دراسة في العلاقة بين التعبّد واستقلال العمل الأخلاقي
أ. فاطمة سادات موسوي(*)
مقدمة ــــــ
يعتبر العصر الحديث فترة استعلاء العقل البشري المستقل، بحيث إنه ضيّق المجال على غيره من المراجع، ففي هذه الفترة ترقى عقل الإنسان من كونه مراقباً وكاشفاً للوجود إلى كونه صانعاً ومؤسساً في العالم الخارجي.
وكانت الأخلاق من المجالات التي تغيرت بتأثير الحداثة، ويمكن مشاهدة ذروة النزعة الإنسانية في الأخلاق المعاصرة المستقاة من النظريات الأخلاقية لـ «كانت»، ففي هذا المذهب الذي يُعدُّ من المذاهب الأخلاقية المهمة في الفترة المعاصرة خرجت الأخلاق من سلطة التوجهات الأخرى، حتى الدين. وإنما يتحقق العمل الأخلاقي إذا كان عامله قد اعتبر أخلاقياً بدون تأثير وسيطرة العوامل الخارجية؛ وعليه فالإنسان إنما يعتبر العامل أخلاقياً اذا كان إرادته نابعة من عقله الخالص، ولم يلحظ أياً من العوامل الداخلية والخارجية، ما عدا العقل أو الوجدان. وبالتالي فلكي يكون الإنسان أخلاقياً في المعرفة، وحتى في الدوافع، فلابد أن يتجرد من جميع المؤثِّرات، حتى الدين. وعليه فإنه يرفض الأخلاق الدينية، سواء على المستوى المعرفي (نظرية الأمر الإلهي) أم على مستوى الدافعية.
وصحيح أنّ مقتضى نظرية «كانت» عدم تدخل الدين في الأخلاق، إلاّ أنّه جعلها في منزلة خاصة. فالدين بحسب هذه النظرية يستند إلى الاعتقاد الأخلاقي الأصيل، وبناء على ذلك فإنّ الدين من وجهة نظر «كانت» مسألة ذاتية تعتمد على الخصال الأخلاقية التي تبنى دائماً على العقل المحض؛ بهدف الحفاظ على كليتها وجامعيتها([1]). ففي فلسفة «كانت» تنبع ضرورة الدين من العقل العملي، وذلك أيضاً بهدف تكميل الأخلاق؛ لأنّ الدين عندما يُضاف إلى الأخلاق فإنّ الإنسان يطمح أن يصل يوماً إلى السعادة بمقدار الجهد الذي بذله لجبران نقصه وعدم كماله. وقد بيَّن «كانت» في نقده للعقل العملي المنزلة الخاصة للدين والله والإيمان، ذلك الإيمان الناشئ من العقل العملي، أي الإيمان العقلي أو الإيمان الأخلاقي. وكما يقول كابلستون فإنّ الدين الحقيقي من وجهة نظر «كانت» هو عبارة عن الاعتقاد بأنّ الله بصفته المشرّع الأول لابُدّ أن تُرعى حرمته في جميع الواجبات، إلاّ أنّ الاعتقاد بجعل الحرمة لله يعني طاعة القانون الأخلاقي والعمل بالواجب لا أكثر.
إلاّ أن كثيراً من الفلاسفة الذين تأثروا بـ «كانت» في حياته لم يقبلوا فلسفته بعد وفاته، ولم يُقبلوا على دراسة أبحاث العقل العملي كما ينبغي، والذي جلب انتباههم هو إمكان تطوير آرائه في المثالية، ومن ثم النزعة الإنسانية الدنيوية الشديدة. كما أن آراء بعض الفلاسفة، أمثال: فيورباخ، وماركس، وفرويد، القائلة بأنّ الاعتقادات الدينية انعكاس للإفلاس الذهني للإنسان، متأثرة من فلسفة الدين عند «كانت»([2]). وفي هذه الأجواء العلمانية يعتقد أغلب المفكرين الغربيين أنّ العلمنة ستؤدي في النهاية إلى إلغاء الدين، ورفع شعار «موت الرب» من قبل بعض الأشخاص، أمثال: «نيتشه»، ويتنبّأ أمثال فرويد وباخ وماركس بالانهيار التام للمبادئ الدينية([3])، وفي الحقيقة فإن الاستقلال بذلك المعنى الخاص ـ الذي شكّل أساس الأخلاق الحديثة ـ ظهر بعنوان انتفاضة وثورة في مقابل المرجعية الدينية، أي إنّ البشرية تسعى لتعيين قوانينها بنفسها.
ولهذا فقد نُحّي الدين جانباً وضعفت محوريته([4])، وبملاحظة المباني الخاصة للحداثة فإنّ المميزات الأساسية للإنسان المعاصر هي رفض التعبد، والمطالبة بالبرهان، وإلغاء المرجعيات التقليدية، والتي تعارض بصراحة التدين التقليدي([5]).
كان ادعاء «كانت» تحديد العقل، وبالتالي فسح المجال للدين، والحقيقة أنه جعل الدين في حدود ذلك العقل الذي قيّده من قبل، وانسحبت سعة النقد إلى حدود الديانة. لقد وسعت آراء «كانت» عن الله والدين الفاصلة بين الدين والإنسان إلى أعلى مراتبها، وأدت إلى حذف الدين من كافة شؤون الحياة الاجتماعية والشخصية للإنسان وأضفى صبغة فلسفية على الفكر العلماني، وقوّى أسسه. إنّ فلسفة «كانت» مرحلة من الفلسفة يضطر الذهن الإنساني فيها لأول مرّة لتحمّل عبء المعرفة والأخلاق أيضاً. تبدأ الفلسفة في القرن الثامن عشر، ولا سيما عند «كانت»، بالإنسان، ثم التفكير في الله بصفته أحد مفاهيم العقل الإنساني، وفي الحقيقة فإن فكرة الله بصفته مفهوماً له ما بإزاء خارجي وعيني قد نسخت([6])، حتى أنّ بعضهم أنكر الله عن طريق الاستقلال الإنساني، ومن هؤلاء جيمز راجلز([7])، فإنّه اعتبر حفظ الاستقلال الإنساني ضروري للقيمة الأخلاقية للعمل، وبهذا المعنى يراه مضاداً لاتّباع الإرادة الإلهية، ويعتقد أنّ المؤمنين يقضون على استقلالهم بعشقهم لله، وبالتالي فأعمالهم غير أخلاقية([8])، ويعتبر الدين أخلاقاً لا قيمة لها.
