د. الشيخ حسن آقا نظري(*)
1ـ تأثير الضرائب الإسلامية على عرض قوة العمل
ليست الضرائب ظاهرة حيادية في الاقتصاد، وإنما لها آثار اقتصادية ملحوظة على المتغيرات والسلوكيات المرتبطة بها. وبالطبع فإن نوع الضرائب المفروضة، ومقدار التأثير الاقتصادي، وظروف كيفية التأثر، لها تأثير في شكل إعمال الضرائب. وقد درس الاقتصاد الإسلامي هذه القضية أيضاً. فقد تناول الباحثون المسلمون تأثير الضرائب الإسلامية من جهتين:
الأولى: من حيث جمعها، والذي يمثل بعدها الضريبي، ومن هنا يتم التأكيد على تأثيرها على المسدِّدين (المكلَّفين).
الثانية: من حيث إنفاق عوائد الضرائب الإسلامية، والذي يدرس من خلاله تأثيرها على المستلمين (المستحقين). وتلحظ الزكاة في هذه الصورة باعتبارها تسديدات انتقالية.
إن أكثر الباحثين السنّة يدرسون المسألة من الجهة الثانية، أي تأثير الضرائب.
وسيتم تناول معطيات هذه الدراسات في البداية، ثم تأثير الضرائب الإسلامية على قرار المسدِّدين من منظار الفقه الشيعي.
1ـ1ـ تأثير الزكاة باعتبارها تسديداً انتقالياً على عرض قوة العمل (المستلمين)
إن الموضوع الأساس هو هل أن التسديدات الانتقالية لها تأثير بشكل معكوس على حضور الأفراد في سوق العمل؟ وهل يزيد من ارتباطها بالدولة؟ وهل أن هذه المساعدة تؤدي إلى تكاسل الناس، بحيث لا يبادرون إلى العمل وإن سنحت فرصة كسب دخل أكبر؛ وذلك كي يبقوا ممَّن تنطبق عليهم شروط أخذ المساعدة، ويبقى هذا الارتباط بالتسديدات الانتقالية سارياً إلى حد أنه ينتقل إلى الأجيال اللاحقة؟
إن هذا السؤال لا يثير الاستغراب؛ وذلك لأن الفرد العاطل عن العمل إذا كان بمقدوره الحصول على نفس مقدار الدخل فما هي الضرورة للعمل؟
إن مسؤولي المساعدات الانتقالية لا يقولون لمستلمي المساعدات بأنهم عملوا أو لم يعملوا فإن ذلك يرتبط بقرارهم.
وليست ردود فعل عرض قوة العمل المستلمة للمساعدة جزئية ومحدودة بحيث يمكن غض الطرف عنها.
إن هذه القضية يمكن عرضها بالنسبة إلى جميع الضرائب من منظار التسديد الانتقالي.
وقد سعى الاقتصاديون إلى تقديم أساليب لإيصال هذا الأثر إلى الحد الأدنى الممكن.
ويتضح تأثير الزكاة على عرض قوة العمل من خلال بيان أثر ذلك على الاستفادة من قوة العمل، وإيجاد الدافع لمثل ذلك.
وكما ترتبط الاستفادة من قوة العمل بمستوى التعليم والمهارات المكتسبة ونوع الثروة في الإنتاج فهي ترتبط أيضاً بمستوى تغذية العامل وسلامته.
وهذه الآثار يمكن الإشارة إليها، انطلاقاً من أحكام الزكاة، وفقاً لوجهة نظر أهل السنة، بما يلي:
أـ الفقراء والمساكين، وهما الصنفان المستخدمان للزكاة، واللذان يحتلان الأولوية بالنسبة إلى المصارف الأخرى لدى أكثر الفقهاء.
