دراسة مقارنة في المفهوم والمصطلح
السيد مهند مصطفى جمال الدين(*)
مقدمة
يعدّ الاجتهاد ركيزةً مهمةً في المنظومة الفكرية الإسلامية. وقد استمّد صيرورته التاريخية من حاجة المسلمين إلى تطبيق الشريعة الإسلامية وفق اعتبارات الفقهاء، الذين تمثلت بهم اتجاهات البحث الفقهي، وتنوَّعت مشاربه، لتتنوع تبعاً لذلك غايات الاجتهاد وأدوات البحث والاستدلال. فالاجتهاد؛ بحكم كونه صناعةً بشريةً، لا إلهيةً، امتاز بالتعدُّدية المنهجية والمبنائية داخل المدرسة الواحدة أو المذهب الواحد؛ لأنه انبثق عن تفكُّر العقلاء وتأملهم في المسائل الفقهية، في محاولة للوصول إلى حلِّ ناجع للمشكلات التي تطرأ على المجتمع البشري المتغيِّر عبر الأزمنة المتعدِّدة والأمكنة المختلفة. إلا أن هذا التعدُّد لم يمنع الفقهاء من محاولة ضبط المنهج الاجتهادي بضوابط علمية، ومعايير موضوعية. وقد اختلفت بدورها بحسب تغاير وجهات النظر التي تبنّاها كلّ فريق؛ إذ شكَّلت آراؤهم موجّهاتٍ معرفية حدَّدت الكيفية التي تعاملوا بها مع موضوعة الاجتهاد، التي تمثل نقطةً للتلاقي والافتراق في الوقت نفسه، وتمثّل الأسس والمرتكزات التي يقوم عليها الاجتهاد، والتي تقودنا إلى السؤال التالي: هل أن الدين حين يهدي الناس ويرشدهم، ويوجِّه أعمالهم وحياتهم الوجهة المقصودة؛ للوصول إلى الغاية من خلقهم، يهديهم إلى آليات فهم النصّ، وطرائق الدخول إليه، والتعامل على هديه، أم يترك للباحث تحديد آليات فهمه بما ينبثق من دواخله ومعرفته القاصرة؛ لتكون مهمة البحث والفهم بعيدة عن سلطة النصّ وموجهاتها من ناحية أدوات الفهم والقراءة؟
والإجابة عن هذا السؤال ترتبط بمعتقدات كلّ فريق؛ فمَنْ يؤمن بشمولية الرسالة الإسلامية لجميع نواحي الحياة؛ لكون القرآن الكريم والسنة الشريفة فيهما ذكر ما كان وما سيكون، ولكونهما مشتملين على كل التفصيلات المؤدّية إلى فهم الحياة وطريقة العيش فيها، فإنه سيجد أن الشريعة قد تكفَّلت بتحديد طرائق الدخول إلى فهمها، وطبيعة معالجة نصوصها، أي صناعة منهج البحث الديني بتنوُّعاته، والقائم على وضع مجموعة من الضوابط التي تحدِّد طبيعته، لتشكل كليات لهذا البحث، ومنها: التعقُّل، والتدبُّر، والتأمُّل، وعدم الانحراف بالتفكير؛ وغيرها من الضوابط والمعايير التي يتمّ من خلالها عدم الوقوع في فخ الفهم المتعدِّد الناشئ من تعدُّد المناهج والقبليات.
أما مَنْ يرى أن الدين محدود الصلاحيات، ومختزل بتعاليم عامة، فإنه سيرى عدم تدخل الشريعة في كثير من شؤون الناس، ومنها: طرائق التفكير المؤدِّية إلى فهم النصّ الديني، والتعامل مع مشكلات الحياة المستجدّة.
وممّا تقدم يتضح لنا أن الخوض في بحث الاجتهاد يتطلب التأسيس أولاً لكونه منهجاً بشرياً ينطوي على تعدُّد المشارب والأذواق والعقليات، ويتطلب ثانياً الالتزام بالضوابط الأخلاقية والقيمية والمعايير الموضوعية.
وتبعاً لذلك مرّ الاجتهاد بأدوار تاريخية ومعرفية، لعلّ أولها ظهور المفهوم والمصطلح، وهو ما سنعرضه في بحثنا ضمن مباحث ثلاثة، اقتضتها الضرورة البحثية والعرض المختصر غير المخلّ ـ إنْ شاء الله تعالى ـ.
أولاً: مفهوم الاجتهاد ونشوؤه عند أهل السنة
1ـ الاجتهاد في السنة الشريفة من طرق أهل السنة
ادّعى أهل السنة أن كلمة الاجتهاد بمفهومها الحالي قد وردت في السنة الشريفة كما يلي:
1ـ قال الدارمي في (سننه): عن معاذ بن جبل: «إن رسول الله| سأله إذ بعثه إلى اليمن بماذا تقضي؟ فقال: أقضي بما في كتاب الله، قال: فإن لم تجد في كتاب الله؟ قال: فبسنّة رسول الله، قال: فإن لم تجد في سنّة رسول الله؟ قال: أجتهد رأيي ولا آلو، قال: الحمد لله الذي وفق رسول رسول الله لما يرضي رسول الله»([1]).
2ـ عن عمرو بن العاص: «جاء خصمان يختصمان إلى رسول الله|، فقال| لي: يا عمرو، اقضِ بينهما، قلتُ: أنت أولى بذلك منّي يا نبي الله، قال: وانْ كان، قلتُ: على ماذا أقضي؟ قال: إنْ أصبتَ القضاء فيهما فلك عشر حسنات، وإنْ اجتهدت فأخطأت فلك حسنة»([2]).
ووردت أحاديث أخرى بالمضمون نفسه، وبصيغ متغايرة.
