قراءة نقدية في حديث الفرقة الناجية
أ. د. عبد الأمير كاظم زاهد(*)
تعد الدراسات التي تبحث عن الأسس الدينية أو الفلسفية للظواهر الاجتماعية من دراسات العصر المهمة؛ لأنها ـ في الأقل ـ كاشفة عن دور العقل المعرفي في بناء السلوك الفردي والجماعي (سوسولوجيا الدين).
إن إعصاراً يضرب العقل المعرفي الإسلامي في الوقت الحاضر يتمثل بظهور مشكلات التعصُّب والإقصاء، وسلوكيات العنف واستخدام القوة كوسيلة من وسائل نشر الدعوة، أو وسيلة انتقامية ضد الغرب، أو ضد مواطنيهم من المسلمين، الذين لا يلتزمون بما يراه المتشدِّدون ـ فكراً أو سلوكاً ـ بوصفه «الدين»، سواء كانوا من غير الإسلاميين،أو حتى من المسلمين المتدينين، ولكن على مسالك غير مسلك المتشدِّدين.
وللبحث عن هذه الظاهرة، التي تعدّ بؤرة توتُّر محلية على مستوى أقطار العالم الإسلامي. والنزعات المسلحة، والقتل العشوائي، والصراع السياسي، الذي يتخذ وسائل غير مبررة في استخدام القوة، قد امتدّت حتى أصبحت ظاهرة إقليمية تنتشر في منطقة الشرق الأوسط انتشاراً عابراً للحدود الدولية، فباتت المنطقة كلها مهددة بزلزال أمني، اقتضى منها أن تخصِّص الكثير من إيرادتها في مجالات الحفاظ على أمن المجتمعات، بدل أن توجه هذه الأموال للتنمية والبنى التحتية.
ولم يقف الأمر عند ذلك، بل تعداه إلى أن أصبحت قضايا التعصُّب والتوتر العنفي واحدة من المشكلات الدولية، ولاسيما بعد أحداث أيلول 2001م، وما تبعها من غزو أفغانستان والعراق،و ما ترتب على ذلك من ممارسات لم تكن لولا انتشار هذا النمط من التعامل. ومن ذلك أن المسلمين في أمريكا ـ رغم كل السياسات الاندماجية ـ يتعرَّضون لكثير من التمييز، بحيث تقول بعض الإحصائيات: إن 65% من عينة استطلاعية كانت ترى أن الإسلام دينٌ يدعو أتباعه إلى العنف. وإن أصحاب هذا الاتجاه في تزايد مستمر، ولا سيما مع موجة المسيحيين الصهاينة، وموجة المحافظين الجدد الإنجيليين.
إن واحداً من الأصول الدينية التي تتخذ وسيلة للإقصاء، ونصاً للتطهير الديني، هو حديث الفرقة الناجية. فلقد بات هذا الحديث من الأسس الدينية المهمة التي يستند إليها في حملات التراشق بالتكفير والضلالات، وأساساً دينياً مسوِّغاً لحملات إزهاق الأرواح.
وهذا الاستغلال لهذا الحديث جعله واسع الانتشار في كتب الحديث، والتفسير، والعقائد، والفرق، والمناظرات، والتاريخ، والتراجم، إلخ، رغم أن أصول روايته على معايير أهل الرواية تقلّ بكثير عن شهرة تداوله في كتب الثقافة الإسلامية، بتخصُّصاتها كافّة. فما لم يذكره كتاب بنصّه تجد إشارة لمضمونه،أو اعتماداً على معناه.
ولهذا الأثر البالغ أجد من الضروريّ الوقوف على هذا الحديث، ابتداءً من المدونات التي ذكرته؛ لبيان كثرتها مقابل أسانيده الأساسية، «حتى يتضح مدى استغلال هذا النص لأغراض سياسية»، ثم عرض رجال الأسانيد، كتمهيد للحكم على موثوقية الصدور، والانتقال بعد ذلك إلى تحليل المتون المتعدِّدة لهذا الحديث، والإشكالات الفكرية والعقدية الناشئة عنه، والكشف عن بعض محاولات الاستثمار السياسي والعقدي لهذا الحديث.
1ـ مصادر حديث الفرقة الناجية ومدوّناته
لقد شاع ذكر الحديث متناً، بالنصوص المتعددة التي ظهر فيها، في كتب التخصُّصات الإسلامية المتعدِّدة.
فقد ذكر الحديث في كتب التفسير، مثل: تفسير ابن جريج، وتفسير مقاتل، وتفسير وكيع، وتفسير قتادة، وأبي عبيد القاسم بن سلام، وتفسير مجاهد([1]). وظهر في تفسير الزمخشري الكشاف([2])، والقرطبي، وتفسير البيضاوي في أنوار التنزيل. كما وجد الحديث في سنن أبي داوود([3])، والترمذي([4]). ونقله السيوطي في «الدر المنثور»([5]) و«الجامع الصغير». وصحَّحه الحاكم في «المستدرك»([6]) على شرط مسلم. ورواه البزار، والبيهقي. وأخرجه أحمد([7])، وابن بطة في «الإبانة»، وابن أبي عاصم في كتاب «السنة»([8])، والآجري في «الشريعة»([9])، والطبري في معجمه الكبير والأوسط. وحسَّنه ابن حجر في تخريج أحاديث الكشّاف([10]). وادعى ابن تيمية أنه حديث صحيح، وأن صحته لا يرقى إليها شكّ([11]). وتابعه على ذلك ابن كثير([12])، والشاطبي([13])، والألباني([14])، من المعاصرين.
وعلى مستوى المدوَّنات الشيعية فقد رواه الكليني في كتاب «الكافي»، عن أبي خالد الكابلي، عن الإمام الباقر×. ونقله المجلسي في «البحار»، عن العياشي. ورواه الصدوق في «الخصال»، والطوسي في «الأمالي». وجاء في تفسير البرهان، وتفسير الصافي.
ونص روايته في الكافي: محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى،عن ابن محبوب، عن جميل بن صالح، عن أبي خالد الكابلي، عن أبي جعفر× قال: {ضَرَبَ اللهُ مَثلاً رَّجُلاً فِيهِ شُرَكَاء مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلاً سَلَماً لِّرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلاً} قال×: أما الذي فيه شركاء متشاكسون فلان الأول، يجمع المتفرقون ولايته، وهم في ذلك يلعن بعضهم بعضاً، ويبدأ بعضهم من بعض، فأما رجل سلمٌ لرجل فإنه الأوّل حقّاً وشيعته، ثم قال: إن اليهود تفرَّقوا من بعد موسى× على إحدى وسبعين فرقة، منها فرقة في الجنة، وسبعون فرقة في النار؛ وتفرَّقت النصارى بعد عيسى عليه السلام اثنتين وسبعين فرقة، فرقة منها في الجنة، وإحدى وسبعون في النار؛ وتفرقت هذه الأمة بعد نبيها‘ ثلاثاً وسبعين فرقة، اثنتان وسبعون فرقة في النار، وفرقة في الجنة. ومن الثلاث وسبعين فرقة ثلاث عشرة فرقة تنتحل ولايتنا ومودتنا، اثنتا عشرة فرقة منها في النار، وفرقة في الجنة، وستون فرقة من سائر الناس في الناس»([15]).