إن مصرف الزكاة يؤدي إلى زيادة استهلاك كفاية([1]) المستحقين وانخفاض الاستهلاكات الكمالية لمسدِّدي الزكاة، وهو ما يؤدي إلى نمو قدرات أفراد المجتمع الإسلامي؛ وذلك لأن بعض الاستهلاكات، وإن أدت إلى انعدام بعض المصادر الاقتصادية من جانب، ولكنها تؤدي إلى نمو وإعادة المصادر الاقتصادية (قوة العمل)، وذلك من خلال تقوية قدرات المجتمع من جانب آخر. وما دام الأثر الثاني أكثر من أثر نفقة المصادر فإن مصادر المجتمع الاقتصادية ستزداد؛ لأن الاستهلاك المباح في الإسلام تجديدي أكثر من أن يكون تضييعياً. والعكس صادق أيضاً بالنسبة إلى الاستهلاكات المحرمة. كما أن تجديدية استهلاك الكفاية، والذي هو جزء الاستهلاكات المباحة، أكثر من الاستهلاكات الكمالية.
ب ـ إن استثمار عوائد الزكاة في إيجاد برامج تـنموية تلبية للمتطلبات الكفائية للفقراء، مثل: زيادة ماء الشرب، رعاية الصحة والسلامة، التعليم، يؤول إلى زيادة عرض ساعات العمل في المجال الصناعي الذي يمارسه هؤلاء الفقراء. نعم، إن هذه الآثار ضعيفة في الظروف العادية؛ لأن آثار ونتائج الزكاة المستثمرة ترتبط بهذه الطرق.
ج ـ إن صرف الزكاة للطلبة الفقراء يؤدي إلى زيادة الاستفادة من قوة العمل، وإن لم يكن له ذلك التأثير الكبير؛ نظراً لأن الطلبة لا يشكلون نسبة ملحوظة من الفقراء.
كما يمكن إثبات تأثير الزكاة في أحكام الفقه الشيعي على قوة العمل أيضاً.
إن أكثر الفقهاء السنة، إن لم يكن كلهم، حدَّدوا مصرف «في سبيل الله» ـ أحد المصارف الثمانية للزكاة ـ بالمجاهدين في سبيل الله وحسب([2])، إلا أن هذا الصنف أوسع دائرة في الفقه الشيعي، كما يرى الشيخ الطوسي، حيث يقول: «ويدخل في سبيل الله معونة الحاج، وقضاء الديون عن الحي والميت، وجميع سبيل الخير والمصالح…، ويدخل فيه معونة الزوار والحجيج، وعمارة المساجد والمشاهد، وإصلاح القناطر، وغير ذلك من المصالح»([3]).
إن «سبيل الله» يشمل جميع الحالات التي يترتب عليها الخير، حتى بالنسبة لأولئك الذين يحصرون معنى «سبيل الله» في المصالح العامة للمسلمين. ومن هنا فإن الاستفادة من دخل الزكاة فيما إذا كان في إطار إصلاح المجتمع يعد من مصاديق «في سبيل الله». وعليه فلا مانع من اعتماد الزكاة في البرمجة الاقتصادية، ومنها: رفع مستوى الاستفادة من قوة العمل([4]).
ونظراً لاتجاه النظام الاقتصادي الإسلامي نحو بسط العدالة، ورفع المستوى المعيشي للطبقات قليلة الدخل، وتأكيد التعاليم الإسلامية على إعداد أدوات العمل بدلاً من التسديدات المباشرة، فالظاهر عدم وجود منع فقهي للدولة الإسلامية من استثمار عوائد الضرائب الإسلامية لرفع مستوى الاستفادة من قوة العمل، وإن لم تتعرض أكثر الكتب الفقهية لهذا البحث([5]).
كما يمكن صرف الزكاة على الطلبة (الفقراء وغيرهم). وعلى هذا الأساس فإن تأثير الزكاة على قوة العمل وفقاً للفقه الشيعي أكثر من الفقه السني. ومما يجدر الالتفات إليه أن زيادة الاستثمار يؤدي بشكل غير مباشر إلى زيادة عرض قوة العمل، وذلك من خلال إيجاد أرضيات العمل.