ونستطيع أن نلحظ مما تقدم أن الروايات التي ذكرت الاجتهاد اختصّ بها أهل السنّة، ووجَّهوها الوجهة التي أرادوها؛ لتكون مسوغاً لقولهم بالرأي مع النصّ، وليصل إلى مزاحمة مصدرَيْ التشريع الرئيسين بوصفه مصدراً ثالثاً مع الكتاب والسنّة. على أن أغلب رواياتهم ضعيفة السند وفق مبانيهم([3]). وعضد القولَ ببطلانها وسقوطها كثيرٌ من الباحثين المحدثين الذين أنكروا مثل هذه الأحاديث والروايات؛ إذ عدّها بعض المستشرقين تحميلاً للعصر الذي نسبت إليه بما لا يوائم طبيعته المعرفية. وتبنى جماعة من الباحثين الإسلاميين إنكار وجود الاجتهاد بمعناه الاصطلاحي زمن الرسول|([4]).
2ـ الاجتهاد بعد رحيل النبي|
مثلما كرس أهل السنة الأحاديث المروية على لسان النبي| استمروا على النسق نفسه في إيراد مسوِّغات للاجتهاد، بالمادة والهيئة والمدلول، ومنها: ما ذكروه في رسالة بعثها عمر بن الخطاب إلى شريح القاضي، إذ قال: «فإنْ أتاك ما ليس في كتاب الله، ولا في سنّة رسول الله، ولم يتكلم فيه أحدٌ، فإن شئت أن تجتهد رأيك فتقدم، وإن شئت أن تتأخر فتأخر»([5]).
وشاعت لفظة (الاجتهاد) في العصور التالية، ولاسيّما في عصر نضوج مذاهب السنة الأربعة؛ إذ وردت في أكثر من موضع؛ لأنها أضحت جزءاً من المنظومة الفقهية لديهم، وتأسست مذاهبهم عليها. إلا أن المصطلح قد تغير في هذه المرحلة؛ إذ لم يقتصر على لفظ (الاجتهاد)، بل أضيف إلى مدلوله مداليل أخرى، مثل: القياس الشرعي، وما يغلب في الظن من غير علة، والرأي، والاستحسان؛ إذ يقول الشيخ مصطفى عبد الرزاق: «فالرأي الذي نتحدث عنه هو الاعتماد على الفكر في استنباط الأحكام الشرعية، وهو مرادنا بالقياس والاجتهاد، وهو أيضاً مرادف للاستحسان والاستباط»([6]).
وبذلك يخرج الاجتهاد عن دائرة المفهوم العامّ، الذي هو بذل الجهد لاستنباط الحكم الشرعي، ليدخل في دائرة الخصوص، وهو القول بالرأي مع الكتاب والسنة؛ لأنه «ليس من مسائل الفقه، ولا علم أصول الفقه، بل هو فنٌّ وعلمٌ قائمٌ بذاته»([7]). بل إن المجتهد في نظرهم يصل إلى مقام النبوة؛ إذ يقول الشاطبي: «المجتهد كالنبي|، ينظر الخبر عن الله تبارك وتعالى، وبحسب اجتهاده يطبِّق الشريعة على أعمال المكلَّفين، وهي نفس مسؤولية النبي الكريم|. والمجتهد يقوم بتطبيق أحكام الله استناداً لمنشور الخلافة المؤتمن عليه، ولهذا أطلق على المجتهدين أولي الأمر، وكانت طاعتهم من طاعة الله»([8]).
وبقراءة واعية لما أوردناه سابقاً يتبين بوضوح قصدية التسويغ للقول بالرأي، والاعتماد على الذوق الاستحساني الخاضع للفهم الشخصي المتغير. ولعل ما روي عن عمر يؤكِّد أنه في صدد التأصيل لسيادة هذا المنهج في الواقع الإسلامي. فالرواية الواردة عنه لا يمكن التشكيك في صحتها مثلما شككنا بالحديث المروي عن النبي؛ لأن ما ساروا عليه يؤكِّد هذا المنحى. والغريب أن جلّ الباحثين الذين تناولوا مفهوم الاجتهاد، وأرَّخوا له، أرجعوا سبب نشوئه عند أهل السنة إلى حاجات العصر المتبدلة والمتغيِّرة التي ظهرت بعد وفاة النبي|([9])، ولم يلتفتوا إلى المفارقة التي وردت في استدلالاتهم، والتي أباحت الاجتهاد لا في زمن النبي فحسب، بل في حضرته، كما في الروايات المتقدمة، وقالوا: «إن الرأي وجد مع الكتاب والسنّة في عهد النبي|، وإن العناصر التي كونت المذاهب المختلفة في التشريع الإسلامي عندما شرع في تدوين الفقه وجدت في عهد النبي أيضاً»([10]). وهو ممّا لايمكن قبوله؛ لأن النبي| هو الذي يتكفل بالإجابة عن كل ما يرد؛ إذ يقول الله تعالى: ﴿لَقَدْ مَنَّ اللّهُ عَلَى الْمُؤمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ﴾ (آل عمران: 169).
3ـ مسيرة الاجتهاد عند أهل السنة بين النمو والانغلاق
اتسعت حركة الاجتهاد وهيمنت على الساحة الفكرية في عصر النضج الذي شهده فقه العامة، ولاسيما بعد أن اجتاز مراحل التأسيس الأولى، واستمد وجوده من السلطة السياسية، ممّا مهَّد لظهور تيارين متميزين داخل الحركة، وهما:
1ـ تيار أصحاب الرأي في العراق.
2ـ تيار أصحاب الحديث في مكّة والمدينة.
ومثَّلهما كبار الفقهاء، أمثال: أبي حنيفة، والشافعي، ومالك بن أنس، وأحمد بن حنبل، والحسن البصري، والطبري، والأوزاعي، وسفيان الثوري، وغيرهم.
وتزامن مع هذا الامتداد والتوسع انشداد الناس إلى فقه أهل البيت^، الذي يقوده الإمامان الباقر والصادق’، ممّا حدا بالمنصور الدوانيقي أن يطلب من الفقهاء الذين عاصروه تأليف كتب تختصر أقوالهم في الفقه، فألَّف مالك بن أنس (الموطّأ). وكان المنصور يحاول التقليل من تأثير أهل البيت على الواقع الإسلامي، وأعقبه القادر بالسير على آثاره؛ إذ طلب هذا الأخير من أربعة فقهاء تصنيف كتب في الفقه على مذاهبهم؛ ليحصر الفقه بهذه المذاهب الأربعة، ولينغلق بعدها باب الاجتهاد عند السنة، وليحتجوا بعد ذلك بالإجماع على عدم العمل بما هو خارج المذاهب الأربعة([11]).