برهان راجلز (1981م) ـــــ
الأساس لبرهان راجلز على نفي وجود الله هو التعارض ـ كما يراه ـ بين القيام بدور العبد مع دور العامل بالأوامر الأخلاقية في نفس الوقت، ودليله على ذلك أنه عندما يحصل تعارض بين الأدوار المختلفة للإنسان فإنّ لدور الطاعة لله أولوية على أي دور آخر.
ردود الفعل المختلفة على برهان راجلز ــــــ
1ـ الاستقلال الإنساني مرتبط بالإرادة الإلهية ــــــ
إذا كان الله قد أذِن لنا بأن نعمل في حياتنا بما تمليه علينا إرادتنا فهل أمرنا بالعيش إلاّ بما يوافق وجداننا؟ وحينئذ لا يوجد أي تناف بين طاعتنا لله وهويتنا بمعنى العوامل الأخلاقية؛ لأنّ الله قد جعلنا أحراراً لكي نُسيّر حياتنا بأنفسنا([9]). وعليه فالله هو الذي أراد أن يراعي الإنسان وجدانه في أفعاله وتصرفاته. وفي الحقيقة هو الذي أراد أن يكون الإنسان مستقلاً، ولم يفرض عليه أمراً آخر، بحيث يكون مضطراً على طاعة ذلك الدستور، مما يخل باستقلاله.
والجواب الذي يمكن ذكره في الدفاع عن برهان راجلز إزاء هذا الاعتراض أنّه حتى لو فرضنا أنّ الله لم يأمرنا بشيء في العالم الفعلي، وهذا طبعاً يخالف الفهم الديني الأصيل، لكنّ الله إذا أراد منّا نحن البشر أن نكون عباداً له فيجب علينا طاعته، ولما كان هذا الاحتمال موجوداً ومعقولاً أيضاً فإنّ الإشكال باقٍ على قوته([10]).
وعليه فلو لم يأمر بما يخالف الوجدان فإن الدين بقي معارضاً للأخلاق أيضاً؛ لأن الأعمال تعكس العوامل الأخلاقية والملاحظات الأخلاقية المستقلة، مع أن المؤمنين يتخلّون عن استقلالهم لحساب الطاعة العمياء([11]).
2ـ الوجدان المشوّه مرشد لا يوثق به ــــــ
الناس عصاة، وبالتالي فإنّ وجدانهم مشوّه، ولهذا فالوجدان المشوّه لا يصلح أن يكون مرشداً يُعتمد عليه. ولذلك فما يتصور ـ أحياناً ـ أنّه قيام بالواجب ليس سوى بحثٍ عن القدرة وتكبُّرٍ، ولهذا السبب لا يمكننا الاعتماد على حكمه.
إذاً يجب علينا الثقة بالله، والقيام بما يأمرنا به. وفي هذه الحالة فقط نتمكن من الوثوق بصحة ما قمنا به([12]). وبالتالي إذا أردنا العمل بواجبنا وجب أن نطيع الأوامر الإلهية. وهذه نظرية كان لها مدافعون عنها بين الإلهيين، إلاّ أنّ هذه النظرية الأغوسطينية تعاني من عدم انسجام أساسي، فقد قيل: إننا لا نستيطع التمييز بين ما هو صحيح وما هو خطأ؛ لأنّ حكمنا مخدوش، لكن كيف يمكننا أن نُدرِك الخدشة في حكمنا؟ وهنا لابد من الاطلاع على أمرين:
1ـ إنّ بعض الأعمال تُتوقع منّا أخلاقياً.
2ـ إنّ حكمنا لا يبيّن أن هذه الأعمال تتوقع منّا وفقاً لهذه النظرية؛ فإنّ المورد الأول وهو بالضبط ذلك الأمر الذي لا نتمكن من المعرفة به، ولهذا يقترح، بسبب عدم معرفتنا بالمورد الأول، وعليه يمكن اعتباره ثمرة لإلهام الله تعالى. لكنْ حتى على تقدير التغاضي عن المشكلات العملية حول التمايز الحقيقي بين الإلهام الواقعي والإلهام الكاذب لا تزال هناك مشكلة، وهي: إذا علمنا أن الله (الموجود الذي نفترض أنّه الله) يتوقع منّا القيام بعمل معين فهذا العمل يعتبر صحيحاً أخلاقياً، إذاً لدينا على الأقل حكم أخلاقي من قبلنا، وهو أن ما يتوقعه منّا ذلك الموجود فهو صحيح أخلاقياً. وعليه فمن المحال أن ندعي أن لدينا معرفة أخلاقية، وكلها ـ مع ذلك ـ إلهام إلهي([13]).
والجواب في الحقيقة مبني على صفة خيرية الله، بأن نقول: إن الله موجود كله خير، وبناء على ذلك فما يأمر به حق، وهذه معرفة أخلاقية؛ لأنّ عقل الإنسان يقضي أنّه لو فرض وجود إله فلابد أن يكون كله خير، إلاّ أنّه يبدو جواباً غير مقنع لهذا الاعتراض؛ لأنّ الاعتراض لا يتحدث عن مسألة أننا ليس لدينا أية معرفة أخلاقية بوجه، بل محل الاعتراض أنّه من أيِّ مصدر يجب أن نؤيد صحة معارفنا الأخلاقية، فهل أنّ الوجدان بمفرده كافٍ في الحكم الأخلاقي أو أن الإنسان يحتاج إلى مصدر آخر غير ذاته.
3ـ صوت الضمير (الوجدان) ــــــ
الاعتراض الآخر على برهان راجلز عبارة عن أنّ صوت الضمير هو صوت الله الذي يتحدث مع الناس، سواء فهمه الناس أم لم يفهموه، كانوا معتقدين بالله أم لم يكونوا معتقدين، فإنّ لحاظ هذه المسألة يحلّ التعارض؛ لأنّ الإنسان عندما يطيع وجدانه فإنّه يقوم في نفس الوقت بواجبه ـ طاعة الله ـ بصفته عبداً لله، أي إنّ الإنسان يعمل بواجبه الأخلاقي، ويعمل بواجبه الديني أيضاً.
