حوار هام بين د. سروش(*) والشيخ جعفر السبحاني(**)
ترجمة: السيد حسن علي مطر الهاشمي
مدخل ـــــــ
أثار الرأي الذي أبداه الدكتور عبد الكريم سروش حول الوحي مؤخراً ضجّة في الأوساط الدينيّة، ودعا بعض المؤمنين الغيارى إلى التفكير والخشية من أن يؤدي ذلك إلى إنكار الوحي بالمصطلح التقليدي في علم الكلام، وقد تصدى عدد قليل من علماء الحوزة العلميّة إلى الإجابة عنه، بينما اكتفى الكثير بالتهويل وإثارة الضجيج وذرف الدموع وتهييج العواطف، مريحاً نفسه من عناء البحث والتحقيق، الأمر الذي شجّع شخصاً عديم الخبرة، ولا يحسن غير صنعة إنتاج الأفلام، أن يتسنم صهوة الفقاهة ليصدر فتاوى التكفير.
والذي نقدمه هنا ونضعه بين أيدي المفكرين والعلماء، هو الحوار الذي فتح حول هذا الموضوع، وننتهج فيه ــ بدلاً من أسلوب التكفير الذي هو سلاح الجهال والعاجزين ــ منهج التحقيق، الذي هو ديدن العلماء والمحققين.
إنّ الذي أخرج هذهِ المسألة من حياض الضجيج، وساقها نحو أودية العلم، إجابة الأستاذ الشيخ جعفر السبحاني، وهو من مشاهير أساتذة الحوزة العلمية في قم المقدسة، حيث سار على نهج العلماء والأئمة^ وسعى إلى إجابة الدكتور سروش من خلال الطرق العلمية، والذي كان ملفتاً للانتباه إجابة الدكتور سروش العلمية عن إجابة الأستاذ جعفر السبحاني، ولو أمكن لنا أن نحذف بعض التعابير لأصبح الحوار من كلا الطرفين علمياً مئة بالمئة.
ومهما كان فهناك في هذا الحوار بعض الأمور المهمة لمن يتابع هذا الحوار:
1 ــ لقد شغلت ظاهرة الوحي أذهان المحققين وعلماء الإسلام وغيرهم منذ القدم، وظهرت نظريات متضادة حتى بين علماء المسلمين والمتكلمين أنفسهم، ولا يتسع المجال لذكرها هنا (وقد ورد شطر منه في ردّ الدكتور عبد الكريم سروش)، فلا بد من القول: إن إعادة الآراء المتقدمة، وحتى أقوال علماء من قبيل الرازي، حول النبوة لم ينتج عنها سوى الإجابات العلمية.
2 ــ لا شك في أن الدكتور سروش معروف في العالم الإسلامي كشخصية دينية مجدّدة، وقد تعرضت آراؤه للنقد والتمحيص كثيراً، وقد قدم حتى الآن آراء جديدة حول الدين والمعرفة، خاصة في مسألة (القبض والبسط)، وقد كان لطرح هذهِ الآراء بركات كثيرة على الحوزويين وذوي الغيرة الدينية، وبفضل هذه البحوث مال الطلاب إلى تعلم الكلام والفلسفة، وطبعت كتب عديدة في نقد وتمحيص تلك الأفكار. وربما كان من الأمور التي أفضت إلى تطور علم الكلام الحديث في حوزة قم العلمية إثارة الشبهات التي أدت إلى نظرية القبض والبسط.
3 ــ يعدّ الشيخ جعفر السبحاني من العلماء القلائل الذين درسوا أو حققوا في علم الأصول والفقه، وتابعوا تفسير البحوث الكلامية، وإدراجها كمنهج تدريسي وتحقيقي على يد أساتذة من قبيل مصطفى ملكيان، وأساتذة مُبدعين آخرين في مركز الإمام الصادق التحقيقي، الذي تم تأسيسه بجهود منه، وألف أو أشرف على كتب كلامية كثيرة، وقد أُقرّ بعضها كمنهج دراسي في الحوزة العلمية.
وقد كانت هناك حوارات علمية كثيرة بين الشيخ السبحاني والدكتور سروش، وقد خرج كل واحدٍ من هذين العلمين بنتائج قيمّة من هذهِ المناقشات، على أمل أن يستمر هذا الحوار حول مسألة الوحي، والتي تعدّ من المسائل الكلامية الرئيسة، بل كانت هي سبب نشوء علم الكلام حيث الاختلاف في مسألة الوحي (كلام الله) هل هو حديث أو قديم؟ لا شك في أنّ هذهِ الشبهات والحوارات لو جوبهت في الماضي بالتهويل والضجيج وسياط التكفير وخنقت في مهدها لما شهدنا في عصرنا كل هذا التراث الثقافي. إن أمنية كل محقق أن يعمّ علم وحلم أمثال الأستاذ السبحاني في الحوزات العلمية ومحافل العلوم الدينية، ولا يسود الذعر من طرح البحوث والمسائل الجديدة. ولو أن الشهيد المطهري كان قد أوجس خيفة عند دخوله في الجامعة من الشبهات الماركسية والوجودية وخلع رداء الحلم عن قوام علمه لما بلغ ما بلغ من المدارج العلمية، ولو أغلق الإنسان باب ذهنه دون أفكار الآخرين، وخلع على كل ما ورثه من أفكار المتقدمين رداء التعصب، وسلك في تدينه مسلك الخوارج والأشاعرة، فإنه سيسلك طريقاً مخالفاً لتعاليم القرآن والنبي’، حيث كان شعاره الدعوة إلى التعقل في جميع المواطن.
4 ــ إن الذين لا يسعهم تحمّل طرح هذهِ البحوث، لو كان لديهم القدرة على التحقيق والتتبع، وراجعوا كتب الأئمة^ في الاحتجاج، لوجدوا أن الأئمة^ لم يستخدموا بإزاء الشبهات ــ التي يزعم الكثير من العلماء المعاصرين تفشي فسادها في كل مكان ــ سوى سلاح العلم وذخيرة الحلم، ابتداءً من شبهات التجسيم إلى سهو الأنبياء وأخطائهم، وإنكار المهدوية وعصمة الأئمة، وعلمهم بالغيب، مما كان يطرح بحضرتهم^، ولولا إجاباتهم العلمية المبثوثة في تضاعيف الكتب لما بلغت المعارف الإسلامية والشيعية هذا المستوى من القوّة والرصانة. ومن الأمور التي تثير الحسرة عند كل مفكر عدم ظهور أمثال الدكتور سروش بين الحوزويين والجامعين، ولو لم يقترن هذا الحضور بالمسائل السياسية لكان من المحتمل أن ينحو تفكير أمثال الدكتور سروش منحىً آخر، وكذلك الأمر بالنسبة إلى أولئك الذين يواجهونه علمياً.
وما أروع الحديث الوارد عن الأئمة الأطهار عليهم السلام ، حيث قالوا: <اضربوا بعض الرأي على بعض حتى يتولد منه الصواب>.
إن طرح المسائل التي تبدو غريبة لدى البعض إذا جوبهت بالشجب والإنكار، واعتبرت مختومة، دون معالجتها بأسلوب علمي، فسوف لا ينتج عنها إلا مزيدٌ من الشبهات غير المجاب عنها، لقد طرح السيد مجتهد الشبستري بحثاً حول القراءة النبوية عن العالم فأدى ذلك إلى إغلاق مجلة المدرسة، فاختفى الكثير من الأجوبة العلمية، أو المسائل الأخرى التي كان من الممكن طرحها إلى جانب ذلك البحث، وذلك لأن إغلاق مجلة بسبب نشرها لمقالة علمية تقتل طموح المحقق، فبماذا يفكر أولئك الذين يتصورون أنفسهم قد أدوا ما عليهم من الوظيفة الشرعية والثقافية بإغلاقهم مجلة، ومنعها من الصدور، في حين أنهم لا يمنعون سوى تقدم العلوم وانتعاشها.
5 ــ من المشاكل التي يعاني منها بعض العلماء الكبار؛ بسبب كثرة مشاغلهم، الاكتفاء بالتقارير التي تنشرها وسائل الإعلام عن الحوارات العلمية، وللأسف الشديد علينا القول: إن الاتجاهات العلمية أخذت في عصرنا الحاضر طابعاً حزبياً وسياسياً، فيتم الترويج لمقالة أو رأي علمي بإعطائه عنواناً جارحاً أو مثيراً. وبطبيعة الحال لا يمكن الحكم على مقالة أو رأي علمي دون قراءته بأجمعه بدقة وتمحيص. ففي هذا العصر؛ وبسبب تطور العلوم وشموخ العقل الناقد، فقد الكثير من الأمور ـ التي كانت مقبولة في السابق ـ بداهتها، وخضعت لمجهر النقد والتحليل، فعلى علماء الحوزة أن يتقبلوا عناء البحث، وإظهار هذهِ المسائل على العلن، وعلى الطلاب والمبدعين إن يواجهوا هذهِ المشاكل، ولا ينبغي لنا أن نجيز طرح مسألة علمية وشجبها من خلال حمل عدد من اليافطات فور الانتهاء من صلاة الجمعة، أو في الأماكن الأخرى، وحتى من خلال الأبواق والخطب؛ فإن مثل هذهِ السلوكيات مرفوضة من قبل أئمة الدين، ولا يستسيغها العالم المعاصر.
نص المناظرة المكتوبة بين الشيخ السبحاني والدكتور سروش ـــــــ
تنويه ـــــــ
بعد نشر البحوث والنظريات الأخيرة للدكتور عبد الكريم سروش حول القرآن الكريم والنبي الأكرم’ عبر وسائل الإعلام المكتوبة والإلكترونية بادر عدد من المفكرين في الحوزة والجامعة إلى تقييم هذهِ البحوث وإخضاعها للنقد والتمحيص، وكان أحد هذهِ الأجوبة مقالاً بقلم الشيخ جعفر السبحاني، وبعد ذلك بعث الدكتور سروش رسالة جوابية على مقال الشيخ السبحاني، فردّ الأخير على هذهِ الرسالة ثانية، وقد تم نشر هذهِ الرسائل الثلاث في الصحف.
الرد الأول للشيخ جعفر السبحاني ـــــــ
تمهيد ـــــــ
لقد بلغت عداوة الغرب للإسلام ذروتها، بعد أن حمل الإعلام الهولندي لواءها بالأمس ليدفعه اليوم إلى الإعلام الدانمركي، فيبلغنا أن البلد الأخير قد نهض بأعباء مناهضة الإسلام من خلال الفن التشكيلي، ويسعى إلى تشويه صورة النبي والقرآن أمام الرأي العام من خلال الرسوم الكاريكاتورية وعرض الأفلام، في مثل هذهِ الظروف والأوضاع قرأت حواراً للسيد عبد الكريم سروش قد نُشر على أحد مواقع الإنترنت.
ولا أستطيع القول من دون دليل قاطع أن ما قرأته في هذا الحوار يمثل رأي الدكتور سروش، إلا أنني أستطيع أن أعتبر سكوته وصمته إزاء هذا التقرير ذنباً لا يغتفر. ففي الظروف التي شمر فيها ملاحدة الغرب عن سواعدهم لمحاربة الإسلام وتهميش المسلمين يصدح شخص عاش في الأوساط الإسلامية، وترعرع بين العلماء والمفكرين، ولطالما كان كلامه زينة الإعلام الإيراني، بكلام مفاده أن القرآن الموجود بين أيدينا هو من صنع النبي، وقد تفتق عنه ذهنه! وإنّ النبي كان له الدور المحوري في إيجاد القرآن!
لقد أرسلت رسالة مفتوحة للسيد سروش نوهت فيها إلى شطحاته في مسألة الإمامة والخلافة، وطالبته مرة أخرى بالعودة إلى أحضان الأمة الإسلامية، وخاصة العلماء والحوزات العلمية، وليعلم أن هذا النوع من الضوضاء والضجيج سريع الزوال، فهو كزبد الأمواج التي تتكسر على رمال السواحل، ثم تضمحل ولا يبقى منها أثر، ولا يبقى غير الحق والحقيقة، وكنت أتصور أن تلك الرسالة الأبوية ستؤثر فيه ــ إذ أعرب الذين قرأوها عن إعجابهم بها ــ إلا أن حواره الأخير قد زاد من حزني وأسفي، وأخذت أفكر في مدى سعة هوّة الانحراف لدى هذا الشخص، وكونها آخذة في الاتساع يوماً بعد يوم، وطفقت أتساءل عن سبب ذلك، مع أنه ربيب الحوزة والجامعة. وبرغم صباحة وجهه وعذوبة بيانه، وقد كان مدرساً لنهج البلاغة مدة طويلة، وكان يفسر خطبة همام بأسلوب مؤثِّر وأخاذ، فما الذي أصابه يا ترى حتى يبتعد عن هذهِ المجموعة كل هذا البعد؟!
إلا أنني سأتجاوز هذهِ المقدمة، وأبقي على بوابة الأمل في صلاحه مفتوحة على مصراعيها، من خلال كتابة هذهِ الرسالة، ونقد أفكاره، عسى أن يقرأها، ويعود إلى أحضان الإسلام.
مذهب الشك أو السفسطة، آفات ومخاطرات ـــــــ
ظهر في القرن الخامس قبل الميلاد في اليونان القديمة جماعة تقول بمذهب الشك في كل شيء، حتى في وجودهم، وأخذوا يشيعون أفكارهم وعقائدهم الغريبة، وقد سيطر الفكر السفسطائي على الذهنية اليونانية ردحاً من الزمن، حتى تم القضاء عليه بعد ذلك من قبل الحكماء والعلماء الكبار، كسقراط وأفلاطون وأرسطو، حيث أظهروا المغالطات التي كانت تنطوي عليها أدلتهم، وتمكنوا من القضاء على وباء السفسطة، وتمكن أرسطو من خلال تدوين علم المنطق من تنظيم الفكر على الأسس الواقعية، وبرغم ذلك لم يمض وقت طويل حتى ظهر مذهب آخر باسم (اللاأدرية) على يد (بيرهون، 275 ــ 365م)، وتحول مذهب إنكار الواقع إلى مذهب الشك المطلق، إلا أن هذا المذهب لم يكتب له البقاء طويلاً، وسرعان ما دفن في مقابر التاريخ .
إن لفلاسفة الإسلام، كالشيخ الرئيس، ومن بعده صدر المتألهين، كلاماً جميلاً في هذا الشأن، يمكن للراغبين مراجعته في كتابنا <نظرية المعرفة في الفلسفة الإسلامية>.
وقد ظهر مذهب التشكيك في الانبعاثة الغربية التي حدثت مؤخراً، متخذة هيئة علمية، وقد تجلت همم مجموعة من فلاسفة الغرب ــ بدلاً من رفع بناء الفلسفة الرصين ــ في تقويض هذا البناء ثانية، وكان كلّ ما أبدعوه هو الحديث بشك وترديد، وكما قال السيد فروغي: لم يبلغ إبداع الفلاسفة الإنجليز إلا أن حطموا صرح الفلسفة الرفيع الذي كان قائماً، دون أن يضيفوا شيئاً جديداً.
لا جدال في كون الشك معبراً إلى اليقين، فما لم يشك الإنسان لا يصل إلى اليقين، إلا أن الشك إنما يكون مرغوباً فيه إذا كان قنطرة موصلة إلى اليقين، وأن يكون ممراً لا مقرّاً، ولكن للأسف الشديد يبدو أن الشك عند هذهِ الجماعة قد أضحى مقراً، ولم ينظروا إليه كممرّ.
والآفة الأخرى الناتجة عن هذا النهج التشكيكي تكمن في طرح النظريات دون إقامة أدنى دليل أو برهان عليها، وكلما قيل لهم: ما هو دليلكم على ذلك؟ يقولون:(I think) ، أي: (أنا أفكر)، ولكن سؤالنا هو: لماذا تلجأون إلى مثل هذا التفكير؟ وإذا قيل لهم: هاتوا برهانكم يغدو السؤال محظوراً!!
يقول الشيخ الرئيس: كلما قبل شخص كلام آخر من دون دليل يكون منسلخاً عن الفطرة الإنسانية، ولكن للأسف الشديد يبدو أن هذا الداء (التنظير من دون دليل) ـ ومن خلال الخطب الحماسية ـ آخذ في الاتساع تدريجياً، في حين أن منطق القرآن يقول: ﴿قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ﴾.
لقد أبدى السيد سروش في بحثه السابق (بحث الإمامة والخلافة) جفاء بالنسبة للأئمة^، إلا أنه تمادى في بحثه هذا بشكل أكثر، حيث تطاول على حريم الوحي والقرآن، وأنا أسأل الله أن يقف عند هذا الحد، ولا يتمادى أكثر فيعرض سعادته الأخروية (وهو يريدها قطعاً) إلى الخطر.
خلاصة نظرية البُعد البشري في الوحي والقرآن ـــــــ
الحقيقة أنه وقع في بيان نظريته في الاختلاف والتناقض، ولم يتمكن من لملمة أطرافها وحصرها في نقطة واحدة، وقد خبط، كما يقول المثل، خبط عشواء، حتى إذا تم الاعتراض على نقطةٍ أمكنه المحيص عنها، وهنا ننقل كلامه في عدة نقاط:
1- تجربة كتجربة الشعراء! ـــــــ
يقول الدكتور سروش: إن الوحي إلهام، وهو نفس التجربة التي يتلقاها الشعراء والعرفاء، وإن كان النبي يحصل عليها بمستوى أعلى، وإننا نفهم الوحي في عصرنا المتطور من خلال الاستفادة من الاستعارات الشعرية، وقد ذكر أحد فلاسفة المسلمين أن الوحي أعلى درجات الشعر.
وقفة تحليلية نقدية ـــــــ
إن هذهِ النظرية ليست نظرية جديدة، فهي نفس ما كان يقوله المشركون في مكة بشأن تفسيرهم لظاهرة القرآن، حيث كانوا يقولون: كما يخلق امرؤ القيس المعاني والألفاظ في ضوء الإلهام كذلك يصنع محمد، حيث يصوغ الألفاظ والمعاني، ومن المؤكد أن مرادهم من الشعر ليس هو الشعر المنظوم، بل هو ما يتوصل إليه الإنسان ويتخيله عن طريق التفكير، سواء أكان في قالب النظم أو في قالب النثر، والقرآن الكريم ينقل هذهِ النظرية عنهم وينتقدها،قال تعالى: ﴿وَيَقُولُونَ أَئِنَّا لَتَارِكُوا آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَّجْنُونٍ﴾ [الصافات: 36]، وقال أيضاً: ﴿أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَّتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ﴾ [الطور: 30].
وأحياناً يفسرون القرآن بأحد طرق ثلاثة تنتهي بأجمعها إلى غاية واحدة، وهي أن القرآن من بنات أفكار النبي، فيقولون حيناً: إنها أحلام ومنامات، وتارة: إنه متقوّل على الله، وتارة أخرى: إنه شاعر صاغ تصوراته في قالب القرآن، قال تعالى:
﴿بَلْ قَالُواْ أَضْغَاثُ أَحْلاَمٍ بَلِ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ شَاعِرٌ﴾ [الأنبياء: 5].
وقال تعالى في نقد هذهِ الأقوال:﴿وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ﴾[الحاقة: 41]، وفي آية أخرى: ﴿وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُّبِينٌ﴾ [يونس: 69].
إذاً فقد صنف المشركون النبي في عداد الشعراء، وإن النظرية التي نناقشها هنا ليست سوى صدىً لما كان يردده المشركون، وإن كان قد عبر عنها بكلمات أسمى، إلا أن منشأ القولين واحد.
ولو أنه قال: إن الشعراء كانوا يستلهمون أفكارهم من أنفسهم، في حين أن النبي يستلهمها من المقام الربوبي، لكان حمل المتعاطفين في كلامه من باب عطف المتباينين، وقد ثبت في محله أنّ عطف المباين على المباين مُخلٌّ وقبيح.
وإذا أعرضنا عن ذلك نتساءل عن دليل هذهِ النظرية؟ هل هناك شاهد عليها؟ للأسف فإن هذا الحوار بأجمعه عبارة عن سلسلة من التصورات والمفاهيم غير المدعومة بدليل يثبتها، فلو كان القرآن في حقيقته مجرد خيال شعري، وإن كان على مستوى أعلى، فما معنى تحديه ولو بالإتيان بسورة واحدة مثله؟ فأي شاعر تحدى الآخرين طوال حياته الشعرية وأعجزهم أن يأتوا بمثل قصائده إلى يوم القيامة؟
وهنا يمكن القول أيضاً لصاحب هذهِ النظرية: إن التفسير الذي تقدمه عن القرآن لا يعدو في واقعه أن يكون نوع تجربة شعرية ليس إلا، أي إن نفسكم قد تفتقت عن هذهِ النظرية، وألقتها على صفحة الذهن، وأجرتها في مداد القلم وأطراف اللسان، دون أن يكون هناك واقع وراءها.
فلو كان الشعر وما شابهه فاقداً لقيمة الخلود كان كلامك من هذا السنخ أيضاً.
2- فرضية خلق النبي للقرآن وإبداعه له! ـــــــ
وقال في موضع آخر: إن الاستعارة الشعرية تساعد على توضيح هذهِ المسألة، فالنبي يستولي عليه نفس إحساس الشاعر، وإن هناك قوة خارجية تسيطر عليه، ولكن في الحقيقة فإن شخص النبي في تلك الحالة يمثل كل شيء، فهو الخالق والمبدع، ولا موضوعية للحديث في كون هذا الإلهام من الداخل والخارج؛ إذ لا تفاوت ولا تمايز على مستوى الوحي بين الداخل والخارج.