والملاحظ أن العمل بالاجتهاد أخذ منذ ذلك الوقت مجالاً آخر، تمثَّل في الالتزام بقواعده التي وضعت في مراحله الأولى، من دون اقتراح قواعد جديدة، فاكتفوا في الحاضر بالقياس، والاستحسان، والمصالح المرسلة، وسنّة الصحابي، وغيرها، التي فُصّلت في زمن الفقهاء الأربعة. فإذا كانت حاجتهم إلى ظهور الاجتهاد هي متطلبات العصر، كما تقدم، والابتعاد عن عصر النصّ، فالأَوْلى في هذا الوقت أن تكون الحاجة أكبر وأكثر مما مضى، ونحن نعيش تبدُّلات لم تشهدها ساحة الفقهاء الأربعة، ممّا يدلّ على أن تغيُّرات العصر ليست هي السبب في فتح باب الاجتهاد، وإلاّ لما أجمعوا على غلقه بأمر سياسي.
فالصحيح إذاً أن فتح باب الاجتهاد جاء لأسباب سياسية اقتضتها المرحلة، مثلما أغلق بأسباب سياسية أوجدتها السلطة آنذاك.
ثانياً: مفهوم الاجتهاد ونشوؤه عند الإمامية
1ـ الاجتهاد في السنة الشريفة وما بعدها من طرق الإمامية
يختلف نشوء الاجتهاد مفهوماً ومصطلحاً وتاريخاً عند أهل البيت^ عمّا هو موجود عند أهل السنة؛ لأن عصر النص عند الإمامية ممتدّ بوجود الأئمة^، فلم تظهر الحاجة لاستنباط الحكم الشرعي مادام الإمام يمثِّل الامتداد الشرعي للرسالة؛ لقول الرسول| «إني تارك فيكم الثقلين: كتاب الله؛ وعترتي، أهل بيتي، ما إنْ تمسَّكتم بهما لن تضلوا بعدي أبداً، وإنهما لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض»([12]).
ولعل تبني الإمامية الالتزام بالنصّ، وعدم الحياد عنه، كان من أكثر مظاهر التباين بين الطرفين؛ إذ عرف عن الإمام علي× أنه رأس مدرسة النصّ في مقابل عمر الذي يمثِّل رأس مدرسة الرأي([13])، لتتأسَّس وفق ذلك خطوط المذاهب الفقهية وملامحها. يقول ابن أبي الحديد: «ولسنا بهذا القول ناسبين إلى عمر بن الخطاب ما هو منزَّه عنه، ولكنه كان مجتهداً يعمل بالقياس، والاستحسان، والمصالح المرسلة، ويرى تخصيص عمومات النصّ بالآراء، وبالاستنباط من أصول تقتضي خلاف ما يقتضيه عموم النص، كلّ ذلك بقوة اجتهاده وما يؤديه إليه نظره. ولم يكن أمير المؤمنين× يرى ذلك، وكان يقف مع النصوص والظواهر، ولا يتعداها إلى الاجتهاد والأقيسة، ويطبق أمور الدنيا على الدين، ويسوق الكل مساقاً واحداً، ولا يضع ولا يرفع إلاّ بالكتاب والنص، فاختلفت طريقتهما في الخلافة والسياسة»([14]).
فالمتتبع لمصطلح الاجتهاد يرى أنه لم يُعرَف إلاّ في أوساط الفقه السني، محدّداً بالقول بالرأي، والقياس، وغيرهما من المداليل التي استند عليها الاجتهاد السني بمفهومه الخاصّ، بوصفه مصدراً من مصادر التشريع. فكلما ذُكر الاجتهاد تبادرت إلى الذهن تلك المداليل، ممّا يعطي دليلاً واضحاً على أنه لم يعرف بغيرها. لذلك كثر ذمّ الاجتهاد مصطلحاً ومفهوماً عند أهل البيت^؛ إذ مثلت أقوالهم مواقف فكرية في معركة إبطال القياس والرأي، ومن ذلك:
ما روي عن الإمام الصادق× أنه قال: «إن أصحاب المقاييس طلبوا العلم بالمقاييس فلم تزدهم المقاييس من العلم إلاّ بُعْداً، وإن دين الله لايصاب بالمقاييس»([15]).
وعن الإمام الباقر×: «مَنْ أفتى الناس برأيه فقد دان الله بما لا يعلم، ومَنْ دان الله بما لا يعلم فقد ضادّ الله، حيث أحلّ وحرّم في ما لا يعلم»([16]).
وقد أفرد الحرّ العاملي الباب السادس من أبواب صفات القاضي لذلك، وأورد أكثر من خمسين حديثاً عن المعصومين في ذمّ الرأي والقياس والاجتهاد وغيرها من الاستنباطات الظنية([17]).
2ـ مصطلح الاجتهاد عند فقهاء الإمامية
وأخذت الهجمة على الاجتهاد تأخذ مديات أوسع؛ إذ صُنِّفت فيها الكتب، مثل:
1ـ الاستفادة في الطعون على الأوائل والردّ على أصحاب الاجتهاد والقياس، لعبد الرحمن الزبيري.
2ـ الردّ على مَنْ ردّ آثار الرسول واعتمد نتاج العقول، لهلال بن إبراهيم بن أبي الفتح المدني.
3ـ الردّ على عيسى بن أبان في الاجتهاد، لإسماعيل النوبختي([18]).
4ـ النقض على ابن الجنيد في اجتهاد الرأي، للشيخ المفيد.