1ـ 2ـ تأثير الضرائب الإسلامية على عرض قوة العمل (المؤدّين)
تمتاز قوة العمل بأهمية بالغة؛ باعتبارها أهم مؤسسة إنتاجية. وتعد الأجور والثروة من أهم العوامل المؤثرة على مستوى عرض قوة العمل. وعليه فالعوامل التي يمكن أن يطرأ عليها التغيير ربما تؤدي إلى تغيير سلوك قوة العمل.
ومن هنا فإن تأثير الضرائب على سلوك قوة العمل، ومعرفة ما هو النوع الضريبي الذي يمكن اعتماده ليكون أقل تأثيراً على انخفاض عرض قوة العمل، يُعدُّ أمراً أساسياً. ومن الجدير بالذكر أنهم يفرضون أن تابع مرغوبية العمل يتكوّن من عنصرين: الفراغ؛ والعمل، عادة.
إن الفرد يكسب دخلاً من خلال العمل مما يترتب عليه طيب الخاطر. كما أن الاستراحة تحقق الرضا أيضاً. وعلى هذا الأساس فالشخص يفقد مقداراً من فراغه مقابل العمل، ولكنه يكسب دخلاً بإزاء ذلك. ومن الممكن للأفراد أن يبرزوا سلوكيات أخرى نتيجة لعقائدهم الدينية وآدابهم الدينية والوطنية. فالعمل ـ على سبيل المثال ـ يعتبر عبادة في الثقافة الإسلامية، ولذا فتابع مرغوبية قوة العمل يتأثر بالعوامل العقيدية والقيمية بالنسبة لفرد يلتزم بعقائد دينية.
وكلما ازدادت الأجور عادة فإن الأفراد يخصِّصون ساعات أكثر للعمل، وإذا تجاوزت الرواتب وأجور أو ثروة الفرد حدّاً معيناً قلَّل من ساعات العمل، وزاد في ساعات الفراغ. وعلى هذا الأساس إذا جعلت الضرائب على الدخل أو الثروة أمكن التوقّع بأن مستوى عرض قوة العمل سيتجلى بشكل أوضح، وإن الأثر المحدَّد الثابت لا يحصل، وإنما تتحقق نتائج مختلفة([6]).
1ـ 3ـ الضرائب الإسلامية المؤثرة على الدخل
إن الدخول المكتسبة (الرواتب والأجور) مشمولة ـ وفقاً للفقه الشيعي ـ بضريبة الخمس (20%) في فاضل المؤنة، أي بعد حذف النفقات المتعارفة والمطابقة للشأن الاجتماعي للأسرة. وأما الفقه السني ـ كما عند البعض ـ فإن الرواتب والأجور مشمولة بضريبة الزكاة بمقدار محدد([7]).
إن مقارنة تأثير الخمس على عرض قوة العمل بتأثير الضرائب المتعارفة يمكنه أن يوضح خصوصية الضرائب الإٍسلامية إلى حدٍّ ما. وتوضيحاً لذلك يمكن أن نتصور عاملاً مسلماً يسعى إلى الحد الأعلى لتابع مرغوبية العمل. وكما أشير فإن تابع مرغوبية العمل بالنسبة لكل فرد يبين تراكيب مختلفة من الفراغ والعمل، حيث يختار الفرد تركيباً أكثر مطلوبية من بينها.
وتحقيقاً لهذا الهدف يقسم الساعات ـ 24 ساعة ـ بين الفراغ والعمل بصورة ما، تتساوى فيه نسبة المرغوبية النهائية للدخل والمرغوبية النهائية للفراغ مع مقدار الأجر الذي يحصل عليه.