الخلط بين التجربة الشعرية والتجربة النبوية، اتّباع سبيل المستشرقين!! ـــــــ
إن هذا الكلام يعني أن صاحب هذهِ النظرية يرى أن القرآن تجلٍّ لما يكمن في شخصية النبي الأكرم’، وهو ما يصطلح عليه بالوحي النفسي، وإن أول من فسر الوحي بشأن الأنبياء من خلال تجليات الشخصية الباطنة هم القساوسة والمستشرقون في بعثاتهم التبشيرية، وأكثر من أثار الغبار حول هذهِ المسألة مستشرق يدعى (درمنغهام)، حيث سعى من خلال محاولاته الصبيانية إلى التعريف بمصادر القرآن، وأن منها تجليات الشخصية الباطنية، وقد بيّن نظريته على النحو الآتي: لقد أدرك محمد بعقله الباطن ــ أو بعبارة أخرى عصرية: شخصيته الباطنية ــ خواء الشرك، ولكي يبلغ مقام النبوة جرّد نفسه لعبادة الله، وأخذ ينفرد في غار حراء متعّبداً حتى بلغ به الإيمان أعلى درجاته، واتسعت آفاقه الفكرية، وتضاعفت بصيرته، حتى غدا جديراً بتحمل أعباء النبوة وهداية الناس، فكان دائم التفكير حتى أيقن أنه ذلك النبي الذي اختاره الله لهداية الناس، وقد كان هذا الوعي يتراءى له وكأنه وحي من السماء ينزل عليه وأن ذلك الخطاب يبعثه الله إليه عن طريق جبرائيل([1]).
إن الذي يميز إحساس الشعراء عن إحساس الأنبياء^، هو ذلك الأمر الذي لم يعترف الدكتور سروش بموضوعيته، فإن مصدر إلهام الشعراء ينبع من داخلهم، في حين أن مصدر إلهام الأنبياء ينزل عليهم من الخارج.
وإن الذين لا يمتلكون باعاً في المسائل الفلسفية والعرفانية لا يستطيعون التفريق بين هذين النوعين من الإلهام والإحساس، ولذلك كان المشركون في عصر رسول الله’؛ بسبب عدم قدرتهم على التمييز بين هذين النوعين من الإحساس، يتساءلون عن كيفية إمكان أن يلهم شخص من خارجه ويؤمر بهداية الناس؟ وقد عكس القرآن تفكيرهم هذا على النحو الآتي: ﴿أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِّنْهُمْ أَنْ أَنذِرِ النَّاسَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُواْ أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِندَ رَبِّهِمْ قَالَ الْكَافِرُونَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ مُّبِينٌ﴾[يونس: 2].
لقد كانت للمناوئين في مواجهة الوحي المحمدي عبر التاريخ توجيهات وتصورات، إلا أن ماهية هذهِ التوجيهات والتفسيرات الباطلة واحدة في جميع العصور، فالذي نشهده حالياً هو نفس التهم والشتائم والسفاسف التي كان يطلقها أبو جهل وأبو سفيان، ولكن بأسلوب عصري بعد إلباسها ثوب التحقيق العلمي.
3- نظرية الصياغة النبوية للمفاهيم الإلهية، أزمة فراغ الأدلّة ـــــــ
ذهب صاحب هذهِ النظرية في العبارات المتقدمة عن طريق الإجمال والتفصيل إلى أن القرآن من صنع النبي، وأن النبي’ هو خالق القرآن، إلا أنه قال في هذا الحوار نفسه في موضع آخر: كما أن النبي خالق للوحي بنحو آخر، أي إن الذي يتلقاه من الله تعالى هو مضمون الوحي، إلا أنه من غير الممكن نقل هذا المضمون إلى الناس؛ لكونه فوق مستوى فهمهم، بل هو فوق الكلمات، فالوحي لا صورة له، ومسؤولية النبي أن يعمل على تصوير هذا المضمون ليضعه في متناول جميع الناس.
فهو يعتبر أن المفاهيم والمعاني صادرة من عند الله، إلا أن الشكل والصورة والألفاظ والكلمات من صنع النبي، وبذلك ينكر شطراً من إعجاز القرآن المتمثل في جماليه الألفاظ ومتانة التعبير.
وعليه يكون القرآن عملاً مشتركاً بين الله والنبي، وكأنّ القرآن شركة استثمارية، يكون فيها التمويل على الله، والتسويق على النبي الأكرم ـ والعياذ بالله ـ.
وهنا نتساءل: أليست هذهِ النظرية أدنى من النظرية الأولى؟ ففي تلك النظرية كان كل شيء ينسب إلى رسول الله، سوى رابطة ضعيفة مع الله، ولكن هنا توجد مشاركة لا صورة لها من قبل الله، وصياغة وتصوير من قبل النبي!
وكذلك ينبغي أن نسأل: ما هو دليلكم على هذهِ المشاركة؟ فالله القادر على إنزال المفاهيم هل يعجز عن تصويرها وصياغة قوالبها اللفظية؟
مضافاً إلى ذلك فإن القرآن يشهد على خلاف هذهِ النظرية، حيث أمر النبي مراراً أن يقول: ﴿قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ﴾، أي إن المفاهيم والصور كلاهما من عند الله.
4- فرضية الثأثير التاريخي في بناء القرآن، إشكالية التناقض مع النص القرآني!! ـــــــ
يذهب صاحب هذهِ النظرية حيناً إلى أن النبي قد أبدع القرآن بشكل مستقل، ويقول: إنه’ تولى كل شيء، وكان له دور محوري؛ وتارة يقول: كان هناك نوع من المشاركة بين الله والنبي؛ ويحاول القول تارة أخرى: إن الظروف التي حكمت حياة النبي أنتجت هذهِ المفاهيم والأفكار والمعاني، وبعبارة أخرى: يرى أن الزمان هو الذي أبدع القرآن الكريم، حيث قال: <لقد كان لتاريخ حياته وحياة أبيه وأمه، وفترة طفولته وصباه، وحتى حالاته الروحية، دور في إبداع القرآن، فإذا تلوتم القرآن تشعرون أن النبي’ كان في بعض الأحيان فرحاً طروباً وفي غاية الفصاحة، في حين تجدونه في أحيان أخرى مفعم بالضجر، ويلجأ إلى بيان مراده بكلمات عادية جداً، مما يعكس جانب الوحي البشري>.
وهنا نقول: إنه يحاول من خلال هذا الكلام تعريف القرآن على أنه كتاب بشري مئة بالمئة، وأن النبي‘ شأنه شأن سائر المؤلفين الذين يتأثرون في كتاباتهم بالظروف التي تسود حياتهم، وإذا كان ذلك صحيحاً فلماذا يؤكد الله تعالى على نفي ذلك، ولا يرى تأثيراً لغير عامل الوحي في صنع القرآن، حيث قال: ﴿وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى * عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى﴾ [النجم 3ـ5].
إنّ الحديث عن بشرية القرآن الكريم يتناقض ومئات الآيات القرآنية، ومنها:
1 ـ ﴿وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفًا كَثِيرًا﴾ [النساء: 82].
2 ـ ﴿كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ﴾[إبراهيم: 1].
3 ـ ﴿إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ﴾[يوسف: 2].
4 ـ﴿وَهَذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ﴾ [الأنعام: 92].
فبعد هذا البيان الصريح كيف نعده كتاباً بشرياً، وأنه من صنع الإنسان، هذا ولم يشك أحد في صدق النبي‘ وأمانته.
قال تعالى: ﴿نَتْلُوا عَلَيْكَ مِن نَّبَإِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ﴾ [القصص: 3].
تصرح هذهِ الآية بأن تلاوة الآيات إنما هي من قبل الله، وأن كلا من القالب والمحتوى منه تعالى.
إلى هنا قمنا ببيان أصل نظريته، التي أفادها بأربع صور مختلفة، دون أن يدعمها بدليل، ونفس هذا التناقض خير شاهد على خواء هذهِ النظرية، وعدم قيامها على أيّ أساس.
بين عصمة الوحي وعلم الأنبياء ـــــــ
ولديه أيضاً إلى جانب هذهِ النظرية سلسلة من الشطحات والكلام غير اللائق، نشير إليها بشكل عابر:
1ــ يقول الدكتور سروش: يذهب أكثر المفسرين المعاصرين إلى عصمة القرآن والوحي عن الخطأ في المسائل الدينية البحتة، كصفات الله، والحياة بعد الموت، وأسس العبادات، ويذعنون بإمكان خطأ الوحي في المسائل المتعلقة بهذا العالم والمجتمع الإنساني، وأن ما يقوله القرآن حول الوقائع التاريخية وسائر الأديان وسائر الموضوعات العلمية الأرضية ليس من الضروري أن يكون صحيحاً. ويستدل أكثر هؤلاء المفسرين بأن هذا النوع من الأخطاء في القرآن لا يضرّ بنبوّة النبي’؛ لأن النبي إنما يتحدث بالمستوى العلمي الذي توصل له الناس في عصره، كما أنه يتحدث بلسان قومه.
وهنا نقول: إنه يستعمل كلمة (أكثر)، ويتهم بها المفسرين المسلمين، فأيّ مفسر مسلم ذهب إلى إمكان خطأ القرآن في ما يتعلق بمسائل الحياة طوال هذهِ القرون الأربعة عشر؟ لا ينسب هذهِ الفرية إلى القرآن غير المستشرقين وأذنابهم، من قبيل: رئيس الفرقة القاديانية، والمتأثرين بهم، كبعض الكتاب المصريين.
مضافاً إلى أننا نسأل عن معنى التفريق في موارد الخطأ، فيقال بأن النبي في ما يتعلق بما وراء الطبيعة لا يقول غير الحق، ولا يرى سوى الواقع، وأما في ما يتعلق بالمسائل العينية والملموسة فيمكن أن يجانب الصواب والحقيقة؟ ولو تحدّث مفسر واحد حول آيةٍ له فيها رأي شاذ لا يكون كلامه دليلاً ساري المفعول وقاعدة كلية.
يعدّ القرآن الكريم علم النبي أعظم الفضائل الإلهية، ويقول: ﴿وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا﴾ [النساء:113]، فكيف يكون العلم الذي عدّه القرآن عظيماً قابلاً للخطأ في القسم الثاني من أقسام الوحي؟
2 ــ ثم يتمادى أكثر فيصف علم النبي’ قائلاً: لا أتصور أن علمه’ يفوق علم المعاصرين له في ما يتعلق بالأرض والكون والجينات الوراثية، ولم يكن لديه العلم الذي نمتلكه حالياً، ولا يضر هذا بنبوته، لأنه إنما كان نبيّاً، ولم يكن عالماً أو مؤرخاً.
وهنا نتساءل: ما هو دليلكم على أنه لم يكن على علم بهذهِ الأمور، وأن علمه بشأنها لم يتجاوز علم الجاهليين؟
لا نريد البحث هنا حول الإعجاز العلمي في القرآن؛ لأننا تحدثنا عن ذلك بالتفصيل في كتابنا (حدود الإعجاز)، فقد كشف النبي الأكرم’ من طريق الوحي، وخلفاؤه المعصومون عليهم السلام كعلي عليه السلام في نهج البلاغة، والإمام السجاد عليه السلام في الصحيفة السجادية، النقاب عن سلسلة من الحقائق العلمية التي لم يكن بإمكان الناس في ذلك العصر وما بعده حتى تصورها، فمن عدم الإنصاف أن ننكر جميع تلك الحقائق العلمية الواردة في تلك الكتب، ثم نعتذر بأنه’ إنما كان نبيّاً ولم يكن عالماً، وكان رسولاً ولم يكن مطلعاً على الأسرار!
اتهام المعتزلة بالقول ببشرية القرآن ـــــــ
وقد حاول صاحب هذهِ النظرية القائلة بأن القرآن من صنع النبي أن يعثر لنفسه على شريك يحمل عنه وزر هذهِ الفرية، فلم يجد غير المعتزلة، فقال: إن الاعتقاد بأن القرآن نتاج بشري، ويمكن عليه الخطأ بالقوّة قد جاء التلويح به في عقائدهم.
ونقول: إن المعتزلة رغم انقراضهم، وعدم بقاء شخصية علمية بارزة منهم، إلا أن كتبهم بمتناول الجميع، وحاشا هذهِ الفرقة أن تقول بخلق القرآن بمعنى كونه من صنع النبي’.
ولقد تم طرح هذه المسألة أول مرة في القرن الهجري الثاني من قبل النصارى في البلاط العباسي، حيث أثاروا مسألة كون القرآن حديثاً أو قديماً، فذهبت جماعة إلى قدمه، بينما ذهبت جماعة أخرى إلى حدوثه، فقال المحدّثون بقدم القرآن، وقال المعتزلة بحدوثه؛ إذ لا قديم بالذات سوى الله، وجميع ما سواه حادث، ومنها القرآن؛ لأنه فعل الله، وفعله لا يخرج من دائرة الحدوث، وإذا قالوا بكونه مخلوقاً فبمعنى أنه مخلوق لله، لا أنه مختلق، وأنه من صنع بنات أفكار النبي، ولذلك أصرّت رواياتنا على عدم وصف القرآن بالقدم أو الحدوث؛ لما في القدم من شائبة الشرك، ولما في وصفه بكونه مخلوقاً من محذور إساءة الاستفادة والذهاب إلى اختلاقه، وأنه من صنع النبي، ولذلك كان المشركون في عصر رسول الله ‘ يستخدمون هذا التعبير ويقولون: ﴿مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلَاقٌ﴾ [ص: 7].
مولوي والعرفاء بين بشرية القرآن وإلهيته ـــــــ
ولكي لا يبقى وحيداً أيضاً لجأ إلى مولوي وقال: إن القرآن مرآة ذهن النبي، والدارج في صميم كلام مولوي أن شخصية النبي وتغيّر أحوالها وأوقاته السعيدة والعصيبة منعكسة بأجمعها في القرآن.
ونقول: من السهل أن تنسب شيئاً إلى شخص، ولكن من الصعب إثبات ذلك، ففي أي بيت ورد ما استفاده الدكتور سروش؟ والحال أن لمولوي مئات الأبيات الشعرية التي تتحدث بصراحة عن خلاف ما يقوله سروش، ومنها ما مضمونه: <ما إن نزل القرآن حتى وصفه الكافرون بأنه من الأساطير، في حين أنه كان جارياً على لسان النبي، ولكن من قال: إنه ليس من الحق فهو كافر>.
تحديد وظيفة المسلمين ـــــــ
وفي ختام كلامه يتوجه إلى المسلمين ويحدد لهم وظيفتهم، ويقول: إن واجب المسلمين حالياً أن يترجموا جوهر القرآن بما يتناسب واختلاف الزمان.
وسؤالنا: بعد أن ذهبتم إلى كون هذا الكتاب بشرياً وقابلاً للخطأ، فما هي الضرورة إلى ترجمته وتفسيره؟ وما هي ضرورة التستر على هذهِ الأخطاء؟ كما إنكم بتعريف القرآن بوصفه كتاباً بشرياً يحتمل في حقه الخطأ قد انسلختم عن المجتمع الإسلامي، وعليه لا نرى حاجة لنصائحكم، فالذي يجوز له أن ينصح هو الداخل في ربقة المجموعة، وأما الخارج عنها فلا يصلح لقيادتها ونصحها ووعظها.
وفي الختام أكرر القول بأنني قد كتبت هذهِ الرسالة والحزن والألم يعتصرني بشدة، ولكن مع ذلك آمل أن لا يكون هذا الحوار قد جرى مع الدكتور سروش، وأن لا يكون ما ورد فيه قد صدر عنه حقيقة، أو نتمنى في الأقل أن يكون المترجم أو المترجمون قد اخطأوا في ترجمتهم، وفي هذهِ الصورة عليه أن يقوم برفع الشبهات لتعود المياه إلى مجاريها، وأطلب من صاحب النظرية مراجعة كتابنا (نقد بيست وسه سال) حول الوحي النبوي والشبهات التي أثارها المستشرقون وأذنابهم حوله، فقد أثبتنا فيه بوضوح أن جميع هذهِ الشبهات المنمقة تعبير آخر عن الشبهات التي أثارها المجتمع الجاهلي، فالمحتوى واحد والأسلوب مختلف، والفارق بينهما أن العربي الجاهلي في عصر الرسالة لبساطته كان يطلق الشبهة عارية صريحة، في حين أن المتجددين يمنحونها صبغة علمية، ويقدّمون السراب بوصفه ماءً!
جعفر السبحاني
6/12/1386 هـ ش (2008م)
البشر والبشير: جواب د. سروش على رسالة الشيخ السبحاني ـــــــ
بعد التحيّة والسلام، لقد قرأت رسالتكم الأبوية الموقرة، فوجدتها مشتملة على الموعظة الحسنة، والمجادلة بالتي هي أحسن، ولست أشك في أن واجبكم الديني وغيرتكم الإيمانية هي التي دفعتكم إلى كتابتها، ولا أجيز لنفسي أن أقول ـ كما قلتم ـ أنّ هناك أيادي خفيّة تعمل على توظيفكم لتحقيق مآربها، إذ ليس هناك ما يدعو إلى ذلك، ولا أمتلك دليلاً عليه، ولا أجد التفوّه بمثل هذهِ الكلمات لائقاً بالبحث العلمي والمنصف، وقد سبقكم أربعة من فضلاء الحوزة العلمية، فأسهموا في مناقشة هذا البحث بأسلوب علمي وتحليلي واستدلالي بعيد عن التهويل والتكفير، وقد عجبت من قولكم: يمكنني اعتبار سكوته تجاه هذا التقرير ذنباً لا يغتفر، فهل أيقنتم بأنني آثرت السكوت ولم أتكلم في هذا المورد؟ ألم تقرأوا الحوار الذي أجريته مع جريدة (كارگزاران) حول هذا الموضوع؟ أم أن الذنب يعود إلى أولئك الوشاة الذين يعملون على تقطيع الحقائق، فينقلون منها ما يروقهم، ويُعرضون عما لا يروقهم؟ وهنا سأنقل ذلك الحوار بعينه، ثم سأتعرض بالتفصيل إلى شطر مما ذكر إجمالاً، وستجدون فيه إجابات صريحة وكافية عن الكثير مما ذكرتموه، وذكره آخرون غيركم، من الانتقادات، وإني لعلى ثقة من أنكم لو سبق أن اطلعتم عليه لكفيتم مشقة الرد، وشملتنا رأفتكم، وكان لنقدكم منحىً آخر.
|
كلام محمد إعجاز محمد، نص حوار صحيفة كاركزاران مع د. سروش ـــــــ
* ذكرت بعض الصحف والمواقع على شبكة الإنترنِت أنّ الدكتور سروش أنكر نزول القرآن من قبل الله، ورأى أنه كلام بشري صدع به محمد’، فهل هذا صحيح؟
£ ربما أرادوا بذلك مجرد المزاح، أو كانت وراء ذلك دوافع سياسية وشخصية، أسأل الله أن يكونوا قد غفلوا عن حقيقة المعنى الذي أردته، وإلا فإن الذي يدرك الولاية الإلهية العامة، ومعنى قرب الأولياء من الله، ويعلم تجربتهم الاتحادية به، لا يتفوه بمثل هذا الإنكار، إن أولياء الله قد بلغوا من القرب من الله أن فنوا فيه، وأضحى كلامهم عين كلام الله، وأصبح أمرهم ونهيهم وحبهم وبغضهم عين أمر الله ونهيه وحبه وبغضه، لقد كان النبي الأكرم بشراً، وقد أقر نفسه ببشريته ﴿قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنتُ إَلاَّ بَشَرًا رَّسُولاً﴾، ولكن في الوقت نفسه فإنّ هذا البشر قد اصطبغ بصبغة إلهية، حتى ارتفعت الوسائط بينه وبين الله تعالى، بما فيها جبرائيل عليه السلام، فكانت جميع أقواله جامعة بين <كلامه الإنساني والوحي الرباني>، دون أن يكون هناك اختلاف بينهما.
أرجو من خلال التأمل في هذهِ الوقفة العرفانية أن تنحل عقدة الإشكال، وينجلي سرّ الكلام.
أين أصبح دور جبرائيل في الوحي؟! ـــــــ
* قد يقال: على هذا الأساس ما هو دور جبرائيل عليه السلام في إنزال الوحي؟
£يرى العرفاء أن جبرائيل عليه السلام لم يكن أقرب إلى الله تعالى من محمد صلى الله عليه وآله، بل إن جبرائيل تابع للنبي، وقد عجز جبرائيل في ليلة المعراج عن مواصلة المشوار مع النبي صلى الله عليه وآله وخشي من احتراق جناحه إن واصل العروج؟ وإلى هذا المعنى أشار الإمام الخميني بقوله: <إن النبي’ كان هو الذي يُنزل جبرائيل عليه السلام، فهل يعني هذا أن الله لم ينزل جبرائيل؟!
إن قولنا: القرآن كلام محمد صلى الله عليه وآله بمنزلة قولنا: القرآن معجزة محمد صلى الله عليه وآله تماماً، فكلاهما ينتسب إلى الله وإلى النبي’ بمقدار واحد، والتأكيد على أحدهما لا يعني إنكار الآخر، فكل ما يحدث في العالم إنما هو بعلم الله وإذنه وإرادته، وهذا مما لا يرتاب فيه موحِّد، فكلنا يعلم أنّ التفاحة ثمرة شجرة التفاح، فهل يتعين علينا أن نقول: إنّ التفاح ثمرة شجرة الله حتى نغدو موحِّدين؟ لا يليق بنا أن نلبس هذهِ الأشعرية القديمة مسوحاً تقديسياً معاصراً، بل علينا أن نتكلم وفقاً للقواعد، وأن ندرك معاني الكلام الدقيق، والذي ينطوي على الأسرار، على نحو حسن، فالقرآن ثمرة الشجرة الطيبة لشخصية محمد صلى الله عليه وآله التي أثمرت بإذن الله: ﴿تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا﴾، وهذا هو عين نزول الوحي والتصّرف الإلهي.
وهنا أتقدم بنصيحتين للمنصفين ــ أما غير المنصفين فلست أتقن اللغة التي يتكلمونها ــ بأن يتجنبوا سوء الظن بأولياء الله، وأن لا يحسبونهم بعيدين عن الله، وأن لا ينزلوا أحبّاء الله عن مسند القرب الإلهي (تم نصّ الحوار).