قال السيد الطباطبائي في «الميزان»: «روته الشيعة بنحو آخر، كما في الخصال، والمعاني، والاحتجاج، والأمالي،و كتاب سليم بن قيس،و تفسير العياشي»([16]).
و ترى المؤيِّدين لصحّة صدور هذا الحديث يقولون مرّة: إنه متواتر، دون أن يثبتوا هذا التواتر؛ وأخرى: إنه صحيح مشهور في السنن والمسانيد، كما هي عبارة ابن تيمية؛ وثالثة: إنه مستفيض، رغم اعتراف الكثير منهم أن في مفردات أسانيد هذه الأحاديث كافّة ضعف في الإسناد.
ويتحصَّل عندي أن الدارسين لهذا الحديث ثلاثة:
1ـ جمع صرَّح، بل جزم، بصحة الحديث بكلّ ألفاظه المرويّ بها، على اختلافها.
2ـ جمع تكلموا في أسانيده، واضطراب متونه؛ فمال قسم منهم إلى إنكار صدوره بالمرة؛ ومال بعضهم إلى إنكار الزيادات التي ألحقت بالنص الأصلي له.
2ـ متون الحديث وصيغه
1ـ حديث أبي هريرة: قال رسول الله‘: «تفرَّقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة، وتفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة»([17]).
ولفظه عند أبي داوود رقم (4596): «افترقت اليهود على إحدى أو اثنتين وسبعين فرقة، وتفرقت النصارى على إحدى أو اثنتين وسبعين فرقة، وتفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة»([18]).
2ـ حديث عوف بن مالك الأشجعي، قال: قال رسول الله‘: «افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة، فواحدة في الجنة، وسبعون فرقة في النار؛ وافترقت النصارى على اثنتين وسبعين فرقة، فإحدى وسبعون في النار، وواحدة في الجنة. والذي نفس محمد بيده لتفترقنّ أمّتي على ثلاث وسبعين فرقة، واحدة في الجنة، واثنتان وسبعون في النار»([19]).
3ـ حديث أنس بن مالك، قال: قال رسول الله‘: «إن بني إسرائيل افترقت على إحدى وسبعين فرقة؛ وإن أمتي ستفترق على ثنتين وسبعين فرقة،كلها في النار، إلاّ واحدة، وهي الجماعة»([20]).
4ـ حديث معاوية بن أبي سفيان، قال: إلاّ أن رسول الله‘ قام فينا فقال: «ألا إن من قبلكم من أهل الكتاب افترقوا على ثنتين وسبعين ملة، وإن هذه الملة ستفترق على ثلاث وسبعين، اثنتان وسبعون في النار، وواحدة في الجنة، وهي الجماعة»([21]).
5ـ حديث أبي أمامة الباهلي، قال: قال رسول الله‘: «افترقت بنو إسرائيل على إحدى وسبعين فرقة، أو قال: على اثنتين وسبعين فرقة، وتزيد هذه الأمة فرقة واحدة، كلّها في النار إلا السواد الأعظم، فقال له رجل: يا أبا أمامة، مِنْ رأيك أو سمعته من رسول الله‘؟ قال: إني إذاً لجريء، بل سمعته من رسول الله غير مرة، ولا مرتين، ولا ثلاث»([22]).
6ـ حديث عبد الله بن مسعود: إن رسول الله‘ قال: «إن بني اسرائيل افترقت على اثنتين وسبعين فرقة، لم ينجُ منها إلا ثلاث»([23]).
وعن عبد الله بن عمرو، قال: قال رسول الله‘: «…إن بني اسرائيل تفرقت على ثنتين وسبعين ملة، وتفترق أمتي على ثلاث وسبعين ملّة، كلّهم في النار، إلا ملّة واحدة»([24]). قالوا: مَنْ هي يا رسول الله؟ قال: ما أنا عليه وأصحابي. وأخرجه الترمذي بزيادة: «ما أنا عليه اليوم وأصحابي».
حديث عمرو بن عوف المزني، قال: قال رسول الله‘: «…إلا أن بني إسرائيل افترقت على موسى على إحدى وسبعين فرقة، كلها ضالة، إلا فرقة واحدة: الإسلام وجماعتهم؛ وإنها افترقت على عيسى بن مريم على إحدى وسبعين فرقة، كلها ضالة، إلا فرقة واحدة: الإسلام وجماعتهم؛ ثم إنهم يكونون على اثنتين وسبعين فرقة، كلّها ضالة، إلا فرقة واحدة: الإسلام وجماعتهم»([25]).
7ـ حديث سعد، قال: قال رسول الله‘: «افترقت بنو إسرائيل على إحدى وسبعين ملة، ولن تذهب الأيام والليالي حتى تفترق أمتي على مثلها، أو قال: عن مثل ذلك، وكل فرقة منها في النار، إلاّ واحدة، وهي الجماعة»([26]).
8ـ حديث علي بن أبي طالب×، قال: «لا تقوم الساعة حتى تكون هذه الأمة على بضع وسبعين ملة، كلّها في الهاوية، وواحدة في الجنة».
و من خلال توصيف متون الحديث:
1ـ قال الشاطبي في «الاعتصام»: الحديث رواه أبو داوود، والترمذي، وأحمد. ولا ذكر له في الصحيحين، فلم يخرجاه([27]). واستدركه على مسلم الحاكم النيسابوري.
والسؤال: إن حديثاً كهذا، الذي يعدّ من الأصول الاعتقادية المهمة، والتي تقوم عليه العقيدة، كيف يغفله البخاري ومسلم، ولا سيما أن الحديث يوافق ما يعتقدانه، سواء بالزيادات الملحقة به، أو بتأويله. لذلك فعدم قبولهما الحديث بشرطيهما دليل على ضرورة المراجعة والتدبُّر للحديث.
2ـ يقول المتوقِّفون فيه: إننا لابد من أن نفرّق بين انتشار الحديث في المدوَّنات وبين تعدُّد أسانيده، بحيث يستند إلى تعدد طرق الرواية، حتى يوصف بأنه مشهور أو مستفيض. والحديث مرويٌّ بنهايات أربع: أبو هريرة، وأبو أمامة، ومعاوية، وأنس. وكلُّهم فيهم كلام.
وعلى افتراض الإغفال عمّا فيه نهايات سنده، ففي أواسط سنده رجال تكلم أئمة الجرح والتعديل فيهم، مثل: محمد بن عمرو بن علقمة، الذي هو في إسناد حديث أبي هريرة. فقد جرحه يحيى القطان. وقال فيه يحيى بن معين: «ما زال الناس يتقون حديثه»، قيل له: ما العلة؟ قال: ما زال يحدث الناس من رأيه، وينسبه إلى أبي سلمة، عن أبي هريرة. وقيل عنه: إنّ آفته أنه يذكر فضائل لمعاوية([28]). فالحديث فيه علة قادحة.