وقد تقدم الشيخ المفيد في هذا الذمّ الشيخ الصدوق ـ في أواسط القرن الرابع ـ في تعقيبه على قصة موسى والخضر؛ إذ يقول: «إن موسى ـ مع كمال عقله وفضله ومحلّه من الله تعالى ـ لم يدرك باستنباطه واستدلاله معنى أفعال الخضر، حتى اشتبه عليه وجه الأمر به، فإذا لم يجُزْ لأنبياء الله ورسله القياس والاستدلال والاستخراج كان مَنْ دونهم من الأمم أَوْلى بأن لايجوز لهم ذلك. فإذا لم يصلح موسى للاختيار ـ مع فضله ومحلّه ـ فكيف تصلح الأمة لاختيار الإمام، وكيف يصلحون لاستنباط الأحكام الشرعية واستخراجها بعقولهم الناقصة وآرائهم المتفاوتة»([19]). وأعقبهما في ذمّ الاجتهاد بالمصطلح نفسه السيد المرتضى؛ إذ يقول: «إن الاجتهاد باطل، وإن الإمامية لا يجوز عندهم العمل بالظن، ولا الرأي، ولا الاجتهاد»([20]). فإذا وصلنا إلى الشيخ الطوسي نجده يقول: «أما القياس والاجتهاد فعندنا إنهما ليسا بدليلين، بل محظور في الشريعة استعمالهما»([21]). وحين نجتاز عصر المقلِّدة إلى أواخر القرن السادس يقول ابن إدريس: «ولا ترجيح بغير ذلك عند أصحابنا، والقياس والاستحسان والاجتهاد باطلٌ عندنا»([22]).
3ـ تحديد مفهوم الاجتهاد عند الشيعة
وعلى ضوء ما تقدم لابدّ من تحديد دقيق للمفهوم الذي أراده الأئمة^ من أصحابهم، وهو أن المرجع في معرفة الحكم الشرعي هو النصّ، وما الاجتهاد إلا عملية استنباط الحكم من داخل النص، وفي إطاره، بمعنى أنه «استقصاء طرق كشف الأحكام من الكتاب والسنة، فهو استنباط للفروع»([23]).
وعلى الرغم من هذا الفهم الذي يخرج الاجتهاد عن كونه أصلاً مستقلاًّ فإننا لم نجده بهذا اللفظ، وإنما تكفلت ألفاظ أخرى لحمل المداليل التي أرادها الأئمة^، مثل: الفتيا، لقول الإمام الصادق× لأبان بن تغلب: «اجلس في مسجد المدينة وأفتِ الناس؛ فإني أحبّ أن يرى في شيعتي مثلك»([24]).
وقوله× لمعاذ بن مسلم النحوي: «بلغني أنك تقعد في الجامع فتفتي الناس، قلت: نعم، وأردت أن أسألك عن ذلك قبل أن أخرج، إني أقعد في المسجد، فيجيء الرجل، فيسألني عن الشيء، فإذا عرفته بالخلاف لكم أخبرته بما يفعلون، ويجيء الرجل أعرفه بمودّتكم وحبّكم فأخبره بما جاء عنكم، ويجيء الرجل لا أعرفه ولا أدري مَنْ هو فأقول جاء عن فلان كذا، وجاء عن فلان كذا، فأُدخِل قولكم فيما بين ذلك، فقال لي: اصنع كذا، فإني كذا أصنع»([25]).
وما رواه عبد الله بن يعفور، حيث قال للإمام الصادق×: «إنه ليس كل ساعة ألقاك، ولا يمكن القدوم، ويجيء الرجل من أصحابنا فيسألني، وليس عندي كلّ ما يسألني عنه؟ فقال×: ما يمنعك من محمد بن مسلم الثقفي، فإنه سمع من أبي، وكان عنده وجيهاً»([26]).
وما روي عن الإمامين الصادق والرضا’، وبلفظ متقارب، أنهما قالا: «علينا إلقاء الأصول، وعليكم بالتفريع»([27]).
ويلحظ ممّا تقدم أن المعمول به في عصر الأئمة، والذي سمّي فيما بعد (اجتهاداً)، هو نمط استنباطي توسَّل به أصحاب الإمام؛ للوصول إلى الحكم الشرعي. وكان في أغلبه يرتدي رداء الرواية والحديث والسماع، ويرتكز على الجانب التطبيقي في الحكم وفهم النص، بعيداً عن التنظير الاستدلالي الذي شاع في العصور التالية، فهو أقرب إلى العلم البديهي المستند على النصّ.
وقد تضمَّنت روايات الأئمة^ بعض القواعد المنهجية لاستنباط الحكم الشرعي، وبيان المنهج الصحيح للاستنباط في مواجهة تيار الاجتهاد بالرأي؛ إذ أولى أئمة أهل البيت^ الكتاب والسنّة كلّ الاهتمام؛ بوصفهما المصدرين الوحيدين للشريعة. وقد وردت روايات في ذلك تبلغ حدّ التواتر، ومنها: ما روي عن الإمام الصادق× أنه قال: «ما من شيء إلا وفيه كتاب أو سنة»([28]).
وما رواه سماعة عن الإمام موسى بن جعفر×، قال: «قلت له: أكلّ شيء في كتاب الله وسنّة نبيه| أو تقولون فيه؟ قال: بل كل شيء في كتاب الله وسنّة نبيه|»([29]).
ولم يتوقف الأئمة^ عند هذا الحدّ، وإنما بينوا المنهج الواجب اعتماده في استنباط الحكم، ألا وهو العرض على الكتاب والسنة، كما في رواية عبد الله بن أبي يعفور أنه قال: «سألت أبا عبد الله× عن اختلاف الحديث، يرويه مَنْ نثق به ومنهم مَنْ لا نثق به؟ قال: إذا ورد عليكم حديث فوجدتم له شاهداً من كتاب الله أو من قول رسول الله|، وإلا فالذي جاءكم به أولى به» ([30])، وغيرها من الأحاديث والروايات التي أفرد لها الكليني باباً باسم (اختلاف الحديث).
