضاً! كما أن للشعراء العرب باعاً طويلة في مدح الرسول| والأئمة^، وهي أشعارٌ قمّة في الفصاحة والبلاغة. اذهبوا وأنشدوا منها ما طاب لكم.
عِلْماً أن هذه الملاحظات لا تشمل الأدعية التي كانت تُبثّ بُعَيْد أذان الصبح، أو أدعية الأيام، والتي لا أدري لماذا أُلغي بثّها، بعد تأكيدنا على عدم الاستغناء عنها! فإذا قُرئَتْ تلك الأدعية بطريقة التلاوة الفارسية ـ وهو النموذج المعمول به في المساجد ـ كان أفضل وأنسب؛ فإن تلك القراءة المعتمدة على المدّ المفرط للكلمات ليست جيِّدة. نعم بالأمس، أو الأمس الأول، استمعت لدعاء بعد الأذان بالطريقة العربية كان قمّة في الرَّوْعة والاستئناس، لكنْ إن حاولوا ترجيعه فلن يكون مناسباً أبداً. نعم، ثمّة استثناءات لبعض الأصوات، من قبيل: أنشودة «ربّنا»، لمحمد رضا شجريان، والتي كثيراً ما تُعرَض في التلفاز قبيل أذان المغرب. فهي عمل فنّي، وليس عرفانياً. والأنسب بثّ ذلك الصوت العادي والمتعارف عليه في المساجد.
الأذان في الراديو
هنا أودّ الإشارة إلى موضوع أشكال الأذان الذي يبثّ عبر الإذاعة والتلفزيون. وقد تطرقتَ حضرتك([14]) إلى أذان غلوش. إلاّ أن المؤاخذ على هذا الأذان هو بطؤه، فهو أذان استوديو وقاعات، وكأنّه يقرؤه لنفسه. وهكذا بالنسبة إلى أذان أبي زيد، فهو أيضاً يقرؤه لنفسه. فهؤلاء لم يقرأوا الأذان للناس. ونحن كنّا قد طلبنا من القرّاء المصريّين ضرورة أن يكون صوت الأذان نابعاً من القلب، أي أن يقدِّموا لنا أذان متأثِّرٍ، وليس أذان استوديوهات. فأذان المتأثِّر هو من قبيل ما قدَّمتموه أنتم، أو أذان السيد (شريف) ـ وهو من أروع أصوات الأذان حقّاً ـ، وإنْ كان أذانه تقليداً لأصلٍ سابق، فأصله يبدو لمؤذّن عربيّ قديم.
وأنا شخصياً كنتُ قد سمعتُه منذ أمدٍ بعيد. وكان عطاء الله زاهد([15]) يقول بأن موسيقى فيلم «الرسالة» مستقاة من «الله أكبر» ذلك الأذان. ومن الأصوات الجيدة في الأذان أيضاً أذان الطوخي، ومؤذّن زاده، فهو أذان مفعَم بالحماس والتأثير.
وليس قصدنا هو عرض أو بثّ هذه الأصوات الأربعة للأذان في الراديو والتلفزيون فحَسْب، لا بل القصد هو مراعاة النَّظْم والترتيب في ذلك. ودرءاً لوقوع تزاحم لابدّ من وضع حدٍّ فاصل، وقد تُبَثّ أشكال أخرى للأذان. لكنْ احرصوا على أن يكون الأذان الرسمي لإذاعة الجمهورية الإسلاميّة ذا مواصفاتٍ خاصّة، وبَصْمة مميزة ـ كما قلتم ـ؛ كي يتسنى لنا تقديمه للعالم بقوّةٍ، متفاخرين بجودته.
وبما أنّ كلمات الأذان عربيّة فلابدّ من أدائه باللهجة العربية المتقَنة، كما القرآن تماماً. فإذا قُرئ بغير اللهجة العربية بطلت تلاوته. وترى البعض حين يتكلَّم بلغة أجنبية يحرص على اللفظ بطريقتهم ـ وهو ضروريّ بالطبع ـ، وبالتالي إذا أردتَ التحدُّث بالإنجليزية أو العربية إلى شخص ما لا يمكنك التحدث معه باللهجة الفارسية، بل ينبغي لك التحدُّث بلهجته هو، لكنْ هؤلاء الناس حين يقفون في الصلاة يعتريهم الترديد والشكّ، فيتساءلون: ما الداعي لإعمال المدّ في كلمة «ولا الضّالين» مثلاً؟ ألا يمكن قراءتها كالكلمات الأخرى؟ متجاهلين أنّ «ولا الضالين» إنْ خلَتْ من المدّ لم تكن تلك الكلمة النازلة في القرآن الكريم، فهي نزلت مع المدّ، وليس من دونه. وقواعد اللغة تفرض علينا التلفُّظ بهذه الطريقة حَصْراً، وإلّا كأنّنا لم نتلفَّظ الكلمة المطلوبة أصلاً. نعم، إن تعذَّر على أحدهم ذلك فلا جناح عليه، لكنْ لابدّ من محاولة التلفُّظ بصورة صحيحة؛ إذ لا يمكن تجاهل اللهجة في التلفُّظ، فهي ضروريّة جدّاً.