وفي أسانيده أزهر بن عبد الله بن جميع الحرازي الحميري الحمصي، الذي قال عنه الذهبي: أزهر ناصبي([29]). وعن ابن أبي الجارود: إنه من الضعفاء([30]). وقد كان يسبّ الإمام علي×. وروى عن نفسه أنه كان في الجيش الذي سبى أنس بن مالك إلى الحجاج الثقفي([31]).
ورغم كل هذا ائتمنه أصحاب السنن وجعلوه ثقة. وفعلوا ذلك مع محمد بن عمرو قبله.
3ـ لما ثبت أنه حديث آحاد فالمسلك عن العلماء أن حديث الآحاد لا تقام عليه عقيدة. ناهيك عن أن في طرق هذا الحديث ـ فوق أنه حديث آحاد ـ كلام يخدش موثوقية صدوره كلاًّ، أو يشكك في الزيادات الملحقة به.
4ـ فطريق عوف بن مالك الاشجعي قال فيه صاحب مجمع الزوائد: إن حديث عوف بن مالك فيه مقال؛ لأن في إسناده عباد بني يوسف، وهو ممَّن لم يخرج له أحد، سوى ابن ماجة، وليس عنده سوى هذا الحديث([32]). وقد وصفه ابن عدي فقال: روى أحاديث تفرَّد بها([33]).
5ـ ظهر إشكال عند المتقدمين مفاده أن الحديث الذي في سنده مقال، بحيث يوهن الحديث، إذا تعدَّدت أسانيده الضعاف فهل يجبر بعضها بعضاً؟ وكان الناس إزاء هذا على قولين:
الأول: إن الضعف لا يجبر. وانضمام الضعيف إلى مثله لا يزيده قوة. فالمعيار قوة السند، وصحّته.
الثاني: إن تعدُّد الأسانيد، وإنْ كان في كلٍّ منها ضعف، جابر لبعضها.
واعترض على القول الثاني بأن ذلك يصح باشتراط عدم وجود المعارض لمتن الحديث من القرآن والسنة الصحيحة والعقل، بل إن شرطية العرض على كتاب الله وسنته مجمع عليها في موضوع العمل بالخبر الواحد مطلقاً.
وهذا الحديث على القول الأول لا ينجبر؛ وعلى الثاني هو معارض بالقرآن والأحاديث الصحيحة. وسنفصِّل ذلك.
6ـ لأجل ما تقدَّم ضعّف ابن حزم الرواية كلّها، فقال فيه، وفي نظيره: أصحابي كالنجوم: «هذان حديثان لا يصحّان أصلاً من طرق الإسناد، وما كان هكذا ليس بحجة عند مَنْ يقول بخبر الواحد، فكيف بمَنْ لا يقول به؟!»([34]). وضعّفه الكوثري في مقالاته. ونقل القرضاوي في كتابه «الصحوة» عبارة ابن حزم، فقال: «إياك والاغترار بـ «كلها هالكة، إلا واحدة»؛ فإنها زيادة فاسدة، وهي إحدى الدسائس»([35]).
وطعن فيه ابن الوزير في كتابه «العواصم والقواصم»([36]). وتابعهم على الطعن والتضعيف عددٌ من الدارسين المعاصرين.
7ـ قال شمس الدين محمد بن أحمد البشاري في كتابه «أحسن التقاسيم في معرفة الأقاليم»: «إن حديث (اثنتان وسبعون في الجنة، وواحدة في النار) أصحّ، والمتداول أكثر شهرة»([37]).
ويلاحظ هنا: إن هذا القول يقلب المضمون إلى العكس تماماً، ويدّعي لمقلوب المضمون الصحة، وينسب لغير الصحيح أنه من نواتج الشهرة. وهذا الحديث الموصوف بالصحة مفاده: «كلّها في الجنة، إلا واحدة، هم الزنادقة». قال عنه في «لسان الميزان»: في إسناده: أبرد، عن أشرس، عن يحيى بن سعيد الأنصاري، وهو متكلَّم فيه. ونقل عن ابن خزيمة أن أبرد كذاب، وضّاع.
8ـ ما أخرجه الترمذي، وأبي داوود،و ابن ماجة، كلّهم إسنادهم عن واحد، وهو «محمد بن عمرو بن علقة». وقد سبق بيان حاله.
وما أخرجه أبو داوود بلفظ (الجماعة) أيضاً من طريق واحد، هو أزهر بن عبد الله الحرازي. وقد سبق بيان حاله. فالطريقان أساس لكلّ مرويات ومتون الحديث. وهما محلّ نظر ومراجعة.
9ـ فإذا لوحظ الإسناد فقط هناك ثلاثة آراء في صدور الحديث:
الرأي الأول: إنه صحيحٌ صادر عن النبي‘ بكل زيادته وألفاظه. وهذا هو متبنى الشيخ ابن تيمية، الذي قال عنه في «مجموع الفتاوى»: «الحديث صحيح مشهور في السنن والمسانيد».
الرأي الثاني: إنه حديث موضوع بالكلية، الزيادة والأصل. وقد تقدم نصّ ابن حزم حيث قال: لا يصحّ أصلاً من طريق الإسناد. كما تقدم قول ابن الوزير في العواصم.
الرأي الثالث: إن الأصل في الحديث رواية النبي‘ وإخباره عن تفرق اليهود والنصارى إلى فرق عدّة، وأن المسلمين أيضاً سيكون لهم فرق متعددة فقط، وليس في المتن: كذا في النار، ولا في الجنة، ولا الناجين، وتوصيفاتها. فكل تلك من زيادة الوضّاعين. وعلى هذا حشدٌ كبير من العلماء، مثل: القرضاوي، وغيره.
3ـ تحليل متون الحديث
عند النظر في متون الحديث نجدها عدة أنواع من النصوص:
الأول: المتن الذي يتضمن الإخبار بتفرُّق الأمم السابقة إلى فرق، وتفرق المسلمين إلى أكثر منهم، دون أن تجد فيها عبارة: «كلها في النار»، ولا عبارة: «إلا واحدة»، ولا عبارات تصف هذه الواحدة بـ (الناجية). وكأنموذج على هذا حديث أبي هريرة، بلفظ الترمذي، وأبي داوود.
الثاني: يلحق بالنصّ المتقدم المشار إليه زيادة: (كلّها في النار)، أو يقلل من الفرق واحدة، ويقول: سبعون في النار، وواحدة في الجنة. وقد أضيف له أيضاً أنهم سألوا رسول الله‘ بعبارة: (قيل)، ولا تدري من هو القائل؟ قال (الجماعة). ومن ذلك حديث عوف بن مالك، الذي احتاج النبي‘ أن يقسم على الإخبار بقوله: (والذي نفس محمد بيده). وقد تقدم ذكر عباد بن يوسف، وتقييمه كراوٍ، في مجمع الزوائد.