إذاً فكون القرآن محمديّاً (ومحمد صلى الله عليه وآله إنسان من جميع جهاته) أمر معقول ومبرهن، تدعمه الكثرة الكاثرة من العرفاء والمفكرين المسلمين، ويحمل من العمق ما يفوق عمق جبرائيلية القرآن، بمئات المرات ـ وهذا لا ينافي جبرائيلية القرآن وقوله تعالى صريح في: ﴿إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ﴾ ـ، وذلك لأنه كما قال الإمام الخميني، وهو الذي يقوله جميع العرفاء المسلمين: إن النبي الأكرم هو الذي كان ينزل جبرائيل، وفي هذهِ النسبة إلى الله يتحد الداخل والخارج، كما هو الحال بالنسبة إلى الماضي والمستقبل، والفوق والتحت.
والى هذا يرجع قولي بعدم الاختلاف بين الظاهر والباطن في ظاهرة الوحي، فالله الذي يعرف الموحدون الصادقون حاضر في وجود النبي وخارجه بنفس النسبة، ولا فرق بين أن نقول بأنّ الله أو جبرائيل يحضر الوحي من الخارج أو في الداخل، فليس الله بعيداً عن النبي، ولا النبي بعيداً عن الله. ولست أدري سبب الغفلة عن قرب الحق من العبد، واندكاك الممكن في الواجب، وسيادة فكرة السلطان والسفير والرعية بدلاً من ذلك، وهو ما تجلى في إيضاحات الشيخ السبحاني!
ملابسات وضع الوحي في السياق الشعري ـــــــ
مرادي هو الاستعانة بظاهرة الشعر الملموسة (والإبداع الفني بشكل عام) لدرك ظاهرة الوحي الغريبة، والتعرف عليها بشكل أفضل، وذلك في مقام التصوير فقط. وقد سبق أن ذهب الغزالي إلى أبعد من ذلك، حيث قال: لكي ندرك ظاهرة الوحي يمكننا الاستعانة بظاهرة الوساوس الشيطانية، قال تعالى: ﴿وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَآئِهِمْ﴾.
ينبغي الالتفات إلى أن الشعر ـ بحسب المفهوم المعاصر ـ الذي يعد بمنزلة الفن الخلاق المتسامي يختلف كثيراً عن الشعر بالمفهوم الذي كان يختلج في ذهنية أمثال أبي جهل وأبي سفيان، وإنّ توظيف الفن لتقريب معنى الوحي لا يقلل من شأن القرآن شيئاً، ولا يزيد من شأن أبي لهب خردلة، كما أن العلامة الطباطبائي يعتبر الوحي شعوراً خفياً، وأما أنا فأرى التعبير بالفن الخفي أنسب.
لماذا استحضار مولوي؟! ـــــــ
من دواعي سروري أن أجدكم متفقين معي في أن الاستشهاد بأشعار مولوي استشهاد بتجارب وحكم عارف له باع طويل وراسخ في العرفان الإسلامي، وأن الاستشهاد بشعره لا يعني الاستعانة بالشعر بما هو شعر، هذا مع أن المولوي في ديوانه المثنوي ناظم، وليس شاعراً، ورجائي من الشيخ السبحاني أن يقرأ هذا السفر الشريف بدقة، وأن لا يكتفي ببعض الكلمات المشهورة عنه، فيكون انتقائياً في أحكامه.
النبي في الوحي بين البشرية والإلهية… بين ثقافة الوصل ونهج القطع ـــــــ
لست أدري لماذا غفل الشيخ السبحاني عن كلّ ما صرحت به بشأن إلهية نفس النبي’، وفسر البشرية بمعنى النطق عن الهوى؟ فبماذا نسمي هذهِ الغفلة؟
إن النبي محمد’، وهو الفاعل والقابل للوحي، بشرٌ مؤيد ومطهر، وكلّ إناء بالذي فيه ينضح، ولا تثمر الشجرة الطيبة إلا ثمراً طيّباً، وإذا تجاوزنا النبي فإن غير المعصومين من الناس، من أمثالكم، وأمثال السيد البروجردي، وابن سينا، وسعدي، وناصر خسرو، وكانت، وديكارت، وبوبر، كانوا مثل النبي’، ولم يكن ما صدر عنهم من الإنجازات والإبداعات قد صدر بفعل الأهواء؟ فحتى لو فرضنا أن وحي النبي’ كان بشريّاً بالكامل فلا يعني ذلك بالضرورة أن يكون صادراً عن الهوى؛ وذلك لأن هذا الوحي برغم كونه بشرياً فهو إلهيّ في الوقت نفسه، أي أنه أمر من أمور ما وراء الطبيعة، قدّر له أن يتقدّر بأقدار الطبيعة، وهو أمر متعالي قدّر له التنزل، وهو نفسٌ قدّر له أن يخرج من مزمار، وهو إلهي قدر له أن ينبثق من لسان بشر، وهو صادر عن إنسان مفعم بوجود الله.
أسأل الشيخ السبحاني أن يمنحني الحق في أن أصف ميتافيزيقيته بمتافيزيقيّة البعد والفرق، وأن أصف ميتافيزيقيتي بميتافيزيقية القرب والوصال؛ فإنّ التصور الذي يحمله عن الله تعالى ومحمد’ بمثابة الخطيب واللاقطة (أو مسجل الصوت)، فالخطيب يتكلم، واللاقطة تعمل على نقل صوته، أي إن النبي مثل اللاقطة، ليس سوى أداة وعدّة، وأين ذلك من نزول القرآن على قلب محمد’؟! وكأنه يتصور نزول القرآن على لسان محمد’، وليس على قلبه، وأما التصوير الذي أحمله عن تلك الرابطة، التي هي <أقرب من حبل الوريد>، فهو رابطة النفس والجسد، أو بعبارة أوضح: رابطة المزارع والشجرة، فالمزارع يدفن البذرة في رحم الثرى، والشجرة تعطي الثمرة، وهذهِ الثمرة مدينة في كل ما تشتمل عليه من اللون والنكهة والطعم والشكل والفيتامينات إلى الشجرة التي أثمرتها، والشجرة مدينة بدورها إلى التربة الصالحة والنور والغذاء والهواء الذي تحصل عليه، وهذا كله إنما يكون بإذن الله، ولا يشك الموحدون في ذلك، بل إن وجود الشجرة هو عين إرادة الله وإذنه، وليس ذلك من قبيل الأمور الاعتبارية بين الناس من إصدار أحدهم أمراً وقيام الآخر بتنفيذه، وأنا أعجب من اعتباركم النظام الإلهي بمنزلة الأنظمة الإدارية والتنفيذية السائدة بيننا نحن البشر.
وبعبارة أوضح: رغم كون الأشياء بأجمعها ذات طبيعة إلهية إلا أن كل ما في الطبيعة طبيعي، وكل ما في البشر بشري، وكل ما في التاريخ تاريخي، ولذلك فإن للنبي في مسألة الوحي دوراً موضوعياً، وليس طريقياً، وهو بشر نزل عليه القرآن وصدر عنه، وقد ورد كلا هذين التعبيرين في القرآن، فكل من قيد (النزول) و (البشرية) حاضر في أعمق معاني الوحي، ومن دون أخذ هاتين الصفتين بعين الاعتبار لن يكون بالإمكان تقديم تفسير منطقي للوحي وبعبارة أوضح: لا نقول: إن الله لا يثمر، وإنما نقول: على الله لكي يثمر أن يخلق شجرة، لتقوم تلك الشجرة بالإثمار، ولا نقول: إن الله لا يتكلم، وإنما نقول: إذا أراد الله التكلم فعليه أن يصدع بالكلام من خلال نبيه، ويعدّ كلام النبي عندها كلام الله.
طبقاً لتصوير الشيخ السبحاني يتمكن الخطيب من قول كل شيء عبر اللاقطة، ابتداء من الشعر إلى الفلسفة والرياضيات، ومن العربية إلى الإنجليزية والصينية، وأما طبقاً لتصويري فإن كل ثمرة لا تنتج من كل شجرة، فشجرة التفاح لا تثمر سوى التفاح، وإنه لمن الأشعرية البحتة أن نقول بصدور كل ثمرة من كل شجرة.
وحتى في تصوير الخطيب واللاقطة فإننا نجد للاقطة دوراً تضطلع به، فتفرض محدوديتها على صوت الخطيب وتتحكم به.
وهكذا يكون المعنى غير المصور من الله، والصورة من محمد، والنفخ من الله، والمزمار من محمد، والماء من الله، والوعاء من محمد، فالله هو الذي صب بحر وجوده في وعاء شخصية باسم محمد بن عبد الله’، يغدو بذلك كل شيءٍ محمدياً، فمحمد عربي فكان القرآن عربياً، وقد عاش في الحجاز وبين القبائل العربية التي تقطن الخيام فنجد الجنة تتصف أحياناً بهذا الطابع العربي، حيث يقول تعالى في سورة الرحمن: ﴿حُورٌ مَّقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ﴾، وتكتسب بلاغة القرآن تبعاً لأحوال الرسول أفولاً وصعوداً، وعلى هذا المعنى تحمل تبعية الوحي وجبرائيل للنبي، ومدعى أبي نصر الفارابي والخواجة نصير الدين الطوسي من تدخل قوة النبي التخيلية وتأثيرها على الوحي، وعلى حدّ تعبير مولوي: <يزوّد بالتصوير ما يفتقر إلى الصورة>.
تتجلى شخصية محمد’ البشرية التاريخية في جميع مواضع القرآن، وإنّ هذه الشخصيّة التي قام الله على تربيتها وإعدادها هي كمال النعمة التي أنعم بها على المسلمين، ومن هنا فإن ما يقوله هذا الولي المؤيد والفاني في ذات الله هو كلام الله، وهل لكلام الله من طريق آخر غير هذا الطريق؟! إذا كان لديكم طريقة أخرى لحل معضلة كلام الله فنرجو إفادتنا بها. وليس يدعمنا هاهنا العرفاءُ فحسب، بل حتى الفلاسفة يشتركون معنا في مواجهة الشيخ السبحاني، ألم يقل الحكماء، وفي مقدمتهم صدر الدين الشيرازي: كل حادث مسبوق بالمادة والمدة؟ وكذلك حادثة الوحي المحمدي إنما حدثت في ظروف مادية وتاريخية خاصة، وقد كان لتلك الظروف مدخلية تامة في تكوين الوحي، ولعبت دور العلة الصورية والمادية للوحي. ولا بد هنا من الالتفات إلى أن المسألة تفوق اللفظ والمعنى، فالمسألة هي مسألة الصورة وعدمها، واللفظ أحد أنواع الصور.
والخلاصة أنّ ما يأتي به محمدٌ صلى الله عليه و اله هي محدوديته العلمية والوجودية والتاريخية وما إلى ذلك مما لا مفر لمخلوق منها. وهنا نسأل الشيخ السبحاني: لماذا نزل القرآن باللغة العربية؟ لا شك أنه سيجيب بأن الله أراد ذلك لحكمة، وأنا لا أنفي ذلك، ولكنني أقول: إن عربية رسول الإسلام هي ما أراده الله، وقس على ذلك سائر الأمور الأخرى.
توضيح حول تطرق الخطأ إلى القرآن وعلم النبي ـــــــ
المراد من الخطأ هنا ما يعدّ خطأ من وجهة نظر الناس، أي عدم الانسجام مع معطيات العلوم البشرية، فلم يرد في القرآن أن الله ألهم نبيه علم جميع العلوم، ولم يدّع النبي ذلك، ولم يتوقع أحد مثل هذا الشيء وأراد للنبي أن يعلم كل شيء ابتداءً من الإلهيات والروحانيات إلى الطب والرياضيات والموسيقى والفلك.
وخلافاً لما يذهب إليه الشيخ السبحاني فإن قوله تعالى: ﴿وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ﴾ لا يعني أنه علم جميع العلوم، بل هو كما يقول المناطقة: «المهملة في قوة الجزئية»، مضافاً إلى أن النبي يقول: ﴿وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْمًا﴾.
وقد قال ابن خلدون في مقدمته بصراحة: إن أقوال النبي في الطب هي نفس أقوال وآراء الأعراب من سكان البوادي، بل كان يرجع إلى الطبيب إذا لزم الأمر. وقال ابن عربي ــ الذي يعتبر الإمام الخميني& فتوحاته المكية بمنزلة حديقة غناء في حقل المعارف الإسلامية والعرفان، وأوصى الزعيم الروسي ميخائيل غورباتشوف بقراءته ــ في باب أن الكامل من جميع الجهات لا يعدّ أفضل من الناقص، في الفصّ الشيثي من فصوص الحكم: إن النبي منع أهل بادية من تلقيح النخيل وتأبيرها، فلما خرجت شيصاً تنبه إلى خطأه وقال: أنتم أعرف بأمور دنياكم وأنا أعرف منكم بدينكم (وقد سمعت هذهِ الرواية من الشهيد المطهري قبل قراءتها في فصوص الحكم).
ونقل أيضاً رواية أخرى مفادها أن النبي فضل رأي عمر على رأيه في باب أسارى بدر.
وقد صرح القرآن بعدم تعرّف إبراهيم عليه السلام على الملائكة، وأنه أوجس منهم خيفة.
وقال ابن عربي: إن إبراهيم لم يكن يستطيع تعبير الرؤيا، ولذلك رام التضحية بإسماعيل× عن طريق الخطأ في تفسيره رؤياه.
وعليه إذا ذهب شخص إلى أن علم النبي في الرياضيات الطبيعية، وليس العلم الديني والرؤية الملكوتية والعلم بالأسرار الربوبية، مساوٍ لعلم قومه والمعاصرين له لا يكون مخطئاً، أو في الأقل لا يكون في قوله هذا مخالفة لضرورة من ضروريات الدين.
إشكالية انسجام ظواهر القرآن مع العلم البشري، مدخل للتاريخية ـــــــ
أما قضية عدم انسجام ظواهر القرآن مع العلوم البشرية، فأقول: ألم يقل بذلك كل من عمد إلى تأويل ظواهر القرآن بعد أن وجدها مخالفة للعلوم البشرية؟ فليس التأويل في واقعه غير اللجوء إلى علم بشري ورفع اليد عن علم بشري آخر. وقد صرح أستاذكم العلامة محمد حسين الطباطبائي في تفسير الميزان بكل ما أوتي من صراحة علمية، في تفسير استراق الشياطين للسمع، وهروبهم من الشهب السماوية (من الآية الأولى إلى الآية العاشرة من سورة الصافات)، أن جميع تفاسير الكتب التفسيرية المتقدمة، والمعتمدة على الهيئة القديمة، وظواهر الآيات والروايات، باطلة، وقد ثبت بطلانها في عصرنا يقيَناً، ولذلك لا بد من البحث عن معنى جديد لتلك الآيات، ثم عمد من خلال الاستفادة من الفلسفة الإسلامية اليونانية ــ التي هي علم بشري آخر ــ إلى تأويلات بعيدة غير مقنعة، وقد صرح هو في هذا التفسير بتشكيكه وعدم قطعه بهذهِ التأويلات، من خلال استعمال ألفاظ من قبيل <يحتمل>، <والله العالم>، وقال: ربما كان هذا من قبيل الأمثال التي يضربها الله، وأن المراد من السماء عالم الملكوت الذي تسكنه الملائكة، والمراد من الشهب نور الملكوت الذي يدفع الشياطين، أو المراد أن الشياطين يهاجمون الحقائق ليبطلوها، فتصدهم الملائكة بشهب الحقيقة ليدحضوا باطلهم..، وكأن السيد الطباطبائي نسي أنّ هذهِ الشهب إنما تنطلق من سماء هذهِ الدنيا نحو الشياطين، وليست من ناحية الملكوت، قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاء الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِّلشَّيَاطِينِ﴾.
وهكذا تظهر منعطفات القبض والبسط في التفسير، حيث يسقط المعنى الذي كان بديهياً عند الأقدمين عن بداهته، ويخضع ظاهر الآيات، التي كانت منسجمة مع العلم القديم، ولم يشكك فيها السابقون، للتأويل كي تنسجم مع علم بشري آخر. ولا كلام في هذا القبض والبسط، ولا لوم على المفسر فيه، فهذهِ هي طبيعة ومصير كلّ التفاسير. إنما الكلام في أننا قبل التأويل نذعن منطقياً بعدم الانسجام، ونسعى بعد ذلك، إلى البحث عن حيلة لرفع هذهِ المشكلة، بل يذهب السيد الطالقاني إلى أكثر من ذلك، ويقول في تفسيره <در برتوي أز قرآن>، في تفسير قوله تعالى:
{ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝﭞ} في سورة البقرة صراحة: إن اعتبار الجنون مسبَّب عن مس الجن والشيطان من معتقدات العرب في الجاهلية، وقد جاراهم القرآن في معتقدهم هذا، وهذا رأي ذهب إليه شطر من المفسرين العرب المعاصرين، وإنه لم يقم بأية محاولة أو مجهود في تأويل هذهِ الآية، ويعترف بالخطأ، ولكنه يرى مصلحة في تعمد القرآن لارتكاب هذا الخطأ، بيد أن هذا الكلام لا هو بديع ولا هو بدعة.
وقد بّين جار الله الزمخشري المعتزلي هذا الرأي في تفسير الكشاف، قبل ثمانية قرون سبق فيها السيد الطالقاني، حيث قال بصراحة: إن هذهِ من المعتقدات الباطلة التي كان يؤمن بها عرب الجاهلية من أن مسّ الجنّ يوجب الصرع، وقد نزل القرآن طبقاً لما يعتقدونه.
وقال الآلوسي في تفسيره روح المعاني: <إن هذا هو مذهب جميع المعتزلة>.
والملفت للانتباه ويستدعي التأمل أنّ التفسير والكلام الإسلامي السيال ابتلي في العصر الراهن بالجمود، حتى أخذ البعض يستغرب آراء العلماء المسلمين وينسبها إلى المستشرقين، والذي يلفت الانتباه ويدعو إلى التأمل أكثر أنه لم يكفر أحد من المتقدمين علماء المعتزلة، وغاية ما نسبه إليهم كبار الأشاعرة أن قالوا: إن الذي ينكر مسّ الجن هو مجنون ممسوس من قبل الجن.
وأوضح من ذلك قضية السماوات السبع، حيث أجمع قدماء المفسرين على تطبيقها على نظريات هيئة بطليموس، ولم يكن هناك حينها ما يمنعهم من ذلك، حيث تدل كل الظواهر على صحّة ذلك التطبيق، ولم ينجلِ الأمر إلا في القرن التاسع عشر والقرن العشرين، حيث نزع المفسرون الجدد من العرب وغيرهم إلى البحث عن تفسيرٍ آخر للآيات في ضوء المعلومات الجديدة، ليقدموا معاني جديدة أخرى هي بدورها مشكوكة أيضاً.
لا مفرّ من الإذعان بعدم انسجام الظواهر القرآنية مع العلم، والذي يكون شديداً أحياناً، وهنا تتجلى طرق وأساليب متنوعة لدفع هذا الإشكال والتخلص منه؛ فإما أن نلجأ إلى التأويلات البعيدة، كما هو منهج الطباطبائي؛ أو نحملها على المماشاة لما عليه لغة العرب وثقافتها، كما هو منهج المعتزلة والطالقاني؛ أو نعتبر لغة الدين والعلم لغتان مختلفتان، ونعتبر لغة الدين لغة تصويرية واستعارية، كما هو منهج المتكلمين النصارى؛ أو نذهب ـ كبعض المعاصرين ـ إلى عدم احتمال معطيات الوحي للصدق والكذب؛ أو نذهب إلى كون المعنى من الله واللفظ من النبي، كما هو منهج ولي الله الدهلوي.
أياً كان الجواب فإنني أرى هذا النوع من الآيات من جنس الأعراض، التي ذكرتُها مفصلاً في كتاب بسط التجربة النبوية، والتي لا تؤثر في رسالة النبي ونداء الدين، ولذلك أتجاوزها بالتي هي أحسن، وفي الأقل أميل إلى أسلوب المعتزلة للخلاص من محاولات المتكلفين.
وأما تاريخية القرآن فمعناها واضح، وقد ذكرته في كتاب (بسط التجربة النبوية) منها: الإجابة عن أسئلة عوام العصر، والتعرض لشؤون النبي الأسرية والتي كان بالإمكان عدم حدوثها، وبالتالي عدم تطرق القرآن لذكرها.
لا أتصور أن بإمكانكم من خلال الإصرار في العصر الحاضر على كون السماوات سبعاً، أو كون الصرع والجنون مسبباً عن مسّ الجن، أو أن الشهب السماوية تستهدف المتطفلين من الشياطين كي لا يستمعوا إلى إسرار الملائكة، أن تستميلوا شخصاً نحو الإسلام، أو تثبتوا أفضلية الإسلام على الديانة البوذية مثلاً؛ فإنّ روعة الوحي المحمدي لا تكمن في تلك المتشابهات في سورة مثل الحديد؛ لمجرد تسميتها بالحديد، مع أن نسيجها من الحرير، أو على حدّ قول الغزالي (جوهرة القرآن)، حيث صاغ الله القيامة والإيمان والنفاق والجهاد والخشوع والزهد وما إلى ذلك بصلابة ورحمة، يكفي فيها دعوة واحدة، يقول فيها سبحانه وتعالى: ﴿أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ﴾ لتطرب الأرواح، وتضيء مسارج الإيمان في مكامن القلوب.
وأما بالنسبة إلى ما ذكرتموه من قولكم: <إن القرآن الذي ذهبتم إلى بشريته وإمكان الخطأ عليه ما الحاجة إلى ترجمته وتفسيره بلغة العصر. . . ، وإنكم بذهابكم إلى إمكان خطأ القرآن وكونه بشرياً تكونون قد خرجتم عن ربقة المجتمع الإسلامي، فلا نجد حاجة إلى نصائحكم؛ لأن الذي يستطيع إسداء النصح هو من كان واحداً ضمن أفراد هذهِ الجماعة…>.
فقد أوضحت المراد من قبول الخطأ وكونه بشرياً.
