لكي نقرأ مشروع التعدّدية المذهبية والوحدة الإسلامية والتقريب الإسلامي، لابدّ من ملامسة المكوّنات الداخلية له، بل يفترض رصد هذا المشروع رصداً مختلفاً عن اللغة الاحتفائية والتبجيلية، رصداً يعالج المشروع بلغة نقدية بنّاءة، لا تريد هدمه، وإنما ردم الهوّة المنفرجة فيه، وإصلاح الفجوات البيّنة عليه.
إنّ ممارسة قراءة نقدية لمشروع التقريب تهدف إصلاحه، باتت اليوم ضرورة ملحّة، لأنّ هذه التجربة مرّت على الأقل ــ حتى الآن ــ بسبعة عقود متراكبة، دون أن نلحظ نتائج بمستوى الجهود التي بذلت، وإن كنّا نقرّ ــ منصفين ــ بأن ما تحقّق من إنجازات، لم يكن سهلاً ولا هيّناً، بل كان ــ بحقّ ــ مذهلاً وعظيماً.
إنّ هذه الورقة التي نقدّمها في سياق بلورة المنهج التعدّدي الانفتاحي في العقل الإسلامي، ترى أنّ آليات مشروع التقريب لابدّ من إجراء تعديلات عليها بعضها طولي وبعضها عرضي، بل لربما ــ كما سنرى ــ تطال هذه التعديلات الأهداف المعلنة أو غير المعلنة للمشروع نفسه.
هل حصل نقص في الأهداف أو الآليات المعتمدة في مشروع التقريب الإسلامي؟ لماذا تنجح أصوات الاختلاف والتناحر الداخلي في إلهاب المجتمع برمّته ضمن فترة قصيرة، فيما تحتاج أصوات التقريب إلى عمر مديد لكي تنجح في تحقيق خطوة واحدة فقط؟
إنّ أحد الأسباب الرئيسة لذلك امتلاك فريق الاختلاف امتداداً تاريخياً كبيراً، يمثل ذاكرةً جماعية ضاربةً في أعماق وعي الأفراد، سرعان ما تتهيّج هذه الذاكرة بمعاني وصور مليئة بالأحداث الملتهبة، ذات الطابع الانفعالي، أما فريق التقريب فلا يملك امتداداً تاريخياً ولا عمقاً استراتيجياً في الموروث أو لا أقلّ في الموروث المقروء، وإن كان خلف كثير من المقروء توجد إشارات عديدة تدعم هذا الفريق، ونحاول هنا، الإشارة إلى بعض الإشكاليات الجادّة أمام سبيل التقريب بين المسلمين.
لعلّ من أبرز إشكاليّات مشروع التقريب بين المذاهب الإسلامية، المفهوم نفسه الذي يقوم عليه المشروع، هذا المفهوم الملخّص في أدبيات الوحدويين في كلمتي: الوحدة الإسلامية، والتقريب بين المذاهب.
أ ــ أما حول مفهوم الوحدة ــ بعيداً عن أدبيات السياسة ــ فيمكننا إثارة ملاحظتين رئيستين حوله هما:
الملاحظة الأولى: إنّ هذا المفهوم ينفي ذاته عندما يسعى لطرحها في وسط ديني يفترض أنّه فاقد ــ في وعيه ــ للمفهوم ذاته، ومعنى ذلك أنّ إحساساً منطقياً سوف ينبعث من المناخ الاجتماعي الفاقد لحسّ الوحدة والتقريب، ويتلخّص هذا الإحساس بأنّ الوحدة تعني تحوّل الاثنين إلى واحد، ومن ثم تجاوز الخصوصيات وإذابة الموائز.
إنّ نتيجة هذا الإحساس التوجّس من مشروع الوحدة، وهذا ما حصل فعلاً، إذ لاحظنا غضب التيارات الدينية المذهبية من هذا المشروع، وتوجّسها منه خيفة، كونه يؤدي ــ بنظرها ــ إلى التنازل عن المعتقدات، والتخلّي عن المبادئ وما شابه ذلك.
إنّ المشروع الذي لا يحسب لغته لن ينجح؛ لهذا من المفترض إجلاء المصطلح ليصبح أكثر وضوحاً، ومن ثم، أكثر تهدئةً للأمور، لا أن يولد في داخل المشروع عناصر سقوطه، أو فلنقل: عناصر فشله الميداني.
إن تشكيك المذاهب الإسلامية في شرعية المشروع الوحدوي، أو لا أقلّ قلقها منه، يسهم بالغ الإسهام في إخفاق المشروع، وتوقفه عن التفاعل داخل المجتمع، ومن ثم سيعقّد الأمور أمام إعادة طرح أي مشروع شبيه.
ولسنا نغمض جهود الوحدويين في شرح مرادهم من مصطلح الوحدة، إذ صرّحوا، مراراً وتكراراً، قديماً وحديثاً، أنّهم لا يريدون منها صيرورة الشيعي سنياً، ولا السنّي شيعياً، ولا.. إنما الالتقاء على ما اتفقت الأطراف عليه، وأن يعذر بعضهم بعضاً فيما اختلفوا فيه، وهذا الكلام مكرور من طرف الجيل الأوّل للتقريبيين كجمال الدين، وعبده، والقمّي، وشلتوت، والأمين، والمراغي، وشرف الدين، وعبدالمجيد سليم و.. والجيل الآخر كالتسخيري، والقرضاوي، وواعظ زاده الخراساني، ومحمد مهدي شمس الدين، ومحمد حسين فضل الله و..
إنّما نهدف إلى تحليل بنية المصطلح، أي مصطلح الوحدة والاتحاد، لا محاكمة نوايا الوحدويين لا أقلّ بعضهم؛ لأن فريقاً آخر ناصر فكرة الإسلام بلا مذاهب، تلك الفكرة التي نقدها الوحدويّون أنفسهم.
الملاحظة الثانية: إن مفردة «الوحدة» تعاني في حدّ ذاتها من إشكال داخلي، ذلك أنّها تميل إلى ثقافة الوحدة بدلاً من التعدّد، فالذي يبحث مصطلح الوحدة ليريد به تعايش المسلمين مع بعضهم بعضاً، أو تحاورهم، أو تقاربهم السياسي، ينطلق في بُنياته المعرفية من تفضيل الاتحاد على التعدّد، والواحد على الكثير، وهو أمر لدينا تحفّظات عليه من منطلق ايبستمولوجي.
إن مفهوم الوحدة غير مقدور، بل غير مطلوب أصلاً، ونعني بذلك أننا نرحّب بالتعدّد لا بالوحدة، ففي التعدّد تنوّع المسلمين في رؤاهم ومظاهرهم واجتماعهم، وهذا التنوّع هو الذي يضمن وجود حراك دينامي داخلي في الاجتماع الإسلامي.