ثالثاً: الاشكالات المترتبة على كلٍّ من المفهوم والمصطلح
1ـ الإشكالات المترتبة على الاجتهاد مفهوماً ومصطلحاً
وأجدني متسائلاً: هل عقمت اللغة عن أن تلد مصطلحاً مناسباً للتفريع والاستنباط حتى يتم الرجوع إليه أم أن التأثر بطرق الآخر وأدواته هي التي دفعت إلى استعمال هذا المصطلح دون غيره؟
أمام هذا التعارض الواضح بين المفهوم الذي حمله مصطلح الاجتهاد وبين الحثّ على تركه والتمسك بالسنة الصحيحة وقف فقهاء الشيعة على أعتاب القرن الخامس وقد سار بهم ركب الفقه معتمدين على الروايات والأحاديث في تبيان المسائل الفقهية، حتى إذ أرخى الزمان والمكان بظلاليهما وجد الفقهاء أنفسهم أمام سهام نقد وتجريح من قبل السنة؛ لكون فقههم لا يعدو أن يكون كمّاً متراكماً من الأحاديث والروايات، ممّا حدا بشيخ الطائفة إلى تأليف كتابَيْه: (المبسوط)؛ و(الخلاف)؛ إذ قال من خلالهما: إن الاستدلال الحي يمكن أن يعطي للفقه وجوداً بعيداً عن المصالح المرسلة والقياس وسد الذرائع، ليمهد الطريق أمام ابن إدريس للولوج فيه بعد عصر المقلِّدة. إلا أن الإشكال ما لبث أن ظهر حين اختار المحقِّق الحلي لطرق الاستنباط مصطلح (الاجتهاد) ـ وبهذا يكون استعماله أقرب ما وصل إلينا ـ. وقد كانت الذهنية الشيعية معبأة بمداليله المذمومة؛ إذ إن صدى كلمات الصدوق والمفيد والمرتضى والطوسي وابن إدريس ما تزال تصكّ الأسماع، فضلاً عن كون الروايات والأحاديث ماثلة أمامهم.
فلماذا لم يلجأ الأوائل إلى اجتراح مصطلح من كلمات المعصومين أنفسهم، مثل: (الفتوى)، التي وردت في أكثر من رواية، كمّا قدمنا، أو (الاستنباط)، أو (التفريع)، أو غيرها؟
إن القراءة الواعية لبدايات تشكُّل المفهوم وتطبيقاته في الفقه الشيعي تدلِّل على أن المصطلح حين استعمل عند الشيعة كان مثقلاً بتبعية المصطلح الأول([31]). وهو ما يؤكِّده نصّ المحقِّق الحلي في تبيان حقيقة الاجتهاد، فنراه يقول: «وهو في عرف الفقهاء بذل الجهد في استخراج الأحكام الشرعية من أدلة الشرع، وبهذا الاعتبار يكون استخراج الأحكام من الشرع اجتهاداً… فإن قيل: يلزم ـ على هذا ـ أن يكون الإمامية من أهل الاجتهاد قلنا: الأمر كذلك، لكن فيه إيهام من حيث إن القياس من جملة الاجتهاد، فإذا استثني القياس كنا من أهل الأجتهاد في تحصيل الأحكام بالطرق النظرية التي ليس أحدها القياس»([32]).
ولعل التبعية لم تقتصر على تسمية المصطلح قديماً، وإنما تجاوزته إلى المفهوم. فمن المعلوم أن ابن الجنيد يعدّ من أوائل مَنْ فتحوا باب الاجتهاد في الفقه الإمامي، وقد أثيرت حوله حملة واسعة من تلامذته وممَّنْ تلاهم؛ لدحض القول بالاجتهاد والعمل به؛ إذ كان الخلط واضحاً في بدايات التأسيس للاستدلال، على الرغم من وجود خطين أو اتجاهين رئيسين تسيَّدا الواقع الفقهي، وهما:
الأول: الفقه الروائي أو الفقه المنصوص: وهو الذي يعتمد على عرض الروايات بوصفها فتاوى، بعد الاطمئنان من سندها وتمحيصه، من دون استدلال أو تفريع؛ إذ يعدّ النص الشرعي الدليل الأوحد عندهم. ويمثِّل هذا الاتجاه: ابن بابويه في كتابه (الشرائع، المعروف برسالة ابن بابويه)؛ والصدوق في كتابَيْه: (المقنع)؛ و(الهداية). وآخر كتاب أُلِّف وفق هذا النهج هو كتاب (النهاية)، للشيخ الطوسي.
الثاني: الفقه الاستدلالي أو الفقه التفريعي: وهو استخراج المسائل الشرعية من مصادرها المعرفية وأدلتها. وروّاده: ابن الجنيد؛ والعماني. فعلى الرغم من الهجوم على ابن الجنيد؛ باعتباره قائلاً بالقياس، إلا أن منهجه وطريقته هي التي أصبحت معتمدة فيما بعد. ومن أبرز علماء هذه المرحلة: الشيخ المفيد في كتابَيْه: (المقنعة)؛ و(التذكرة بأصول الفقه)؛ والسيد المرتضى في كتبه: (الذريعة إلى أصول الشريعة)؛ و(الانتصار)؛ و(مسائل الخلاف)؛ والشيخ الطوسي في كتبه: (المبسوط)؛ و(الخلاف)، و(عدة الأصول).
وبحسب طبيعة العلاقة التي قامت بين هذين الاتجاهين فقد استغرقت المحاججات والسجالات اللفظية جلّ نتاجات المؤلِّفين، وأبعدت الفقه الروائي (الاتجاه الأول) عن التطور بمساره الطبيعي؛ إذ إنه لو بقي من دون تلك المساجلات لوصل إلى ما وصل إليه الاتجاه الثاني؛ وذلك لانعدام الفوارق الجوهرية بينهما، واقتصارها على المحددات المنهجية، بخلاف ما ادُّعي من عمق التباين بينهما. ويؤكد ما ذكرناه قول المحقِّق البحراني: «إننا نرى كلاًّ من المجتهدين والأخباريين يختلفون في آحاد المسائل، بل ربما خالف أحدهم نفسه، مع أنه لا يوجب تشنيعاً ولا قدحاً. وقد ذهب رئيس الأخباريين الصدوق& إلى مذاهب غريبة، لم يوافقه عليها مجتهد ولا أخباري، مع أنه لم يقدح ذلك في علمه وفضله»([33]).