كلمات أخيرة مع الشيخ السبحاني ـــــــ
وهنا أتقدم إليكم بما يلي:
أولاً: أقول لكم ما قاله الله تعالى: ﴿وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلاَمَ لَسْتَ مُؤْمِنًا﴾.
ثانياً: إنني لم أقل شيئاً غير ما قاله العلامة الطباطبائي والطالقاني والزمخشري.
ثالثاً: عليكم بتقديم معايير متقنة ومتينة لحل هذهِ المشكلة بغية الخروج من مأزق تعارض العلم والقرآن، وقد تحدثت عن التجربة الحضارية، ولم أذكر شيئاً عن اللغة العصرية على التفصيل الذي جاء في مقال (الذاتي والعرضي في الأديان) في كتاب (بسط التجربة النبوية).
رابعاً: لا تدعوا المحققين إلى التقليد، ولا تخوِّفوا الذين تنكَّبوا الطريق بتأمل وتحقيق من سوء العاقبة وزوال السعادة، فإنما هي في التحقيق الصادق، حتى لو أدت بزعمكم إلى نتائج خاطئة، وليست هي في التقليد الأعمى.
وأنا، وإن كنت لا أشك في إخلاصكم في النصح وأقدر حرصكم، لا أروم ترك التحقيق والتعمق، وسأواصل التمسك بحبل العقل والتفكير المتين، فإن شذى عطر هذا المسك يشدّني إلى هذا التمسك، ويقيدني إلى هذهِ الباقة من الرياحين حتى لا أجد في نفسي القدرة على مبارحتها.
أرى محمداً رسول الله عاشقاً مبدعاً، منحته تجربته الروحانية سعة في الصدر، وبصيرة في القلب، حتى امتلأت روحه بوجود الله، وحتى أضحى كل ما يراه أو يقوله إلهياً، ويرى الإنسان والعالم ـ سواء بسبع سماواتٍ كان أم بسبعين، وسواء أكانت العناصر أربعة أم مئة وأربعة ـ مخلوقاً لله، متعلقاً به، وصائراً إليه، وهو سعيد بهذا الاكتشاف النبوي، ويسعى إلى إشراك الآخرين في هذهِ السعادة، ويجتذبهم إليه، ويغطي على سيئاتهم، ويغسل أدرانهم ببحر طهره.
إنني أعشق هذا البشر البشير، وإذا كنت أستضوع شذى عطر الكلام الإلهي من هذهِ التربة فلأجل مجاورتها لتلك الريحانة.
اكتفي بهذا المقدار خشية الإطالة، وأترك باب هذهِ المناظرة مفتوحاً، وأضيف: إنني حالياً منهمك بالتدريس في إحدى الجامعات الأمريكية، وأقوم هنا بما حرمت من القيام به في إيران، ببركة سعة صدر المسؤولين فيها، وأرغب عند العودة إلى إيران أن أدعوكم ــ عند الإمكان وتوفير مناخ آمن وهادئ ـ إلى المشاركة في حوار مباشر في هذا الشأن؛ بغية إحقاق الحق ودحض الباطل، وبما أنني أرى أن الغاية القصوى من التدين، والهدف من كلّ هذهِ الدقة العرفانية والكلامية، هي بناء مجتمع خلاّق ومتخلق وعادل، فإن مسؤوليتي الوجدانية تدعوني إلى مطالبة سماحتكم بالوقوف بوجه الانحرافات العلمية والأخلاقية، وأن لا تقروا على جفاء أو ظلم يتعرض له مظلوم، وأن تتمسكوا بعهد الله الذي قطعه على العلماء، وأن لا تركنوا للظالمين، وأن تكونوا في ذلك أسوة للآخرين، والله المستعان.
عبد الكريم سروش
واشنطن / اسفند/ 1386هـ ش (2008م)
جواب الشيخ جعفر السبحاني على ردّ الدكتور سروش: حريم الوحي وحرمة النبي ـــــــ
سماحة العالم والدكتور المحترم السيد سروش، بعد التحية والسلام.
وصلتني رسالتكم والمقابلة الثانية التي نشرت في بعض الصحف، وللحيلولة دون الوقوع في الخطأ في الحكم عمدت إلى قراءتها مرتين بدقة، فوجدت من الضروري التذكير بسلسلة من الأمور، على أمل أن تدققوا وتتدبروا فيها.
لاشك في أنكم عند عودتكم إلى إيران من لندن في مستهل الثورة الإسلامية قد تركتم آثاراً مباركة وبناءة، وقد حظي كتابكم <نهاد نا آرام> ــ الذي بينتم فيه الحركة الجوهرية بأروع أسلوب ــ بقيمة عالية. وكذلك كتابكم الآخر <دانش وأرزش>، حيث أثار عاصفة بين عشاق المسائل الفلسفية والكلامية، كما كان لتدريسكم نهج البلاغة أثرٌ ايجابيٌّ من الناحية الأخلاقية، وكنتم على الدوام تفتحون لأنفسكم مكانة في قلوب الراغبين من الشباب وعلماء الدين. وقد ذكر صديق لكم، لا أصرّح باسمه، أنكم حينما كنتم تدرسون في إعدادية العلوي قد اتخذتم دفتراً لتدوين الملاحظات اليومية، وإن صدر عنكم تركاً لما هو أولى سارعتم إلى تدوينه في ذلك الدفتر كي تعملوا على تكفيره لاحقاً، وهكذا كنتم تعملون بوصية علماء الأخلاق في ما يتعلق بالمشارطة والمراقبة.
وعليه لابد من البحث عن سبب تحول ذلك القرب وتلك المنزلة بعد مدة، وانحدارها في قوس النزول. إن إقبال جموع الشباب يوماً نحوكم وتفرق الأصدقاء والأحبة عنكم في يوم آخر ظاهرتان لا يمكن حدوثهما دون سبب أو علة.
لماذا وقعت القطيعة بين سروش وأصدقائه القدامى؟! ـــــــ
1 ــ إن أصدقاءكم إنما بدأوا بالابتعاد عنكم شيئاً فشيئاً حين صدعتم بمسألة القبض والبسط في الشريعة، وطبعتم في ذلك كتاباً يشتمل على مئات الصفحات، مع أنني سبق وأن قلت لكم بأن هذهِ النظرية تتنافى مع الخاتمية في النبوة؛ وذلك أن الشريعة إذا كانت ثابتة والأفهام متغيرة لم يستقر حجر فوق حجر، ولما بقيت في الإسلام حقيقة يقينية، وأضحت جميع معطيات القرآن والسنة والعقل في مهب الريح، وعرضة للتغيرات عبر الأزمنة، وقد ذكرت ذلك في اجتماع مطوَّل في منزل السيد فاضل الميبدي، وبحضور صديقكم العزيز السيد رخ صفت، وسألتكم إعادة النظر في هذهِ المسألة.
2 ــ إنّ عرض مسألة السبل المستقيمة، في قبال القرآن الكريم الذي لا يرى سوى صراط واحد، حيث قال تعالى: ﴿وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ﴾ [الأنعام: 153]، عملت بدورها على توسيع الهوّة، وأبعدت جمهوركم عنكم.
3 ــ وتعرضتم في يومٍ ما إلى مسألة الحسن والقبح العقليين واتخذتم موقفاً أشعرياً، حيث قلتم: يجب فهم الحسن والقبح من خلال الشرع دون العقل، ويكفينا في ذلك ما أقر القرآن أو السنة المتواترة حسنه أو قبحه، ولا حاجة لنا بعدها لتحسين العقل وتقبيحه.
وقد ألقيتُ في مؤتمر الفلسفة والحكمة ثلاث محاضرات حول الحسن والقبح العقليين، وقلت: إننا لو أنكرنا الحسن والقبح العقليين بشكل كامل فلن يكون بإمكاننا إثبات الحسن والقبح الشرعيين، لأن إحدى الاحتمالات هي أن يكون ما ورد في القرآن مخالف للواقع، ولا يمكن دفع هذا الاحتمال من القرآن نفسه للزوم محذور الدور والمصادرة، ومن هنا لابد من اللجوء إلى الحسن والقبح العقليين، فنقول: إن صدور الكذب من الله القادر الحكيم قبيح عقلاً، وعليه فكل ما قاله صحيح، وأذكر حينها أنكم أذعنتم بذلك.
4 ــ وطرحت الخاتمية، ومرجعية الأئمة المعصومين عليهم السلام العلمية، وذهبتم إلى أن مرجعيتهم العلمية تنافي أصل الخاتمية، وقد أرسلت نقداً إليكم في هذا الشأن، وحتى الآن لم أحصل على ردّ منكم، وهذا كان من أسباب الفرقة أيضاً.
5 ــ وها أنتم قد طرحتم مؤخراً مسألة تفسير الوحي على النحو الذي سيأتي، فزدتم في الطنبور نغمة، كما يقول المثل.
6 ــ إن من أسباب الفرقة والابتعاد عنكم هو طرحكم للأفكار ذات الوجهين، والتي يفهم منها الموافق والمخالف أموراً مختلفة، ولو فرضنا صحة بعض النظريات التي صدعتم بها، وهي غير صحيحة عندنا، فهي مصداق لقوله تعالى: ﴿فَضُرِبَ بَيْنَهُم بِسُورٍ لَّهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِن قِبَلِهِ الْعَذَابُ﴾[الحديد:13].
ونحن نعيش في عصر تكالبت فيه جميع عوامل الضلال واستهدفت إيمان الشباب من خلال الأقمار الصناعية والأفلام والإذاعات والأفكار المختلفة، فالمتوقع منكم في مثل هذهِ الظروف ـ وأنتم المتخرجون من إعدادية العلوي والتلميذ البارز الذي درس على يد الشهيد المطهري ـ اجتناب طرح الأفكار ذات الوجهين، التي تزعزع العقائد، وإذا كنتم لا تزالون تحتفظون بذلك الدفتر الذي كنتم تحملونه في أيام الشباب فاكتبوا ترك الأولويات هذهِ في هامشه.
فمثلاً: إذا كنا نقول: إن القرآن كتاب محمد’ فالمراد هو أن القرآن كتاب الله الذي أُنزل على محمد’، بيد أنكم تقولون هذا الكلام، ثم تردفونه بما يخالف المراد المتقدم، حيث تقول: إن النبي’ كان له دور محوري في إبداع القرآن، أو إن حالات النبي من السرور والحزن تركت آثارها في كتابه، أو إن بعض آيات القرآن تفتقر إلى الفصاحة والبلاغة العالية، ويعود ذلك إلى حالات الشجرة التي جُنيت ثمارها!!
فهل يساعد هذا الكلام مهما قمنا بتوجيهه وتبريره على تعزيز إيمان الشباب؛ أو أنه يزعزعه؟
وبرغم ذلك تذكرون هذهِ المسائل على عواهنها، ومن دون دعمها بدليل، وتتوقعون من أصدقائكم نفس الترحيب والانبهار السابق.
ردّ سروش، استعراض وملاحظات ـــــــ
لنتجاوز هذهِ التنويهات المخلصة، ونرجع إلى المطالب التي أثرتموها في الحوار الثاني، والناظرة إلى نقدنا، لنناقش أهم ما ورد فيها:
1 ـ حقيقة الوحي والدور النبوي ـــــــ
بينت حقيقة الموحي في هذا الحوار في عدد من الجمل نذكر بعضها:
أ ــ إن القرآن ثمرة الشجرة الطيبة لمحمد’، التي أثمرت بإذن ربها ﴿تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا﴾، وهذا هو عين نزول الوحي والتصرف الإلهي.
وقلتم في موضع آخر: إن محمد، الفاعل والقابل للوحي، بشر مؤيد ومطهر، ولذلك فإن الإناء ينضح بما فيه، ولا تثمر شجرته الطيبة سوى ثمرة طيبة.
وقلتم في موضع ثالث: وهذا معنى كون الوحي وجبرائيل تابع لشخصية النبي، وأن قوة خيال النبي تتدخل في مسار الوحي..، وأن الشخصية التاريخية لمحمد’ تتجلى في جميع مواطن القرآن الكريم.
وكذلك قلتم في موضع آخر: إنّ لنبي الإسلام موضوعية في مسار الوحي، ولا يؤخذ على نحو الطريقية، وهو بشر نزل عليه القرآن، وجرى على لسانه، وقد ورد كلا التعبيرين في القرآن. وكلا قيدي (النزول) و(البشرية) متنزلة في أعمق طبقاته، ومن دون الالتفات إلى هاتين الصفتين المهمتين لا يمكننا أن نقدم للوحي تفسيراً يقبله العقل.
وقفة نقديّة ـــــــ
نكتفي بهذا المقدار من كلماتكم، ومن ثمّ نذعن لتحكيم الوحي المحمدي (القرآن) ليقضي بصحة هذا التفسير المقول عقلاً!!!
إن القرآن يرفض هذهِ النظرية بشدة، فهو لم يرَ موضوعية للنبي أبداً، ولم يعتبر كلامه ثمرة لشجرة النبوّة، بل إن الوحي القرآني يقول: إن كل ما نزل من القرآن هو من زلال الوحي، لم تؤثر فيه أفكار النبي البشرية: ﴿وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآنًا عَرَبِيًّا﴾[الشورى:7]، ﴿إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا﴾ [يوسف:2]، ﴿وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لأُنذِرَكُم بِهِ وَمَن بَلَغَ﴾[آل عمران:19]، ﴿وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِن قَبْلِ أَن يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ﴾ [طه:114]، ﴿قُلْ إِنَّمَا أَتَّبِعُ مَا يِوحَى إِلَيَّ مِن رَّبِّي﴾[الأعراف:203].
فها هو القرآن يؤكد على أن الوحي الإلهي مصون من كل شائبة تشوبه، حتى لو كانت من قبيل الروحيات الطاهرة والمتعالية للنبي الأكرم‘، في حين أنكم تصرون على عكس ذلك، قال تعالى: ﴿وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفًا كَثِيرًا﴾ [النساء:82].
دققوا في عبارة ﴿مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّهِ﴾، فلو كان القرآن ثمرة شجرة طيبة فإن الثمرة ستتأثر بالشجرة لا محالة، وعندها ستخرج من حالة الصفاء، ويمتزج الوحي الإلهي بصبغة بشرية.
ربما قرأتم حوار الكاردينال (جان يوس توفان)، المسؤول عن حوار المسلمين في الفاتيكان، حيث قال: لا أجد نفسي مستعداً لإقامة حوار مع المسلمين؛ لأنهم يؤمنون بأصل لا نؤمن به، فهم يقولون: إن الوحي الإلهي نزل صافياً من المقام الربوبي على قلب رسول الله، ثم جرى على لسانه من دون تحريف.
وإنّ نظريتكم التي تعتبر الوحي الإلهي ثمرة الشجرة الطيبة لوجود النبي، وإن كان الزراع لهذهِ الشجرة هو الله، تؤدي بالوحي في النهاية إلى فقدان حالته الصافية، واتخاذه صبغة بشرية.
ألا يعتبر كلامكم هذا شبيهاً بكلام ذلك الكاردينال؟؛ حيث قلتم: إن أبسط تصور لذلك هو المزارع والشجرة، فالمزارع يضع البذرة في التربة، والشجرة تعطي الثمرة، وإن الثمرة مدينة للشجرة في كل ما تحتويه من اللون والعطر والشكل إلى الفيتامينات والأملاح، والشجرة بدورها تتغذى من تربة خاصة ونور وغذاء وهواء خاص.
وإذا كان الوحي الإلهي ثمرة الشجرة الطيبة للوجود المحمدي، وكان لشخصيته حالة الفاعل والقابل، فما معنى التأكيد على عدم الاستعجال في حفظ الوحي في قوله تعالى: ﴿لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ * إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ * فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ * ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ﴾[القيامة 16ـ19].
فإذا كانت المعاني من الله والكلمات من النبي فما معنى هذا النهي عن العجلة في القراءة، والأمر باتباع جبرائيل في التلاوة؟ إن إمعان النظر في هذهِ الآيات يثبت أن الوحي ــ بما يشتمل عليه من المفاهيم والألفاظ ــ الذي يراه الحكماء الإلهيون نوعاً من التنزل من الغيب إلى الشهود قد نزل على قلب رسول الله، وجرى على لسانه، ولم يكن لأيّ شخص تأثير في فاعلية القرآن.
وعليه هل يصح القول بأن النبي كان له دور فاعلي في الوحي، وأن له موضوعية؟!
إن هذا النوع من النظريات، وإن تمّ إبداؤه بنية صادقة، يقدم ذريعة للذين ينتقصون من شأن الوحي، ليضفوا عليه بالتدريج صبغة بشرية، ومن ثمّ يطرحون آراءهم إلى جانب الوحي الإلهي، والانتقاص من منزلته.
إنكم تعتبرون التجارب الدينية للعرفاء متممة ومكملة لتجارب الأنبياء الدينية، وبذلك ترفعون الحواجز بين الوحي النبوي ووحي العرفاء، وذكرتم في كتاب (التجربة الدينية) أنّه لما كان الوحي تجربة دينية، والتجربة الدينية قد تحدث لغير الأنبياء، فإن هذهِ التجارب الأخرى ستعمل على إغناء الدين، وعلى مرّ العصور سيتسع الدين، ويأخذ بالتمدد، وعليه تكون التجارب الدينية للعرفاء متممة للتجارب الدينية للأنبياء، ويغدو دين الله أكثر نضجاً، ويحصل هذا الكمال في المعرفة الدينية، بل في الدين والشريعة نفسها([2]).
وعليه فإن الدين الإسلامي بأصوله وفروعه قد تكامل عبر أربعة عشر قرناً نتيجة لامتزاج التجارب النبوية وتجارب العرفاء، أفهل يصحّ هذا الكلام؟! ومع كل احترامنا للعرفان والعرفاء فإننا نعتبر شطحات بعضهم على طرف النقيض من التوحيد القرآني، فهناك من العرفاء من يرى عالم الإمكان عين الله؛ إذ يقول: <الحمد لله خلق الأشياء وهو عينها>، أو حيث يعتبر مولوي الواجب والممكن شيئاً واحداً قبل البسط، ثم حصل الانفصال بعد ذلك.
لا أرغب في الخوض في هذهِ الموارد، وإلا فإن التضاد بين التجربة النبوية ــ على حدّ تعبيركم ــ وتجربة العرفاء في بعض الأحيان أكبر من أن تسعها هذهِ الرسالة.
2 ـ بشرية النبيّ ـــــــ
لقد أكد هذا الحوار ــ حتى في عنوانه ــ على بشرية النبي‘، الأمر الذي يثير دهشتنا، فهل هناك من ينكر كون النبي‘ بشراً؟! وقد قال تعالى: ﴿قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ﴾ [الكهف: 110].
فهذهِ الآية تثبت ناحيتين للنبي ‘: 1 ــ إنه بشر كسائر البشر؛ 2 ــ إنه يوحى إليه.
والناحية الأولى يشترك فيها النبي مع غيره من أفراد الإنسان، ويمكن دراسة هذهِ الناحية من خلال الأسس المادية.
والناحية الثانية هي موضوع الوحي والجانب الغيبي، والذي لا يخضع للتقدير أو الدراسة بواسطة الأدوات المادية، فهو من مقولة الغيب التي لا يتسنى للإنسان إدراكها، وعليه الإيمان بها كما هي، قال تعالى: ﴿الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ﴾ [البقرة:3].
يطرح القرآن مسائل على أنها من الغيب والشهادة، وهي وإن كانت بالنسبة إلى الله لا تخرج عن الشهود والشهادة، ولكنها بالنسبة لنا وللمحدوديات المفروضة علينا تنقسم إلى شهود وغيبة، فهناك من الحقائق ما يندرج تحت الغيب، ولا يمكن لعلمنا أن يدركه أو يناله، من قبيل: عالم البرزخ، والقيامة، والنبوة والوحي، مما يجب معرفته من خلال الصفات والآثار، دون الفصل والجنس أو بيان الكنه.
3- الخطيب واللاقطة ـــــــ
لقد شبهتم اعتقاد المسلمين بالوحي، الذي يرونه صافياً غير مشوب بروحيات البشر، بالخطيب واللاقطة، حيث قلتم: إن الصورة التي تحملونها عن محمد تشبه الخطيب واللاقطة أو مسجلة الصوت، فالخطيب يتكلم واللاقطة تنقل كلامه، أي أن النبي كاللاقطة، فهو محض أداة.
فنقول: حاشا أن نعتبر المقام الربوبي والرسالي بمنزلة الخطيب واللاقطة، بل نعتقد أن الله تعالى مرْسِلٌ، وأن النبي’ رسول، وإن بين هذهِ الرسالة واللاقطة بون شاسع لا يمكن معه تشبيه أحدهما بالآخر، حيث إن هذا الرسول ينبغي أن يطوي مدارج كمالية ومعنوية وروحية يحظى معها، مضافاً إلى شعوره المادي، بأذن برزخية تمكنه من سماع صوت جبرائيل، وعين برزخية يستطيع من خلالها النظر إلى صورة الملك، وأن يبلغ من الناحية الروحية مرتبة يشهد معها ـ رغم ارتباطه بعالم المادة ـ عالم الغيب دون خوف أو وجل، ويتلقى الوحي كاملاً دون أن يضيف عليه مقدار خردلة، ويبلغه إلى أصحابه، فهل هذا المنصب الرفيع والحساس مشابه لمهمة اللاقطة؟!
التلقي النبوي وانتظار الوحي ـــــــ
من الأدلة الواضحة على أن مسألة الوحي لم تكن ثمرة وجود النبي‘ أنه كان يترقب الوحي، وقد استهزأ اليهود بالمسلمين وسخروا منهم بسبب توجههم إلى بيت المقدس، وهي قبلة اليهود في صلاتهم، ومع ذلك مكث النبي مدة ينتظر أمر السماء في ذلك، وأخذ لفترة طويلة يرمق الأفق الأعلى، ويقلب طرفه في السماء، قال تعالى: ﴿قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاء فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّواْ وُجُوِهَكُمْ شَطْرَهُ﴾ [البقرة: 144].