وبعبارةٍ ثانية، نحن لا نهدف اصطباغ المسلمين بصباغ واحدٍ في الفكر والسلوك، إذ ذلك وهم، أثبتت تجارب الحياة، وتاريخ الأديان، عدم وجود مقوّمات له من الناحية الميدانية، فلا معنى لاستنـزاف الذات في السعي وراء أحلام واهمة، لا تعدو أن تكون آمال معلّقة.
إن وجود مظاهر اتحاد في السلوك والاجتماع والرؤى، غاية ضرورية لتكوين وحدة اجتماعية يمكن أن يكون لها دورها في الحياة، إلاّ أن الحديث عن وحدة إسلامية، يغدو بلا معنى عندما نقف أمينين في تحليل المصطلح، الذي ينبئنا عن أنّ بعض صنّاعه، كانوا يرون تذويب الاختلاف أصلاً أصيلاً تنبني عليه مشروعات التقريب لحلّ مشاكل المسلمين، دون أن يلتفتوا إلى أنّ الاختلافات ليست هي المشكلة بقدر ما ينبغي التفتيش عنها في مكان آخر، نأتي على ذكره عما قريب، إن شاء الله تعالى.
ب ــ وأما عن مفهوم التقريب، فلنا ملاحظة عليه تنبع من ضرورة اشتمال الخطاب على استيعاب وجوه الموقف كلّه.
إن مصطلح التقريب كان وما يزال ذا معنى نابض بالمعطيات عندما أنتج في النصف الأوّل من القرن العشرين؛ لأن المسلمين في مذاهبم كانوا متباعدين بل ومنفصلين، فكان هناك معنى ــ وما يزال ــ ليقتربوا من بعضهم البعض، ويكسروا هذا الحاجز الذي يقف بينهم مشكّلاً قطيعة تاريخية.
لقد نجح مشروع التقريب في جمع المسلمين، وكسر حواجزهم النفسية من بعضهم البعض إلى حدّ جيد، وتجربة دار التقريب في القاهرة خير شاهد على عيّنات دالة في هذا المضمار.
إن مفهوم التقريب ــــ بمعناه الاجتماعي والمعرفي ــــ أفضل من مفهوم الوحدة، فيما نرى، بيد أنّه ليس هو المطلوب النهائي للمشروع، ولا يصحّ الوقوف عنده، فنحن لا نريد فقط أن نسقط الجدار البرليني الماثل بين فئات المسلمين المختلفة ــــ مذهبياً وقومياً ــــ حتى يقع تقارب اجتماعي أو معرفي، إن هذه الخطوة تمثّل ــ فيما نرى ــ كسر العوائق للبدء بالمشروع، لا أنّها نهاية المشروع وغاية ما يهدف إليه أو يطمح.
فهل يطمح أبناء كلّ مذهبٍ من المذاهب التقريب فحسب بين أبنائه، أم يرى أنّ هذا التقريب خطوة أولى لمراحل متقدّمة كالتكامل، والتعاون، والتعاضد و..؟! إن ثورة المعلوماتية التي شهدها العالم وسقوط الكثير من الجدران التي كانت تعتمدها الدول لعزل أبنائها عن خارج حدودها الجغرافية، وامتداد هذه الثورة إلى عالمنا العربي والإسلامي.. أدّى إلى أن يغدو التقريب أكثر يُسراً، بل غدت هناك شريحة كبيرة في المجتمع لا يعنيها هذا الموضوع، لأنّها تجاوزته، وإنما تهدف إلى الدخول في مرحلة جديدة أكثر رقياً منه.
من هنا، نطمح ــ إذا أردنا الاستمرار في مشروع التقريب ــ إلى تخطّي مجرّد مرحلة التقريب إلى مرحلة التعاون والتكامل والتعاضد لتشكيل وحدة أكبر سنبيّنها قريباً بإذن الله سبحانه، بعيداً عن القلق في التعاون الذي توحي به كلمة التقريب.
إشكالية الاختلاف أم إشكالية آليّاته
انطلاقاً مما أسلفنا، نجد أن الدعوة إلى إقفال ملفّ الخلاف المذهبي دعوة غير منطقية، ذلك أنّ هذا الخلاف لا يمكن إقفاله بالمرّة، والتجربة الغربية خير شاهد لنا على ذلك، إن العقلانية الغربية والنـزعات اللاأبالية إزاء الدين لم تستطع ــ رغم مرور القرون ــ أن تقفل ملفّات الخلاف المذهبي المسيحي ــ المسيحي، كما هي الحال في خلاف الكاثوليك والبروتستانت، الذي يتمظهر كل فترةٍ بمظهر مختلف، وينطبع بطابع جديد.
إنّ السعي وراء كمّ الأفوّاه عن أن تنتفض، كلّ للدفاع عن الإسلام من وجهة نظره ضدّ ما يراه ابتداعاً أو هرطقة متمثّلة في المذاهب الأخرى، لن يجني ثماراً، بل ربما يزيد الأمور تعقيداً، من هنا، يجدر بنا أن نعي بأنّ المشكلة ليست في اختلافاتنا المذهبية، أو في أن يكون لي رأي في هذه الشخصية التاريخية أو تلك، وإنما في آلية الاختلاف، أي ليست المشكلة في المادّة التي نختلف حولها أو الموضوع الذي نختلف عليه، وإنما في كيف نقود حركة اختلافنا؟ وكيف نقرأ الآخر الذي نختلف معه؟
والسبب في ذلك، أنّه إذا ما ظلّت آليات اختلافنا ــ معرفياً وأخلاقياً ــ تقبع في مناخ متخلّف، فإنّ أي مادة سوف نختلف عليها سوف تفضي بنا إلى التمزّق وإعاقة تنمية أوضاعنا، سواء انتمت إلى الخلاف المذهبي أو القومي أو غير ذلك، ومن ثم، فالمفترض إعادة النظر في مناهج الاختلاف نفسها، وكذلك مناهج قراءة الآخر التي ما زالت في عالمنا الإسلامي قراءة مريضة، بل ضحلة هزيلة.
من هنا، لا حلّ لهذه المشكلة من داخل موضوعات الخلاف المذهبي، وإنما الحلّ من البنى الفلسفية المعرفية والمنهجية للعقل الديني التي يجب إصلاحها لكي تستقيم حركة الحوار، ليس في الموضوع المذهبي فحسب، وإنما في الموضوعات الأخرى أيضاً، كالموضوع الإسلامي العلماني وغيره من المواضيع ذات الإشكاليّة اليوم.