فالفوارق بين الاتجاهين ـ والتي أوصلها بعضهم إلى ثلاثين أو أربعين اختلافاً([34]) ـ لا تعدّ خلافاتٍ جوهريةً تقتضي العداوة والضغينة بينهما؛ إذ إن مثلها قد تقع بين أصحاب الفريق الواحد، كما ذكر صاحب الحدائق في نصه السابق. ولو أخضعناها للتحليل والقراءة الموضوعية، بعيداً عن التقاطب، يتبين لنا أن كليهما قد اعتمد طريقة واحدة في الاستنباط وأخذ الدليل. فلو قارنّا مثلاً بين كتاب (الشرائع)، للمحقق الحلي، وبين (مفاتيح الشرائع)، للفيض الكاشاني، لانتهينا إلى النتيجة التي ذكرناها، وهي اعتمادهما طريقة واحدة في الاستنباط، والمحدِّث وإن لم يفرز قواعده بعلم مستقلّ، مثلما فعل الأصوليّ، فإنه عادة يذكر القواعد التي يعتمدها في مقدمة كتابه، كما صنع الشيخ البحراني بذكره لاثنتي عشرة مقدمة في كتاب (الحدائق الناضرة).
وتأكيداً لما أوردناه قال الآخوند الخراساني: «ما من مسألة فقهية إلاّ ويستعان على استنباط حكمها ببعض القواعد الأصولية. وهذه القواعد قام المجتهد بجمعها في علم خاصّ أسماه علم أصول الفقه. والأخباري وانْ كان لا يقر بوجود هذا العلم، إلا أنه يتناول قواعد هذا العلم ضمنياً في فقهه، على غرار المجتهد، ويستهدي بضوئها في استنباط الأحكام»([35]).
ويقول السيد الخوئي: «النزاع بين الفريقين لفظي، وهو راجع إلى التسمية، فإن المحدِّث لا يرضى بتسمية الحجّة اجتهاداً، وأما واقعه فكلا الطائفتين تعترف به»([36]).
ولعل أهم نقطة ربما يتوهم اختلاف الفريقين فيها تنحصر في مبدأ الاجتهاد والأخذ بعلم أصول الفقه علماً مستقلاًّ؛ اذ المجتهد يراهما عنصرين مكمِّلين أبداً للفقيه، ولا يمكن له أن يستغني عنهما حال خوضه العملية الفقهية، بخلاف المحدِّث الذي لا يشترط ذلك. ولكنّا قدَّمنا أن الأخير يخوض نفس العملية من دون أن يطلق عليها اجتهاداً، وإنه يبحث قواعد علم الأصول بصورة غير مستقلّة وقت تصدّيه لمعرفة الحكم الشرعي.
وكذا الخلاف الرئيس الذي ذكر بينهما، وهو حجية الدليل العقلي؛ إذ يرى الأصولي حجيته، ولا يرى الأخباري ذلك، هو خلاف نظري يقوم على مسألة افتراضية مفادها أنه لو لم يكن هناك حكم في كتاب أو سنّة يرجع عند ذاك إلى حكم العقل. ولكن الطائفة الإمامية تعتقد بعدم وجود مسألة إلا وقد ذكرت في الكتاب أو السنة، ولا توجد حاجة لم يرِدْ فيها نصّ في أيّ زمن كان، وقد صار إلى ذلك كبار الأصوليين المتأخِّرين.
ومن المتقدِّمين قال ابن زهرة: «وعندنا لا حادثة إلا وعلى حكمها دليلٌ يوجب العلم، ومتى فرضنا عدم الدليل رجعنا إلى حكم العقل»([37]).
ويمكن درج الخلاف في مسألة حجية ظواهر الكتاب ضمن الخلاف النظري أيضاً؛ لأن الأصوليين الذين ذهبوا إلى حجية ظواهر الكتاب، في مقابل الأخباريين الذين ينكرون ذلك، لا يرجعون إلى الكتاب من دون تفسير المعصومين^، وهم من فسَّر القرآن طيلة فترة وجودهم التي امتدت إلى الغيبة الصغرى؛ إذ لا يعقل أن الأئمة^، الممثلين للامتداد الطبيعي للرسالة، وبهم استمرّ عصر النص، لم يتصدوا لتفسير القرآن الكريم. ومن هنا نجد الفقهاء غالباً ما يتوقفون عن الحكم لو استدل عليه بالكتاب مجرَّداً، ولم يكن له تفسير من المعصومين^، وناقشوا في أغلب الأدلة القرآنية التي ادُّعي أنها ظاهرة على الحكم الشرعي الذي يُراد إثباته.
ثمار الإشكالات المثارة
ولكن هذه الإشكالات التي أثارها الأخباريون أفادت المذهب بأمور، منها:
الأول: تسبّبها في إحداث حراك فقهي جدَّد ينابيع الفقه الإمامي بما أثارته من إشكاليات حركت الذهنية الشيعية لتبدع نظريات وقواعد أصولية جديدة.
الثاني: حفظت لنا كمّاً هائلاً من الروايات في الكتب الأربعة وغيرها.
الثالث: أبعدت التأثُّر بالاجتهاد السنّي، الذي كان له أن يسري لولا الوقوف بحزم أمامه.
2ـ حيوية الاجتهاد عند الإمامية وتجدّده
إن الفقه الإمامي قد استجاب للحاجات المتجدِّدة في المراحل الزمنية المتعاقبة، ولم ينسدّ بابه؛ إذ ظلّ يواكب التطورات الفكرية والمعرفية، لتنعكس عليه منهجياً، من خلال استحداث آليات وطرائق تتواءم ومتطلبات العصر، غير منقطعة الصلة بالمباني الرئيسة التي ارتكز عليها.