ومن القضايا ذات الصلة هو موعد أذان الصبح على مرّ أيام السنة؛ لأنّ موعده ليس ثابتاً في جميع الأيام. وأنتم قد جعلتم برنامج «أسد الله»([16]) هو المعيار الزمني في تحديد ذلك؛ إذ لابدّ من انطلاق صيحات «أسد الله» قبل الساعة السادسة. فإنْ كان المقرَّر أن تكون الفاصلة الزمنية بين الأذان وهذا البرنامج ساعة كاملة فإنّ مندوحة الوقت ستسمح لكم بعرض الأدعية والأذان بشكلٍ مفصَّل؛ لكنْ في فصل الشتاء، حيث يقترب موعد الأذان من الساعة السادسة، تقلِّصون مدّة بثّ الأذان، وتستغنون عن الدعاء، وتكتفون ببثّ برنامج «أسد الله». والحال أنّه ليس برنامج «أسد الله» معياراً من معايير الجمهورية الإسلامية، حيث إنّ لصيحات (الزورخانة) طابعاً فلكلورياً ورمزياً، وإلا لن تجد أحداً يمارس الرياضة مع تلك النغمات. أنا شخصياً كنت أذهب لـ (الزورخانة) في السابق، ووجدت أن هذا الإيقاع لا يصلح للرياضة، بل هو مجموعة من الإيقاعات المتباينة، اعتاد الناس على سماعها فحَسْب. وهذا غير ما هو متعارف عليه في الرياضة الغربية والتمارين السويدية. وعليه لا يمكن لذلك البرنامج أن يكون ملاكاً، إنّما المعيار والملاك هو الأذان والدعاء.
برامج شهر رمضان وبرامج السحر
ونظراً لكون شهر رمضان على الأبواب كونوا على أهبة اليقظة والاستعداد. فقبل بضعة أيام كان مدراء الإذاعة والتلفزيون في فروع المحافظات حاضرين عندي، وقلتُ لهم: لابدّ من التركيز على برامج السحور وتنظيمها بصورة جيّدة ([17]). وقد لاحظت أنّ ثمّة تأكيداً على ضرورة قراءة دعاء السحر كلّ ليلة بصوت قارئٍ ما. وهذا ممّا لا ضرورة له، فيكفي اختيار أفضل صوتين للقيام بهذه المهمة.
من الضرورة بمكان مراعاة الفصل والوصل في قراءة الأدعية؛ كي لا يسيء ذلك لمَنْ يفهم لغة الدعاء. فمثلاً: قُرئ في الزيارة: «بأبي أنتم وأمّي طبتُم، وطابت الأرض التي فيها دفنتم»([18]). فهذه الكلمات غاية في الروعة والسبك، وإنْ وقع خطأٌ في الوصل والفصل في قراءتها أدّى ذلك إلى الإخلال بجماليّتها.
هنا أستذكر حادثةً حصلت في مشهد، في بيت المرحوم أفرخ، حين كان يقيم أيام الجمعة نوعاً من الجلسات، وكنتُ أحضرها أحياناً. ففي إحدى الجلسات حضر شخصٌ من الهند ـ وكان أستاذاً في اللغة الفارسية ـ. وهنا أخذ يتحدَّث عن نفسه قائلاً: إنه جاء من الهند، وهو أستاذ في اللغة الفارسية، وضالع في أشعار حافظ وديوانه، ثم جرّه الزهو بالكلام إلى قراءة شيء من قصائد (حافظ الشيرازي). لكنّ قراءته كانت رديئة، بحيث لم يمسك أحدٌ نفسه من الضحك في المجلس. واليوم حين ألاحظ بعض الأخوة يقرؤون الأدعية بهذه الطريقة تخطر في بالي قصّة ذلك اليوم، وما دار مع الأستاذ الهندي وقصائد حافظ الشيرازي.
على أيّ حال لابدّ لي أن أتقدَّم لكم بالشكر الجزيل على تحمُّلكم هذه المسؤولية بصعوباتها. داعياً المولى عزَّ وجلَّ أن يعينكم، ويسدِّد خطاكم، في إكمال هذه المهمّة. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
([1]) في لقاء مع كوادر «قسم الاجتماعيات» في إذاعة الجمهورية الإسلامية في إيران، بتاريخ: 29/11/1370هـ.ش.
([3]) السيد واعظي، مدير قسم «المعارف الإسلامية» في الإذاعة آنذاك.
([5]) برنامج «القرآن والترجمة».
([10]) صلح إمام حسن، برشكوه ترين نرمش قهرمانانه تاريخ.
([11]) برنامج «راه إمام، كلام إمام».
([12]) السيد خونمردي، مدير «القسم الخاص… في الإذاعة آنذاك».
([17]) في لقاء مع مدراء فروع الإذاعة والتلفزيون في المحافظات (7/12/1370).