إنّ واحدة من مشاكل قراءتنا للآخر، مهما كان، لأن المشكلة مشكلة العقل، التي تتبدّى في المذهبيات أحياناً، وفي السياسة أخرى.. أننا نمزج بين فهمه ــ أي الآخر ــ وتقويمنا له، إننا عندما نقرؤه تحضر في وعينا انتقاداتنا عليه، إننا نقرؤه ونحن نضع نظّارات سوداء، فمن الطبيعي أن تكون صورته عندنا سوداء، إن سواد الصورة ليس نابعاً من سواد الآخر وإنما من سواد أنماط قراءتنا له، فالسواد نتاج مناهج القراءة، مهما كانت المادة التي نقرؤها أو الآخر الذي نختلف معه.
إنّ قراءة الآخر من داخل تراث الذات أكبر جريمة بحقّ العلم وأمانة المعرفة، لأن الآخر لا يُقرأ من تراث معارضيه، بل لا بد ـــ أولاً ــ من الرجوع إليه في تراثه هو نفسه، لكي تنجلي الصورة عنه وتصبح أكثر وضوحاً، دون اختلاط المفاهيم وتشابك المقولات بعضها ببعض.
إنّ واحدةً من أهم النقاط الإشكاليّة في قراءة الآخر تكمن في أنّ الكثيرين منّا يتصوّرون أن الهوى والعصبية والانحراف الذاتي والمؤامرة والكيد و.. هي الأسباب الوحيدة في نشوء الخلاف بين المسلمين، ولسنا نبرّء التاريخ من ظواهر من هذا النوع، بل نؤكّد ــ فقط ــ على أنّ هذه الأسباب ليست هي الأسباب الوحيدة لظهور الخلاف بين المسلمين، بل بين البشر جميعاً، ذلك أنّ طبيعة البحث العلمي، وما يتوافر للعقل من معطيات من حيث الكم والكيف، وطبيعة الظروف التاريخية المكوّنة لمنهج الدرس العلمي، وطبيعة نصيّة المصادر الدينية من الكتاب والسنّة، والنص بطبيعته حمّال وجوه لو تراكمت عليه أنظار العقول، وضياع الكثير من القرائن والشواهد التاريخية بفعل عشرات العوامل المختلفة.. ذلك كلّه وغيره من شأنه أن يحدث الخلاف الكلامي والفقهيّ بين المسلمين، وإذا ما كنّا نتصوّر أن بالإمكان أن تجتمع عقول الملايين على تفسير نصّ من النصوص وتخرج بنتيجة اجتهادية موحّدة فنحن ــ بالتأكيد ــ مثاليون واهمون، لا نعرف عن اللغة ولا عن العقل الكثير.
إنّ تنوّع أسباب الاختلاف، يمكنه أن يحلّ بعض مشكلاتنا، ويفسح في المجال لحسن الظنّ بالآخر، ذلك أنّ خلافه معي ليس من الضروري أن يكون نتيج حقد أو عصبيةٍ أو شحناء أو..، ومن ثم فاحتمال أن تكون مبرّراته مقبولة من زاوية الحكم الأخلاقي والعقل العملي يبقى احتمالاً مفتوحاً على مصراعيه، رغم قناعتي بخطأ رأيه من الناحية العلمية والعقل النظري، والخلط بين هذين البُعدين أدّى ويؤدي إلى الكثير من المشاكل بين المسلمين، وقراءتهم بعضهم بعضاً قراءات ظالمة ومجحفة.
من الضروري السعي لأن تكون وسائل قراءتنا للآخر مصفّاة من قناعاتنا المسبقة وأحكامنا السالفة، وهو ما لا يتسنّى فقط عبر تحييدها مؤقتاً فحسب، بل لابدّ أن يكون هدف قراءة الآخر التعرّف عليه جدّاً، أو التعاون مع أفكاره للبلوغ بالأطراف كافّة سبيل الحقيقة، وهو ما لا يكون إلاّ بوجود قناعة راسخة بالاعتراف به مسبقاً حتّى يتسنّى تصوّر إمكانية التعاون لبلوغ الحقيقة، فإذا بقينا لا نعترف ببعضنا بعضاً من الزاوية المعرفية فلن يكون ثمة سبيل لتكوين حوار منطقي تتمايز فيه ذات الآخر عن أحكامنا المسقطة سلفاً عليه.
كما أن من المشاكل المنهجية الرئيسة في الحوار الإسلامي ــ الإسلامي أنّ حواراتنا التي ملأنا تاريخنا بها كانت في كثيرٍ من الحالات سجالات جدلية، ومشكلة السجال الجدلي أنّه لا يهدف كشف الحقيقة بقدر ما يهدف إلى إسكات الخصم، وقد أدّى هذا الوضع إلى التعامل مع الحوار المذهبي شبه التعامل مع الصراع السياسي، في إخفاء بعض الأوراق أحياناً أو تـزوير أوراق أخرى، مما تفرضه طبيعة عملية الصراع، وكذلك عقلية الصراع التي تحكم أطراف الحوار.
إن استخدام المنطق الجدلي في الحوار ــ تاريخياً ــ ساعد على تحييد روح التعاون المعرفي لبلوغ أطراف الحوار الحقيقة، كما ساعد على ممارسة البعض تعتيماً إعلامياً على أفكاره مما أفقد جماعة أخرى وضوح الصورة، بل أفقدهم أحياناً الثقة بما يعرضه الطرف الآخر من أفكار، وزادت هذه العقلية أيضاً من أشكال ممارسة تشويه متعمّد وغير متعمّد للآخر، أعاق عملية الحوار، وربما أعقم نسلها حتى النهاية.
من الضروري القيام بفلسفة الحوار الإسلامي ــ الإسلامي، ونعني بعملية الفلسفة هذه، إجراء تعديلات في الأهداف الرئيسية للحوار، لا أقلّ عبر إضافة هدفٍ جديد، يتمثل في التعرّف على الآخر من جهة، والتعاون معه لبلوغ الحقيقة من جهةٍ أخرى، وهو ما لا مجال لتحقيقه ضمن أنساق العقليات الدوغمائية المقصية للآخر، بوصفه باطلاً مطلقاً، والنافية له بوصفه بدعةً أو تـزويراً أو ضلالاً.