وجاءت الزيادة بعبارة أخرى في حديث أبي أسامة، وهي: «وتزيد هذه الأمة فرقة واحدة، كلّها في النار، إلاّ السواد الأعظم. وألحق بالحديث أن رجلاً قال لأبي أسامة: من رأيك أو سمعته من رسول الله‘؟ قال: إني إذاً لجريء، بل سمعته من رسول الله غير مرة، ولا مرتين، ولا ثلاث. وقد وجدت في تاريخ بغداد، وفي تهذيب التهذيب لابن حجر، أن عمر بن الخطاب هو الذي سأل رسول الله‘ عندما قال: إلا واحدة، قال: أجبنا من هم؟ قال‘: السواد الأعظم([38]).
واقتصر نص الحديث المنسوب إلى عبد الله بن مسعود على افتراق بني إسرائيل فقط، وزيادة: لم ينجُ منها إلا ثلاث. وقد عقَّب عليه شراح الحديث بقولهم: «قوله: «لم ينجُ منها إلا ثلاث» لفظ مجمل، تفسِّره المرويات الأخرى، فرقة من اليهود، وفرقة من النصارى، وفرقة من المسلمين». وهذا اجتهادٌ محضٌ من الشرّاح.
على أن الحديث بلفظ الراوي ـ وأخرجه في كتاب «السنة»، لابن أبي عاصم ـ لم يأتِ على ذكر النصارى، ولا المسلمين.
أما الزيادة الملحقة برواية عبد الله بن عمرو بن العاص فهي: قالوا: مَنْ هي يا رسول الله؟ قال: ما أنا عليه وأصحابي. وسيقت الزيادة هذه بلفظ آخر: «ما أنا عليه اليوم وأصحابي».
الثالث: ما تغير به مضمون الحديث تغيراً تاماً، مثل: حديث عمرو بن عوف المزني، ونصه: «ألا إن بني إسرائيل افترقت على موسى على إحدى وسبعين فرقة، كلّها ضاّلة، إلا فرقة واحدة: الإسلام وجماعتهم، وإنها افترقت على عيسى على إحدى وسبعين، كلّها ضالّة إلا الإسلام وجماعتهم، ثم إنهم يكونون على اثنتين وسبعين فرقة، كلّها ضالّة، إلا فرقة واحدة: الإسلام وجماعتهم».
ويلاحظ عليه: إنه تخلو من كلمة (كلها في النار)، وتستخدم بدلها مصطلح (ضالة)، وتدمج الاسلام ببني إسرائيل. ولعل المراد مَنْ أسلم منهم، ومَنْ أسلم من النصارى. وفي المقطع الأخير من الحديث إعضال معنويّ، استعصى عليّ فهمه.
ويلاحظ على حديث أبي هريرة: إنه يحتمل فقط غرض إخبار المسلمين بتفرق اليهود، وأن أمة الإسلام ستفترق على ثلاث وسبعين فرقة. ولا يترتب على ذلك إلا فهم الخبر النبوي. إلا أن لفظ (فرقة) في القرآن الكريم لم يكن يعني «المجموعة التي لها آراؤها الخاصة، التي تختلف عن غيرها، بل عموم الجماعات، سواء تميَّزت بإقليم أو مكان أو عشيرة أو أي تجمع؛ بدليل قوله تعالى: {فَلَوْلا نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدِّينِ}. فإذا حملنا قول النبي‘ على معنى الفرقة، أي (73) شعباً أو تجمعاً، فإن ذلك صحيحٌ ومقبول؛ بقرينة معنى الفرقة. ثم إن الحديث بلفظ الترمذي يخلو من ذكر النصارى؛ وبنفس الإسناد بلفظ أبي داوود فيه ذكر النصارى؛ وفي لفظ الترمذي: (تفرَّقت اليهود)، (وتفترق أمتي)، بينما في لفظ أبي داوود: (افترقت) اليهود، (وتفرقت النصارى)، وتفترق أمتي.
يقول القرضاوي: «إن مفهوم الافتراق حتى لو لم يؤدِّ إلى النار إلا أنه ورد في سياق الذم »، أي إن رسول الله‘ ذم هذه الأمة، ووصفها بالتفرق والتشتت، وهذا يعارض بقول الله تعالى: {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ}.
إن مفهوم الخيرية يتعارض مع الافتراق، ويتعارض مع وصف يظهر أن أمة محمد‘ أسوأ في التفرَّق من اليهود والنصارى. وإذا حملنا الافتراق على «المفهوم المذموم» فإن ذلك سيكون نصّاً صريحاً في أن أمة الإسلام لم تلتزم بقوله تعالى: {وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعاً}.
كما أن الحديث نص صريح في إبطال أحاديث صحيحة كثيرة تصف الأمة الإسلامية بالأمة المرحومة، وإن قرونها الأولى خير القرون. إلخ.
أقول: إن هذه الإشكالات ترد على الحديث الذي يعامل معاملة الأخبار، من دون الزيادات الملحقة به، فكيف بالمتون الأخرى.
2ـ يلاحظ على متن حديث عوف بن مالك زيادة قسم الرسول‘ «والذي نفس محمد بيده، لتفترقن». وهذه الزيادة ينفرد بها عوف؛ وإضمار السائل له عن الفرقة الواحدة التي في الجنة بلفظ: (قيل)، وجوابه‘: الجماعة، فهل يُراد بها الكثرة؟ والجواب: قطعاً لا؛ لأن المعيار القرآني هو الحق، سواء منه القليل أو الكثير. بل عرَّف أكثر من واحد الجماعة بأنهم أهل الحق. وحيث إن الفرق كلها تدعي أن كل واحدة منها أهل الحق صار اللفظ مجملاً. فلا معيار الكثرة صالح لتفسير لفظ الجماعة، ولا صرف اللفظ إلى أن الجماعة هي المعبرة عن الحق في الاعتقاد. لقد صرَّحت بلفظ الجماعة رواية عوف، وأنس، ومعاوية، ورواية ابنة سعد بن أبي وقاص، عن أبيها، أي إن نصف الطرق التي رُوي الحديث بها تصرِّح بأن «الجماعة» هي الفرقة الناجية. وحيث يبقى هذا اللفظ مجملاً يحتاج إلى توجيه فقد صلح أن يوجهه كل أصحاب «رأي» إلى أنفسهم، فضاع المعيار. وبضياع الأمر لم يَعُدْ مضمون الحديث منتجاً من الناحية العقدية، إلا إذا افترضنا أن المراد بالجماعة «تلك المجموعة التي أذعنت (لعام الجماعة)، الذي أجبر فيه الإمام الحسن الزكي× على التنازل عن الخلافة الثابتة له شرعاً وواقعاً، وتسلط معاوية على بلدان المسلمين، وأطلق اسم عام الجماعة على تلك السنة، وهو الانقلاب الثاني بعد انقلاب السقيفة، بهذا الحديث. كما يتداعى للذهن أن تسمية متداولة هي (أهل السنة والجماعة) ربما تكون متداولة بقصد أن تسوِّق نفسها أنها الفرقة الناجية، طبقاً للحديث.