ولم يكن الفقيه الإمامي مقتفياً لآثار سابقيه بالمعنى الكلّي، بل حاورهم وناقشهم. بل إن هذا الأمر أضحى شرطاً في المنظومة الفقهية الشيعية التزمه جلُّ الفقهاء؛ فالشيخان المفيد والطوسي ـ مثلاً ـ كانا لا يعتمدان على حجية خبر الواحد، إلا في صورة حصوله على دعم وتأييد من دليل العقل، ليغدو معتبراً وحجة آنذاك([38])؛ وأنكر ابن إدريس الحلّي حجيته؛ لأنّه لا يفيد العلم واليقين([39])، فضيَّق على نفسه وحرمها من الروايات الهائلة، فلجأ إلى الاجتهاد من دونها، وترك للعقل أن يخوض العملية الفقهية، وأن يوظفه في استنباط الحكم من الآيات القرآنية والنصوص القطعية فقط([40])؛ وذهب المرتضى والطوسي إلى جواز رفع اليد عن الظهور القرآني انسجاماً مع متطلبات دليل العقل([41]). وجوّز المفيد تخصيص العموم القرآني والروائي بدليل العقل([42]).
وإذا كان التجدّد وتغاير الرؤى سمةً مثَّلت الفقه الإمامي قديماً ـ كما مثلنا في الشواهد السابقة ـ فإنها اتسعت كثيراً عند الفقهاء المحدثين؛ بفعل امتلاكهم أدوات استدلالية وآليات معرفية أفادت من العلوم الأخرى ووظَّفتها ضمن الأبحاث الأصولية؛ اذ أبطلوا تحت مظلة التجديد قواعد كانت مسلمة سابقاً، وولدوا قواعد جديدة وفق تغيرات الزمان والمكان وشخصانية الفقيه. فقد أنكروا ـ مثلاً ـ حجية الإجماع، إلا إذا كان كاشفاً عن رأي المعصوم؛ وأنكروا الشهرة الفتوائية، وناقشوا في إمكانية جبرها للسند الضعيف. وفي مقابل هذا الإبطال استحدثوا ـ مثلاً ـ السيرة العقلائية، والمتشرِّعية، اللتين تعدّان من أهم الأدلة لكثير من المسائل المستحدثة والابتلائية، وغيرهما من الأمور التي يستحيل أن يستدل لها بالكتاب، مثل: حجّية ظواهره؛ وذلك للزوم الدور المحال، أو الاستدلال بالسيرة العقلائية على حجية خبر الواحد، بعد أن ناقشوا جميع الآيات القرآنية التي ادُّعي أنها تدلّ على حجّيته، وبعد الفراغ من استحالة الاستدلال على حجّيته بخبر الواحد؛ للزوم الدور المحال كذلك.
وعمَّقوا البحث في الأصول العملية، واستحدثوا النظريات الدقيقة، مثل: الحكومة، والترتُّب، والتزاحم، وغيرها، وأبدعوا في مجال مباحث الألفاظ، وقَّعدوا لكثير من القواعد الفقهية، وغير ذلك.
3ـ نظرة في تطوّر تعريف الاجتهاد
بعد هذه الجولة السريعة في تطوُّر مفهوم الاجتهاد، وما أحدثه من إشكالات أفرزت تشكل وعي جديد، وفهم مغاير لما أدركته الأفهام السابقة، والتي نقف لها اليوم وقفة إكبار؛ لأنها السبب المباشر على ما نتمتع به من إثارة الاستفهام والجدّة في طرح الأسئلة التي ربما تكون غائبة في ضفاف أخرى، نعرض لتعريف الاجتهاد قديماً وحديثاً؛ لنقف على ما أثمرته الإشكالات، وعلى مديات تقبلها.
فقد عرّف علماء الأصول من أهل السنة الاجتهاد بأنه الظن بالحكم الشرعي. وعرفه الآمدي بأنه «استفراغ الوسع في طلب الظن بشيء من الأحكام الشرعية على وجه يحسّ من النفس العجز عن المزيد عليه»([43]). وقريبٌ من هذين التعريفين ما جاء في كلمات الشاطبي من أنه «استفراغ الوسع في تحصيل العلم أو الظنّ بحكم شرعي»([44]).
وقد ضمّن علماء الشيعة تعريفهم للاجتهاد لفظة الظن، مثلما فعل العامّة، فعرَّفه العلامة الحلّي بأنه «استفراغ الوسع في النظر في ما هو من المسائل الظنية الشرعية على وجه لا زيادة فيه»([45]).
ويلاحظ أن لفظ (الظن) لو كان له ما يبرِّره عند العامة فهو ليس كذلك في ما ارتكز في منظومة الشيعة الفقهية؛ لعدم اعتبار حجية الظنّ، إلا ما اعتبره الشارع حجّة. ولذا انكر المتأخرون هذا التعريف، فقالوا ـ ومنهم السيد الخوئي ـ: «إن تفسير الاجتهاد بذلك مما لا تلتزم به الإمامية بتاتاً»([46]). وقال في موضع آخر: «إن الاجتهاد بمعنى تحصيل الظن بالحكم الشرعي بدعة وضلال، إلا أن الأصوليين لا يريدون إثباته وتجويزه، ولا يدَّعون وجوبه بوجه»([47]). لذا عدل بعضهم إلى «أنه ملكة يقتدر بها على استنباط الأحكام الشرعية»، وهو ما يستفاد من كلمات الشيخ البهائي([48]).
وعرَّفه الآخوند الخراساني بأنه «تحصيل الحجة على الحكم الشرعي»([49]). والاجتهاد بالمعنى الأخير لا يمكن أن ينكره المحدّث؛ لأن طريقته هي كذلك من إقامة الحجة على الحكم الشرعي.
خلاصة البحث
لعل من نافلة القول أن يكون الحديث عن الاجتهاد مفهوماً ومصطلحاً قد وصل إلى غايته النهائية، سواء في بحثنا الموجز هذا أم في مباحث الآخرين التفصيلية؛ إذ إن الحديث في الاجتهاد سيظل في صيرورة مستمرة ما دام الاجتهاد يمثِّل حركة فكرية قابلة للتجدد والتفاعل مع متطلبات الواقع، إلا أن قراءتنا للاجتهاد مفهوماً ومصطلحاً بيَّنت مجموعة من النقاط الجوهرية، ومنها:
1ـ خضع مصطلح الاجتهاد عند السنّة لزوايا نظرهم المنصاعة للواقع السياسي والفكري، فقد ضمّ القول بالرأي، والقياس، والاستحسان، وغيرها من المصطلحات المعتمدة على التحليل الذوقي والتفضيل الشخصي، وعدّوا الاجتهاد مصدراً من مصادر التشريع.