وفي هذه المناسبة، نجد أكبر الخلل، وأعظم الخطر في الحوارات التي تجري اليوم بين المسلمين ـــ دينياً ـــ على الفضائيات وشبكة المعلوماتية (الانترنت)، إذ لا نجد في أكثرها سوى تنامي الحقد والضغينة، وصرف الوقت بلا فائدةٍ، وتتبّع عثرات بعضنا بعضاً، وعدم الإقرار بالخطأ، ولا الاعتراف بالرذيلة، إلى غير ذلك مما يقسي القلوب، ويراكم الضغائن، ويعمي العقول، فلسنا ضدّ الحوار وإنّما ضد المهاترات وتبادل السباب والشتيمة، فإن الإنسان ليخجل أحياناً من أنماط الكلام على صفحات الانترنت، فيظنّ نفسه داخلاً على مواقع إباحية أو.. لا مواقع للحوار الديني والتفاهم الإسلامي.
التقريب بين المشروع السياسي والحاجات المعرفية والاجتماعية
شكّلت ظاهرة الاستعمار، ثم الصراع العربي الإسرائيلي، عاملاً قوياً ــ من الناحية التاريخية ــ لدفع المسلمين تجاه إعادة ترتيب أوضاعهم الداخلية بما يخدم صراعهم الاستراتيجي هذا، وكانت وحدة من الخطوات التي أقدم عليها المستنيرون المسلمون من المذاهب المختلفة التفكير بإعادة ترتيب العلاقات الدينية فيما بينهم، والخروج من حالة التصادم الشرس أو التقاطع الحاد الذي استمرّ بينهم فترات وفترات، إلى حالة من التنسيق أو الهدنة على الأقل، لجمع الشمل، ورصّ الصفوف، في مواجهة العدو القادم إلى ديارنا، يلتهمها دون شفقةٍ أو رحمة.
وقد تضاعفت هذه الحاجة بصورةٍ ملحوظة عقب انهيار المعسكر الشرقي نهاية الثمانينات من القرن العشرين؛ إذ استفرد الغرب بالعالم الإسلامي، وغدا الإسلام العدو الأوّل في الحسابات الغربية، وتصاعدت وتائر الحديث عن صدام حتمي يقع بين الحضارة الإسلامية الشرقية وتلك المسيحية الغربية.. حتى غلب هذا الصوت على أدبيات السياسة الغربية بعدما أعلن نظريته الفلسفية في كتاب «صدام الحضارات» صموئيل هنتنغتون.
وليس من شك أن العنصر السياسي الذي دفع لتكوين فكرة التقريب ــ كما تشهد به نصوص التقريب من الأطراف كافّة ــ ما يزال حاضراً بقوّة اليوم، سيما بعد حرب الخليج الثانية، خصوصاً بعد أن خسر المسلمون قديماً الأندلس بسبب الفرقة والخلاف، إلاّ أنّ ذلك لا يعني أنّ هذا الدافع يمكن أن يكون دافعاً ثابتاً يبقي على مشروع التقريب راسخاً في حياة المسلمين وأنماط عيشهم، والسبب في ذلك هو أن الاعتماد على العامل السياسي فقط يبقي مشروع التقريب متأرجحاً تبعاً لتأرجح الأوضاع السياسية التي لا تعرف الثبات، كما نعرف جميعاً، مهما حاول الخطاب الأيديولوجي أن يضفي عليها سكونيةً ومبدئية، وهذا ما يعني أن أبسط تحوّل في الأوضاع السياسية من شأنه أن يعيد إلى الواجهة ذلك الصوت المكتوم للضرورة المؤقتة، لأن الذي أقصاه ليس قناعة تامة بإعادة تكوين المجتمع الإسلامي نفسه على الوحدة والتقريب، وإنما ضرورات مرحلية اقتضها طبيعة المواجهة، أي لم يكن المطلوب تحقيق المشروع ــ أي التقريب ــ لذاته، وإنما لغيره، وما يكون لغيره يتبع غيره في تحوّلاته، ولما كانت الحياة السياسية متقلّبة، لا شيء فيها يضمن بقاء أوضاع الأمة على هذه الحال، كان المشروع نفسه غير مستقر، وهذا خطر كبير يتهدّده في ديمومته واستمراره.
إن تجميد حالة الاختلاف السلبي لا يعني اقتلاعها، فالاعتماد على المشروع السياسي يجمّد الخلاف السلبي، لكنه يبقيه على شرعيته من حيث المبدأ، مما يفسح له في المجال، لإعادة الظهور عندما تتحوّل الأوضاع.
وليس المحذور الوحيد في انبناء مشروع التقريب على خصوص العنصر السياسي منحصراً فيما أشرنا إليه من عدم اشتماله ــ حينئذٍ ــ على حلول جذرية بل مؤقتة فحسب، بل هناك محذور آخر، عرفته تجربة التقريب ــ فيما نراه ــ ألا وهو محذور الازدواجية التي شاهدنا عيّناتها في أكثر من واقع إسلامي، على امتداد القرن العشرين.
فالوحدويون كانوا أصحاب خطاب توحيدي تأليفي عام، إلاّ أنهم كانوا ــ في الأغلب ــ أصحاب خطاب فئوي، وأحياناً قاتل، عندما كانوا يرجعون إلى بني جلدتهم وأبناء طوائفهم ومذاهبهم، وكأن النفاق هو المبدأ الحاكم على حركة المشروع لدى بعضهم، وماذا يمكن أن يرتجى من مشروع لا يكاد يحظى في ذاته وعمقه بإيمان بعض منظّريه ومناصريه، وكأن كلّ فريق يحفر لصاحبه في لقائه معه لكي يكون المشروع لصالحه؟!
إنّ هذه الظاهرة تؤكّد على مصلحية مشروع التقريب لا حُسنه في ذاته، كما هو المطلوب، وهي مصلحة تعرّض المشروع نفسه للخطر في حال طرأت تحوّلات على المصالح التي قام المشروع على أساسها، إن الاندفاع البراغماتي لمشروع التقريب والترويج لهذا المشروع فقط لأجل مواجهة العدو الخارجي لا يكاد ينفع في زرع بذور القناعة به نفسه حتى عند أنصاره، لأنه سيغدو مجرّد أداة لا هدف، فمبدأ الأخوة الإسلامية أو مبدأ الوحدة والتعاضد ستغدو مجرد وسائل وأدوات لتحقيق أهداف خارجة عن إطار المشروع نفسه، فيما المفترض إعادة النظر في هذا الأمر، لتحويل مثل هذه المبادئ إلى أسس شرعية عليا وقواعد دينية أقوى من غيرها تمثل غايةً لغيرها لا أداة، كما نظّر له العلامة الشيخ محمد مهدي شمس الدين ).