لنفرض وضع ضريبة بسعر تـناسبي 20% مع إعفاء مساوٍ لنصف نفقات الحياة في السنة على الدخل فإن وضع الضرائب سيكون له أثران:
1ـ أثر دخلي، تؤدي فيه الضرائب إلى انخفاض الدخل الحقيقي، ويقلِّل من ميل الفرد إلى الفراغ، ويترتب عليه زيادة قوة العمل في نهاية المطاف.
2ـ أثر بديل، يؤدي إلى زيادة الفراغ، وقلة عرض قوة العمل؛ بسبب انخفاض نفقة فرصة الفراغ أو ذلك الأجر الحقيقي (والذي هو الأجر الاسمي باستثناء مستوى الضرائب).
إن الأثرين البديل والدخلي يعملان في اتجاه معاكس بالنسبة إلى بعضهما البعض. فإذا كان أثر أحدهما أقوى وأكبر فسوف يختلف تأثير الضرائب على عرض قوة العمل أيضاً؛ فإذا تغلب الأثر البديل على الأثر الدخلي فسينخفض عرض قوة العمل؛ وإذا تغلب أثر الدخل فإن عرض العمل سيزداد؛ وإذا تساوى الأثران فإن عرض العمل سيكون ثابتاً([8]).
وعلى هذا الأساس فإن أثر الضرائب المذكورة على عرض العمل مبهم عموماً. وهو يرتبط بسلوك العارض، أي شكل تابع مرغوبية العمل. وهو يختلف باختلاف الأفراد. ولذا فإن تأثير الضرائب غير واضح على نحو العموم.
إن ضريبة الخمس والتي يبلغ سعرها 20% ـ مع فارق أن جميع النفقة المتعارفة للحياة معفوّة من الخمس ـ لها هذان الأثران: البديل؛ والدخلي، أيضاً. والنتيجة أن جميع الأثر سيبقى مبهماً، ويحتاج إلى التحليل التجريبي، وأخذ الفروض المختلفة التالية بنظر الاعتبار:
أولاً: إن العمل ـ كما مضى ـ يعد عبادة في الثقافة الإسلامية. وقد تم التأكيد عليه. ومن هنا فالعمل لا يقتصر على جانب المعيشة وكسب الدخل، وإنما هو أمر مطلوب بالنسبة إلى قوة العمل المسلمة في حد ذاته([9]).
ثانياً: إن الإنسان المسلم يعتبر الضريبة الإسلامية عبادة. ففي المجتمع السالم، ومع وجود اقتصاد متوازن، يدفع الأفراد الملتزمون بالتعاليم العقيدية والعملية للإسلام هذا النوع من الضرائب بصورة طوعية للوصول إلى رضا الله.
ثالثاً: وهو الأهم مما تقدّم، فإن الخمس؛ ونظراً لمستوى الإعفاء الكبير، أعظم أثراً دخلياً من الأثر الدخلي للضرائب التناسبية المتعارفة. وبالنتيجة فإن الفرد في نظام الخمس يتمتع بمستوى مرغوبية أكبر قياساً إلى نظام الضرائب. ومن الممكن توقع أن يكون عرض عمل هذا القبيل من الأفراد أقل انخفاضاً.
1ـ 4 ـ الضرائب الإسلامية المؤثِّرة على الثروة
كلما كان الفرد يمتلك ثروة مشمولة بالزكاة (الأنعام الثلاثة أو النقدين)، ودخلاً ناتجاً عن العمل، أي أن الميزانية المملوكة تشمل الدخل والثروة، فسنعتمد نموذجاً يجعل الفرد أمام تركيب انتخابي بين الاستهلاك الحاضر والفراغ.
وتوضيحاً لهذه النقطة نقول: لنفترض أن الشخص لا يمتلك زيادة على الدخل (الادخار)، ليكون مشمولاً بالخمس، وهو ملزم بدفع زكاة ثروته فقط، ففي مثل هذه الحالة سيعرض قوة عمله، ويرفع من مستوى المرغوبية، وذلك بما يتناسب ومقدار ثروته؛ وذلك لأن الفرد يبغي الحد الأكثر لمرغوبيته في الاختيار بين مستوى الفراغ والاستهلاك الحاضر، ويختار معيار هذين بشكل ما، بحيث تكون نسبة المرغوبية النهائية لاستهلاكه الحاضر إلى مرغوبيته النهائية لفراغه مساوية لمقدار الأجر.