و في المتن الثالث عن أنس لم يَرِدْ ذكرٌ للنصارى، وأن افتراق أمة الإسلام سيكون على اثنتين وسبعين، في حين أن النصوص الأخرى تقول: ثلاث وسبعون، ويختتم بـ (إلا واحدة، وهي الجماعة)، بلا سؤال منهم لرسول الله‘ مَنْ هم؟
أما حديث معاوية ففيه:
أـ إلاّ أن رسول الله‘ قام فينا، فقال: … والنص مشعرٌ بأنه مقتطع من خطبة لرسول الله.
ب ـ في سنده: صفوان، عن أزهر بن عبد الله الحرازي، عن أبي عامر الهوزني، عن معاوية.
ج ـ لم يذكر اليهود والنصارى، إنما قال: ألا إن من قبلكم من أهل الكتاب…، ثنتان وسبعون في النار وواحدة في الجنة، وهي الجماعة.
دـ إذا نظرت في سنن أبي داوود تجد زيادات أخرى للحديث أثبتها أبو داوود، ومنها: زيادة ابن يحيى، وعمرو بن عثمان، وكميل: «وإنه سيخرج من أمتي أقوام تجاري بهم تلك الأهواء كما يتجارى الكلب لصاحبه»([39]).
هـ ـ لم يعبِّر حديث معاوية عن المجموعات بـ (الفرقة)، وإنما عبَّر (بالملة). وهذا التعبير أدقّ للمراد السياسي من الحديث؛ إذ معنى الملة «التي لها نظام فكريّ خاصّ بها».
وفي المتن الخامس، وهو حديث أبي أسامة:
أـ إن التعبير كان عن (بني إسرائيل). استعمل فرقة.
ب ـ في الحديث تردد بـ (أو): «إحدى وسبعين فرقة أو على اثنتين وسبعين».
ج ـ الإشارة إلى أمة الإسلام بـ (هذه الأمة) تزيد فرقة واحدة.
دـ المستثنى على وفق الرواية (السواد الأعظم).
ومثله الحديث المنسوب لابن مسعود، بَيْد أنه مجمل؛ لقوله: «لم ينجُ منها إلاّ ثلاث». وقد تقدم تفسيرها الذي يريده مَنْ لهم غرض في الحديث.
أما حديث عبد الله بن عمرو بن العاص فإنه بدأ ببني إسرائيل، وجعلهم اثنتي عشرة ملة، باستخدام الفعل (تفرَّقت)، وباستخدام الفعل (تفترق) أمتي على ثلاث وسبعين، بزيادة: «كلهم في النار، إلا واحدة، قالوا: ومَنْ هي؟ قال: ما أنا عليه وأصحابي».
أما لفظ الزيادة الأخيرة عند الحاكم النيسابوري، للتفريق بين وضع أصحاب الرسول‘ في عصره عما بعده، قال: «ما أنا عليه اليوم وأصحابي». وهذا القيد نافعٌ؛ لأن الصحابة في عصره‘ لم يختلفوا اختلافاً علنياً ظاهراً، وإنما ظهر منهم الاختلاف بعد وفاته مباشرة في سقيفة بني ساعدة. ومن هناك بدأ تكون نظريتين: «فهم الصحابة للإسلام وتطبيقاتهم له»؛ و«فهم أهل البيت للإسلام وتطبيقاتهم له». ولذلك كثرت الأحاديث في الدعوة إلى كلتا النظريتين. ومنها: حديث «أصحابي كالنجوم»، الذي لم يصمد أمام النقد، فتنصَّل منه البيهقي، والقاضي عياض، وابن حزم، الذي قال فيه: «هذا حديث موضوع ومدلَّس وباطل». ولاختلاف الصحابة فيما بينهم، ولأن الأمر وصل بهم إلى حد الاقتتال والقتل والقطيعة، إلخ.
أما متن الحديث الثامن، بطريق عمرو بن عوف المزني، ففيه:
أـ إنه سمى اليهود بني إسرائيل، وأن افتراقهم على موسى بإحدى وسبعين.
ب ـ وصفها فقط بأنه كلّها ضالة، إلاّ واحدة.
ج ـ صّرح أن الواحدة هي «الإسلام وجماعتهم».
دـ عطف عليه أنها افترقت على عيسى أيضاً بإحدى وسبعين. وهنا نلحظ أن العدد لم يزدَدْ.
هـ ـ استعمل الحديث لفظ (فرقة).
وـ ثم إنهم يكونون على اثنتين وسبعين فرقة.
زـ يلاحظ على الحديث أيضاً أنه ركيك لغوياً، وغير مسبوك. فمثلاً: لا يفهم المراد من لفظ (الإسلام وجماعتهم).
ح ـ إن حديث عمرو بن عوف الوارد قد حذفت منه مقدّمته، وهي: «كنا قعوداً حول رسول الله‘ في مسجده، فقال: لتسلكنّ سنن من قبلكم حذو النعل بالنعل، ولتأخذن مثل أخذهم إنْ شبراً فشبر، وإنْ ذراعاً فذراع، وإنْ باعاً فباع، حتى لو دخلوا جحر ضبّ دخلتم فيه، إلا أن … الحديث»([40]).
و هذا يؤكد أن الرسول ـ إذا فرضنا صحة الحديث ـ يريد أن يشير إلى أن الظواهر ومسبِّباتها، التي ظهرت في المجتمعات الدينية السابقة، سيكرِّرها منطق التطوير والتحوُّلات في المجتمع الإسلامي، ويحذِّر من الضلالة.
أما متن الحديث التاسع، بطريق ابنة سعد بن أبي وقاص، الذي ورد في كتاب «الإبانة»، فإنه من أبي بكر بن عياش، عن موسى بن عبيدة، عن عبد الله بن عبيدة، عن بنت سعد أو سعدة، عن أبيها: إن بني إسرائيل افترقت على إحدى وسبعين، ولن تذهب الليالي والأيام حتى تفترق أمتي على مثلها، إلخ.
1ـ وقع بعض الدارسين في الحيرة بين التسليم بأسانيد الحديث ومعقولية المتن ومنطقية المضمون. وفي مثل هذه الحالات، التي يحكمهم فيها الإسناد وتعدُّد الطرق، إذا كان التسليم بالمضمون يتعارض مع العقل والواقع فإنهم يلجأون إلى تأويل الحديث. ومن التأويلات التي جرت على المتن أن لفظ (أمتي) الوارد في متن الحديث، ونسبته إلى رسول الله‘، لا يخرجها من الانتساب إليه طالما عبَّرت أغلب المتون بـ (أمتي)، إلا حديث معاوية، الذي سمّاها (هذه الملة). وحديث الباهلي: (هذه الأمة). يقول القرضاوي: إن تسميتهم (أمته‘) لا يخرجهم من الملة، حتى مع التسليم بزيادة «كلّها في النار»، فذلك لا يعني الخلود.