وثمّة إشكالية أخرى يخلقها العنصر السياسي حال طغيانه، وهو تصوّر أن الفرقة والخلاف لهما سببٌ واحد، وهو المؤامرة الأجنبية، والعناصر الدخيلة، كما تصوّر ذلك بعض الكتّاب المعاصرين([2])، حيث ذهب إلى أن مسؤولية الفرقة لا تقع في رقبة المسلمين بل كانت بأيدي قوم ادّعوا الإسلام كالمجوسية والسبئية والشعوبية و.. إنّنا لا نشك في مسؤولية الغرب أو الكفر العالمي عن الفرقة بين المسلمين، سيما في القرنين الأخيرين، لكننا لا نوافق على أن يحصر الحسّ السياسي المفرط السببَ في ذلك، تطبيقاً لمنطق المؤامرة الذي يعفي الذات، ويلقي باللائمة على الآخر، وهو المنطق الذي أَكْثَرْنَا نحن المسلمون من استخدامه للتعويض بذلك عن تقصيِرنا وتكاسلنا، إنّ علماء الدين من المذاهب كافّة يتحمل بعضهم ــ ولو القليل ــ مسؤولية الكثير من أحداث الفرقة والتخاصم، بسبب العقليات التي ربّاها هؤلاء، والأدمغة التي قاموا بتعليبها، وكذلك الحال في بعض الحكّام والسياسيين المسلمين الذين لعبوا دوراً في صنع هذا التخلّف وهذه الإعاقة في الكيان الإسلامي، إنّ إصلاح ذواتنا، وتجويد أوضاعنا الداخلية شرط أساس، ويفترض إصلاح معاهدنا الدينية وجامعاتنا الإسلامية وحوزاتنا العلمية من كل خلل من هذا النوع، قدر المكنة وحسب المستطاع.
وفي خضمّ هذه الإشكالية المشار إليها، نواجه إشكاليةً أكثر حساسية وأهمية، إشكالية الهدف من وراء خوض أطراف الحوار مشروع التقريب، والذي يبدو أنّ الأطراف المشتركة في المشروع يسعى كل واحد منها ــ غالباً ــ إلى تحقيق أهداف مذهبه وجماعته، أكثر من تحقيق هدف عام يعود بالنفع على الأطراف كافّة بنسب متساوية تقريباً.
إن السنّي الذي يدخل مشروع التقريب هادفاً إقناع الشيعي أو هادفاً وقف سبّ الصحابة ورموزهم، أو الشيعي الذي يدخل المشروع هادفاً أن يعترف به الأزهر الشريف أو جماعة العلماء المسلمين، ليغدو مذهبه معترفاً به بين المسلمين بعد نفي وإقصاء مورس ضدّه.. إن هذين الطرفين بغايتهما هذه ينتجان في بطن مشروع التقريب نقيضه، وعنصر هدمه وزواله وتلاشيه، إن الشروع في إعادة تكوين مجتمع إسلامي وحدوي، على أسس طائفية، ينطلق فيها الأطراف من أغراض طائفية ومذهبية خاصّة لا يعني سوى توظيف المشروع ــ منفعياً ــ لحسابات خاصّة، كيف يمكن لمشروع يقوم على الطائفية أن يتجاوز الثقافة الطائفية في المجتمع؟ وكيف يمكن لمشروع يقوم على نقيضه أن ينفي نقيضه؟
إن تحديد الأهداف التي يسعى لتحقيقها مشروع التقريب أمر في غاية الأهمية، فكلّما كانت هذه الأهداف سامقةً كلّما تعالى المشروع معها تلقائياً، وكلّما ابتليت هذه الأهداف بالنقص أو الضمور أو الهزال أدّى ذلك إلى فشل المشروع نفسه أو توقّفه أو..
من هنا، ينبغي إجراء تعديل على مثل هذا الهدف المسوّغ لخوض مشروع التقريب، وذلك باعتماد إعادة الأمور إلى مسارها داخل مجتمعٍ واحد، ونعني بذلك أننا بمشروع التقريب نريد أن نكون وحدةً حقيقية اجتماعية منسجمة، لا يضرّ اختلاف آرائها في انسجامها الاجتماعي والوطني، تماماً كأي بلد في العالم تتنوّع آراء فئاته في الموضوعات المختلفة إلاّ أن انتماءها الوطني يظلّ هو الوحدة المعيارية الأولى التي تربط الأفراد والجماعات داخله، وتحافظ على استقراره وتنميته وتطوّره وانسجامه.
لا يهدف مشروع التقريب ــ فيما نرى ــ إلى تحقيق أهداف الجماعات المختلفة، بل يفترض به السعي إلى تحقيق هدف جماعةٍ أوسع تجمع الأطراف، وتكوّن وحدةً ــ مفرد وحدات ــ حقيقية لا شكلية أو تشريفية أو مجاملاتية أو..
وهذا هو ما يعني أنّ مشروع التقريب يراد منه أن يعيد حال المجتمع الإسلامي إلى مساره الطبيعي، فتنعدم الحواجز داخل المجتمع من جهة، وتتداخل الفئات والجماعات نفسها وفيما بينها من جهة أخرى، تداخلاً يكوّن الوحدة الاجتماعية العامة من ناحية، ويحافظ ــ تلقائياً ــ على الوحدات الأصغر داخل المجتمع من ناحية ثانية، فيغدو التعاون والانسجام العنصرين المتفاعلين لتحقيق أهداف الجماعة الكبيرة، ومن ثم اعتبار أهدافها أهدافاً لتمام الجماعات الصغيرة في المجتمع، لا هدفاً لجماعة دون أخرى، ولا على حساب جماعةٍ دون أخرى.
«إنّنا نعتقد أنّ علينا أن نخطط ــ على المدى البعيد ــ لبرنامج ثقافي تربوي، يعمل على أساس إنتاج الذهنية الإسلامية، التي يتحسّس فيها المسلم إسلامه قبل أن يتحسّس فيها مذهبه، لتكون الروحية الإسلامية هي التي تحدّد له روحية المذهب، كما يعمل على أساس تركيز الذهنية الموضوعية العقلانية البعيدة عن العاطفية والانفعال»([3]).
إن انصهار مصالح الجماعة الكبيرة في مصالح الجماعات الصغيرة، واتحادها هو الهدف الرئيس لمشروع التقريب، وهذا ما لا يلغي إحساس الانتماء إلى الجماعة الصغيرة المذهبية أو يكون على حسابه، بل على العكس تماماً يصبّ في نهاية المطاف في صالحه تماماً، غاية الأمر أن هذا النفع الذي يعود على الجماعة الصغيرة المذهبية يعود مثيله على الجماعة الأخرى، مما يعني أنه لم يتضرّر أحد أو يذوب، كما لم تنعدم الفائدة لأي أحدٍ على الإطلاق، وهذه نقطة حسّاسة وجوهرية.