وبعد وضع الزكاة على الثروة وبسعر محدَّد فإن قيد الميزانية([10]) الجديدة سيكون موازياً للميزانية السابقة، بل أقل منها. ولذا فليس هناك أثر بديل (الفراغ بدلاً من العمل)، ولن يظهر سوى الأثر الدخلي. ونتيجة ذلك هو أن تؤدي الزكاة إلى انخفاض الفراغ، وزيادة عرض قوة العمل، وذلك في صورة فرض توازن الفراغ والاستهلاك. وبعبارة أخرى: إن الفرد ورغم أنه سيكون في مستوى مرغوبية أدون بالقياس إلى ما قبل تسديد الزكاة، وأن ميزان الفراغ والدخل سينخفضان، ولكن التخصيص بينهما سيبقى ثابتاً من دون تغيير في الجدوائية. وعلى هذا الأساس يزداد عرض قوة العمل ـ عدم الفراغ ـ، أي أن أثر ضرائب الزكاة سيكون إيجابياً على الثروة.
2ـ تأثير الضرائب الإسلامية على الادخار
إن من التجارب الضريبية الأخرى ارتباط الضريبة بالاستهلاك والادخار. فالاستهلاك الأقل في الوقت الحاضر يعني الادخار في الحاضر للاستهلاك الأكثر في المستقبل. ويتأثر الادخار بالدخل والثروة أيضاً. وعليه سنبحث تأثير الخمس باعتباره عاملاً مؤثِّراً على الدخل، والزكاة كعامل مؤثر على الثروة، وعلى الادخار.
2 ـ 1ـ تأثير الخمس على الادخار
يعتبر الاستهلاك في الحاضر والمستقبل (الادخار) بضاعتين طبيعيتين في الأدبيات الاقتصادية الرأسمالية. ومن هنا فإن المستهلك ومن أجل أن يرفع مستوى المرغوبية الحاصلة من استهلاك الحال والادخار يختار وضعاً مركباً من الاستهلاك في الحاضر أو المستقبل، حيث يكون السعر النهائي البديل لاستهلاك الحاضر والمستقبل مساوياً لنسبة القيمة الفعلية (القيمة التنزيلية) للاستهلاك في المستقبل (الادخار) بقيمة الاستهلاك في الزمن الحاضر.
إن قيد ميزانية الفرد ـ في صورة عدم وجود ضريبة ـ عبارة عن تساوي الاستهلاك العام مع الدخل العام. وبعبارة أخرى: القيمة الفعلية للنفقات الاستهلاكية طوال العمر مساوية للقيمة الفعلية لدخله طوال حياته([11]).
إن آثار السياسة الضريبية على الادخار تمتاز بأهمية من جهتين:
1ـ تأثيرها على تقسيم المصادر بين الاستهلاك وتكوين رأس المال.
2ـ تأثيرها على مستوى الطلب العام.
إن آثار الضرائب على الادخار ليس من باب خفض دخل مؤدي الضريبة فقط، وإنما من حيث إن ضرائب الدخل تخفض السعر الصافي للادخار، أي أنه يخفض السعر الذي يمكن أن تجعل الأسرة به استهلاك المستقبل بديلاً لاستهلاك الحاضر([12]).
إن بالإمكان فرض نموذج عابر للحياة لفترتين زمنيتين، يكون الفرد في الفترة الأولى منهما ذا دخل ناتج عن قوة العمل، وفي الفترة الثانية ذا دخل تقاعدي، فإن ما زاد على دخل الفرد (الناتج عن العمل ورأس المال) يترتب عليه الخمس طوال تلك الفترة. وهكذا الحال بالنسبة للنظام الضريبي المتعارف، فهو يفرض أيضاً ضرائب على الدخل الشخصي في الدخول المذكورة بسعر محدَّد.