وما جاء في جواب هذا الاعتراض أنّ هذا الأسلوب ليس مقنعاً؛ إذ يقودنا إلى أن سماع صوت الضمير هو خدعة من الله لا غير، ولهذا فإنّه يلهمنا توهم الاستقلال، مع أنّه يخلق أفكارنا بمهارة. وفضلاً عن ذلك فإننا نظن بالعمل بما يمليه وجداننا أن أعمالنا صحيحة لا أنها لُقِّنت إلينا بواسطة قدرة عُليا. والحقيقة أنّ ما يذكر خلاف ما يجده الإنسان في ذاته، فإذا كان في سماعنا لصوت الضمير اطلاع إلهي على ما هو الصحيح فلا موجب إطلاقاً لأن نكتم تلك الحقيقة عن أنفسنا، وبالتالي فإنّ مفهوم «الله يطلعنا» يمكن حذفه ببساطة([14]). والمطلب الذي يبدو للذهن أن الاستقلال الذي يلقى إلينا إذا كان استقلالاً في الاختيار فإنّ خداع الله سيزول، ولا نستطيع إلغاء مفهوم «الله يطلعنا»، وعليه فإنّ الله يُطلعنا على الصحيح، ونحن مخيرون في تطبيق تلك المعرفة؛ أما إذا كان الاستقلال في مرحلة الوضع، أي أنّ الله يُلهمنا أننا مستقلون في وضع القانون الأخلاقي، فإنّ الجواب المذكور صحيح، وإنّ برهان راجلز ناظر إلى الاستقلال في مرحلة الوضع؛ لأنّ العامل هو العامل الذي يضع القانون الأخلاقي.
4 ـ عدم التلازم بين وجود الله ووجوب عبادته ــــــ
وأخيراً اعتُرض بأنّ هناك تفاوتاً بين مسألة موجود يستحق العبادة ومسألة أننا يجب أن نعبده أو لا، فيمكن أن يكون هناك موجود يستحق العبادة، ومع ذلك لا يجب علينا أن نعبده؛ لأنّ ذلك يتداخل مع حياتنا بصفتنا عوالم أخلاقية. ولهذا فإنّ الله المستحق للعبادة ربما يكون موجوداً، وحينئذ يجب علينا عشقه واحترامه وتعظيمه، لكن لا نعيده بالمعنى الكامل للعبادة. وعليه سيكون هذا البرهان سفسطياً، من حيث إنّ مجرّد وجود الموجود المستحق للعبادة لا يتنافى مع استقلال العامل الأخلاقي، بل لزوم عبادته هو الذي ينافي استقلال العامل الأخلاقي. ويتكفل هذا الإشكال نفي الضرورة التي أثبتها راجلز لعبادة الله، وادعى أنّه ربما يكون الله موجوداً لكنّه لا يُعبد، إلاّ أنّ هذا الاعتراض لا أثر له؛ لأنّه لا توجد ظروف لا يُعبد الله فيها. إذا كان الله مستحق العبادة فلابُدّ أن يعبد مطلقاً، وإلا سوف يبقى مفهوم الموجود المستحق للعبادة بلا مصداق([15]).
5 ـ القيام بالواجب الأخلاقي يساوي القيام بالواجب الإلهي ــــــ
الأمر الذي يستند إليه العباد لله في هذه المسألة هو خيرية الله المطلقة. فإنّ هؤلاء لما كانوا يعتقدون أن الله خير مطلق، فلا يأمر إلاّ بالحق. ويعترف راجلز بمسألة أنّ الله كله خير، بصفتها حقيقة ضرورية، أي إنّ الله لا يتوقع منّا إلاّ فعل الحق([16]). ولذلك فإنّ راجلز يقبل بالعبارة التالية: إنما يكون الموجود إلهاً بالضرورة إذا كان كله خيراً([17]). ولهذا فإنّ كلّ ما لا يتقبله العالم الأخلاقي المستقل ليس بأمر إلهي؛ لأنّ الله بناءً على كونه خيراً محضاً إنما يأمر بالحق لا غير. ويرى راجلز أنّ هذه الرؤية سوء تفاهم حول المسألة، ومما يذكر في الدافع عن ذلك الملاحظات التالية:
1ـ لا يمكننا أن نصدّق بموجود على أنّه الله إلاّ أن تثبت خيريته المطلقة لنا، ولهذا فإذا كان خيراً محضاً فإننا نقبله بصفته إلهاً، وعليه فالتصديق بكونه إلهاً منوطاً بالتصديق بخيريته المطلقة. ومن جهة أخرى فإنّ خيريته المطلقة لا تتبين لنا إلاّ عندما نعرف أوامره بالنسبة لنا، فإذا كانت أوامره حقاً فهو خير محض، وبالتالي فهو الله. وبهذا النحو يتضح أنّ حكمنا على أعمالنا بأنها صحيحة وخاطئة مقدَّمة منطقياً على معرفتنا بموجود هو الله([18]).
ولهذا يقبل راجلز أنه اذا كان هناك ربٌ فهو خير محض بالضرورة. لكن مع هذا التوضيح المذكور فإنّه لا يعترف بتلك النتيجة التي تستنتج عبادة الله في الأخلاق المعتمدة على نظرية «كانت».
أما الجواب الذي قُدّم عن هذا الاشكال فعبارة عن أن تلك النظرية التي وضعها راجلز تستلزم الأولوية المعرفية دون الأولوية المنطقية، أي إنّ هذه المسألة تطرح في المقام المعرفي لا غير. وعليه فحكمنا مقدّم على معرفتنا بموجود هو الله، لكن هذه العلاقة بالعكس منطقياً، بحيث إن المشكلة التي يطرحها راجلز لا تؤثر على مسألتنا، ولهذا يمكن الاستنتاج أنّ ما لا يقبل العامل الأخلاقي المستقل لا يقع محلاً للأمر الإلهي.
والاعتراض الآخر الذي يمكن طرحه هو أنّ الله بكونه قادراً مطلقاً يمكنه الأمر بأي شيء، ولا يوجد ما يحدِّد إرادته، ولا سيما تمكنه من الإيعاز لفرد بترك دوره بصفته عاملاً أخلاقياً، وبذلك يزول استقلاله الأخلاقي، فإذا كان كذلك صح الاعتقاد بالقضية الآتية:
ــ إذا أمر الله بترك استقلاله الأخلاقي بالضرورة فعليه يجب على أن يترك استقلاله الأخلاقي.