الانتماء المذهبي والانتماء الوطني، إشكالية العلاقة
وفي إطار موضوع الانتماء، الذي أشرنا فيه إلى العلاقة الطولية المنسجمة والمتكاملة بين الانتماء للمذهب الخاص والانتماء للدائرة الإسلامية العامّة.. لا العلاقة العرضية المتصادمة والمتنافية، يظهر موضوع آخر على صلة به، ألا وهو تحقيق الانسجام بين الانتماءات المذهبية والانتماءات الوطنية، حينما يكون أتباع مذهبٍ ما أقليةً في وطنٍ قومي تنتمي فئاته غالبُها إلى مذهب آخر، كما هي الحال في مذاهب أهل السنّة في الجمهورية الإسلامية الإيرانية، والمذهب الشيعي في مثل المملكة العربية السعودية..
إن إحساس الأكثرية ــ أحياناً ــ بعدم انتماء الأقلية للدائرة الوطنية التي تراها الأكثرية على صلةٍ بها، وانتماء الأقلية للخارج حيث يكون أنصار هذا المذهب أكثريةً في بلدٍ آخر، أمر يعقّد العلاقة بين الأطراف المذهبية، ويزيد من تشنّجها والتباسها وغموضها، ومن ثم من الضروري التفكير بحلّ لهذا الموضوع، يحافظ ــ من جهة ــ على الانتماء الوطني للأقلية، كما يحفظ ــ من جهة أخرى ــ انتماءها الديني والمذهبي الذي تدين الله به، أي من المفترض احترام هذين الانتماءين معاً، والسعي للتوفيق بينهما، وهذا ما يتطلّب ــ قبل كل شيء ــ تكوين نظريات فقهية يسعى إليها الفقهاء باجتهاداتهم الأمينة تـزيل العوائق أمام هذا التوفيق، مع اعتقادنا بأنّه لن يمكن إلغاء تمام مشكلات هذا التنافر إذا كنا واقعيين غير مثاليين.
إنّ أهم نظرية فقهية يفترض البحث بجديةٍ فيها هو موضوع المواطنة في الفقه الإسلامي، فانتماء جماعةٍ دينية إلى زعيم ديني يعيش خارج وطنها، ليس مشكلةً حقيقية، فالمسيحية ما زالت تنتمي انتماءً من هذا النوع، دون أن يواجه أتباعها إشكاليةً من هذا النوع في الكثير من المواقع، إذن فالمفترض إعادة إنتاج مفهوم المواطنة في الفقه الإسلامي بدقة، وهو ما لا مجال لنا فعلاً لبحثه، لخروجه عن دائرة هذا الكتاب.
إنّ عملية التوفيق بين الانتماءات أمر ممكن إلى حدّ بعيد، فالمحبّة «تبتدئ بمحبّة الأسرة والعشيرة، ثم الجماعة، ثم الوطن، ثم الجماعة الكبرى في الإسلام، ولا تلغي الدرجة العليا ما دونها، ولكن المنهي عنه المحبّة التي تؤدّي إلى الفرقة والانقسام، وتحرّض على الظلم، وهي العصبية الجاهلية..»([4]).
رغم تحقيق مشروع التقريب خطوات ملحوظة ومشكورة عبر العقود المتمادية في القرن العشرين، إلاّ أنّنا وجدنا إخفاقاً ملحوظاً في الفترة الأخيرة، وسمعنا بخطاب التفرقة يتعالى مجدّداً عند الأطراف كافّة، على اختلاف في بعض التفاصيل بينهم.
ولكي ندرس بعض العناصر الأساسية في تنشيط ظاهرة الفُرقة والتباعد، بعيداً عن السبب السياسي الذي لا ننكر دوره نتيجة ظروف مرّت بها المنطقة في العقدين الأخيرين، يجدر أن نركّز على المعطيات الفقهية لدى الأطراف المتعدّدة، وما لم تقم حركة إعادة نظر ودراسة تحقيقية جادّة، وفي الوقت نفسه أمينة، لمعالجة تلك الإشكاليات الفقهية لدى كل مذهب، فأعتقد أنّه من العسير التوصّل إلى حلّ، وما أراه أن مشروع التقريب ربما نجح في تغييب بعض هذه الفقهيات والمواقف، إلاّ أنّه لم يقم بدرسها بدقة، والتوصّل إلى نتائج فيها، أو على الأقل في بعضها الأساسي، باستثناء محاولات محدودة جداً.
فمن هذه الأسباب التي أدّت في الفترة الأخيرة خصوصاً إلى تنامي الحسّ المذهبي المتعصّب، بعض الإخفاقات السياسية والاجتماعية ــ كائناً من كان المسؤول عنها ــ التي ابتليت بها بعض الدول ذات المشروع الإسلامي، وبعض الحركات الإسلامية، إنّ الإخفاق الاجتماعي والسياسي يخلق تياراً نكوصياً مرتداً في تفكيره إلى الماضي، لتفجير غضب الذات فيه، والمجال المذهبي هو أحد المجالات الخصبة لنموّ مثل هذا الواقع.
ومن هذه المشكلات المعيقة أيضاً، الصورة النمطية للشيعة في العقل الجمعي لدى الكثير من أهل السنّة، إنّ الإصرار على تصوير الشيعة بأنّهم جماعة مغالية مشركة تعبد القبور والمراقد، وتؤلّه أهل البيت G، وتسجد للحجارة، وتقول بتحريف القرآن و.. يعيق أيّ إمكانية أو فرصة لفتح صفحة جديدة في التعامل بين المذاهب، وذهاب بعض علماء الشيعة إلى قولٍ ما لا ينبغي تضخيمه لنسبة ذلك القول إلى المذهب برمّته، إنّ هذه السياسة سياسة تصعيدية تحاول تعظيم الأحداث الطفيفة، ومن ثم، من المفترض دراسة هذه الموضوعات بذهنية محايدة، يمكنها تفهّم الآخر، وتفسير تصرّفاته تفسيراً منطقياً سليماً.
ومن هذه المشكلات أيضاً الصور الخاطئة عن أهل السنّة والجماعة في وعي الكثير من أبناء الطائفة الشيعية، إنّ تصوّر أهل السنّة مبغضين لأهل البيت G، أو ناصبين بما يعنيه معنى النصب في الفقه الإمامي، وما يحمله من دلالات ومستتبعات، أو أنّهم مجسّمة، وافتراض أهل السنّة جماعة واحدة، فما قاله فقيه أو متكلّم منهم ألزمنا عمومهم به، وتصوّرهم أعداءً أشداء للشيعة لا توجد في قلوبهم رحمة عليهم أو محبّة دينية لهم..