وقد نقلتم عن أحد العرفاء الكبار أن النبي كان يُنزل جبرائيل، ونحن قد درسنا على يد هذا العارف الكبير أكثر من أربع عشرة سنة، وعملنا على نشر وطبع أفكاره العلمية، ولم أسمع بأنه قال مثل هذا الكلام، وعلى فرض قوله فلابد أن يكون في سياق يوضح مراده، وإلا فإن هذا العارف السالك، الذي أحدث هذه الثورة العظمى في العالم الإسلامي، لا يتحدث بكلام مخالف للقرآن، وقد قال تعالى عن الملائكة وأمر نزولها: ﴿وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ﴾ [مريم:64].
وفي العام الهجري الثامن حصل لقاء بين مشركي قريش ويهود خيبر، ولما كان اليهود على علم بالشرائع السابقة فقد سألهم المشركون عن صدق النبي محمد في دعوته، فقال اليهود: اسألوه عن ثلاثة أمور، فإن أجاب عنها فهو نبي، وكانت الأسئلة الثلاثة تتعلق بأمر أصحاب الكهف وذي القرنين والروح، فلما سئل النبي‘ عن ذلك استمهلهم، وأخذ ينتظر الوحي ليطلعه على الحقائق، ولم يعمد من فوره إلى قطف ثمرة من شجرة وجوده، وقد نزل الوحي الإلهي في هذا الشأن على النحو الآتي: ﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَن ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُو عَلَيْكُم مِّنْهُ ذِكْرًا﴾[الكهف: 83].
وقال بشأن السؤال الثالث: ﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُم مِّن الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً﴾[الإسراء: 85].
أرى أن هذهِ الآيات التي تشهد بأجمعها على صحة نظرية عموم المفسرين كافية لإثبات مرادنا، ولذلك ننتقل إلى موضوع آخر.
4- هل محمد نبي وليس بعالم؟! ـــــــ
لقد ذهبتم في كلا الحوارين ـ تصريحاً وتلويحاً ـ إلى كون الرسول’ نبياً، وليس عالماً.
وطبعاً فإن هذا من نوع الكلام الذي يحمل وجهين أيضاً، فعبارة (نبي) تفيد رفع المقام والمنزلة، وعبارة (ليس عالماً) تنفي إحاطته بالعلوم الإنسانية، وكأنكم لا ترون في ذلك منقصة!! وهنا نقول: يتفق الجميع على نفي العلم عنه إذا كان بمعنى العلم الذي يحصل عليه الناس الاعتياديون، ولا يكون وليد فكره.
يطالعنا القرآن بأن الله قد علّم آدم الأسماء كلها، ولاشك في أن هذهِ الأسماء لا تعني الألفاظ والعبارات، وإنما المراد منها حقائق الأشياء، قال تعالى: ﴿وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاء كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلاَئِكَةِ فَقَالَ أَنبِئُونِي بِأَسْمَاء هَؤُلاء إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ﴾ [البقرة: 31]. وإذا دققتم في الضمائر الواردة في ﴿عَرَضَهُمْ﴾ و﴿بِأَسْمَاء هَؤُلاء﴾ لوجدتم أنها تحكي عن أسرار تمّ عرضها على آدم، فتوصلّ من خلالها إلى حقائق الأشياء وأسرار الخلق، وعليه هل يصح أن نقول: إن خاتم الأنبياء وأشرف الرسل وأفضلهم لم يكن يعلم أبسط العلوم وحتى ما كان منها شائعاً في عصره؟
ثم نقلتم حديثاً من (فصّ الشيء) من فصوص الحكم بهذا المضمون: إن النبي’ منع الأعراب من تأبير النخل، فلما خرج ثمرها شيصاً أدرك خطأه، فقال: <أنتم أعلم بأمور دنياكم، وأنا أعلم منكم بدينكم>.
وقد ورد هذا الحديث في صحيح مسلم، وقد قام المحققون بنقده، وقد ناقشته في كتاب (الحديث النبوي بين الرواية والدراية)، وكأنكم لم تطلعوا عليه، فهل ينسجم مضمون هذا الحديث مع سيرة النبي’؟ فلو فرضنا جدلاً أن محمد صلى الله عليه وآله لم يكن نبياً، ولا عالماً، ولكن هل يعقل لشخص عاش في شبة الجزيرة العربية، وعماد مائدة الناس فيها هو التمر وثمار النخيل، وقد جرت عادة الزرّاع على تأبير النخل، حتى كانت ولا تزال من البديهيات عندهم، فهل يعقل جهل النبي’ بما كان أبسط العرب يعرفه، إن هذا شبيه بما لو نسبنا إلى سكان الأسكيمو الجهل بمعنى الثلج.
قال الإمام علي عليه السلام: «سلوني قبل أن تفقدوني»، ولا شك في أن كلامه هذا مطلق، ولا يختص بعالم الغيب، فهل يعقل أن يكون علم أمير المؤمنين أوسع وأكثر من علم أستاذه ومن قام على إعداده وتربيته، حتى قال’: <أنا مدينة العلم وعلي بابها>، ما لكم كيف تحكمون؟
5 ـ إشكالية الفعل بين العلم الغيبي للنبي والمعرفة الدنيوية الشهودية ـــــــ
إن كلامكم حول التكامل الروحي للنبي صلى الله عليه وآله بالنسبة إلى العوالم الغيبية، إذا لم يكن مبالغاً فيه، فهو في حدّ إثبات الكمال، فالنبي يبلغ مرحلة لا يدانيه فيها حتى جبرائيل نفسه، ويبلغ من القرب مقداراً لا يمكن تصوره، فكيف يمكن لمثل هذا النبي أن يتكامل في أمور الغيب على هذا النحو، إلا أنه عندما يتعلق الأمر بعالم الشهود وأدنى المستويات في العلوم الطبيعية والفلكية إذا هو يجهلها، ولا يرقى حتى إلى مستوى الجاهلي في علمها.
إن هذا التكامل ذو البعد الواحد من قبيل الطفل الذي يتكامل قلبه دون عقله وسائر أعضائه الأخرى، فلو صحّ أن النبي كان بمستوى الجاهلي في علمه فماذا يعني مضمون الآيات الآتية؟ وهل كان العرب في الجاهلية يدركون معانيها؟
1 ـ ﴿وَمِن كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ﴾. فهل كان الجاهلي يعلم بقانون الزوجية الذي يحكم عالم الطبيعة وجميع ذرات الكون؟
2 ـ ﴿وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌَ﴾.
وهذه الآية تتحدث عن حركة الجبال في هذهِ الدنيا، وليس في يوم القيامة؛ بدليل قوله تعالى: ﴿صُنْعَ اللَّهِ﴾، ومما لاشك فيه أن يوم القيامة وعالم الآخرة ليس عالم صنع، وهو اليوم الذي تتحطم فيه الجبال، وتكون كالعهن المنفوش، وربما تحدثتم حول هذهِ الآية في كتابكم (نهاد نا آرام).
3 ـ ﴿فَلَا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ إِنَّا لَقَادِرُونَ﴾، فهل كان الجاهلي يعلم بتعدد المشارق والمغارب؟!
4 ـ ﴿يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِن بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلَاثٍ﴾، فهل كان العربي في العصر الجاهلي مدركاً لهذا النوع من الخلق؟
إن هذهِ الرسالة تضيق عن ذكر الإعجاز العلمي للقرآن، وأتصور أن معلوماتك السابقة وافية وكافية في هذا الموضوع، ومع ذلك أنصحكم ـ في الأقل ـ بمطالعة كتاب <باد وباران في القرآن> لمؤلفه السيد مهدي بازرگان، لتدركوا كيف توصل إلى إثبات الإعجاز العلمي للقرآن من خلال هاتين الظاهرتين.
6- قاعدة: ما من حادث إلا وهو مسبوق بمادة ومدة ـــــــ
أشار الأخ العزيز في تلك المقابلة إلى القاعدة الفلسفية القائلة: <إن كل حادث مسبوق بالمادة والمدة>، وبما أن الوحي حادث فهو غير مستثنى من هذه القاعدة، ولذلك لا يمكن عد الوحي مجرداً عن المادة والمدة، وهذا الكلام بعيد من مؤلف كتاب (نهاد نا آرام)؛ لان هذه القاعدة بشهادة البرهان والدليل وكلمات الحكماء من المسلمين، مثل: صدر المتألهين، والمحقق السبزواري، وغيرهما، تتعلق بالحادث المادي، ولا ربط لها بالمجردات، خاصة ما كان منها من مقولة العلم والمعرفة، بل وما كان أسمى من هذه الأمور، كالوحي الإلهي.
7- معضلة تعارض القرآن والعلوم البشرية ـــــــ
الأمر الآخر الذي ذكرته في المقابلة، وبحثته في كتاب <التجربة النبوية> مسألة عدم الانسجام بين ظواهر القرآن والعلم البشري.
وقد استحسنت التعبير بظواهر القرآن، وليس القرآن نفسه، وكان الأحسن لو عبرتم بعدم الانسجام بين فهمنا البشري للقرآن والعلم البشري.
أساساً لا يمكن أن يكون هناك أدنى عدم انسجام بين العلم والوحي الذي لا يتطرق إليه الخطأ، فإن بدا هناك تعارضٌ فمردّه إلى واحد من أمرين:
1 ـ إن العلوم البشرية علوم تكاملية ومتغيرة، وإنها لم تكن أبداً ثابتة وصحيحة مئة بالمئة، وعليه فإن ما نعده اليوم علماً قد يتكامل غداً ويتغير، وينهار هذا التعارض الظاهري.
2 ــ إن فهمنا للوحي فهم منقوص، وإن هذا يؤدي إلى توهُّم التعارض، فمثلاً: تم في فترة ما طرح نظرية دارون في (أصل الأنواع)، الأمر الذي أربك في حينه البعض، وتصور أنها تتعارض وخلق آدم×؛ لأن هذه النظرية ترجع جذر جميع الكائنات الحية إلى كائن أُحادي الخلية، حيث تكامل هذا الكائن وتطوّر إلى أنواع، ولكن لم يمض طويل وقت حتى ثبت بطلان هذه النظرية، لتحل محلها نظرية (الدارونية الحديثة)، ثم تحولت هذه إلى نظرية ثالثة هي نظرية (الطفرة)، وكلها لم تعدُ طور النظرية، حيث لم تثبت علمياً!
والآن نعود إلى تلك الموارد التي وجدتم فيها عدم انسجام مع العلوم الحديثة، وربما هناك قبلكم من ذهب إلى ذلك أيضاً:
أ ـ مسألة السماوات السبع ـــــــ
تكلم المفسرون عن السماوات السبع، حيث قال تعالى: ﴿سَبْعَ سَمَاوَاتٍ﴾، ولكن ينبغي الالتفات إلى أن القرآن وإن تحدث عن السماوات السبع إلا أن الذي يمكن لنا رؤيته هي سماء الدنيا فقط، وعليه فإن السماوات الست الباقية خارجة عن نطاق رؤية الإنسان المعاصر، قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاء الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ﴾، ولربما تطور العلم البشري في يوم ما لتنكشف لنا حقيقة هذه السماوات، مع العلم أنّ هذه السماوات في تمدد مستمر ومتواصل، قال تعالى: ﴿وَالسَّمَاء بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ﴾. وعليه فإن عدم توصل العلم الحديث إلى معرفة السماوات الأخرى لا يصلح دليلاً على نفيها.
ب ـ المسّ الشيطاني ـــــــ
إن من المسائل التي يبدو فيها ظاهر القرآن غير منسجم مع العلم الحديث هو أن القرآن يعلل الجنون بمسّ الشيطان، وقد ذكرتم في هذا الشأن: <إن آية الله الطالقاني يذهب إلى أكثر من ذلك، فيقول في كتابه <برتوي أز قرآن>، في معرض تفسيره لهذه الآية ﴿الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ﴾: إن اعتبار الجنون بسبب مس الجن والشيطان من معتقدات عرب الجاهلية، وقد تحدث القرآن بلغتهم، وهذا ما ذهب إليه بعض من المفسرين المعاصرين في العالم العربي.
وجوابه: أولاً: إن الطالقاني ذكر في تفسير هذه الآية ثلاثة احتمالات:
1 ـ مس الجنون والتعرض للصرع وما ينشأ عنه من الاختلالات النفسية.
2 ـ تسلل ميكروب إلى مركز الجهاز العصبي.
3 ـ الوساوس والأوهام والأماني.
والذي يبدو من ظاهر كلام الطالقاني أنه يميل إلى الاحتمال الثالث، بشهادة العبارات التي ذكرها قبل التعرض لهذا الاحتمال، وإليك هذه العبارات: <بما أن أكل الربا انحراف عن المسيرة الإنسانية والطبيعية فان المرابي يصاب بالتخبط الفكري والاضطراب النفسي…، وترسخ عنده نزعة الحقد والشك في الآخرين…، ويظل في جميع الأحوال قلقاً مضطرباً غير مستقر، وتظهر هذه النزعة على سلوكه وكلامه وحركات جسمه وقسمات وجهه ونظرات عينيه…>.
ظاهر هذه العبارات يدل على أنه اختار هذا الاحتمال، وعليه لا يصح القول بأن الطالقاني قد فسّر الجنون بما يتناسب ورأي العرب الجاهليين في ما يتعلق بالجنون.
ثانياً: لو سلمنا تدخل الشيطان والجن في مرض الصرع والاضطرابات العصبية والنفسية إلا أن هذا لا يتنافى ونسبتها إلى الأسباب الطبيعية؛ وذلك لأن تأثير الأسباب غير الطبيعية في الحوادث الطبيعية إنما يقع في طولها، وليس في عرضها، كما هو الحال بالنسبة إلى تأثير الإرادة الإلهية في ظهور الحوادث الطبيعية، وهو أمر لا يمكن إنكاره.
إن سماحتكم قد درستم على يد الشهيد مطهري، ومن المعلوم عندكم أن العلم البشري، أي العلم المستند إلى المختبر والتجربة، حقيق بالإثبات دون النفي، فيحق للعلم أن يقول: إن السبب الكذائي دخيل أو مؤثر في الجنون، ولكن لا يحق له نفي تدخل الأسباب الأخرى، وليس من البعيد أن تكون الأسباب الغيبية دخيلة في بعض حالات الجنون، قال العلامة الطباطبائي: <إن الآية، وان لم تدل على أن كل جنون هو من مسّ الشيطان، لكنها لا تخلو من إشعار بأن من الجنون ما هو بمسّ الشيطان… فالمتبقي من إشعار الآية أن للجن شأناً في بعض الممسوسين إن لم يكن في كلهم>([3]).
وإذا تجاوزنا كل هذا الكلام نقول: إن الآية بمجملها غير واضحة الدلالة حتى يقال بعدم انسجامها مع العلم، أو القول بأن الوحي الإلهي قد تحدث طبقاً لثقافة الناس في تلك العصور.
ج- فكرة رجم الشياطين بالشهب ـــــــ
قلتم في كلامكم: <إن أستاذكم السيد محمد حسين الطباطبائي في تفسير الميزان قال بصراحة تامة بالنسبة إلى استراق السمع من قبل الشياطين، وقذفهم بالشهب: إنّ التفسيرات التي قدمها جميع المفسرين القدماء؛ استناداً إلى علم الهيئة القديمة وظواهر الآيات والروايات، باطلة، وقد يثبت اليوم بطلانها على نحو يقيني>.
عجباً! فأيّ إشكال في كلام العلامة هذا؟ فهو لم يزد على القول بعدم صوابية فهم المفسرين في ما يتعلق بهذا الآية؛ إذ لا يمكن التعويل على الفهم البشري بالمطلق.
مضافاً إلى أننا قلنا: إن العلم يحق له الإثبات دون النفي، خصوصاً وأن مسألة قذف الشياطين بالشهب من المسائل الغيبية ﴿لَا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلَى﴾، وهذا الملأ الأعلى مجرد عن المادة، فيجب أن تكون الشهب المرصودة لمن يستمع لها متناسباً وشأنها، ولذلك قال العلامة من خلال الالتفات إلى هذه الكلمات: <ربما كان المراد من السماء بقرينة “الملأ الأعلى” هو عالم الملكوت الذي تسكنه الملائكة>.
وأخيراً، نصائح أبوية ـــــــ
1 ــ ولدي العزيز لقد ذكرت في رسالتك ما ينيف على أربعين بيتاً من أشعار مولوي وغيره، وقد سعيت إلى تطبيق مقاصدك من خلال هذه الأشعار، ولكن ألم يكن من الأجدر بمن تخرج من إعدادية العلوي، وتتلمذ على يد مطهري، أن يرجع بشأن تحقيقه في حقيقة الوحي إلى القرآن نفسه، وأن يستنطق الآيات للوصول إلى حلّ هذه المعضلة؟
2 ــ ذكرت في رسالتي: أنّ هناك أيادي تحاول توظيفكم لغاياتها ومآربها، ومرادي هو أن كلامكم يطرح في وقت شمّر الغرب فيه عن ساعديه للتشهير بالنبي الأكرم وشتمه، وإن مقابلتكم الأولى والثانية قد تزامنت مع نشر الرسوم الكاريكاتورية في الدانمارك، والتي تسخر من نبي الإسلام، ويسعى أحد الممثلين في البرلمان الهولندي إلى عرض فيلم يظهر القرآن قبيحاً في أنظار المشاهدين.
3 ــ جاء في المقابلة قولك: <أرغب عند عودتي إلى إيران أن نعقد حواراً مباشراً مع الشيخ السبحاني في أجواء آمنة وهادئة إذا أمكن ذلك>، وقد فرحت لهذا المقترح كثيراً، يؤيد ذلك البحث الذي كان لنا في منزل السيد فاضل ميبدي، والذي كنت أنا الداعي له، كما كانت دعوتكم لتفقد مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام بطلب مني، ولكنني أتجنب المناظرة إذا كان الهدف منها إظهار نفسي، وآمل أن نقيم بحثاً علمياً في المناخ الذي تفضلونه أنتم للوصول إلى الحقائق.
4 ــ ذكرتم في خاتمة رسالتكم: <أرى من واجبي وما يمليه ضميري أن أطلب من سماحة الشيخ ]السبحاني[ أن لا يسكت أمام الانحرافات العلمية والأخلاقية، وأن لا يقرّ له قرار إذا تعرض مظلوم لظلم ظالم، وأن يبقى وفياً للعهد الذي قطعه الله على العلماء، وأن يكون في ذلك أسوة للآخرين>.
أليس في هذه الكلمات انتهاك لحرمتي، فمتى كنت معاضداً للظالمين والجفاة؟! لقد تجاوزت الثمانين من عمري، ومنذ أبصرت نفسي كنت قرين القلم والكتاب والتدريس والتبليغ، وكنت دائم التذكير بحديث النبي’: <لن تقدّس أمة لم يؤخذ فيها للمظلوم حقه من الظالم غير متعتع>.
ولكن عليكم أن تدركوا أن الظلم الذي يتعرض له رسول الله والمسلمين ظلم لم يشهد له التاريخ مثيلاً، فمن جهة تعمد الدول الغاصبة والظالمة إلى مهاجمة الرسول الأكرم وتعاليمه الإنسانية، ومن جهة ثانية تهضم حقوق أتباعه وتصادر حقوقهم بشكل سافر.
فتعالَ نتعاهد على الوقوف إلى جانب المظلوم في هذه المواجهة، وأن نقارع الظلم لننتزع منه حقوق المظلوم، وأن ندافع عن المظلومين بكل فخر واعتزاز.
الببغاء والنحلة: الجواب الثاني للدكتور سروش في ردّه على الشيخ السبحاني ـــــــ
سماحة الأستاذ المحترم آية الله جعفر السبحاني.
بعد التحية والسلام، فقد وصلتني رسالتكم الثانية، وقد كنت قبلها أكبر حسن ظنكم الذي احتوته جميع رسائلكم، وقد زادت رسالتكم الأخيرة من إكباري وإجلالي لكم.
لقد بدأتم الحديث من (القوس النزولي) عن أفكاري وأحوالي في العقدين الأخيرين، أي من حين نشري لكتاب (قبض وبسط تئوريك شريعت) فما بعد. وأنا سعيد بأن أراكم مهتمين بأوضاعي، راصدين أيام سُعدي ونحسي، ولكنني أجهل موقع المرصد. يبدو أن الشاقول والاسطرلاب بيدكم، وبهما تقيسون ارتفاع الشمس، وتحكمون بصعود وأفول الكواكب. ليس مهماً، ولكنْ لو عاد الأمر إليّ لقست الأفكار بمعيار الحجّة وميزان الحقيقة، ومنحت المخاطب حظاً من الاختيار وحقاً في الاجتهاد.
نوّهتم باجتماعات عقدت في طهران وقم احتججتم فيها عليّ حول بعض المسائل، واعتبرتم عدم اقتناعي بحججكم دليلاً على هبوطي. ولست أدري لماذا لا تضعون هامشاً ضيقاً لاحتمال أن يكون الضعف في حجتكم، وليس في معتقدي وصدقي؟ إنني أتذكّر تلك الاجتماعات جيداً، حيث تحدثتم عن حسن الصدق عقلاً وقبح الكذب عقلاً، وقلت لكم حينها: إن المعتزلة يرون أن القبيح عقلاً هو الكذب إذا كان ضاراً، ولا يرون قبح مطلق الكذب حتى وإن لم يكن ضاراً، وقد أقررتم ذلك في حينها، وعندها قلت لكم: إذاً لا مانع عندكم من أن يكذب الله على عباده كذبة تعود بالنفع عليهم (سواء في القرآن أو غيره)، فقلتم: إن ذلك محتمل، ولكنّ نسبته ضئيلة جداً، هل تذكرون ذلك؟
كان ذلك اجتهاداً منكم في باب احتمال صدور الكذب عن الله، وأنا لا ألومكم على اجتهادكم هذا، ولا أطلب منكم التوبة، ولكنني أعجب منكم حين تعزلون شخصاً قضى عمراً في الاجتهاد متواضعاً، مؤثراً التحقيق على التقليد، ولا يخشى قسوة ألسنة الأرثوذوكسية، وينظر إلى الوحي من خلال نقد العقل، الذي هو هبة من الله، وهو على ثقة من أن الشريعة من المنعة بحيث لا تنهار بآراء أمثالي.