وعليه فالذين يتبعون نظرية راجلز يريدون أن يثبتوا صدق ادعائهم بالالتفات إلى القدرة المطلقة لله. وهنا يدعي العباد لله أن المسألة ليست أنه يجب أن يترك استقلاله الأخلاقي، وبذلك يستنتج عن طريق رفع التالي: إنّ الله لا يأمر بترك استقلاله الأخلاقي.
وبهذا يُبطل العابد لله هذا الاعتراض عن طريق نظرية في الصفات الإلهية، وهي أنّ صفة قدرة الله تُحدَّد بواسطة خيريته المطلقة([19]).
وعليه فالعابد الذي يقبل بنظرية «كانت» حول العمل الأخلاقي لا يواجه إشكالاً منطقياً من هذه الجهة.
6ـ المواءمة بين الله والعامل الأخلاقي المستقل، مقولة «كوين» ــــــ
لقد خالف فيليب آل كوين برهان راجلز بقوله بعدم استلزام وجود العامل الأخلاقي المستقل لنفي وجود الله، بل يمكن تصور حالات من إمكان المواءمة بين الله والعامل الأخلاقي المستقل. فاستدل على ذلك بحالتين ممكنتين واقعيتين تُجيزان هكذا مواءمة.
ينكر كوين أن تكون مسألة: إنّ الله والعوامل الأخلاقية المستقلة لا يمكن المواءمة بينهما قضية صادقة بالضرورة. ولذا يأتي بمثالين نقضيين لإثبات مدَّعاه:
1ـ العالم الذي فيه موجود يستحق العبادة لكنه لا يأمر بأي شيء.
2ـ العالم الذي فيه موجود يستحق العبادة ولا يأمر إلا بما يوافق عليه ويرضى به العامل الأخلاقي المستقل.
وعليه فهو يرى في هاتين الحالتين إمكان وجود العباد لله والعالم الأخلاقي المستقل.
ويعترض خان كولتر بأن هناك أدلة تفترض أنّ برهان كوين غير مقنع، ولأجل مناقشة رأي كوين يلاحظ مثاليه النقضيين بحالتي الصدق والكذب، فيقول: إذا فرضنا أنّ هناك موجوداً يستحق العبادة، إلاّ أنّه لا يأمر بأي شيء، فإن هذه النظرية حول الأخلاق في ذلك العالم إما أن تكون صادقة أو كاذبة، فإن كانت صادقة يعني أنها تصبح مبنى للأخلاق، وحينئذ لا يمكن أن توجد أفعال صحيحة أخلاقاً. إذاً لم يعمل الفرد بأسلوب صحيح أخلاقاً، أو أن أسلوبه غير صحيح أخلاقاً، وبالتالي يبدو من الغريب افتراض عدم وجود عوالم أخلاقية مطلقاً، إذاً لا يوجد أي عامل مستقل أخلاقاً، وإن كانت كل العوامل الأخلاقية مستقلة فالقسم الثاني، وهو كذب هذه النظرية، سيبدو مبهماً، بحيث إنّه ربما كانت العوامل مستقلة أخلاقاً وأن عملها صحيح أخلاقاً، لكن بسبب الإلزام الأخلاقي لا يرتبط بالضرورة مع إرادة الله الذي ندعيه، ولهذا فهو ليس مستحقاً للطاعة بلا قيد أو شرط في هذا العالم، إذاً فإلهنا ليس أهلاً للعبادة.
أما النقض الثاني، أي العالم فيه موجود مستحق يستحق العبادة ويأمر بما يقبله العامل الأخلاقي المستقل فحسب، فهذا ما ندرسه أيضاً في حالتين: إذا فرضنا أنّ هذه النظرية مقبولة في ذلك العالم، وتقع مبنى للأخلاق، وعليه فالعامل المستقل أخلاقاً يمكنه في الحقيقة أن يمتثل ما أمر الله به، ولما كانت هذه النظرية مقبولة للأخلاق فالعامل إنما فعل ما يجب عليه، لكن لا يمكن القول: إنّه قام بعمل صحيح أخلاقاً؛ لأنّ العامل المستقل أخلاقاً لا يمكنه القيام بفعل لأنّ غيره أمره به. ولهذا السبب لا تستطيع العوامل الأخلاقية المستقلة، إذا كانت موجودة، العمل بأسلوب صحيح أخلاقاً على الإطلاق، بحيث يبدو القول بوجود عوامل أخلاقية مستقلة مبهماً. وعليه فلكي يصح القول بوجود العوامل الأخلاقية المستقلة لابد أن تكون هذه النظرية كاذبة. لكن إذا كانت هذه النظرية كاذبة فالموجود الذي أمر بالأمور المتقدمة ليس أهلاً للطاعة بلا قيد أو شرط، فهو إذاً ليس بالموجود الذي يستحق العبادة. وعليه ففي النقض الثاني إما أن تصبح العوامل المستقلة جميعاً غير أخلاقية أو لا؛ بوجود مَن يستحق العبادة.
ويقول خان كولتر: إن كوين يريد ببيان التفاوت الابتعاد عن قبول عدم الثمرة في النقض الثاني. ويعلن أنّ كوين يحاول البحث عن مخلص له من النتائج غير المطلوبة للنقض الثاني من طريق التمييز بين قبول الإرادة الإلهية بلا قيد أو شرط والقبول المطلق بالادعاء القائل: إنّ بعض الأوامر إرادة الله.
ويقول في توضيح ذلك: إنّ العامل الأخلاقي المستقل يقرر أن الأوامر حقيقية أو لا، ومن جهة فإنّ العابد لله المستقل أخلاقاً حرٌ في رفضه لحقانية الأمر إذا كان متعارضاً مع ما يعتبره أمراً إلهياً حقيقياً، ولهذا يحفظ استقلال العامل. وبعبارة أخرى: فإنّه يمتثل ما أمر الله به عندما يثق بنحو معقول أنّ الله أمر به([20]).
يضيف خان كولتر: يتضح من التأمل في أساس هذا البرهان أن كوين خلط بين الاستقلال العقلي والاستقلال الأخلاقي. إذا كان الفرد يعتبر نفسه ملزماً أخلاقياً فعندما يقوم بتنفيذ أمر آخر فقد ترك استقلاله الأخلاقي، حتى إذا حفظ مسؤوليته العقلية لتعيين مسألة أنّ هذا أمرٌ حقيقيٌّ أو لا، إذاً إن كان السبب للقيام بفعل هو إرادة الله فهذا الإنسان غير مستقل أخلاقاً([21]).