ذلك كلّه يعيق مجال التقارب والتعاون، ويخلق حواجز صلدة في وجه مشروع التقريب، ذلك أنّ أحد أسباب هذه الصور المغلوطة عند الطرفين عن بعضهما البعض، هو الانفصال واللاتعايش الإنساني بين الجماعات، إضافةً إلى عدم استعداد البعض لتغيير صورته النمطية التي كوّنها عن البعض الآخر.
إن سياسة تضخيم الأحداث الطفيفة أو بعض المقولات المحدودة التأثير لا تخدم، لا الحركة العلمية السليمة ولا الاجتماع ولا السياسة، فإذا أردت مثلاً أن آخذ نظرية الإمامة نفسها في الفكر الشيعي بما تعنيه من محورية ودلالات، لوجدت أنّ ما يثيره بعضهم من كونها أصلاً من أصول الدين يكفّر منكره أو غير المعتقد به، ويحكم عليه بأحكام الكفر إما في الآخرة فقط أو في الآخرة والأولى، إنّما هو رأي محدود في أوساط الشيعة، تماماً كما هي الحال في تكفير السنّة للشيعة، إذ نجد ذلك رأياً محدوداً في أوساط أهل السنّة، لا ينبغي تعويمه أكثر مما يستدعيه حجمه الطبيعي.
ويحلو لي هنا أن أنقل كلامين هاميّن ــ بنظري ــ لشخصيتين إسلاميتين شيعيتين بارزتين، تصدّرتا أهم مواقع المرجعية والفكر الشيعي في القرن العشرين، ألا وهما: الإمام روح الله الخميني P (1410هـ)، والشهيد السعيد محمد باقر الصدر P (1400هـ)، كلامين مدوّنين في مصادر بحثهما الفقهي الداخلي، لا كلامين سياسيين، قد تمنعهما سياسيّتهما عن الدلالة والتعبير.
النص الأول: يقول الإمام الخميني في كتاب الطهارة من مباحثه الفقهية ما نصّه: «إن الإمامة بالمعنى الذي عند الإمامية، ليست من ضروريات الدين، فإنّها [أي الضروريات] عبارة عن أمور واضحة بديهية عند جميع طبقات المسلمين، ولعلّ الضرورة عند كثيرٍ على خلافها، فضلاً عن كونها ضرورة، نعم، هي من أصول المذهب، ومنكرها خارج عنه، لا عن الإسلام»([5]).
النص الثاني: يقول الشهيد محمد باقر الصدر في كتابه «بحوث في شرح العروة الوثقى» ما لفظه: «.. إن المراد بالضروري الذي ينكره المخالف، إن كان هو نفس إمامة أهل البيت (، فمن الجليّ أنّ هذه القضيّة لم تبلغ في وضوحها إلى درجة الضرورة، ولو سلّم بلوغها ــ حدوثاً ــ تلك الدرجة فلا شك في عدم استمرار وضوحها بتلك المثابة، لما اكتنفها من عوامل الغموض، وإن كان هو تدبير النبي وحكمة الشريعة على أساس افتراض إهمال النبي والشريعة للمسلمين بدون تعيين قائد أو شكل يتمّ بموجبه تعيين القائد يساوق عدم تدبير الرسول وعدم حكمة الشريعة، فإنّ هذه المساوقة، حيث إنّها تقوم على أساس فهم معمّق للموقف، فلا يمكن تحميل إنكار مثل هذا الضروري على المخالف، لعدم التفاته إلى هذه المساوقة أو عدم إيمانه بها»([6]).
فإذن إنكار السنّي مبدأ الإمامة الشيعي لا يصيّره كافراً، أو منكراً للبديهيات الواضحة، وإن اعتقد الشيعي أنَّ السنّي مخطئ في اعتقاده، فهذا حقّه، لكن ذلك لا يعني تكفيره لأخيه والقطيعة معه.
«ملاك الكفر والخروج من الإسلام هو الإنكار الصريح، لا الإنكار بالملازمة، والخلط بين العقيدة الصريحة والعقيدة الملازمة للعقيدة الصريحة من آفات المذاهب، ومن عوامل تراشق التهم بينها»([7]).
وإذا قدّمت هاتين الشخصيتين البارزتين شاهداً، فهناك الكثير من رجالات العلم الشيعي تشهد بهذه الحقيقة، ولربما صحّ قول العلامة السيد عبدالحسين شرف الدين ) حينما قال: «الفصل الرابع [من كتاب الفصول المهمة]: في يسير من نصوص أئمتنا ( في الحكم بإسلام أهل السنّة، وأنّهم كالشيعة في كلّ أثرٍ يترتّب على مطلق المسلمين، وهذا في غاية الوضوح من مذهبنا، لا يرتاب فيه ذو اعتدال منّا، ولذا لم نستقص ما ورد من هذا الباب؛ إذ ليس من الحكمة توضيح الواضحات..»([8]).
وهكذا الحال في الطرف الآخر، فإن عدم الاعتقاد بعدالة الصحابة، أو زوجات النبي 2 أو بعض الخلفاء الأوائل لا يعني كفراً، بل حتّى لو سلّمنا بسبّهم أو لعنهم، فهو على أقصى تقدير معصية كبيرة وجرم عظيم، لكن فرقاً واضحاً بين هذا العنوان وعنوان الكفر الموجب للقطيعة، والإخراج عن ربقة الإسلام، ذلك أنّ احتمال الخطأ في الاجتهاد واردٌ، فلعلّ من فعل ذلك أخطأ في اجتهاده، وما أكثر ما تأوّل السلف وأخطأوا دون حرجٍ عليهم في ذلك([9])، فأمر التكفير عظيم وخطره جسيم([10]).
ولست مريداً بذلك زعم إجماع الفريقين على عدم التكفير المتبادل، كما أستوحيه من كلمات الكثير من التقريبيين، الذين يوحون بأنّ الخلافات بين المسلمين لا تستدعي التكفير، مع أنّ رأي فريقٍ من الشيعة وفريقٍ من السنّة أنّها تستدعيه، وربما هو أسوأ منه، إنّما أردت أن نستعرض الصورة الواقعية لمواقف الطرفين، لكي نبدّد تلك الصورة المزّيفة المزعومة التي تريد أن تدّعي أن كلّ طرف يكفّر الطرف الآخر، حتّى ليفاجئ بعض أتباع المذاهب، وربما بعض رجال الدين منهم، بوجود مواقف تسامح لدى علماء مذهبه الكبار، لشدّة ما زرع في عقله من صورة نمطية مشينة.