2ـ تجلّى الخلاف بين رؤية السنة للاجتهاد وبين رؤية الإمامية في المصطلح والمفهوم والمدلول، لتتفرع منها مجموعة من التمايزات المعرفية، بدأت منذ عهد الإمام علي× بما عرف بمدرسة النص، في قبال مدرسة الرأي.
3ـ الموقف الفكري الحازم الذي وقفه أهل البيت^ في حفظ الشريعة الإسلامية من طغيان الأهواء الشخصية والتقلبات المزاجية، والوقوف في وجه الاجتهاد بالرأي، والعمل به.
4ـ اختلفت الرؤية الشيعية لمصطلح الاجتهاد، لتفترق منهجياً إلى طريقين، تغايرا في آليات القول، لا في مضامينه ومتونه الرئيسة، مما انعكس على الواقع الفقهي في عصوره السابقة.
5ـ امتاز الفقه الإمامي بالتجدُّد والحيوية، وحمل مسؤولية التغيير العملي؛ بتأصيله لركائز الدين والشريعة، من خلال معايير وموازين محددة، أعاد على أساسها قراءة الدليل وتحليل جزئياته، بخلاف الفقه السني، الذي سدّ باب الاجتهاد في عصور سابقة.
6ـ لا تعدو محاولات إعادة صياغة مصطلح الاجتهاد أن تكون إثارات على إشكالات تاريخية، لو تغيرت لأحدثت تغايراً مهمّاً في عصرها والعصور التي تلتها، أما في وقتنا الحاضر فقد غدت مسألةً تاريخية من غير الممكن إحداث تغيير فيها.
تبين لنا من خلال منهجنا الذي اعتمدناه انحسار الخلاف في الاجتهاد إلى الفهم المتغاير لكل فئة، ولا سيما أن أغلب الخلافات قد انحصرت في الجانب النظري، الذي يعد في أصله ساحة للتباين والاختلاف؛ إذ لا يمكن تصور انعدامه في المسائل النظرية، بل إن الخلاف قد يقع في ذات الإنسان الواحدة ما دام الزمان ممتداً، والمكان متسعاً، وشخصية الإنسان نامية متغيرة.
الهوامش
_______________
(*) كاتب في الجامعة والحوزة العلمية، له اهتمامات أدبية معروفة، من العراق.
([2]) الحاكم النيسابوري، المستدرك 4: 88.
([3]) ينظر: محمد بحر العلوم، الاجتهاد: 40.
([4]) ينظر : مصطفى جمال الدين، القياس: حقيقته وحجيته: 42.
([5]) ابن قيم الجوزية، أعلام الموقعين 1: 61.
([6]) مصطفى عبد الرزاق، تمهيد لتاريخ الفلسفة الإسلامية: 138.
([7]) الشاطبي، الموافقات 4: 110.
([9]) ينظر: شمس الدين، الاجتهاد والتجديد:19؛ عدنان، حركة الاجتهاد عند الشيعة الإمامية: 10 .
([10]) تمهيد لتاريخ الفلسفة الإسلامية: 133.
([11]) ينظر: الاجتهاد والتجديد: 66.
([12]) وسائل الشيعة: 27: 34، باب تحريم الحكم بغير الكتاب والسنة، الحديث متواتر عند العامة والخاصة حسب رواية الحرّ العاملي لذلك.
([13]) ينظر : عبد الهادي الفضلي، تاريخ التشريع الإسلامي: 82.
([14]) ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة 10: 572 .
([15]) أصول الكافي 7: 43، باب الرأي والبدع والمقاييس.
([17]) ينظر: وسائل الشيعة 27: 35 وما بعدها.
([18]) ينظر: رجال النجاشي: 152، وتراجم الآخرين.
([19]) الصدوق، علل الشرائع 1: 62.
([20]) السيد المرتضى، الذريعة إلى أصول الشريعة 2: 308 .
([21]) الطوسي، العدة في أصول الفقه.
([22]) ابن إدريس، السرائر الحاوي لتحرير الفتاوي 2: 170 .
([23]) رضا الصدر، الاجتهاد والتقليد: 16.
([24]) وسائل الشيعة30: 291، الفائدة الثانية عشرة؛ الأردبيلي، جامع الرواة: 1: 9.
([25]) وسائل الشيعة 27: 184، باب 11 من أبواب صفات القاضي، ح36.
([26]) المازندراني، منتهى المقال 6: 198.
([27]) وسائل الشيعة 18: 41، باب 6 من أبواب صفات القاضي، ح52.
([31]) ينظر: محمد باقر الصدر، دروس في علم الأصول (الحلقة الأولى): 158.
([32]) المحقق الحلي، معارج الأصول: 179.
([33]) المحقق البحراني، الحدائق الناضرة 1: 185.
([34]) ينظر: علي رضا فيض، الفقه والاجتهاد: 82 .
([35]) كاظم الخراساني، كفاية الأصول 2: 430.
([36]) علي الغروي، التنقيح في شرح العروة الوثقى (تقريرات بحث السيد الخوئي) 1: 12.
([37]) ابن زهرة، غنية النـزوع 2: 360.
([38]) ينظر: المفيد، التذكرة في أصول الفقه: 44؛ الطوسي، عدة الأصول 1: 331.
([39]) ينظر: ابن إدريس، السرائر 1: 127.
([40]) ينظر : علي همت بناري، ابن إدريس الحلي ودوره في إثراء الحركة الفقهية: 9.
([41]) ينظر : رسائل الشريف المرتضى: 287؛ عدة الأصول 1: 336.
([42]) ينظر: التذكرة في أصول الفقه: 38.
([43]) الآمدي، الإحكام في حصول الأحكام 4: 162.
([44]) الشاطبي، الموافقات 4: 114.
([45]) العلامة الحلي، مبادئ الوصول إلى علم الأصول: 240.
([46]) التنقيح في شرح العروة الوثقى 1: 9.