وإنكم إذ رصدتم قوس نزول عقيدتي حبذا لو رصدتم أيضاً قوس صعود القسوة من باب الرأفة، وتجنبتم شبهة التواطؤ مع الجفاة، ولم تسهموا بسكوتكم بزيادة شحذ وصقل سيوف القساة، وأخذتم بنظر الاعتبار المظالم التي تعرضت لها، بل وتعرَّض لها جميع حملة الأقلام، وشجبتم هذه المظالم. هب أن مسألتي هيّنة، فما هو ذنب ذلك المرجع الفذّ، وفريد عصره، الذي تزول الجبال ولا يزول، فما هي جريرته التي استحق من أجلها تلك الصواعق من العذاب، ولماذا أخفيتم وسائر المراجع رؤوسكم في التراب ولم تبدوا أيّ اعتراض؟! إن الظلم الذي لحق بهذا الفقيه من الحصار والحبس والألم، ولا زال يعاني منه، لم يكن للسماوات أن تتحمله. إن تبعة هذا الظلم ستلاحقنا إلى يوم القيامة، وهناك مثله الكثيرون.
متى وأين يشهد هؤلاء الناس حساسية الظلم؟ وكيف يؤمنون ويثقون في أن المجتمع الإسلامي هو المجتمع الذي يؤخذ فيه للمظلوم حقه غير متعتع، كما أشرتم مستشهدين بعبارة نهج البلاغة، ومنذ سنوات وأنا أتعلمها وأجعلها معياراً وملاكاً لإصدار الأحكام.
لماذا يضعف إيمان الشباب بالدين؟ من المسؤول الحقيقي؟ ـــــــ
ذكرتم مشفقين أن الشبهات التي أثيرها تضعف إيمان الشباب! ألا تفكرون أن سلوك بعض علماء الدّين ممَّن يؤثرون الراحة، وأقوالهم التي تحارب الفكر، أكثر تقصيراً ومسؤولية في هذا الخصوص؟ أتعلمون أيَّ شيء يقضي على الإيمان؟ إنه نشر الخرافة باسم الدين، والظلم باسم الله، والسكوت أمام الظلم، حيث تشهدون حالياً أن نقد القيادة في إيران يساوق الانتحار، إنكم تتركون تلابيب هذه السياسية التي تقوّض الإيمان، وتقضي على العدل، وتكسرون جميع الجرار على رأسي؛ بحجة إضعافي لإيمان الشباب. إن شرب الخمور والعربدة، كما يقول حافظ الشيرازي، ليست بأخطر من اتخاذ القرآن مصيدة للتمويه على الناس. وهل يبدي علماؤنا تجاه هذا التمويه نفس الحساسية التي يبدونها تجاه التفسير؟ متى شاهد شبابنا وأين سمعوا كلاماً حسناً، أو سلوكية مناسبة، من علماء الدولة تساعد على تعزيز إيمانهم؟ وماذا شاهدوا من المؤسسة الدينية الروحية غير جسمانيتها كي تسمو أرواحهم؟ هل هناك من مؤشِّر للقول أو السلوك الحسن غير بعث ذوي الأمزجة الباردة إلى المجلس النيابي، وختم حاشية قائمة الفائزين في الانتخابات بختم صاحب الزمان، والترويج للخرافات من على المنابر والإذاعة والتلفزة، والانقضاض على المخالفين، وإثارة الدهماء على العنف، وخنق الأفكار الجديدة، واستتابة المفكِّرين، وبناء مدرسة المعصومية واستهلاك سهم الإمام المعصوم فيها، وإثارة الفتن من حين لآخر على يد هؤلاء العلماء، وهتك حرمة مرجع أو شخص محترم، والإساءة إلى العرفاء وتقويض بيوتهم عليهم، وتحسين الإرهاب والترويج له في صلاة الجمعة؟ إن مؤسستنا الدينية لا تدرك دورها السيّء في إضعاف إيمان الشباب، وتضرب يميناً وشمالاً في البحث عن الجاني والمقصر! ولكي نكون منصفين علينا أن نستثني قلة قليلة من العلماء الزاهدين العفيفين من هذه الجماعة، ولو لم يكن غرضي من هذه الأفكار الفلسفية الكلامية سوى إقامة العدل ونشر الفضيلة لما أطلت الكلام في انحرافات علماء الدين.
عندما يبرز غافل في قافلة الفقهاء بقم، ويلقي درساً في القتل والإرهاب، بالتزامن مع عرض فيلم (الفتنة) في إثبات عنف المسلمين وإرهاب الإسلام، ويكني ذلك الفقيه بما هو أبلغ من التصريح، قائلاً بأن على المسلمين معرفة ما عليهم فعله تجاه سروش! لماذا لا ينتفض بوجهه أقرانه، ليقولوا له: إذا كان هذا إفتاء فلماذا تحدد مصداقه؟ وإذا كان حكماً فما هو حقك في إصدار الأحكام مع وجود الولي الفقيه؟ ولماذا لا يأخذون بخناقه؛ بسبب أخذه بخناق الإسلام؛ وبسبب تشويه سمعة المسلمين؛ ومنعه من التحقيق؛ والحثّ على العنف في قبال الأدلة والحجج؟
فماذا تتوقعون من هذه المشاهد المقزِّزة؟ هل يشاهدون انعدام الثقافة، بل تدمير الثقافة عياناً، فيقوى إيمانهم؟ أم يخجلون من كونهم مسلمين؟ لا تنسوا أن القرون الأربعة الأخيرة شهدت الكثير من مؤلَّفات الملحدين والكفرة والماديين التي تبطل التعاليم المسيحية وتسخر منها، إلا أن الذي قصم ظهر الكنيسة لم تكن هذه المؤلَّفات، وإنما مواجهة ومحاربة الكرادلة لأشخاص مثل غاليلو، برغم أنهم لم يقتلوه، بل اقتصر أمرهم على حبسه واحتجازه في بيته، ولا زالت الكنيسة تحمرّ خجلاً من خزيها، ولا يزال جبينها يرشح عرقاً بسبب استحيائها، ولا أمل لها في يوم مشرق تنعم فيه بجفاف ذلك العرق بحرارة شمسه!
لقد حصلت على إيماني من العرفاء دون الفقهاء، ولذلك لست أخشى هذه الفرقعات على نفسي وإيماني.
وأما أنتم الفقهاء فعليكم بالشباب الذين يأخذون دينهم منكم، ثم ما إن يفتحوا عيونهم حتى يستشعروا رائحة الدم والعنف من أفواه أساتذتهم، فيهتز إيمانهم كغصن رقيق أمام العواصف.
أو نذكر آية الله مكارم الشيرازي، الذي لا يتورع قلمه عن الألفاظ القبيحة، ومع ذلك يطلب مني التوبة، دون أن يدرك أن التوبة إنما تكون من المعصية دون المعرفة، فما ظنك بـ <أنوار الفقاهة> التي تنشر الظلمة، وتعتبر المعارف من جملة المعاصي، وما أسوأ درس هذا الفقيه الذي يحرّم الفكر، ويختم الأفكار بختم الحلال والحرام، ويطالب المحققين بالتوبة والاستغفار!
وإذا غضضنا الطرف عن سكوتكم يا سماحة السبحاني عن هؤلاء الفقهاء فما عسانا نصنع حين نراكم وأنتم تعملون على تكريم التافهين؟!
وقلتم في هفوة تاريخية: إن كلامي قد اقترن بنشر صحيفة دانماركية لرسوم تسخر من النبي، فعليّ القول: إن بحثي حول كلام الباري وكلام محمد× قد سبق أن ذكرته قبل عشر سنوات في كتاب <بسط تجربه نبوي>، والمقابلة مع الصحفي الهولندي كانت قبل سنة تقريباً، وقبل إغلاق مجلة (المدرسة)، وعليه يكون الأول قد حدث قبل ثماني سنوات من رسم الكاريكاتور المناوئ للحرية، والثاني بعد ذلك بسنتين. وفي تلك البرهة كتبت شعراً في المناسبة عنونته بـ «لا يمكن التلاعب باسم محمد»، وقد ضمّنته العبارات الآتية:
<إن هذا الاسم هو شرف المسلمين وثروتهم المقدسة، وهو لواء فخر وشعر فكر العالم الإسلامي، ومثال لجميع أرواح الكرام والأطهار في النشأتين. إن اسم أحمد هو اسم لجميع الأنبياء>.
وقبل عام ونصف كان لي بحث تفصيلي في نقد كلام البابا بينيدوكتوس السادس عشر حيث قال: <بما أن المسلمين يعتبرون القرآن عين كلام الله لذلك لا يقومون بتفسيره وتأويله>. وإن جميع هذه البحوث والكتابات موجودة على موقعي الالكتروني. ومع ذلك أيّ موقع يبقى لشبهة التواطؤ مع المعاندين والطاعنين بإسلامنا؟!
فلا تلك الصحيفة التي تتاجر بالولاية، والتي ليس لها من همّ سوى تحريف الحقائق وتسويق العنف، وتتهمني علناً؛ بسبب أفكاري؛ بالعمالة للموساد والسي آي أي، دون أن تواجه باعتراض منكم، ولا أولئك الذين يطالبونني بالتوبة، ويحرضون المسلمين عليّ بالعمل بتكليفهم، لا أحد منهم يخدم المعرفة والعدالة والخير والحقيقة، ولا يحلون عقد المشاكل بكلماتهم، بل يثبتون من خلالها أنهم غافلون عنها ولا علم لهم بها. وبدلاً من الخوض في البحوث التحقيقية والعقلية يلجأون إلى أسلحة قديمة صدئة، من قبيل: الكبت، وإسكات المجدِّدين، والتهديد بالعقوبات الدنيوية والأخروية، مكرِّرين بذلك أخطاء الأسلاف بعدم اعتبارهم بالتجارب التاريخية للأديان والأقوام السابقين، كالذي يغمض عينيه كي لا يرى الشمس، وفي الوقت نفسه يتمنى زوالها.
سماحة الشيخ السبحاني، أود إعلامكم بأن إخراج الإلهيات الإسلامية من جمودها، والعودة بها إلى ما قبل المناخ الأرثوذوكسي، والاستفادة من العلوم والأبحاث الجديدة، هو شرط بقاء الإسلام في العالم المعاصر. ولا يكون ذلك إلا من خلال التحقيق الحر والواسع، وهذا لا يتناسب والإرهاب والتكفير، وإذا أرادت الحوزات العلمية أن تواكب هذه العملية أو تقودها فعليها أن تحتاط في سلوكياتها وخطاباتها، وإذا لم تستطع زرع الزهور فلا تنثر الأشواك.
وأنا سعيد لاهتمام المراجع والمشايخ العظام بهذا البحث، وعلى رأسهم الشيخ المنتظري، الذي هو بحق فخر المرجعية والمؤسسة الدينية، وأعتبر هذا الاهتمام دليلاً على أهمية الحوزة وخطورة المسألة، ولكنّ الذي يسوؤني ويحبط الجمهور هي لغة العنف والتكفير، التي ينبغي وضع حدًّ لها.
وقفة مع النقّاد ـــــــ
ثانياً: النظرية التي يراد لها حل مشكلات (كلام الباري)، وهي نظرية يقبلها العقل، ويمكن الاستدلال عليها والدفاع عنها، وتعيّن سهم شخصية محمد الناسوتية والبشرية ـ والتي أكد عليها القرآن بشدة وغفل عنها الناقدون ـ في مسألة الوحي بلا زيادة أو نقصان، والتي يدعمها جمهور كبير من العرفاء والفلاسفة المسلمين لست أدري لمَ تعتبر مثل هذه النظرية ـ عمداً أو غفلة ـ نفياً لكلام الباري تعالى، ومحاربة للقرآن؟!
إن معرفتي بالقرآن الكريم ـ بحمد الله ـ إذا لم تكن أكثر من معرفتي بالمثنوي فهي ليست بأقل منه، وإن جميع الآيات التي استشهد بها سماحة آية الله السبحاني، وغيره من الناقدين المحترمين، مثل: السادة عبد العلي بازرگان، وحسيني طباطبائي، وأيازي، وآخرين، أحفظها جيداً، ولا توجد عندي أيّة مشكلة في حلها وفهمها، فأيّ محذور بين أن يكون القرآن نازلاً على قلب النبي، وان جبرائيل هو الذي أنزله، وأنه كلام الله، وأنه مفعم بألفاظ وكلمات { ﭑ}، وأنه كان يحدث للوحي أن يتأخَّر في نزوله، مما يضطر النبي إلى الانتظار، وأن النبي قد نُهيَ عن التعجّل في القرآن من قبل أن يقضى إليه وحيه، وأن النبي لم يكن له الحق في تغييره، وأن كلام الله قد وصل إلى الناس على نحو ما كان يريده، وأن القرآن معجزة، وأمثال ذلك، وبين أن يكون القرآن بمجموعه نتاج كشف وتجربة لإنسان استثنائي مبعوث من قبل الله ومؤيَّد منه، وأن كلامه قد أُمضي من قبل الله، وأن كشفه كان نتيجة لحظات فذّة ونادرة من التجارب الروحانية المتعالية؟
الجمع بين الإلهية والطبيعية ـــــــ
لست أدري ما هو تفسير الناقدين لظاهرة مثل الموت والمطر، فقد ذكر في القرآن مراراً أن الله هو الذي يتولى قبض الأرواح بنفسه: ﴿اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا﴾ (الزمر: 42)، أو أن الذي يتولى ذلك هو ملك الموت: ﴿قُلْ يَتَوَفَّاكُم مَّلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ﴾ (السجدة: 1)، أو أن الذي يتولى قبض أرواح الناس عدد كبير من الملائكة ﴿تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا﴾ (الأنعام: 61)، أوَلم يرد في بعض الروايات أن ملكاً ينزل مع كل قطرة مطر: «والهابطين مع قطر المطر إذا نزل»؟ ومع ذلك لا توجد هناك منافاة بين موت الناس الطبيعي والمادي، وبين قبض الله للأرواح وقبضها من قبل ملك الموت. أوَليس الله هو الذي يُنزل المطر ﴿وَأَنزَلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ مَاء ثَجَّاجًا﴾ (النبأ: 14)؟ فهل التفسير الطبيعي والمادي لظاهرة نزول المطر تسلب الله قدرته وتجرّده عنها؟ ألسنا نقول في ذلك: إن الله مبدأ المبادئ، وانه في طول العلل الطبيعية، وان جميع الأشياء تقع بإذنه وتدبيره؟ فإذا كان كذلك لماذا يكون البيان الطبيعي والمادي للوحي وكلام الله وإبراز دور النبي فيه قاطعاً لنسبته إلى الله، وسالباً لدور الله فيه؟ ولماذا يُستثنى الوحي من قاعدة العلل والمعلولات، ويتمّ إسناده إلى ما وراء الطبيعة رأساً؟!
أفكر أحياناً وأقول لنفسي: يبدو أننا عدنا إلى الزمن السحيق الذي كان فيه بعض المتدينين يعتبرون أن نسبة المطر إلى دور الشمس والبحار والرياح منافياً للمشيئة الإلهية، فكانوا ينسبون نزول المطر إلى الله مباشرة، وها نحن بنفس المنطق ننسب نزول وابل الوحي إلى الله مباشرة، دون ربطه بعلله الطبيعية (نفس النبي، ومجتمع عصره، وعلمه، ولغته، وما إلى ذلك)، مستندين في ذلك إلى آيات كريمة تكرر ذكرها في القرآن، من قبيل: ﴿إِنَّا أَنزَلْنَاهُ﴾، ولا نتدبر في أن هذا الإنزال والإرسال قد استعمل في القرآن بشأن المطر والرياح أيضاً. وهذا ما يمكن استيعابه في عالم مفعم بالألوهية، وترى الله فيه محيطاً بكل شيء، وهذا هو عين الكشف المحمّدي.
والعجيب أنهم في ما يتعلق بكلام الباري تعالى يعتبرون النزول مجازياً، وليس حقيقياً، بمعنى أن المراد ليس هو النزول من مكان أعلى إلى مكان أسفل، كما هو الحال بالنسبة إلى المطر، وإنما يعني النزول من مكانة أرفع إلى مكانة أدنى، أي من عالم الملكوت إلى عالم الملك، ولكنهم يبقون الكلام على حقيقته، ويحملونه على الألفاظ التي تصدر من أفواه البشر، وفي هذا من الإبهام وعدم الوضوح ما لا يخفى! فلماذا نقف في منتصف الطريق؟ ولماذا لا نذهب إلى مجازية الكلام، ومجازية نزوله مرة واحدة، ليرتفع الإشكال، أو نذهب إلى كون كل منهما حقيقي حتى لا نضيع في هذه المتاهات.
ينبغي بنا أن نترحّم على روح الإمام الفخر الرازي، حيث قال: جاء في القرآن ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ﴾، وهذا ليس فيه معنى غريب يضطرّنا إلى البحث عنه في ما وراء الطبيعة، فما دام المسلمون قد اهتموا بجمع القرآن، وثبته في المصحف كان ذلك هو عين الحفظ الإلهي، وعلى هذا قياس الأمور الأخرى.
ثالثاً: إن ما نقوله من أن القرآن نتاج الكشف النبوي لمحمد بن عبد الله| لا يعني عدم صدق هذا الكشف، حتى يكون من حق النبي تغييره، أو أن تنزل عليه الآيات متى شاء ذلك.
ولا يقتصر هذا على النبوة، بل يصح حتى بالنسبة إلى الاكتشافات العلمية والفلسفية والرياضية أيضاً، فإذا كان قانون الجاذبية من اكتشاف إسحاق نيوتن فلا يعني ذلك أن لا يقوم هذا الرجل بجهوده العلمية وتجاربه، أو أن يحقّ له قول كل ما يريد بسبب اكتشافه هذا، أو أن يصوغ تلك النظرية وفقاً لذوقه، وهكذا نقول بالنسبة لنظرية أصالة الوجود الفلسفية، فلا يسع صدر الدين الشيرازي أن يتجاوز البرهان، وأن يضع التعاريف، ويؤسس القواعد، لتناسب رغباته وأهوائه، فهو تابع للدليل، وليس العكس، وإن كان استدلاله ومعرفته على قدر طاقته، ولا يمكن لأي شخص أن يحمّل نفسه فوق طاقتها: (الحكمة هي العلم… بقدر الطاقة البشرية). وإذا تجاوزنا العلم والفلسفة نجد صدق هذه الحقيقة حتى بالنسبة إلى الشعر، فالشاعر لا يمكنه قول الشعر متى بدا له ذلك، بل الأمر على العكس من ذلك تماماً، فهو محكوم لوحي الشعر، وليس الشعر طوع أمره.
وقد حدث لمولوي بعد أن أتم الكتاب الأول من المثنوي أن تعسر عليه قول الشعر واستمرت هذه الحالة عامين كاملين، حتى عادت له قريحته الشعرية، وفاضت الحكمة من بين جوانحه.
ولكلمات ﴿قُلْ﴾ الواردة في القرآن حقيقة واضحة، فإن هذا الأسلوب يعتبر من فنون الكلام، حيث يقوم فيه المتكلم بتوجيه الخطاب لنفسه في حين أن مراده من الخطاب غيره، وهناك أمثلة على ذلك في أشعار مولوي الرومي وحافظ الشيرازي.
ولست أدري كيف يعالج آية الله السبحاني قوله تعالى: ﴿فَإِن كُنتَ فِي شَكٍّ مِّمَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُونَ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكَ﴾ (يونس: 94)، فهل كان النبي يشك في نبوته؟ إن الأرثوذوكسية الإسلامية ترفض هذا التفكير، أو أنها تحمل الكلام على تأويلات، مثل: أن يكون الكلام في واقعه متوجَّهاً إلى غير النبي، ويتضح ذلك من خلال آيات أخرى، من قبيل: ﴿وَإِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا﴾. أجل، يمكن بيان المراد بأنواع كثيرة من أساليب الكلام.
إن الأسلوب الحواري في القرآن، والذي شرحته في كتاب «بسط تجربه نبوي»، يكشف النقاب عن هذه الفنون البلاغية بوضوح، ويكشف عن ذهنية النبي ونفسيته تجاه الناس وحوادث المجتمع، سواء في الموضع الذي يقول فيه ﴿يَسْأَلُونَكَ﴾ أو في غيره، وكأن القرآن حوار متواصل ومتعدد الجوانب بين الله والكون والإنسان والطبيعة والتاريخ الذي كان النبي محمد‘ يعيش في وسطه، وفيه إجابات عن تساؤلات وتحديات ذلك العصر، وإن تلك التساؤلات والتحديات هي التي كانت تجعل روحه متعطشة ومتلهفة لكشف الحقائق ليحصل على إجابات من ملك الوحي، ونقلها إلى الناس بلغة يفهمونها، وهذا التلهف نشاهده في مثل قوله تعالى: ﴿قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاء﴾ (البقرة: 144). كل ما في الأمر أن تحفز ضمير محمد، وتلاطم بحر وجوده، هو الذي أدّى إلى اكتشاف الوحي.
وكانت هذه المتطلبات كامنة أحياناً وظاهرة في أحيان أخرى: ﴿قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاء﴾ (البقرة:144)، كل ما في الأمر أن الفوران والجيشان الحاصل في ضمير محمد هو الذي أدى إلى الكشف والوحي.