يبدو أن موضع الخلاف بين كوين وخان كولتر في معنى الاستقلال الذي يريده كل منهما. ويتضح من التعابير التي يستعملها كوين أنّه يقصد الاستقلال في مرحلة الاختيار، لأنّه يقول: إنّ العابد لله عامل مستقل أخلاقي أيضاً؛ لأنه يميز الأمر الحقيقي بحرية، ولما كان هو الذي يختار فهو مستقل. أما خان كولتر فلا يعقتد مجرد الاختيار استقلالاً، بل إنّه يقصد بالاستقلال الاستقلال في الوضع، فهو يرى العامل الأخلاقي مستقلاً إذا كان هو الواضع للقانون الأخلاقي،أما إذا كان العامل الأخلاقي يطيع أمراً من غيره فإنّه لا يعتبر مستقلاً، وإن كان مختاراً.
وهنا، نظراً للفترة التي نحن بصدد دراستها، أي الفترة المعاصرة، مع التأكيد على الأخلاق الكانتية، يبدو أن الأصح هو رأي خان كولتر؛ لأن «كانت» يعتبر الإنسان واضعاً للقانون الأخلاقي، لا أنّه مجرد مختار له.
القبول أو الرفض ــــــ
نحاول في هذا الفصل دراسة استقلال العامل الأخلاقي الذي جُعل دليلاً لنفي وجود الله تعالى، وكما تبين حتى الآن فإنّ الاستقلال الأخلاقي لا يختصر في مقام العمل عند «كانت»، بل ينجر إلى مقام المعرفة، وحتى الدافعية، وهذه هي الميزة التي جعلته مختصاً بمذهب «كانت». ولهذا من الضروري عند دراستنا لاعتبار برهان راجلز أن ندرس اعتبار هكذا استقلال من جوانب مختلفة. لكننا نبني في مرحلة الفرض على صحة هذا المبنى، ونلاحظ ـ نظراً لاعتباره ـ إمكانية المصير إلى النتيجة التي استفادها راجلز، وفي الواقع نسأل: هل ينجر القبول بهكذا مبنى (الاستقلال الكانتي) إلى الإلحاد أو لا؟ وبعبارة أخرى: إننا ندرس هنا اختيار الإنسان بالنسبة إلى وجود الله تعالى، بالإضافة إلى أن هذه المسألة جديرة بالدراسة والنقد من منظار «كانت» نفسه، وبعبارة أخرى: هل تنسجم حرية الإرادة مع مباني فلسفة «كانت» العملية والنظرية أو لا؟
والبحث الآخر هو إمكانية دراستها من وجهة نظر دينية، وأنه هل يَصحّ هكذا مبنى أصلاً؟ وهل يمكن الجمع بينه وبين الأخلاق الدينية؟ والمسألة الأخرى دراسته على ضوء المباني العقلية، وأن هذا المبنى هل يمكن قبوله منطقياً أو لا؟ وعليه فلا نروم هنا نقد «كانت» بصورة عامة، وإنّما نركّز كلامنا على مسألة حرية الإرادة عنده.
1ـ نقد استقلال العامل الأخلاقي ــــــ
1ـ 1ـ بملاحظة نظريات «كانت» الفلسفية ــــــ
يطرح «كانت» مسألة استقلال الإنسان في الدافعية بصفته أساساً لكون الفعل أخلاقياً (العمل فقط أداءٌ للواجب) بصراحة، وفي محل البحث يدعي أنّ الدوافع الدينية تنقص من القيمة الأخلاقية للعمل إذا دفعت الإنسان إليه. إلاّ أننا ندرك بشيء من التأمّل أنّه لاحظ الدوافع الدينية التي تحرّك الإنسان بصورة خفية، وكأنّ الإنسان عندما يذعن صراحة بترك هذه المسألة لا يستطيع تصور ذاته ورؤيته بمعزل عن الله، وإنْ كان الله ليس له ذلك الحضور الواضح في الحياة الأخلاقية للإنسان عند النظر إلى نظرية «كانت» في الوهلة الأولى، وأنّ دوره يقتصر على التنسيق بين السعادة والفضيلة في عالم آخر. أما اذا لم يكن هكذا إله فهل يستطيع الإنسان تحمل آلام ومشقة الكثير من المسائل لأجل حياة أخلاقية؟ يبدو أن «كانت» يقبل كلية هذه المسألة (إعطاء السعادة المناسبة لكل فضيلة من الله)، إلا أنّه يستشكل في جزئياته (قبول المصاديق). وبعبارة أخرى: إنّه يقبل أنّ الأرضية تهيأت للعمل الأخلاقي؛ نظراً لوجود الله والحياة الآخرة، وإلاّ فإنّ الأخلاق تفقد هويتها، لكنه لا يعتبر ذلك بمثابة القبول لدور المحرك والعلّة الغائية لكل فعل.
ولهذا السبب يمكن أن نستنتج أن مذهب الواجب عند «كانت» ارتبط بالاعتقاد بالغاية الأخلاقية والبحث عن السعادة، وهذه المسألة هي التي تبين تلك النكتة بأنّ مذهب الواجب بمفرده لا يصلح مبنىً للسلوك الإنساني ذي الأبعاد المتعددة.
1ـ 2ـ من منظار ديني ــــــ
عند البحث من هذا المنظار لا نريد مناقشة المسألة بالنسبة للمؤمن الذي لم يقبل استقلال العالم الأخلاقي عند «كانت»؛ لأنّه سوف لن تكون له ثمرة، بل البحث له أهمية بالنسبة للمؤمن الذي يقبل بنظرية «كانت» في الأخلاق، بحيث إن الفرد الذي يعبد الله، ويقبل بمباني «كانت» الأخلاقية، ما هي النسبة بين دينه وبين تلك المباني؟ وعند دراسة فلسفة الأخلاق عند «كانت» يمكن العثور على بعض المسائل حول الأديان الإلهية، وبالعناوين التالية:
الله موجود غريب عن الإنسان، تقدم الإرادة الإنسانية على الإرادة، لغوية الأمر الإلهي، الدور المحدود لله والدين، إلغاء الدوافع الدينية.
ومن الواضح أن المعتقد بدين إلهي لا يمكنه القبول بهكذا مطلب، وعلى الرغم من اجتماع دوري العابد والعامل الأخلاقي إلا أنّ الرؤية الدينية لا تقبل بهكذا مسائل.