2ـ وذهب آخرون إلى أن مفهوم الأمة الوارد في الحديث هي الأجيال المعاصرة لرسول الله‘. وقد أطلقوا عليها (أمة الدعوة)، أي الأمة التي وجَّه الرسول لها دعوته إلى الإسلام. وعليه فإنها هي التي كانت ثلاث وسبعين فرقة جعلهم رسول الله‘ فرقة واحدة، سميت أمة الإجابة، فمن أجاب رسول الله‘ منهم فهم الناجون.
3ـ لما تأكد من خلال الاطلاع على تاريخ اليهود، وتاريخ المسيحية، أنهم لم يتفرقوا في أية حقبة من تاريخهم إلى اثنتين وسبعين فرقة فإن الواقع سوف لن يؤيد «منطوق الرواية»، ويكون ذلك مدعاة الى اتهام النبي‘، ولا سيما أن عبارة النص تقول: «افترقت».
أما على صعيد المسلمين فقد روى حفص بن حميد أنه سأل عبد الله بن المبارك «كم افترقت هذه الأمة؟»، ولكي يوظِّف هذا الحديث أجاب: الأصل أربع فرق: «الشيعة،الحرورية،القدرية،المرجئة»، ثم قال: وافترقت الشيعة على اثنتين وعشرين فرقة، والحرورية على إحدى وعشرين، والقدرية على ستة عشر، والمرجئة على ثلاث عشرة فرقة، وصُمِّمت الافتراقات لتكون اثنتين وسبعين، كلُّها في النار.
بيد أننا إذا راجعنا كتب الفرق والعقائد لا نجد هذا العدد. فهذا الشهرستاني يستعرض فرق الشيعة، فيجعلهم خمسة: الكيسانية، والزيدية، والإمامية، والغلاة، والإسماعيلية؛ والمرجئة أربعة…. وهكذا لا نجد هذه الأرقام التي زيدت في مكان وأنقصت في مكان لتكون اثنتين وسبعين.
أما إذا أردنا أن نجعل الاختلاف في مسألة واحدة معياراً للافتراق فإننا سوف لن نقف على السبعين، ولا المائتين، بل سيتجاوز الأمر ذلك كله. وكلهم مسلمون مؤمنون، إلا مَنْ أخرج نفسه من الإسلام بمخالفة مجمع عليه.
5ـ استغل جمع من المحدِّثين حديث الفرقة الناجية ضد من يعارضهم في الرأي والمنهج. فقد روى الحاكم عن عوف بن مالك قوله: «ستفترق أمتي على بضع وسبعين فرقة، أعظمها فرقة فرقة قوم يقيسون الأمور برأيهم، فيحرِّمون الحلال ويحلِّلون الحرام». قال: هذا الحديث صحيح على شرط الشيخين.
ومثال أخر على ذلك: روى أبو حاتم الرازي، عن عامر، عن ابراهيم الأصفهاني، قال: حدثنا يعقوب الأشعري، عن ليث، عن مجاهد، عن ابن عباس، قال: تفرقت… الحديث. وأضاف: وإنّ من أضلّها وأخبثها الشيعة، الذين يشتمون أبا بكر وعمر.
أـ إن المتتبِّع للروايات يلحظ أن حديث الفرقة الناجية ينطلق من المقارنة مع اليهود. ولعلّ هذا في رأي بعض الدارسين من الإسرائيليات؛ إذ يظهر فيها تأثير المرويات اليهودية، التي حاولت أن تقارب بين الدين الذي جاء به محمد‘ والدين اليهودي؛ لتثبت أنه ليس هناك فرق بين الدين الجديد وما لديهم من اعتقادات وتجربة تاريخية.
ب ـ إنّ جعل بعضهم الفرقة الناجية هو استخدامٌ لذات الأسلوب في وصف الناجية بأنها «أهل السنة»، والجماعة أنهم أهل الحديث. فصاحب المنية والأمل، وهو ابن المرتضى الزيدي، مؤرِّخ المعتزلة، يذكر حديثاً: «ستفترق أمتي إلى بضع وسبعين فرقة، أتقاها وأبرّها المعتزلة». واستخدمها الشيعة فسموا أنفسهم الفرقة الناجية.
بل إنّ كلّ مؤلِّف في الفرق يتحدث دوماً من داخل فرقته التي يعتبرها الناجية. ولما كانت الفرق تظهر وتندثر أو تنشطر فإن لائحة الفرق متغيرة وتختلف من عصر لآخر. ولأن كل مؤلِّف يضطر أن يجعل الفرق (72) فرقة فإنه سيعاني حتى يرسم خارطة فرق ينطبق عليها هذا الرقم.
ج ـ أثناء البحث وجدتُ في كتاب «الإبانة» لابن بطة أن أبا عامر عبد الله بن الحي قال: حججتُ مع معاوية، فلما قدمنا مكة أخبر بقاصّ يقصّ على أهل مكة لبني مخزوم، فأرسل إليه معاوية، فقال: هل أمرتك بهذه القصص؟ قال: لا، قال: فما حملك على أن تقصّ بغير إذني، قال: ننشر علماً علَّمنا الله، فقال معاوية: لو كنت تقدمت إليك قبل مرّتي هذه لقطعت منك طابقاً، ثم قام حين صلّى الظهر بمكة فقال: قال رسول الله‘ (إن أهل الكتاب …. الحديث). وهذا يكشف أن القاصّ لم يكن يحدِّث بما يرويه معاوية، فاضطر أن يرويه بنفسه.
4ـ معارضة حديث الفرقة الناجية للقرآن الكريم
انتبه أكثر من باحث في هذا الحديث، ولاحظ أن متنه يتعارض مع آيات من القرآن الكريم. وقد ورد عنه‘ قوله: «أيها الناس، ما جاءكم عني يوافق كتاب الله فأنا قلته، وما جاءكم يخالف كتاب الله فلم أقله»([41]).
وورد قوله‘: «كل حديث لا يوافق كتاب الله فهو زخرف»([42]). فأسَّس هذا الحديث قاعدة أصولية مفادها أن كلّ حديث لا يوافق كتاب الله فهو ساقط عن الاعتبار، ولا تنهض به حجة؛ لأن القرآن الكريم معيار سالم لم تصله يد التحريف والتبديل والوضع. والمراد والمطلوب عدم مخالفة متن الحديث الذي يصحّ الاعتماد عليه، وهو الذي يوافق كتاب الله ولا ينكره العقل». وهذا الاستخلاص لا يؤيد متن حديث الفرقة الناجية؛ لأمور:
أـ إن الحديث تعارضه آية {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ}([43]). والحديث يصف أمة محمد‘ بأنها الأسوأ من اليهود والنصارى في التفرق، وأن 98% تذهب إلى النار، وأنها أمة عصت الرسول، وخالفت أمر الله تعالى، لقوله: {وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُواْ}، وعشرات مثل هذه الآيات، التي أثنت على أمة محمد‘، فجاء الحديث مناقضاً تماماً لمثل هذه الآيات الكريمة. فثبت أن مضمون الرواية يتعارض مع النص القرآني القطعي في الصدور والدلالة.