بطبيعة الحال كان لمحمد شخصية استثنائية، حيٌّ نبت زهرةً في وسط الصحراء، وكان أمياً فاق في علمه جميع الأمم، وإن ظهور كتاب مثل القرآن من رحم تلك الجاهلية الظلماء يعد في (لغة الدين) معجزة، وهذا ما جعل من النبي وكتابه إنساناً وكتاباً فريداً لا يضارع، فالذي كان معجزة هو شخص محمد، أما القرآن فقد اكتسب إعجازه من إعجاز محمد، وربما لو جاء بهذا الكتاب شخص آخر، مثل: أفلاطون، لما كان معجزة، أما محمد الأمّي فلم يحتمل منه صدور مثل هذا الأمر الخارق للعادة، وليس عبثاً أن قيل في تفسير قوله: ﴿فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ﴾ أي بسورة من مثل محمد([4])، وليس عبثاً أن ذهب كبار العلماء من المعتزلة والشيعة إلى إمكان الإتيان بمثل القرآن ولكن الله يحول دون ذلك (مذهب الصرفة).
لقد كانت هذه الشخصية البديعة، بما لها من قلب يقظ، وعين واعية، وذهن متوقد، من صنع الله، وأما سائر الأمور الأخرى فهي من صنع هذه الشخصية، وتابعة لكشفه وإبداعه، لقد كان محمد كتاباً سطره الله، وحينما كان محمد يقرأ كتاب وجوده كان يترجم هذا الوجود قرآناً، ومن هنا كان القرآن كلام الله، حيث خلق الله محمداً، وخلق محمد القرآن، فكان القرآن كتاب الله، كما خلق الله النحل، فأنتج النحل العسل، فكان العسل نتاج ذلك الوحي.
أجل، إننا إذا قصرنا النظر على ظاهر الآيات والروايات نجد الله متكلِّماً ﴿وَكَلَّمَ اللّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا﴾، كما أنه يمشي على قدمين: ﴿وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ﴾، وكذلك يعتريه الغضب ﴿فَلَمَّا آسَفُونَا انتَقَمْنَا مِنْهُمْ﴾، ويجلس على العرش ﴿الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى﴾، ويعرض له التردد، حيث جاء في الحديث القدسي: <ما ترددت كترددي في قبض روح عبدي المؤمن>….
ولكننا إذا نظرنا إلى المعنى لم يرِدْ أيّ واحد من هذه المحاذير، فالذي يتكلم حقيقة هو محمد| الذي يكون كلامه؛ لفرط قربه وأنسه، عين كلام الله، وان إسناد كلامه إلى الله كإسناد سائر الأفعال البشرية إليه على سبيل المجاز دون الحقيقة.
إن الوحي الذي ينظر فيه إلى النبي بوصفه مجرد ناقل ومتلقٍّ بحت، ويجعل العلقة القائمة بينه وبين الله من قبيل علاقة الخطيب بمكبِّر الصوت، والهبوط بدور قلب النبي وضميره إلى مستوى الصفر، ويعتبر جبريل مجرد ساعي بريد يتردَّد على الدوام بين الله والنبي، ويقيم بين الباعث والمبعوث علاقة البُعد بدلاً من علاقة القرب، ويجعل من الرسول مقلِّداً لجبرائيل، ويصوِّر الله سلطاناً والناس رعايا لذلك السلطان، ويرى كلام الله من قبيل كلام الناس، ويقرّ التشبيه بدلاً من التنزيه، نقول: إن هذه النظرة لا تنسجم بطبيعة الحال مع الرأي المذكور آنفاً. وأما المقال التوضيحي الذي سقته فهو مثال النحل القرآني، الذي يعتبر ما يقوم به من عمل عين ما يوحى إليه؛ فتغدو حياته مفعمة بالشهد والعسل، قال تعالى: ﴿وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ * ثُمَّ كُلِي مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلاً يَخْرُجُ مِن بُطُونِهَا شَرَابٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاء لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ﴾ (النحل: 68ـ69).
واضح أن للنحل دوراً ومدخلية كاملة في إنتاج العسل، وليس مجرد ناقل للعسل، بمعنى أن يأخذه من مصدره ليوصله إلى غايته، كما يفعل سعاة البريد، ومع ذلك فهو شراب إلهي فيه شفاء للعالمين. أفلا تكفي هذه الآيات ليتدبر المفكرون والعلماء أن القرآن من قبيل نتاج النحلة، وليس من قبيل ما يردده الببغاء؟!
وقد شبهّ ابن عربي في الفصّ الشيثي من فصوص الحكم ما يحصل عليه أهل الكشف من كشوفات بقوله: (فمن شجرة نفسه جنى ثمرة غرسه).
أجل، إن في النحل الآية لمن تدبّر ونظر، ولو أن سماحة آية الله السبحاني نظر إلى النحل والنخل، بدلاً من الببغاء، لحصل على صورة أروع وأفضل للوحي المنسوب إلى محمد’، فأين الببغاء المقلِّد من النحل المنتج والمولِّد؟!
الوحي وقّوة الخيال النبوي ـــــــ
رابعاً: حذارِ أن تتصوَّر أن النبي كان يسمع كلام الله من جبرائيل على نحو ما نسمعه نحن من كلام النبي، أو تتصور أن النبي كان مقلِّداً لجبريل كتقليد الأمة للنبي. هيهات، فأين هذا من ذاك؟ فهذان نوعان متباينان، ولم يكن التقليد يوماً ما علماً أصيلاً أو سماعاً حقيقياً([5]).
فمحور الكلام في ملك الوحي ونوع ارتباطه بالنبي. وإذا تجاوزنا الحشوية والحنابلة فليس هناك من الفلاسفة المسلمين، ابتداءً من ابن سينا إلى الخواجة نصير الدين الطوسي، وصدر المتألهين، من قال بإمكان الوحي على النبي دون تدخل من قوة الخيال، وإذا كان هناك جبرائيل فهو حاضر ومتصور أيضاً في مخيلة النبي، أي حتى في هذه الناحية تلعب المخيلة دورها في استقبال جبرائيل، وتعطيه صورته وصفته، وإذا كان له من دور فهو إعداد النبي ليصل بنفسه إلى العلم الأصيل، لا أن يكون النبي تلميذاً يتعلم من جبرائيل، ليعلم الناس فيما بعد ما تعلَّمه منه. هذا هو الفهم الفلسفي للوحي، وهو بطبيعة الحال يختلف عن الفهم العامي اختلافاً كبيراً، كاختلاف المنضدة بين رؤية علماء الفيزياء ورؤية عامة الناس، حيث يقول الفيزيائي الإنجليزي (استانلي أدينغتون): <إن المنضدة في عين العامة عبارة عن شيء صلب ومصمت لا تجد فيها أي تجويف، إلا أن هذه المنضدة نفسها في عين الفيزيائي مليئة بالتجويفات حيث يراها عبارة عن ذرات إلكترونية، وهي ذرات ليس لها حدّ معيّن، ولكن يمكن الحديث عن احتمال زيادتها أو نقصانها هنا وهناك، وعندما نعمل المنشار فيها تتمحور هذه الذرات فيما بينها…>. وهذه هي حقيقة الملائكة بالنسبة إلى الخاصة والعامة.
جاء في بعض الروايات: إن لجبرائيل ستمئة ألف جناح، وإن النبي شاهده في المعراج على هذه الصورة. وقال تعالى: ﴿أُولِي أَجْنِحَةٍ مَّثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ﴾. وقد ذهب عامة المفسرين ومقلِّديهم إلى تفسير الأجنحة بمعناها الظاهري، متصورين أن الملائكة ذوات أجنحة تطير بين السماء والأرض. وقد ذهب الفخر الرازي، المفسِّر والمتكلِّم في القرن السادس الهجري، إلى التعامل باحتياط واحتراس في تفسير هذه الآية، فقال: ربما كان المراد من الأجنحة مختلف قوى ونشاطات الملائكة، من قبيل: الإرزاق، وقبض الأرواح، وما إلى ذلك. وحينما نصل إلى صاحب الميزان في العصر الحاضر نجده يطرح هذا الرأي بقوة وجرأة أكثر، فقال من خلال التعرض لبحث لغوي تفسيري: إن الملائكة ليست أجساماً ليكون لها أجنحة، وإنما المراد من الأجنحة هي الغايات والأغراض المترتبة على هذه الأجنحة، أي الأدوار والمهام التي تضطلع بها، ثم أضاف: أجل كان يتراءى للنبي أن للملائكة أجنحة، إلا أن هذه ليست هي الصورة الواقعية للملائكة، كما هو الحال بالنسبة إلى الملك الذي تراءى لمريم سلام الله عليها، والنار التي أبصرها موسى عليه السلام.
أي إن القرآن يقول صراحة: إن للملائكة أجنحة مثنى وثلاث ورباع، إلا أن العلامة الطباطبائي يرى استحالة ذلك، فهي أجنحة في تصور النبي، وليست كذلك في حقيقة الأمر. وطبعاً ليس هذا هو مذهب الطباطبائي فقط؛ فانه في ذلك يسير على خطى الأسس الفلسفية التي شادها فلاسفة مثل: الفارابي، والخواجة نصير الدين الطوسي، وغيرهما، والتي لا تؤدي إلى غير هذا الرأي.
في هذا التفسير نزول الملاك وإبلاغ الوحي وأمثال ذلك حوادث تقع في صقع نفس النبي، ثم يتم بيانها بلغة دينية، وكأن طائراً له ستمئة جناح قد نزل على النبي، وتكلم معه باللغة العربية.
وببيان آخر: إن التفسير الأوضح لمعنى الأجنحة من وجهة نظر صاحب الميزان أن النبي يقول: إنني أراهم بجناحين وثلاثة أجنحة وأربعة، وعليه لا فرق بين هذا القول وبين ما يقوله العرفاء من أن النبي’ كان يُنزل جبرائيل، وأن جبرائيل هو وعي النبي وإدراكه.
الحقيقة هي أنه يجب اتّباع الفلاسفة والعرفاء في أن ما يقوم به النبي هو تصور الحقائق المجّردة، وهذا ما لا يمكن لغير الأنبياء أن يقوم به، ويأتي العرفاء والشعراء في الدرجة التالية للأنبياء.
ولا يقتصر تصوير النبي للأجنحة والطيور في خيالة المبدع، بل يتعداه إلى تصوير اللوح والقلم والعرش والكرسي، وكذلك النار والحور والصراط والميزان وما إلى ذلك، وقد استعار النبي هذه الصور من البيئة التي يعيش فيها والمألوفة له، فلا نجد أيّة صورة غريبة عن البادية العربية من بين هذه الصور.
أما اللغة والألفاظ والكلمات فلا كلام في أنها قوالب بشرية، وقد استوعبت الوحي في متنها، وكلها تنبثق من مخزون عقل النبي، وتستوعب المعاني المجردة.
وإن صعوبة ما يقوم به النبي تكمن في أن الصور التي يرسمها تفرض حجاباً على المجرَّدات، مما يؤدي بالماديين إلى التعلق بهذه الصور، والغفلة عن المجرَّدات، والأسوأ من ذلك أنهم أخذوا يكفِّرون من يكرس رؤيته على الواقع التجريدي.
الوحي ومشكلة الزمكانية، حصار التاريخ وثوب المناخ المحيط ـــــــ
كان نبي الإسلام يمارس مهام النبوة وهو محاصر من جهتين؛ الأولى: الصور التي تحد من كشوفاته المجردة، وتقيد اللامكان في البعد المكاني؛ والثانية: الحصار العرفي، حيث يعطي لعدله وسياسته صفة محلية وعصرية، ويلبسها ثياب القوانين القبلية الضيقة، وهي التي يُدعى الشرّاح إلى ترجمتها فلسفياً وعرفانياً وثقافياً.
ما إن يتكلم الله (أو النبي) باللغة العربية، ويمضي ما عليه العرب من الأعراف، يكون قد فرض على نفسه بعض المحدوديات مسبقاً. ولم يقم أي دليل على أن اللغة العربية هي أفضل اللغات في احتواء المعاني المجرَّدة في صقعها، فإن المواضيع وان كانت من النبي إلا أن التصورات والمفاهيم لغوية، وإن هذه التصورات والمفاهيم تضع القيود على التصديقات، وهكذا الأعراف والتقاليد السائدة في عصر النبي، والتي لم تكن أفضل الأعراف والتقاليد الموجودة والممكنة، ولكن الشارع أمضى أكثرها وصادق عليها، فاتخذت صفة الأحكام الإلهية.
إن الوحي الذي نزل على النبي قد نزل بالعربية، والعربية هي المرآة المنبثقة عن ثقافة القوميات العربية (وليست هناك لغة نازلة من السماء دون غيرها ـ ويتغنشتاين)، وهذه الثقافة هي التي تغدو مادة لتصوير الوحي. أوَليس النحل الذي يتغذى على الأزهار والنباتات المحيطة به، ويحولها إلى عسل أفضل مثال لما يقوم به الأنبياء في الاستفادة من المواد الموجودة بين أيديهم، وما يوفره الزمان والمكان الذي يعيشون فيه، ويوظفونه في تجربة وحيهم، ويصنعون بذلك المعجزات التي لا تقصر عن تحويل التراب إلى ذهب.
يجب عدم الابتعاد كثيراً، فلا بد من قراءة مفهوم (النزول) و( البشرية) بعمق لفهم معنى الوحي، واعتبار كل ما فيه بشرياً، وهذا هو عين ما يقوله القرآن.
يتساءل المعاصرون للنبي’ قائلين: ﴿مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ﴾، فكانوا يتصورون أن النبي يجب أن يكون ملكاً لا يأكل ولا يتزوج. والمعاصرون أيضاً يردِّدون تساؤلات مشابهة، حيث يقولون: ما لهذا الرسول يتناول ثقافة عصره، ويمشي في أسواق التاريخ وأزقته؟ كلا المنطقين واحد، فكلاهما يريد من النبي أن يتنصَّل عن بشريته المحاطة بالزمان والمكان واللغة والثقافة، ولا يكون ذلك إلاّ بتحوّله إلى ملك.
أجل، كان النبي إنساناً استثنائياً، وكما يعبّر عنه في اللغة الدينية بأنه (ولي الله) ، إلا أن ولايته لا تنفي بشريته، فإن وعاء البشرية من السعة بحيث يحتوي الولاية والنبوّة. وإن شَهْد كلام النبي يشهد بأنه نحلة في العالم القدسي، وليس ببغاءً فوق سدرة المنتهى. وكانت اختياراته واسعة أيضاً، فكل ما يفكر به أو يقوله كان الله يصادق على صحته ويمضيه، ألم يقم بزيادة عدد الركعات في الصلاة([6])؟ أَلَم يقل: <لولا أن أشق على أمتي لأوجبت السواك لكل صلاة>([7])؟ أَلَم يقل: <لو قلت حجّوا في كل عام لوجب الحج في كل عام>([8])؟ ولم تكن هذه أحكام مؤقتة، أي إنه رغم بشريته يرى نفسه مقبولاً عند الله، وفي بشريته يتخذ الإيجاب والتحريم صبغة إلهية.
إن هذا النوع من النظر إلى الإسلام والأحكام والقرآن يساعد على فهم ظاهرة الوحي، ويخفف من وطأة التأويلات المتكلفة، ويفتح القرآن أمام أعيننا بوصفه نصّاً تاريخياً وبشرياً، ويحول جغرافيته السماوية إلى جغرافية أرضية.
ومن هنا فسوف لا نستغرب أن يكون التقويم القرآني تقويماً قمرياً، وأن يوجب على جميع المسلمين صيام شهر رمضان، أو أن يرشد الناس إلى عظيم صنع الله من خلال النظر في خلق الإبل، أو أن يحدّث جميع الأديان عن إيلاف قريش، أو أن يلعن خصوص أبي لهب من بين جميع الأعداء، أو يُجلس حور الجنان في الخيام العربية، أو يتحدث عن وأد البنات، أو المبالغة في إيمان الجن، أو الإخبار عن أزواج النبي وأفعالهنّ الصبيانية، أو بيان عقائد الأعراب بشأن بنات الله، مما هو مصبوغ بأجمعه بلون عربي وقومي وشخصي هو شديد الصلة ببادية الحجاز، وإننا إذا ابتعدنا عن شبه الجزيرة العربية قليلاً لن نعثر على شخص يطرب لهذه الصور الغريبة عن ثقافته وأعرافه.
وكذلك لا نستغرب إذا وجدنا القرآن يجيب عن أسئلة لا هي بالمهمة، ولا هي تستهوي غير العرب آنذاك، كالسؤال عن الأهلّة، وعن ذي القرنين، وعن سنوات اليأس عند النساء، والقتال في الأشهر الحرم، مما يعود إلى السابقة الذهنية والتاريخية لسكان الجزيرة، أو إلى أسلوب ونمط حياتهم.
وهكذا الأمر بالنسبة إلى السماوات السبع، أو خروج النطفة من بين الصلب والترائب، أو رجم الشياطين المتطفلين بالشهب، أو كون القلب هو مركز الإدراك (دون المخ)، مما يعود إلى قصور في العلوم البشرية آنذاك.
فأين هذه الآيات من آيات أخرى، من قبيل: قوله تعالى: ﴿وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ﴾، و﴿اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾، و﴿هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ﴾، و﴿فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ اللّهِ﴾، مما يكشف عن أوج المعراج الروحي للنبي، وقوة اكتشافه لحجب الغيب، وإلا فكيف نفسر كل هذه النوع من القبض والبسط والصعود؟
أليسَ من الأصح البحث عن هذا القبض والبسط في وجود النبيّ نفسه، وهو الذي دخل المدرسة الاجتماعية بوصفه أستاذاً معالجاً ـ حيث عد القرآن الشفاء والتعليم رسالتين أساسيتين في مهمة النبي ـ لإلقاء بعض الدروس ـ وهي الحكم وثمار النبوة التي ملأت جوانحه حتى فاضت ـ فأحبّ أن يشارك بها الآخرين، حيث قال تعالى: ﴿وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ﴾، وحل مشاكل الناس وإزاحة أوجاعهم ﴿عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ﴾، إنه ينظر إلى ما حوله؛ فيجد نفسه يتيماً من دون مأوى، وإذا به مفعماً بالهداية، وقد تزوج من سيدة ذات يسر وثراء، فيرجع كل ذلك إلى الله ونعمته، قال تعالى: ﴿أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى * وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى * وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى﴾، ويعد الشكر واجباً تجاه كل هذه النعم، ويعلم طلابه دروس الشكر والطاعة والبعد عن التكبر والأنا والجاهلية، ويحذرهم من العصيان والتمرد والانحراف عن المنعم، فتحدث ضجة من الفصل، وتبادر جماعة إلى الإنكار، وهناك من يشهر السلاح بوجهه، وهناك في يختبره بأسئلة تافهة، وهناك من يؤمن به ويسلم له، كل هذا منعكس بالدروس الشفهية التي ألقاها، واتّخذت فيما بعد شكل المصحف، فيولد القرآن في صلب هذه التجربة الحية، ويتحول المعلم الشافي لدى مواكبته لهذه التجربة الحيوية أكثر خبرة، وتغدو دروسه أكثر ثراءً، ولا شك في أن حياته لو امتدت لأكثر لكانت تجربته أكثر غناءً وسعةً، وبعكس ذلك لو اكتفى واقتنع بعزلته في الغار لما عرفنا عنه سوى اكتشافات متعالية بسيطة.
وعليه من الصعب القبول بأن جميع هذه الجزئيات والأحوال والأسئلة قد كانت في قبالها آيات مكتوبة ومعينة منذ الأزل، وأن الله قد وظف جبرائيل لإنزال كل آية في وقت الحاجة إليها، وهو عين ما يصوره عامة العلماء السابقين، باستثناء الفلاسفة الذين كان لهم تصور فلسفي عن الوحي، وقد ذكروا خفق جبرائيل بجناحه صراحة، وتردده السريع بين السماء والأرض.
كما أن من الخطأ أن تتصور أن كل حادثة تحدث في الأرض تؤدي إلى تجددٍ في إرادة الباري تعالى؛ لينزل فيها آية، ويأمر جبرائيل بحملها إلى النبي’، فهذا ما لا ينسجم حتى مع ما بعد الطبيعة لدى الفلاسفة المسلمين، كما سنذكر ذلك؛ فان مثل هذا التصور يحول جميع حياة النبي إلى قصة سينمائية معدّة سلفاً، ليؤدي كل صحابي دوره بشكل يتطابق والآية الموجودة والمعدة قبل إنزالها على النبي، وليس للنبي من دور سوى التجوال على خشبة المسرح حاملاً مكبر صوته ليكرر ألفاظاً يقرأها عليه جبرائيل، فهل يمكن التنزل بالنبي إلى أكثر من هذا المستوى؟!
أليس من المنطقي والطبيعي أن نقول: إن لشخصية النبي الدور الكامل والتام، بأن يكون هو الكاشف، وهو المعلم، وهو الناطق والسامع والمشرِّع؟ أي إن ما قام به الله تعالى هو إرسال (المعلِّم)، وترك الأمور الأخرى خاضعة لمدار تجاربه وردود فعله، وقد كان هذا المعلم معدّاً ومحصَّناً بحيث كان يعي جيداً ما عليه فعله وقوله، ومع ذلك كان بشراً، ينسحب عليه جميع ما ينسحب على البشر، فأحياناً يرتفع رصيده التعليمي، وأحياناً يبتلى بطلاب مشاغبين، وأحياناً ينطلق شوقاً وحماساً، وأحياناً يصاب بالملل والضجر، وتارةً يسمو في كلامه، ويهبط تارة أخرى. وكالنحل يتغذّى من كل شيء؛ من الكشوف المعنوية السامية؛ والتساؤلات؛ وردود الأفعال المشاكسة والعدوانية؛ وكذلك ما يختزنه من معلومات، وطبعاً مآل الأمور ينتهي بأجمعه إلى المبادئ العالية، ومنها إلى مبدأ المبادئ وغاية الغايات، حيث لا تسقط من ورقة إلا بإذنه وعلمه تعالى، ولا ينتج النحل من العسل إلا بوحيه.