1ـ 3 ـ وفقاً للأسس العقلية ــــــ
1ـ 3 ـ 1 ـ نسبية الأخلاق ــــــ
إذا كان الحكم العقلي الذي يدعيه «كانت» يكشف عن أمر حقيقي وعيني فالعمل الأخلاقي متأثر ـ في الحقيقة ـ بالواقع، لا أن إرادة الإنسان بمنزلة المقنِّن والواضع، أي إن العمل الأخلاقي يُبنى على أمور عينية ويميز على ضوئها. وعليه فهو مستقل عن العامل الأخلاقي، وهذا المطلب مخالف لتأكيد «كانت» على استقلال العامل الأخلاقي في مقام وضع القانون الأخلاقي. فإذا قال: إنّ متابعة العينية لا ينافي استقلال العمل أمكن الإجابة عنه بأنّه كيف لا يكون اتباع التكوين الإلهي، والعمل كما يُظهر التكوين الإلهي، منافياً لاستقلال الفرد، لكنّ اتباع تشريعه، والعمل وفقاً له، ينافي استقلال الفرد؟!
وهنا أكمل المدافعون عن استقلال العمل الأخلاقي من غير المعرفيين الطريق الذي كان «كانت» قد ابتدأه، وقالوا: إنما يحصل استقلال العامل الأخلاقي متى ما تخلصنا حتى من عينية الأخلاق أيضاً. وعليه فقد تشابك استقلال العمل الأخلاقي مع وضعية الأخلاق([22]). وبهذا طرحت نسبية الأخلاق. وهذا المسار سيدمر الأخلاق؛ لأنه ينتهي إلى إلغائها.
العدول عن نظرية «كانت» أو القبول بفوضى السلوك ــــــ
من الواضح جداً أنّه من غير اللائق أن يُصرّ الفرد على استقلاله، وكنموذج على ذلك يمكن ذكر القوانين الوضعية، فإذا أراد شخص أن يتجاهل القوانين الوضعية حُكِم عليه بمخالفة الأخلاق وارتكاب عمل غير قانوني، ولهذا فإنّه ملزم بطاعة تلك القوانين، وعليه فهو ملزم بطاعة إرادة أخرى، وهكذا فالعمل بصفته عاملاً مستقلاً أخلاقاً ليس ما يجب على الإنسان القيام به دائماً، وهذا خلاف أصل «كانت».
ويمكن أن يجاب على ذلك بأنّ مفهوم العامل المستقل عند «كانت» لا يشير إلى أن العمل بنحو مستقل يجعل إرادة الإنسان خيرة، أو يضيف قيمة أخلاقية مثبتة لأعمال الإنسان، بل إن «كانت» يحدد العامل المستقل بواسطة الأمر المطلق ببياناته الثلاثة، بحيث إن العامل المستقل أخلاقياً يجب أن يعمل بحيث تكون إراداته إرادة العامل العقلاني تماماً، ولا تحلظ أوصافه غير الأساسية ورغباته الشخصية. ولهذا فإنّ أعمال الاستقلال الأخلاقي تُبرِّر أعمال الشخص الجسور والمتمرد الذي يُصِرُّ أن لا حقّ لأحد أن يسأله عما يفعل. وعليه فربما تصرّف عامل «كانتي» وفقاً للقوانين البشرية، وإنْ لم يكن هو الواضع لها.
ولذا يمكن أن توجد قاعدة أخلاقية تأمرنا بطاعة إرادة أخرى. وبغض النظر عما نريده في ظروف معينة، إلاّ أن ما يبدو غير منسجم مع مباني «كانت» أنّه لا ينبغي أن يُملى شيءٌ على المشرِّع، أو يكون هناك إجبار في جعل القانون. وقد يُجاب عن ذلك بأنّ العامل العقلائي الذي يشرع القانون الأخلاقي إنّما يشرع نفس القانون الأخلاقي الذي يشرعه عامل عقلائي آخر. وبعبارة أخرى: إنّ الأمر المطلق يعمل كالطريق الضامن للوفاق بين العوامل، بحيث لا يقع الفرد تحت الضغط والإكراه للتوافق ومراعاة القوانين الموضوعة، ولا يُلغى استقلاله، وذلك لأنّ المعين والموجه له هو العقل([23])، وعليه إما أن ندين «كانت» وأتباعه؛ لتسببهم الفوضى وطاعة كل فرد لإرادته، وهذه النتيجة غير مقبولة من قبلهم أيضاً، أو أن نقدِّم تفسيراً أوضح لأصل «كانت»، وهو أنّ مجرد الطاعة لإرادة أخرى لا تؤدي إلى إلغاء استقلال الإرادة، بل إنّ المهم هو طاعة الإرادة المنبعثة من العقل.
ولهذا فلابد أن نعترف أنّ ذاتية الإرادة أو غيريّتها ليس لها تأثير في أخلاقية الفعل. ولذا نواجه تاليين فاسدين، وهما: إنّ الأصل الذي طرحه «كانت» لا يمكن إلقاؤه إلى المجتمع؛ وليس عملياً من الناحية المنطقية؛ بدليل أن أصل استقلال العامل الأخلاقي إذا طُبّق في المجتمع بنحو جدي فسوف لن يكون لرعاية القوانين البشرية معنى، وقد فصّل روبرت ولف الأبعاد السياسية لهذه النظرية في كتابه «دفاعاً عن الفوضوية»([24])، وادعى أن الاستقلال يلغي كل المرجعيات، أي ليس للدولة الحق في إصدار الأوامر للمواطنين، وليس هناك أي إلزام لطاعة مؤسساتها([25])، ولا يحصل أيضاً اتفاق على سلوك الأفراد أخلاقياً، بحيث يتنافى إصرار كل فرد على وضع قانون أخلاقي خاص به بدون إلزام بتصديق أحقية وضع الآخر مع الدور الأساسي للأخلاق؛ فإنّ الأخلاق توضع لكي تُنظم سلوك الناس في مسار مُرْضٍ ذي جنبتين. ويبحث العامل الأخلاقي عن توافق الأخلاق، يقصد العامل الأخلاقي محلاً في ما يسميه «كانت» مملكة الغايات، حيث تعيش كل العوامل الأخلاقية من إرادة القوانين الكلية، بحيث تُفعّل كافة الموجودات العقلائية استقلالها([26])،أو كون الإرادة للغير الذي يعتبره «كانت» مخلاً بكون الفعل أخلاقياً. لكننا نشاهد في القانون البشري قبولاً لهذه المسألة، وعليه فإن حذف هذه المسألة يؤدي إلى القبول بالكثير من المسائل الأخرى، التي رفضها «كانت» على هذا الأساس.