إن قيمة ميزانية الفرد أو الاستهلاك في الفترة الأولى مساوٍ لمستوى الدخل بعد كسر مقدار الادخار، والاستهلاك في الفترة الثانية عبارة عن دخل هذه الفترة، والادخار والربح الناتج عنه. ومن هنا يمكن استنتاج أن القيمة الحاضرة للنفقات الاستهلاكية لجميع مراحل حياة فرد ما ومقدار الدخل الحاصل في تلك الفترة، أي جمع الدخل الحاصل من قوة العمل، مساو للقيمة الحاضرة للدخل الحاصل عن الراتب التقاعدي.
ومن الممكن تقديم مقارنة بين الخمس والضرائب على الدخل؛ توضيحاً لما ذكر:
أـ حالة وضع الضرائب العامة على الدخل الحاصل من العمل والثروة في الاقتصاد المتعارف.
لنفرض على نحو التبسيط أن الضريبة لا تفرض على الادخار، وإن كانت تفرض على الربح الحاصل منه. ففي هذه الصورة ينقسم الدخل القابل للاستفادة (الدخل باستثناء الضريبة) في الفترة الأولى إلى قسمين: مقدار يدخر من ذلك المبلغ؛ وأما الباقي فيتم إنفاقه. وبعبارة أخرى: إن النفقات الاستهلاكية في الفترة الأولى مساوية للدخل القابل للاستهلاك باستثناء ميزان الادخار. وأما الفترة الثانية من الحياة فالمفروض عدم وجود دخل حاصل من قوة العمل، وأن الاستهلاك يتأثر بمستوى الدخل التقاعدي والادخار والربح المترتب عليه بعد تسديد الضرائب فقط. وعليه فإن ميزان الاستهلاك في هذه الفترة، وكذلك الدخل، أقل من الحالة التي لم تفرض فيها الضريبة. وإنّ قيمة الحاضر لكل النفقات الاستهلاكية لعمر الفرد يعني النفقات الاستهلاكية في الفترة الأولى، بالإضافة إلى القيمة التنزيلية (قيمة الحاضر) للنفقات الاستهلاكية للفترة الثانية، مساوية لحاصل جمع الدخل القابل للتصرف في الفترة الأولى([13]) والدخل القابل للتصرف للفترة الثانية من حياة الفرد.
ومع أخذ انخفاض دخل الفترتين بنظر الاعتبار فإن مستوى استهلاك كلا الفترتين ينخفض أيضاً، وبالنظر إلى أن الادخار السابق، كما إذا رغب الفرد أن يحافظ على مستوى معيشته بعد تسديد الضرائب فإن عليه أن يزيد ادخاره، إلا أنه ونظراً لانخفاض الفائدة (الربح)؛ نتيجة للضرائب والزيادة النسبية لقيمة الاستهلاك في المستقبل، فإنّ ما لم يستهلك بغير الرؤية لمصلحة استهلاك الحاضر، ويخفض من الادخار([14]).
ب ـ حالة فرض ضرائب الخمس على الدل الحاصل من قوة العمل والثروة.
وفي هذه الصورة يتكرر الفرض السابق، وهو أن ربح الادخار يتعلق به الخمس فقط، وخلافاً للضرائب المتعارفة فإن فائض الدخل يكون مشمولاً بالضرائب.