ب ـ طالما جزم الحديث بأن فرق الإسلام الاثنتان والسبعون كلّها في النار فإنه اصطدم مع قول الله تعالى: {إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ} (آل عمران: 11). والحديث لا يتطرق إلى الشرك، بل فيه تصريح بأنهم من أمته‘، أي آمنوا بالله وبالرسول، ولأجل رأيٍ أو قولٍ أو فهمٍ ما جعلهم الحديث «فرقة» من الفرق التي تدخل النار، لأجل أن تبقى تلك الطائفة المنصورة «الجماعة» هي التي تتمتع بالتفرُّد الإلهي في الدنيا، ولها السيادة والسلطة والإفتاء والمال والحكم، ولغيرها الاضطهاد والمحكومية والخضوع والفقر، وفي الآخرة: للأقلية الجنة، وللأغلبية نار جهنم. بينما منطق الآية أن الله تعالى واسع المغفرة، يغفر لمن يشاء، ممَّنْ آمن به، ولم يشرك به.
و قد قام الإجماع على أنه لا يخلَّد في النار إلاّ مشرك. فمتن الحديث ليس معارضاً بالآية، بل بالإجماع أيضاً. ويتعارض مع حديث رواه البخاري، قال: إن النبي‘ قال: «يخرج من النار مَنْ قال: لا إله إلا الله، وفي قلبه وزن شعيرة من خير»([44]). وجاء في صحيح ابن خزيمة أن النبي‘ قال: «مَنْ قال: لا إله إلا الله دخل الجنة»([45]). وإذا أردنا أن نتتبع الأحاديث فإننا سنجد عشرات الأحاديث بهذا المضمون.
أقول: بعد كل ما تقدّم كيف يستقيم مضمون الحديث، الذي يجعل مصير الناطقين بـ «لا إله إلا الله، محمد رسول الله» النار؛ لأنهم ليسوا من الفرقة الناجية حسب الزعم. أليس في ذلك ردٌّ صريح للآيات والأحاديث الصحيحة، وتكذيبٌ لمتواتر الأخبار.
ج ـ إن الحاصل العملي الفعلي من الحديث أن المسلمين الحقيقيين هم فقط (1/73) من تعداد المسلمين في كل العصور.
و بذلك تكون النسبة المئوية للمقبول إسلامهم والناجين من النار (14%) ممَّن آمن بالله وبرسالة الرسول‘، وإن (98.6%) من المسلمين كفّار ضالّون، ومآلهم إلى النار.
إن مجرّد تصور هذه النتيجة يجعل عقل المسلم حائراً إزاء حديث لنبي الأمة، الرسول العظيم، الموحِّد لأمته، يترك حديثاً يمزِّق آمالهم، ويجعل القليل منهم «هم المتمتعون» بالمزايا، ويصف مهماته وإنجازه بأن (98.7 %) لم يؤمنوا به، ولم يفهموا رسالته الفهم الصحيح والسليم.
خلاصة البحث
ظهر من خلال المتابعة والمراجعة ما يلي:
1ـ إن هذا الحديث لم يظهر في أمهات كتب الحديث عند أهل السنة، كصحيح البخاري، ومسلم. ولم تتناوله كتب الحديث عند الشيعة، إلا في «الكافي» (حديث الكابلي). وفي سنده مقال. وإن الكتب التي روته تنتهي إلى راويين: أحدهما: قد قدح أئمة الجرح والتعديل في ضبطه، والآخر: في عقيدته، فهو ناصبي من أتباع الحجّاج، وهو الذي سبى الصحابي أنس بن مالك.
2ـ إن هذا الحديث ظهر بمتون عدة، ومنها ما اقتصر على تفرُّق الأمم الثلاث إلى فرق تزيد كلّ أمة بفرقة واحدة عما قبلها، وينتهي النص،من دون أية زيادة.
وإن متوناً أخرى روي بها فيها زيادات: (كلّها هالكة)؛ (كلّها في النار، إلا واحدة)، حتى قال ابن الوزير في «العواصم والقواصم»: «إياك والاغترار بـ (كلّها هالكة، إلا واحدة)؛ فإنها زيادة فاسدة غير صحيحة، ولا يؤمن أن تكون من دسيس الملاحدة».
وقال عنها ابن حزم: إنها موضوعة،غير موقوفة، ولا مرفوعة. وكذلك ما ورد في ذم الشيعة، والقدرية، والمرجئة، والمعتزلة، والأشعرية. فكلها أحاديث موضوعة، وضعت لأغراض سياسية، ونتاجاً للصراع والتنافس العقائدي.
ولم يؤيِّد ابن كثير الحديث، وهو يفسر قوله تعالى: {أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً…}. وقال الإمام الشوكاني بقول ابن كثير في الحديث، ثم زاد: أما زيادة (كلّها في النار، إلا واحدة) فقد وضعها جماعة من المحدثين، ونقل رأي ابن حزم أنها موضوعة.
لذلك فالموقف الأكاديمي من صحة الحديث:
أـ القبول المطلق به، وبزيادته.
ب ـ رفضه مطلقاً، الأصل والزيادة.
ج ـ اعتبار الزيادات فقط ضعيفة أو موضوعة.
وإن كلّ فريق يحتجّ لرأيه بمجموعة من الحجج.
3ـ من الحجج التي لا يمكن اعتبارها استدلالات علمية ما ورد عند القائلين بصحته مع زياداته بأنه متلقّىً بالقبول لكثرة أصحاب السنن، الذين رووه. والحال أنهما اثنين أساسيين: أبو داوود؛ والترمذي. وأعقبهما ابن ماجة، وأحمد. واحتجوا له بكثرة التأليف في الفرق والملل والنحل. وأظن أن الاستدلال الأخير فيه من الضعف العلمي ما لا يخفى.
4ـ اختلف العلماء في سند هذا الحديث؛ فمنهم مَنْ أغمض العين عن علل السند؛ ومنهم مَنْ سلَّط الضوء على راويين لا تتوفَّر فيهما شروط صحة الراوي. ولوحظ أن الإشكال في متنه لا يقلّ إعضالاً عن الإشكال في سنده. فمن جهة اضطراب المتن نجد:
أـ الاختلاف في عدد الفرق مردَّدٌ بين (71) و(72).