2ـ فرض صحة استقلال العامل الأخلاقي ــــــ
نفترض في هذا البحث صحة استقلال العامل الأخلاقي، ونتغافل عن الانتقادات التي ذكرت حوله، ونبحث ـ على فرض صحة هذا المبنى ـ عن نسبته إلى الله والتدين.
2ـ 1 ـ طاعة الأوامر الإلهية في ضوء تفعيل الاستقلال ـــــ
2 ـ 1 ـ 1 ـ في ضوء عدم تنافي الاستقلال مع تصور الله ـــــ
يقول «كانت» عن الله: إن تصوره لما كان ناشئاً من نفس عقولنا فلا يكون منافياً لاختيارنا، ولهذا لا يعتبر التكليف للاتصاف بالتدين بهذا التفسير الكانتي اتباعاً لدين آخر، ونستطيع طرح ما يشبه هذا المعنى حول طاعة الأوامر الإلهية بأن نقول: إنّ طاعة الأوامر الإلهية لما كانت صادرة من عقولنا فإنّها لا تتنافى مع اختيارنا، ولا يعطل اختيارنا الأخلاقي، بل هي نفس تطبيق ذلك الأصل الكانتي، بسبب كونه اتباعاً للعقل([27]). يقول «كانت» نفسه: ربما لا يوجد اختلاف بين الأخلاق الدينية المعتبرة والأخلاق الفلسفية المعتبرة؛ لأنّ الله والبشرية لابد أن يتقيّدوا بالأصول العقلية، والعقل كافٍ للاهتداء إلى تلك الأصول([28]). ولهذا فكما أن تصور الله يمكن قبوله من خلال تقييده بحكم العقل كذلك يمكن القبول بطاعة الأمر الإلهي بحكم العقل أيضاً.
2 ـ 1 ـ 2ـ من خلال تقييد النسبة بالإرادة العقلية ــــــ
من الواضح أن «كانت» لا يعتبر طاعة القوانين البشرية مؤثراً على استقلال واختيار الإنسان؛ لأن طاعة الإرادة عامل عقلاني. فالطاعة لإرادة الغير المنبعثة من العقل لا تؤدي إلى مشكلة، والآن كيف تكون الطاعة للأوامر الإلهية الناشئة من عقل لا متناهٍ مخلّة بالاستقلال الإنساني، بل إن العقل الإنساني يضع قاعدة عقلية، وهي أنّ الطاعة للعقل اللامتناهي أمر معقول ومقبول، وأن عدم الطاعة أمر غير معقول وغير مقبول.
2ـ 2 ـ ضرورة الدافع الديني وإمكانه في مذهب «كانت» الأخلاقي ــــــ
2 ـ 2 ـ 1 ـ ضرورة المناسك والدافع الديني ــــــ
إذا كان الاستقلال بصفته ملاكاً للقيمة الأخلاقية صحيحاً فهو غير كاف؛ لأنّ الرغبات والميول الحسية في رأي «كانت» تحول دون الوصول إلى القداسة، وعليه لابد من البحث عن سبيل للسيطرة عليها، لكن «كانت» لا يقدّم أية توصية في هذا المضمار، وهذا نقص وضعف في نظام «كانت» الأخلاقي.
أما الدين فيقدِّم حلولاً بعنوان «مناسك» لتحقيق الأهداف الأخلاقية والسيطرة على الميول المادية أو تعديلها، والتي يؤدي العمل بها إلى تنامي سيطرتنا على تلك الميول. ولهذا فإنّ خطر تسلط الرغبات قائم في الإنسان، وعليه يمكن إيجاد الاستعداد للغلبة على الرغبات في الوجود الإنساني([29]).
2 ـ 2 ـ 2ـ إمكان الدافع الديني في مذهب «كانت» ــــــ
إنما يطيع البشر الله تعالى لأنّه يريد الانشغال بأعمال يتشبه عن طريقها بالله، ويقوي مفهوم التشبه الأهمية الدينية لنشر الأخلاق والطبائع الأخلاقية. ولهذا فإنّ نشر الفضائل الأخلاقية ليست أداة مجردة لطاعة الأوامر الدينية، بل إنها أرقى مطلوب ديني. ولهذا فالدين مشجع، وحتى مكمل وناشر، للدوافع الأخلاقية. ومفهوم الرب الذي تطرحه الكتب المقدسة يؤكِّد على الاستقلال والنية الأخلاقية([30]).
ويمكن للوعد والوعيد الديني أن يكون محفزاً جيداً للقيام بالفعل الأخلاقي، ولا يرد هنا إشكال «كانت»؛ وذلك أولاً: لأنّ دافع كثير من الذين يطيعون الأوامر الإلهية ليس هو الخوف والرجاء، بل لأنّ الأوامر الإلهية أوامر لموجود عاقل لا متناهٍ، وله علم وقدرة غير متناهيين، وخيره في أعلى مرتبة، وعليه تكون طاعة أوامره طاعة لأوامر عاقلة حكيمة. وثانياً: إنما يتنافى الخوف والرجاء مع الأخلاق، ويزول استقلال العامل الأخلاقي، إذا لم يكن ناشئاً من العقل، وإذا كان العقل البشري يعتبر الثواب والعقاب الاخروي مفيداً لتدعيم العامل الأخلاقي، كالاعتقاد بوجود الله، لأنه حكم ناشئ من العقل، فإنّه لا يتنافى مع الاختيار الأخلاقي. وكما يعتقد «كانت» فلابد من اعتبار الأوامر والأحكام الصادرة من الذات وكأنها أوامر إلهية؛ لأنه وبواسطة التناسب فإن إرادتنا إرادة كاملة يمكن أن نطمح معها بالوصول إلى الغير الأكمل. وعليه فإنّ هذا التلقي يؤدي إلى بث الحياة والنشاط في نيتنا الأخلاقية، وعليه فإذا كان الاعتقاد بالله، واعتقاد الأوامر النابعة من الذات أوامره، يؤدي إلى تقوية النية الأخلاقية فلماذا نقيد أنفسنا بذلك الأمر؟! ويمكن القول: إنّ الثواب والعقاب الأخروي يمكنه أيضاً أن يقوم بدور مهم في تقوية النية الأخلاقية، ولما كان هذا الحكم صادراً من عقلنا فلا ينافي استقلالنا الأخلاقي على الإطلاق([31]).