إن النفقات الاستهلاكية للفترة الأولى من حياة الفرد في هذا الفرض تحصل من كسر فائض الدخل (الادخار) ومقدار خمسه من جميع الدخل في هذه الفترة، وأما النفقات الاستهلاكية للفترة الثانية فهي مساوية لكل دخل هذه الفترة ـ تشمل دخل فترة التقاعد والادخار والربح الناتج عن الادخار ـ، باستثناء مقدار خمسه. وفي النتيجة فإن كل النفقات الاستهلاكية لحياة الفرد، أي استهلاك الفترة الأولى وقيمة حاضر استهلاك الفترة الثانية، تساوي جميع دخول الفرد (حاصل جمع الدخل في الفترة الأولى والدخل التنزيلي للفترة الثانية) طوال عمره.
وفي هذا الفرض ينخفض دخل الفترة الثانية للفرد، ويتبعه استهلاك هذه الفترة فقط، وبما أن الخمس يتعلق بفائض الدخل وحسب، وخلافاً للضرائب المتعارفة التي تشمل الدخل بأكمله، لذا فإن الأثر الدخلي للخمس على الادخار أقل بالنسبة إلى الضرائب المتعارفة على الدخل، ويتم تحليل الأثر البديل في حالتي فرض الضرائب والخمس من خلال محاسبة السعر النهائي للبديل بين استهلاك الحاضر والمستقبل (الادخار).
وينتج السعر النهائي للبديل في هاتين الحالتين من «تغييرات ادخار الفترة الثانية مقابل استهلاك هذه الفترة» بالنسبة إلى «تغييرات ادخار الفترة الأولى مقابل استهلاك الفترة نفسها، وحاصله سلبية سعر التنزيل لكل حالة من هاتين الحالتين، بينما يبقى الأثر البديل لسعر الضرائب المساوي لسعر الخمس ـ يعني 20% ـ واحداً.
وأما إذا كان سعر الضرائب المتعارفة أكثر من الخمس فإن السعر النهائي للبديل في الخمس سيكون أكثر من السعر النهائي لبديل الضرائب المتعارفة. وفي هذه الصورة يكون مقدار الاستهلاك (الادخار) أكثر في المستقبل؛ وذلك بانخفاض قسم من أقسام استهلاك الحاضر.
وطبعاً بالنسبة إلى حالة ما قبل الضرائب والخمس فإن الضرائب لصالح الاستهلاك الحاضر وبضرر الادخار في المستقبل، إلا أن النفع والضرر المذكورين في الخمس أقل بالقياس إلى الضرائب.
2ـ 2ـ تأثير الزكاة على الادخار
تمثِّل الزكاة أحد العوامل المؤثرة على الادخار، فالثريّ لا يرى من الضروري تقليل استهلاكه بسبب فترة التقاعد بالقياس إلى فاقد الثروة عادة، لأنه لا يرى داعياً لادخار الدخل. وعلى هذا الأساس فإن الضرائب التي تؤدي إلى انخفاض الثروة يمكنها أن تكون مؤثرة في تصميم الفرد، بحيث إن الفرد يبادر إلى الادخار وتقليل الاستهلاك حفاظاً على مستوى استهلاك فترة التقاعد.
ولنفرض أن ثرياً مسلماً يحاول اتخاذ القرار بين استهلاك الحاضر والمستقبل في فترتي العمل والتقاعد، والمفروض ضمنياً أنه لا يستفيد من ثروته في الفترة الأولى، كما أنه لا يملك دخلاً سوى الادخار والثروة في الفترة الثانية، وليس لديه رغبة بأن يترك ما لديه على سبيل الإرث، وأن الضرائب المأخوذة تقتصر على زكاة الثروة، فسوف يمكن رسم نموذج حياته من خلال ما يلي:
إن مرغوبية هذا القبيل من الأفراد سوف تكون تابعة لاستهلاك الحاضر والمستقبل، فاستهلاك الفترة الأولى من حياته، أي الزمن الحاضر، مساوٍ لكل دخل تلك الفترة، باستثناء ما يتم ادخاره. وأما استهلاك الفترة الثانية من حياته (الاستهلاك المستقبلي) فهو مساوٍ لمجموع الادخار والثروة وعوائدهما.