وطبعاً إن القرآن هو نتاج حالات النبي الخاصة، ولكنها ليست بحيث تكون أدنى من سائر أحاديث النبي، فهل سورة (المسد) في دلالتها وعباراتها وبلاغتها أفضل من سائر كلمات النبي غير القرآنية؟
إن هذان نموذجان من الوحي: النموذج الذي أقدّمه أنا، والذي هو أوفق بتجربة النبي الحيوية، وما بعد الطبيعة، التي يقول بها حكماء المسلمين، وتأويل العرفاء؛ والنموذج الذي تقدِّمونه أنتم، والذي يروّج الأساطير، ويوافق رؤية أهل الحديث. أنتم تقولون بأن الله يقوم بكل شيء من خلال جبريل، أما أنا فأقول بأنه تعالى يقوم بكل شيء من خلال النبي، وأن جبرائيل ما هو إلا جزء من النبي.
قاعدة: كل حادث مسبوق بمادة ومدة، وقفة وتوضيح ـــــــ
خامساً: تقدم مني الاستدلال بالقاعدة الفلسفية القائلة: <كل حادث مسبوق بمادة ومدة> وذهبت إلى أن الوحي أيضاً كان مسبوقاً بالشروط المادية. ومن هنا اعتبرت الشروط الذهنية والجسدية للنبي معدّة وممهَّدة لنزول الوحي، وهذا ما استدعى اعتراض آية الله السبحاني، إلا أنني لا أرى اعتراضه وارداً، فقد صرح صدر المتألهين الشيرازي، في المرحلة السابعة من الفصل السادس عشر، من الجزء الثالث، من الأسفار الأربعة، ص55، بأن هذه القاعدة لا تقتصر في تطبيقاتها على الأمور المادية، كما تصوّرتم، بل هي جارية في الصور الجسمية والنفوس الإنسانية، ولا يخرج منها إلا المفارقات المحضة، وإن أستاذكم العلامة الطباطبائي قال في حاشيته على هذا الموضع من الأسفار: إن هذه القاعدة جارية حتى على قول المشائين الذين يذهبون إلى تجرد النفوس، فيكون جريانه طبقاً لرأي صدر المتألهين، حيث يرى أن النفوس جسمانية الحدوث، روحانية البقاء، أوضح.
وبعبارة أخرى: إن كل ما يتعلق بالمادة، سواء أكان صورة أم روحاً أم وحياً، فهو خاضع لهذه القاعدة، وإن الأرضية المادية شرط في حصولها وحضورها. وطبعاً ليس للمادة علة فاعلة كما تقرر في الفلسفة الأولى.
وهنا نضيف: إن تجدد الإرادة بالنسبة إلى الباري تعالى محال؛ إذ لما كان الله تعالى لا يقع معرضاً للحوادث، ولا يطرأ عليه التغيير، فلا يمكنه أن يغير إرادته من وقت لآخر، وعليه فان تردد جبرائيل بين الله والنبي، ونزوله بآية عند كل حادثة، لا ينسجم مطلقاً مع ميتافيزيقية الفلاسفة والمتكلمين المسلمين، ولا يمكن توجيهه أو تعقله. نعم، قد يناسب تصوراً عامياً يرى الله سلطاناً، وجبرائيل مجنحاً، وهيئة بطليمية، وهو التصوير الذي ذهب إليه عموم المفسِّرين للقرآن ممَّن ينتمي إلى مرحلة ما قبل التطور.
ونضيف أيضاً: إن الأقوال الإلهية ـ طبقاً للحكمة والفلسفة الإسلامية ـ غير مسبوقة أو معللة بالأغراض، وقد ثبت في محله أنه يستحيل على الباري تعالى أن يقوم بعمل للوصول إلى غاية وهدف، فهو ليس فاعلاً بالقصد، فإن تجدد الإرادة بالنسبة له، وإنزال آية جديدة للوصول إلى غاية، أو إيضاح مسألة، أو إيجاب أمرٍ، أو تحريمه، من أشدّ المحالات عليه تعالى؛ فإنه، وإن كان كل شيء يتم بإذنه وعلمه وإرادته تعالى، إلا أن هذه الإرادة ليست كالإرادة الإنسانية.
وإن حلّ جميع هذه المعضلات يكمن في الذهاب إلى أن نفس النبي القوية والمؤيَّدة هي الفاعلة لتلك الإرادة، وصاحبة الأغراض والغايات، وخالقة الآيات، وواضعة الأحكام، وهي النفس التي استحقت؛ لفرط قوتها، أن تصبح خليفة لله على الأرض، وأن تغدو يده يد الله، وقوله قول الله، وأن يكون القرآن معجزة له.
إن النظام الواحد للوجود، والنسبة الفاعلية والمعية القيومية لله تجاه جميع الممكنات، وقيام العلية في كافة أنحاء الوجود، لا تبقي أيّ موضع للروابط الاعتبارية والإنسانية القائمة على السلطان والسفارة، فإن الله لا يدير أمر العالم كما يفعل الملك في مملكته، وإنما إدارته كإدارة النفس للجسد (في النماذج التقليدية للطبيعيات)؛ فان الجسد يعمل كماكينة أوتوماتيكية، ولكنه خاضع لإرادة النفس وسلطتها، وليس الأمر بأن الدورة الدموية لا تقوم بوظيفتها إلا بإرادة من النفس. وإن ما قاله صدر المتألهين في هذا الشأن مجرد تمثيل وتوضيح يثبت إننا ما لم نكوّن تصويراً صحيحاً عن نوع الرابطة بين الله والعالم فلن يتضح معنى النبوة والوحي، وسنبقى في حصار الأساطير التي تنحت لكل رابطة علية أو فاعلية صورة حسية، وتملأ الأجواء بضجيج الكائنات الخيالية التي تتردد بين السماء والأرض.
علماء المسلمين وإعادة تكرار تجربة الكنيسة في تعارض العلم والدين ـــــــ
سادساً: في ما يتعلق بإشاراتكم في خصوص تعارض ظواهر القرآن مع العلم سوف لا أطيل الكلام، وأكتفي بإبداء دهشتي من أن علماء المسلمين والشيعة كأنهم لم يتعظوا من تجارب الكنيسة، فها هم يكررون نفس أقوالها، ويعيدون سياستها تجاه أمثال: كوبرنيق وغاليلو، ولا زالوا يعتبرون فهمهم للدين هو البديع، وهو الذي ينجع في حل جميع المشاكل، ولا يفكرون قليلاً في أن البناة الأوائل قد تركوا هذا النهج منذ أمدٍ بعيد، ولجأوا إلى أنواع القبض والبسط والانعطافات الكبيرة والعظيمة في فهمهم للصحف والكتب المقدَّسة. وقد مكثوا ردحاً من الزمن يمنّون النفس بالتوفيق بين العلم الحقيقي والوحي الحقيقي، وأخذوا يسخرون من العلم لفترةٍ، وتحدثوا برهةً عن عدم فهم المراد الجدي للمتكلم، وعمدوا في أحيانٍ أخرى إلى تأويلات بعيدة، ولكنهم رغم ذكائهم وعبقريتهم أخفقوا في نهاية أمرهم، وأذعنوا بفشلهم، وصحّحوا مسارهم وأسّسوا لطرحٍ جديد لإداركهم وتصورهم عن الباري تعالى والوحي والعلم من الأساس، وأخرجوا أنفسهم من زوبعة هذا الإعصار الهادر. إن حجم المؤلفات المتعلقة بالتعارض بين العلم والدين قد بلغ من الكثرة درجةً لا يستهان بها، ومع ذلك لا يزال نصيبنا منها محدوداً جداً.
إذا لم يتضح المراد الجدي للمتكلم حتى بعد مضي أربعة عشر قرناً فلأيّ شيءٍ وأيّ زمن خلق هذا المراد الجدي؟! إذا كان يتعين علينا الانتظار طويلاً ليقوم العلم التجريبي بالكشف عن المراد الجدي من السماوات السبع فلماذا كل هذا العداء والجفاء بحق العلم؟ وهو العلم الذي نستمد منه برهان النظم لإثبات وجود الله تعالى، والعلم الذي يستند إليه السيد الطباطبائي في تأويل معنى رجم الشياطين بالشهب ويفتي على خلاف إجماع المفسرين؟ وإذا كان العثور على المراد الجدي للمتكلم يستغرق كل هذا الوقت الطويل وهذه العقبات في مثل هذه المسائل الثانوية، مثل: السماوات السبع، مما لا ربط له بسعادة المؤمنين وشقائهم، فكيف يكون الأمر في ما هو أهم، كما في المسائل المتعلقة بالمبدأ والمعاد؟ ألا يؤدي هذا النوع من فهم القرآن والتعاطي معه إلى خروق لا تقبل الرتق؟
ألا يمدنا نهج المعتزلة بطريق أفضل من خلال اعتبار هذه المسائل القرآنية مسايرة في حقيقتها للمعتقدات السائدة بين العرب، فنتخلص من التأويلات البعيدة وغير الصحيحة؟ ونخلص القرآن وننفض عنه غبار هذه الإبهامات؟ سواءٌ أكانت هذه الآيات مجرد مجاراة للعرب أم نابعة من نقص معلومات النبي.
قلتم: لو احتمل وجود مثل هذه الأخطاء العلمية في القرآن لن يمكن بعدها الاعتماد على القرآن، ويغدو كل القرآن محتمل الخطأ!
وهذا كلام عجيب؛ فان هناك في القرآن محكماً ومتشابهاً، وناسخاً ومنسوخاً، ومع ذلك لم تنفصم عرى الاعتماد والثقة بالقرآن.
أجل، ستبقى هناك آيات مجهولة المعنى، فلا يعرف ما إذا كانت محكمة أو متشابهة، مثل قوله تعالى: {ﯿ ﰀ ﰁ ﰂﰃ} (البقرة: 246)، فقد ذهب بعض المفسِّرين إلى نسخها بآية القتال، وصحيحٌ أننا إذا قلنا بالنسخ ستغدو بعض مواطن القرآن عديمة الجدوى، ولكن هل صرف احتمال النسخ أفضى إلى عدم جدوائية القرآن؟ وهل أخلّ بالتفسير وفهم الكتاب والتعاطي معه؟ هذا ما كان يقوله الظاهريون أيضاً، حيث كانوا يحذرون من القول بوجود الاستعارة والمجاز في القرآن، قائلين: إن ذلك يؤدي إلى عجز الباري تعالى عن استعمال الحقيقة، وسيختل الاعتماد على القرآن، وقد يختلط علينا الأمر أحياناً، فلا نعرف ما إذا كان الاستعمال في بعض المواطن حقيقياً أم مجازياً. إلا أن تاريخ القرآن أثبت بطلان هذا الوهم، وإن أبقى على بعض الموارد المتشابهة.
سماحة آية الله السبحاني، ليس الكلام فيما إذا كان السيد الطباطبائي قد أخطأ في تفسير (الشهب والشياطين) أو كان مصيباً، وإنما الكلام في المنهج، وأنه استفاد في هذا التفسير من العلم الحديث، والميتافيزيقيا الإسلامية اليونانية، فأبطل فهم جميع من سبقه من المفسِّرين، فإذا كان العلم بمثل هذه القوة، وكان حسناً، فهو حسن في جميع المواطن، حتى عندما يؤدي إلى نتائج تخالف ما نحن عليه. والمهم هو فتح باب الحوار بين الوحي والعقل، لا إخضاع أحدهما ﻟﭭـيتو الآخر.
ربما كان حديث تأبير النخل ضعيفاً أو موضوعاً، وهذا غير مهم، فهناك الكثير من هذه الأحاديث الموضوعة في كتب الشيعة والسنة، إنما المهم هو أن المسلمين وكبار العلم والعرفان قد عايشوا هذه الروايات لقرون طويلة، وآمنوا بها، ولم يجدوها منافية للإيمان والنبوة، فقد ذهب شخص بحجم ابن عربي ـ وهناك الكثير من أمثاله ـ إلى الاعتقاد بجهل النبي الأكرم حتى بعلوم عصره، من الطب والفلك والنبات، فضلاً عن العلوم التي تأسَّست فيما بعد، ومع ذلك لم يعتبر ذلك مؤشِّراً على ضعف إيمانهم، ولا موجباً لوهن النبوة.
أَلَم يؤمن الكثير من علماء أهل السنّة بأن قصة الغرانيق كانت تدخُّلاً من الشيطان في الوحي النبوي، ومن بينهم الغزالي، وابن تيمية، ومولوي؟ أوَلم يذهب بعض علماء الشيعة إلى تحريف القرآن؟ قد لا ترون صحة هذه الآراء، ولكن لا يمكن إنكار أن الكثير من المسلمين، بل وكبار علمائهم، كانوا يؤمنون بها، دون اعتبارها منافية للإسلام والوحي النبوي، كما بقوا على تمسكهم وإيمانهم بإسلامهم وقرآنهم، والأمر المهم الآخر أنه لم يبادر أي فردّ إلى تكفير من يقول بتحريف القرآن، أو يؤمن بقصة الغرانيق.
كلمة الختام ـــــــ
ينبغي لنا أن نتعرف الإسلام بما فيه من تنوُّع الطيف اللوني؛ إذ لا ينحصر الإسلام بما يدرس في الحوزات الشيعية في إيران، أو المدارس الوهابية في شبه الجزيرة العربية، بل الإسلام هو جميع الإدراكات والتفاسير المقدّمة عن الإسلام، وهكذا المسيحية واليهودية والماركسية.
لو اقتصرنا في فهم الإسلام على ما يقوله المحدِّثون والفقهاء لما وصلت الديانة الإسلامية إلى ما وصلت إليه من الحضارة المرموقة، فلو أنّ الأرثوذوكسية نجحت في فترة ما بالوقوف أمام انسيابية الكلام والتفسير فعلى الحوزات العلمية أن تكون الرائدة في إزاحة العقبات من أمامها، وأن تعمل على الترحيب بتنوّع الآراء الكلامية، دون وصفها بالكفر والإيمان ودون أن تصاب بعقدة الاستغناء والجمود. إن الطريق الوحيد لاستمرار الدين وبقائه إنما يكون عبر فتح الأبواب لاستنشاق هواء جديد ونظيف، والعودة إلى ما كان يتمتع به الإسلام من تنوّع في الثقافة، وتسابق المسلمين إلى أخذ الحكمة من الهند والصين وإيران واليونان.
وليبقوا في الأقل على جميع السنن والطرق والمشارب المتنوعة الثقافية والإسلامية، ولا يتمنوا حياة واحد وموت جميع من سواه، فقد تعايش في تاريخ هذه الديانة، التي شكلت فسيفساء بجميع الألوان، ابتداءً من أهل التأويل والباطنيين وإخوان الصفا والمتصوفة والفلاسفة إلى أهل الحديث والظاهريين والحشوية والحنابلة والمجسّمة وغيرهم، وكان الكل مسلمين، وقد أسهم الجميع بتحريك ديناميكية هذه الحضارة. وإذا حدث في يوم أن تغلَّب أحد هذه الألوان على سائر الألوان الأخرى بالقهر والغلبة سيكون ذلك اليوم هو يوم احتضار هذه الديانة. ليس من العبقرية غلق الأبواب والنوافذ، فإن أمكنكم أن تفتحوا باباً جديداً فافعلوا.
لم يبقَ أمام المسلم المعاصر من خيار سوى الحوار مع الصديق والعدو، ولكن مع العالِم منهما دون غيره؛ وذلك بهدف تحريك الجمود والذبول الذي أصاب الإلهيات الإسلامية، والعودة بها إلى ما قبل العصر الأرثوذوكسي، والحوار بحاجة إلى تحمل وسعة صدر، واستعداد، وتواضع، وإقرار بالحاجة، ورغبة في التعلم، وجرأة في التفكير، ونبذ للتقليد، واحترام الفكر بوصفه تدفقاً مقدساً، لا منطقة مخطورة ومحظورة أو مجلساً للمعصية، إن الذين يطالبون الباحثين بالتوبة إنما يأتون ببدعة سيئة، يحبسون فيها طائر الفكر في قفص الفقه، ويخيفون ظباء التفكير من ذئب التكفير، ويشوبون التحقيق بالتفسيق، ويرفعون المقلِّدين على المحقِّقين، ويُجِلّون الببغاوات ويقدِّمونها على النحل، ويحولون الدين إلى حلبة للعنف والخصومة، ويبيعون الخل بدلاً من العسل.
وهل إذا سقينا شجرة الفقاهة بماء الكلام الآسن ستنمو صحيحة لتصدر الأحكام والفتاوى السليمة؟ وهل سيتمكن الكلام المصاب بآفة الجمود الفقهي من كسب جولة جديدة؟ إن الفقهاء المعاصرين قد تورطوا في مغالطات مهلكة، فبدلاً من اعتمادهم على المتكلمين وكلامهم في عملية تجديد فقههم تراهم يهاجمون المتكلمين، وبدلاً من الإقرار بحاجتهم إلى المتكلمين تجدهم يصرون على احتياج المتكلمين إليهم، وما ذلك إلا بسبب غرورهم واستسمانهم لأنفسهم واستضعافهم للكلام، وما دام التوازن والتواضع مفقوداً فلا ترجو حلاً لعقد ومعضلات هذا الدين المستحكمة!
كلمة أخيرة للشيخ جعفر السبحاني مع سروش ـــــــ
صرح الشيخ جعفر السبحاني بأن سروش لا يراعي أدب الحوار العلمي، ويقوم بإهانة الشخصيات العلمية من خلال إثارة الضجيج والضوضاء، ولكي لا يعيد عبد الكريم سروش من خلال رسائله المتكررة أسلوبه المألوف فضَّل الامتناع عن الإجابة المباشرة، وقال:
عدم مراعاة سروش لأدب الحوار العلمي ـــــــ
منذ إصدار مقابلته الإذاعية الأولى في هولندا وجدت من الواجب عليّ أن أوضح له وللقراء حقيقة الأمر، والحمد لله كان الجواب مفيداً ونافعاً. وكان أدب الحوار فيها هو السائد، وقد أجاب السيد سروش عن رسالتي الأولى، فأجبت عنها؛ انطلاقاً من المسؤولية الملقاة على عاتقنا، وكان جوابنا الثاني أوسع وأكثر شمولية، وقد جاء بنتائج إيجابية أيضاً كالإجابة الأولى، وقد أثنى عليها الكثير من أساتذة الحوزة وكبارها؛ لما تحتويه من الإتقان والمجادلة بالتي هي أحسن.
إلا أن رسالته الثالثة قد خيّبت ظني، رغم أن فاتحتها كانت تبشر بخير؛ وذلك للأسباب التي سأشير إلى بعضها:
1ـ إن موضوع البحث يدور حول نظرية الوحي، ويجب أن يقتصر البحث على هذه الجهة، ولكنه للأسف الشديد يخلط بينها وبين سلسلة من الانتقادات والاعتراضات الفردية والاجتماعية، ويخرج من محور البحث، وفي الحقيقة يخالف بذلك أدب الحوار العلمي.
2ـ إن النظرية التي يطرحها كلما أمعن في توضيحها واجه إشكالات أكثر تعقيداً. وهو في ذلك شبيه بالمواضيع الكلامية التاريخية الثلاثة المعروفة بين المحققين، بوالتي يقولون عنها: إن القائل بها كلما أمعن في توضيحها زادت تعقيداتها، وهي:
1) نظرية (الطفرة)، للنظّام.
2) نظرية (الحال)، للبهشمي (من أنصار أبي هشام).
3) نظرية (الكسب)، للأشعري.
وقد قال الشاعر العربي في ذلك متهكماً:
مما يقال ولا حقيقة عنده (الكسب) عند الأشعري و(الحال) ـ |
معقولة تدنو إلى الإفهامِ عند البهشمي و(طفرة) النظّامِ ـ |
كان على هذا المنظِّر بعد أن أدرك أن جميع المحققين حول القرآن في إيران الإسلامية اعتبروا نظريته مردودة أن لا يصّر عليها إلى هذه الدرجة، فإن الكثير منهم كانوا من أصدقائه المقرَّبين، ولكنه مع ذلك لا يزال مصراً على نظريته، بل ولا يتريث قليلاً ليعطي نفسه فسحة للتفكير في هذه الانتقادات!
فتجده من جهة يقول: إنني مؤمن بجميع ما ورد في القرآن من آيات، بما في ذلك قوله تعالى: {ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ } (النمل:6).
ومن جهة أخرى يقول: إن الألفاظ ووضع المعاني في قوالبها هو مجهود يقوم به النبي، هذا في حين أن كلمات القرآن لا تطلق على المعاني فقط، وإنما تشمل في إطلاقها الألفاظ أيضاً، وكذلك سائر الآيات الأخرى الواردة في هذا المضمون.
3 ــ إن رسائله، وخاصة رسالته الأخيرة، كانت مشحونة بالعقد والصخب، حتى بلغ به الأمر إلى التجاوز على الشخصيات العلمية التي أفنت عمرها في خدمة الإسلام والقرآن.
إن شخصاً مثل الشيخ ناصر مكارم الشيرازي فقيه بارز وباحث قرآني عميق يحظى باحترام كافة الحوزات العلمية، وهو من الشخصيات البارزة في العالم الإسلامي، ويعدّ مؤلَّفه (الأمثل) في اللغتين الفارسية والعربية مصدراً لجميع المحققين والمؤلِّفين، إن مثل هذه الشخصية لا يتم صنعها اعتباطاً، فيستسهل هتكها والتجاوز عليها.
إن هذا الأمر وأمور أخرى أدت بي إلى الامتناع عن الإجابة عن رسالته الأخيرة بشكل مباشر، خشية تكرار تجاوزاته السابقة، ولكن في الوقت نفسه هناك من أجاب عنها من المنتسبين إلى جامعة الإمام الصادق عليه السلام، وستكون في متناول الراغبين قريباً إن شاء الله تعالى.
الهوامش
(*) مفكر إيراني معروف، وأشهر منظري الإصلاح الديني في إيران. طرح ـ وما يزال ـ سلسلة من النظريات التي أثارت جدلاً واسعاً، كان آخرها حول الإمامة والوحي.
(**) من أبرز علماء الكلام المعاصرين في إيران، وصاحب مؤلفات كثيرة جداً.
([4]) راجع: تفسير الصافي، والميزان، ومفاتيح الغيب.
([5]) صدر المتألهين، الأسفار الأربعة 7: 9، الموقف 7، من السفر الثالث.