الخلاصة ــــــ
لقد عالج هذا المقال العلاقة بين التدين والحداثة في إطار العلاقة بين التعبد والأخلاق المعاصرة، وبصفة خاصة أخلاق «كانت»، والتي يمكن خلاصتها في النقاط التالية:
1ـ لقد درسنا استقلال العامل الأخلاقي من جوانب مختلفة دراسة نقدية، ولوحظ أنّه يواجه مشكلة؛ نظراً للمباني العقلية، وحتى المباني الفلسفية لـ«كانت» نفسه.
2ـ وحتى إذا فرضنا أن مبنى استقلال العمل صحيح للقيمة الأخلاقية فلا يمكن أيضاً استنتاج الإلحاد منه، بل إنّ وجود الله لا ينافي العمل الأخلاقي إطلاقاً، وحتى الدين يمكن أن يكون مكمِّلاً ومقوياً جيداً لهكذا أخلاق. وعليه فعلى تقدير قبولنا لمقدمات الاستقلال التي طرحها راجلز وأمثاله فلا يتحتم علينا الإذعان بعدم وجود الله، وعليه يكون استدلاله راجلز على عدم وجود الله ساقطاً.
3ـ النتيجة التي حصلنا عليها من دراسة هذا الموضوع لا تدل على أنّ الارتباط واضح بين الحداثة والتدين. وبعبارة أخرى: إننا لم ندرس مسألة أن الإنسان المعاصر يمكن أن يكون متديناً، أو أن التدين لا يجتمع مع الحداثة، بل إننا ناقشنا الحداثة في الأخلاق المعاصرة، وبالأخص في أخلاق «كانت»، ومن الجدير بالذكر أنّ هذا الارتباط إذا كان في حدود هذا الموضوع بلا إشكال، وتوصلنا إلى أن أخلاق «كانت» لا تتنافى مع العبد والتدين، فيمكننا أن نحصل على فهم أفضل للسؤال المذكور والإجابة عنه.
ونظراً لهذا المعنى لما كان الاستقلال قابلاً للنقد، وترد عليه بعض الإشكالات، فحتى لو فرضنا صحة هكذا استقلال جاز جمعه مع القول بوجود الله أيضاً. وعليه فاستقلال العامل الأخلاقي يمكن أن يصبح إلى جنب وجود الله. إذاً فالتدين والحداثة لا يتعارضان في هذا الموضوع، ولكن لا يمكن استنتاج قاعدة عامة حول العلاقة بين التدين والحداثة، وهل يجتمعان أو لا من جهات أخرى.
الهوامش
(*) باحثة في فلسفة الدين والأخلاق.
([1]) رقية تميمي، دين وديندارى از ديدگاه «كانت» (الدين والتدين من وجهة نظر «كانت»)، مقالات المؤتمر الدولي بمناسبة مرور مئتي عام بعد «كانت»: 72.
([3]) حسن قنبري، «ديندارى در دوران مدرن از منظر هانس كونگ» [التدين في الفترة المعاصرة من منظار هانس كونگ]، مجلة اتحاد المعارف الإسلامية الإيرانية [بالفارسية]: 13.
([4]) Avi Sagi and Daniel statman, Religion Moral Autonomy and Moral Education, Religion and Morality: 142.
([5]) حسن قنبرى، نفس المصدر: 11.
([6]) رقية تميمي، نفس المصدر: 75.
([7]) جيمز راجلز (1941 ــ 2003 م) فيلسوف أمريكي تخصص في البحوث الأخلاقية، وترك ستة كتب وخمساً وثمانين رسالة، وقد ترجمت مؤلفاته إلى لغات مختلفة، ومن أهم مؤلفاته «عناصر فلسفة الأخلاق»، الذي كانت طبعته الخامسة سنة 2007م، وفي الأخير اعتقد نبوع من الأخلاق الشهودية تقيم فيها الأعمال بظروفها على ضوء الوقائع البشرية وغير البشرية.
([8]) لويس بويمان، در آمدى بر فلسفه اخلاق [مقدمه في فلسفه الأخلاق]: 270، ترجمه إلى الفارسية: شهرام أرشد نژاد، طهران، گيل، 1378هـ ش، الطبعة الأولى.
([10]) Jams Rechels, «Gok and Moral Autonomy, Can Ethicsprovide Answers P. 119
([12]) education», rellgin and Morality: 141
([13]) Jams Rachels, «God and Human Attitudes» Divine Commands and Morality: 46
([16])Jams Rachels, «God and Human Attitudes» Divine Commands and Morality, p.p 47 -48.
([17]) Philip IQuinn, Religiuos obedience and Moral Autono my Devine Commabds and Morality, P. 54.
([18]) Divine Commands and Moral Autonomy Devine Commadsand Moral reguirements, Philip. Quinn, p8.
([19])Philip IQuinn, Religiuos obedience and Moral Autono my Devine Commabds and Morality, P. 55.
([20])Divine Commands and Moral Autonomy Devine Commadsand Moral reguirements, Philip p.p 9-10.
([23]) محسن جوادي، سرشت اخلاقي دين (الطبيعة الأخلاقية للدين)، مجلة نقد ونظر: 247 ــ 248.
([25])anarchism: نظرية سياسية تقول بأن جميع أشكال السلطة الحكومية غير مرغوب فيها، ولا ضرورة لها البتة، وتنادي بإقامة مجتمع مرتكز على التعاون الطوعي بين الأفراد والجماعات (قاموس المورد) (المترجم).
([26])Avi Sagi and Daniel statman, Religion Moral Autonomy and Moral Education, Religion and Morality: 141.
([27])Chan L. Couther «Moral» Autonomy and Divine Bomadms, Religios Studies, P 127.
([28]) محمد محمد رضائي، ونقد فلسفة أخلاق «كانت»: 278.
([29]) لويس پويمان، مصدر سابق: 226.
([30]) محمد محمد رضائي، مصدر سابق: 276 ـ 277.
([31])Avi Sagi and Daniel statman, Religion Moral Autonomy and Moral Education, Religion and Morality: 153.