وفي هذه الصورة يكون قيد ميزانية الفرد، أي استهلاك الحاضر والقيمة الفعلية لاستهلاك المستقبل، مساو لمجموع دخل الحاضر ومقدار الثروة التي يستهلكها في المستقبل، بينما يتغير قيد الميزانية إذا تعلقت الزكاة بالثروة، وسوف ينخفض مقدار الثروة التي يمكن للفرد استهلاكها بمقدار الزكاة. ومن هنا فإن ضرائب الزكاة لها أثر دخلي فقط.
وعلى فرض أن استهلاك الحاضر والمستقبل سلعتان طبيعيتان فإن الزكاة ستؤدي إلى انخفاض استهلاك الحاضر والمستقبل. فإذا رغب الفرد في المحافظة على مستوى الاستهلاك المستقبلي له، والذي توقّعه، فسوف يزيد من مقدار الادخار، ويقلل من الاستهلاك.
إذاً فالأثر النهائي لضرائب الزكاة على الثروة مرتبط بمستوى الاستهلاك الذي يقدره الفرد لفترة تقاعده([15]).
ومن الجدير بالذكر أنه وكلما تعلق الخمس بدخول الفرد ـ من قبيل تحليل القسم السابق ـ فإن تأثير الضرائب الإسلامية له نتائج دخلية وبديلة من حيث المجموع. ولكن عند المقارنة فإن الضريبة على الدخل لها أثر أكبر عل انخفاض الادخار، وأما الضريبة على الثروة فهناك محفِّزات ودوافع للادخار؛ وذلك لأن الدخل عندما يكون مشمولاً بالضريبة فإن الدخول الحاصلة من الثروة ورأس المال تكون مشمولة بالضرائب أيضاً، بينما لا تتعلق الضريبة في الضرائب على الثروة بهذا القبيل من الدخول. وعليه فإن بإمكان الفرد كسب دخول أكبر غير مشمولة بالضرائب، وذلك من خلال الادخار والاستثمار([16]).
والنتيجة أن تأثير الضرائب الإسلامية أقل من تأثير الضرائب المتعارفة في خفض الادخار.
الهوامش
(*) أستاذ في الحوزة والجامعة، وعضو الهيئة العلمية في مركز بحوث الحوزة والجامعة، مختصٌّ في الاقتصاد الإسلامي.
([1]) إن استهلاك الكفاية أكثر ضرورة، وهو في الواقع يشمل دائرة الاستهلاكات الضرورية.
([2]) الفقه على المذاهب الأربعة 1: 621 ـ 626.
([4]) علي رضا لشكري، نظام مالياتي إسلام: 73.
([5]) لقد أجاز الشيخ مكارم الشيرازي في مبحث مختصر استثمار الخمس، واعتبر الانتفاع من منافع الاستثمار، بدلاً من صرف عين الخمس، نوعاً من تسديد الخمس. راجع: مكارم الشيرازي، أنوار الفقاهة، كتاب الخمس (الأنفال): 576 ـ 577.
([6]) يد الله دادكر، ماليه عمومى و اقتصاد دولت: 160 ـ 162.
([7]) القرضاوي، فقه الزكاة 1: 487 ـ 520.
([8]) لشكري، نظام مالياتى إسلام: 174 ـ 175.
([10]) قيد الميزانية، ويقصد به مستوى الدخل أو المرتب الذي يمتلكه الشخص، ويستفيد منه في نفقاته.
([11]) لشكري، نظام مالياتى إسلام: 164.
([12]) ريتشارد . أ . ماسجريو، ماليات عمومي در تئوري وعمل: 877، ترجمة: مسعود محمدي.
([13]) سعر التنزيل هنا مساوٍ للفائدة أو الربح الذي يتعلق بالسهم المتبقي من الدخل بعد استثناء الضريبة بإضافة واحد.
([14]) علي رضا شكيبائي، ماليه عمومي: 87.