ب ـ الاختلاف في الناجين. فالأكثر أن الفرقة الناجية واحدة، والهالكون نيِّف وسبعون. وهناك رواية ـ قيل عنها: إنها الأصح ـ تفيد أن الهالكين فرقة واحدة، ونيف وسبعون هم الناجون.
ج ـ وصفت بعض متونه الهالكين بأنهم في النار، ووصفتهم متون أخرى بأنهم ضالون.
دـ اختلفت المتون في تحديد الفرقة الناجية على عدة توصيفات؛ فمنها: (الجماعة)، وهو مصطلح إجمالي، لم يفسِّره إلا الرجوع إلى أحداث تاريخية حصلت بعد استشهاد الإمام علي×؛ ومنها: (ما أنا عليه وأصحابي)، وفيه زجٌّ للشراكة بين النبي والصحابة في المشروع الإسلامي؛ ومنها: التعديل المهمّ (ما أنا عليه اليوم وأصحابي)، المكون من ثلاثة عناصر (النبيّ، وعصره، وأصحابه)؛ ومنها قوله: (الإسلام وجماعتهم)؛ ومنها: (أنا وشيعتي)، حتى أن الشيخ محمد عبده قال: لم تتعين إلى الآن الفرقة الناجية، فكلٌّ يدعي أنه الفرقة الناجية.
5ـ لما كان الحديث حديث آحاد، والآحاد لا تثبت فيه قضيه عقائدية، فضلاً عن علل السند، واضطراب المتن، فإقامة موقف عقائدي على مثل هذا الحديث يعدُّ تسامحاً مخلاًّ بالأصول.
6ـ لا يؤيد تاريخ الشعب اليهودي، ولا تاريخ النصرانية، ولا تاريخ الفرق الإسلامية، هذا العدد من الفرق المصرَّح بها في الحديث، ولا سيما أن ظهور الفرق واختلافها متغيِّر من أكثر متغيِّرات العصر.
وإن الآخذين بالحديث وأصحاب الملل والنحل لم يجدوا معياراً للفرق والملل والنحل، فلا يصلح الخلاف في مسألة فرعية، أو حتى أصيلة، لأن يتميز المخالف، ويكوِّن فرقة، وإلا لزاد الأمر على هذا العدد. وإذا اعتمدنا توصيف مؤلِّفي الملل والنحل فإن العدد سيقلّ عن ذلك بكثير. فلزم الأمر لبعضهم أن يوصل تعداد الفرق تعسُّفاً إلى ذلك العدد.
7ـ من جهة التحليل اللغوي للمتن وجد بعض الدارسين أن لغة النبي‘ في المفهوم والدلالة هي لغة القرآن، وإن القرآن لم يستعمل لفظ فرقة على أساس إيديولوجي.
8ـ إن التأثير السوسيولوجي للحديث على عامة الناس هو تأثير ضارٌّ بوحدة الأمة، فهو يمنح «جماعة»، أو فئة قليلة من المسلمين، حقّ احتكار الحقيقية، واعتبار كل مَنْ سواهم ممَّنْ يخالفهم على ضلال. وهو أيضاً يمنح أولئك حقّ احتكار الإيمان، فإنهم المؤمنون وغيرهم ممَّن يخالفهم في صغيرة أو كبيرة كفّارٌ ضُلاّلٌ. ويشرع الحديث لهم حق الناطقية باسم الله. ويشجِّع الحديث على ممارسة الإقصاء لإخوانهم وأتباع دينهم، ومن باب أولى اعتبار أتباع الأديان الأخرى أشد كفراً وضلالة.
وعليه فالحديث بهذه المتون يمزِّق الشعوب والمجتمعات الإسلامية، ويشرِّع لممارسة العنف والقتل العشوائي.
الهوامش
(*) أستاذ جامعي، وباحث في الفقه الإسلامي، وعميد كلّية العلوم الإسلامية في كربلاء، له مؤلَّفات فكرية وفقهيّة متنوّعة، من العراق.
([1]) دلائل الصدق 3: 50؛ الإصابة 2: 341.
([2]) الزمخشري، الكشّاف 2: 82؛ تفسير البيضاوي 2: 216.
([3]) سنن أبي داوود 4: 276 (ح 4597).
([4]) سنن الترمذي 5: 26 (ح 2641).
([5]) السيوطي، الدر المنثور 2: 61.
([6]) الحاكم، المستدرك على الصحيحين 1: 206.
([8]) ابن بطة: الإبانة 1: 374.
([9]) ابن أبي عاصم، السنة، الحديث رقم 63.
([10]) الآجري، الشريعة 1: 128.
([11]) الكشّاف 1: 63، تخريج الأحاديث لابن حجر.
([12]) ابن تيمية، مجموع الفتاوى 3: 345.
([14]) الشاطبي، الاعتصام 2: 186.
([15]) تعليق الألباني على سنن ابن ماجة.
([16]) الكافي 5: 514، الحديث 15099/284، طبعة حديثة.
([17]) الطباطبائي، الميزان 3: 207.
([18]) سنن الترمذي، رقم (2640)؛ الحاكم، المستدرك 1: 206؛ ابن أبي عاصم، السنة، رقم (66).
([19]) الآجري، الشريعة 1: 126؛ مسند أحمد 14: 124؛ ابن بطة، الإبانة 1: 375.
([20]) ابن ماجة، رقم (4063)؛ السنة رقم 63؛ الإبانة 1: 374.
([21]) مسند أحمد 19: 241؛ ابن ماجة (4064)؛ الإبانة 1: 371؛ ابن أبي عاصم، السنة، رقم (64)؛ الآجري 1: 128.
([22]) سنن أبي داوود، رقم (4597)؛ السنة، رقم (65)؛ الحاكم، المستدرك 1: 206؛ الإبانة 1: 371؛ الآجري 1: 132.
([23]) ابن أبي عاصم، السنة، رقم 68.
([24]) المصدر نفسه، رقم 70 ـ 71.
([25]) الترمذي، رقم (2641)؛ الحاكم، المستدرك 1: 207.
([26]) الحاكم، المستدرك 1: 207.
([27]) الآجري، الشريعة 1: 131.
([28]) ابن بطة، الإبانة 1: 367.
([29]) الشاطبي، الاعتصام 2: 186.
([30]) المستدرك 1: 128؛ لسان الميزان 1: 54.
([31]) الذهبي، ميزان الاعتدال؛ ابن حجر، تهذيب التهذيب؛ لسان الميزان 3: 371.
([32]) الذهبي، ميزان الاعتدال؛ المزي، تهذيب الكمال.
([35]) الهيثمي، مجمع الزوائد 7: 516.
([36]) ابن عدي، الكامل في ضعفاء الرجال 6: 224.
([37]) ابن حزم، الفصل في الملل والنحل 1: 216
([39]) ابن الوزير، العواصم والقواصم 1: 21.
([40]) البشاري، أحسن التقاسيم.
([41]) تاريخ بغداد 9: 247؛ تهذيب التهذيب 9: 498.
([42]) سنن أبي داوود 4: 324، (ح4598).