وعلى أيّ حال، فنحن نعتقد بضرورة دراسة حدود الإسلام، وما به يخرج الإنسان عنه أو يدخل فيه، لكن دراسةً علمية دقيقة محايدة، تستهدف رسم المعالم العقدية والفقهية للموضوع، بعيداً عن أيّ أحكام مسبقة أو تعصبات ضاغطة، ولا نقبل إطلاق الكلام على عواهنه من إسلام الأطراف كافة، وإن كنّا نعتقد ذلك، إلاّ أن احترام التيار المتشدّد في أوساط الأطراف جميعها يملي علينا دراسة هذا الموضوع بجدّية وحزم.
إن بعض الناس يعتبرون الكفر خيراً من بعض المسلمين، حتى لو لم يطلق عليهم عنوان الكفر أو الشرك، فضلاً عما إذا أطلق، وهذه مشكلة حقيقية، «إن إسلاماً لا نرضى عن بعض تفاصيله، أفضل من كفر لا نلتقي معه في أيّ شيء.. ولن يكون من الواقعي ومن الإخلاص للإسلام، أن نتحدّث كما يتحدّث بعض الناس، بأنّ الكفر أقرب إلينا من إسلام مخلوط ببعض الكفر، أو ببعض الشرك، أو ببعض الانحراف، فيما تتصوّره اجتهاداتنا الكلامية، أو الفقهية، أو أنّه يتساوى معه، لأنّ مثل هذا الكلام يوحي بالتعصّب، الذي يريد أن يدمّر خصمه، حتى لو كان في ذلك تدمير نفسه»([11]).
ومن عوائق التقريب الأخرى، استبعاد المشروع لجماعة أو فريقٍ من المسلمين، أو استبعاد فريقٍ من المسلمين نفسه عن مثل هذا المشروع، ولكي نكون واضحين أكثر، ينتابنا اعتقاد كبير بأنّ الموضوع الشيعي ــ السلفي من أعقد جبهات الحوار الإسلامي ــ الإسلامي، فلا ينبغي للشيعة استبعاد أنفسهم عن هذا الحوار، كما لا ينبغي للتيار السلفي فعل ذلك، بل ينبغي للقيّمين على مشروعات الحوار الإسلامي، جعل هذا الحوار صاحب الأولوية الكبرى، لأنّ هذه الجبهة اليوم هي أحمى الجبهات وأعنفها، فيجدر أخذها بعين الاعتبار أكثر، وكلّنا اعتقاد بأنّ التقارب الإيراني ــ السعودي من جهة، والوحدة الوطنية الداخلية والحوار الداخلي في السعودية ثانياً من جهة أخرى، من شأنهما تحقيق شيء على هذا الخط الذي ينبغي عدم إغفاله أبداً.
وثمّة نوع آخر من المشكلات التي تعيق حركة التقريب والوحدة، وهو الأداء الذي تمارسه الأطراف في الواقع الميداني، إنّ بعض ظواهر القمع والإقصاء ومنع الحريات الدينية والتضييق على شعائر الطوائف المختلفة وما شابه ذلك، يؤدي إلى تكريس منطق العداء بين الأطراف، من هنا ندعو الدول السنية والشيعية لكي تفسح في المجال لأقلياتها المذهبية بممارسة شعائرها وطقوسها بحرية معقولة، حتى يكون ذلك تنفيساً للاحتقان المختـزن عبر العصور، ومؤكّداً على جدية التعامل الوحدوي بين الأطراف.
إنّ الحرّيات الدينية بإمكانها أن تـزيل واحدةً من أكبر عوائق التقارب، ألا وهي إشكالية التقيّة، إن استخدام الشيعة للتقية على نطاقٍ واسع كانت له أسبابه التاريخية القمعية التي استخدمت عبر العصور ضدّ العلويين والموالين لأهل بيت النبي 2، وقد ظلّت ثقافة التقية حاضرةً في الوعي الشيعي والفقه الإمامي حتى عصرٍ قريب، انطلاقاً من إحساس الشيعة بالخطر على أرواحهم وأعراضهم وأموالهم فيما لو أفصحوا عن آرائهم ومعتقداتهم، فإذا تعزّزت الحريات الدينية بشكلٍ هادئٍ ومنطقي، فبالتأكيد لن يشعر الشيعة بعد اليوم بأنّهم مضطرّون لممارسة التقية حفاظاً على أنفسهم، بل سيجهرون بأفكارهم، مما يدفع التعارف والتكاشف إلى مزيدٍ من وضوح الأفكار، وتـزايد الثقة المتبادلة بالأطراف، وهذا ما يعزّز الحوار والتفاهم والتعاضد بلا مرية.
على صعيد آخر، يفترض بالأقليات أن تستفيد ــ منطقياً ــ من هامش الحرية التدريجي الذي منحتها إياه الأكثرية، وأن لا تتعسّف في استخدام الحقّ أو تتهوّر في توظيفه، بما يفضي إلى إعادة الأمور كما كانت، وهو الأمر الحاصل جداً في حياتنا السياسية عموماً، نحن العرب والمسلمين.
يجدر عدم إحراق المراحل، وعدم الاستعجال في التنفّس داخل مناخ الحريّة، وعدم إحراق الأوراق كافة، إن العلاقة الجدلية بين أداء الحاكم والمحكوم علاقة لا يمكن تفكيكها، فينبغي التعامل مع الحاكم بوصفه إنساناً لا ملاكاً أو معصوماً.
كما ندعو أبناء المذهب الشيعي إلى تصحيح بعض المظاهر العامّة التي يقوم بها بعض الشيعة أحياناً، كبعض مظاهر الشعائر الحسينية من ضرب القامات (التطبير) والسلاسل و.. أو ممارسة فئةٍ من الإمامية اللعن والسبّ ضد الخلفاء ورموز الصحابة، مما يكوّن واحداً من أكبر عوائق التقريب والتفاهم، وإننا لنرحّب أيّما ترحيب بالدعوات الوحدوية الجادّة التي قام ويقوم بها بعض كبار علماء الشيعة ومراجعهم في هذا الإطار، أخص بالذكر العلامة السيد محسن الأمين العاملي ) في كتابه «رسالة التنـزيه»، والعلامة الشهيد الشيخ مرتضى المطهري في كتاب «الملحمة الحسينية»، والعلامة السيد محمد حسين فضل الله، وآية الله علي الخامنئي مرشد الجمهورية الإسلامية الإيرانية وغيرهم، كما نؤكّد على الترحيب بالخطوات التقريبية في الطرف الآخر أيضاً.
ينبغي على علماء الأطراف المسلمة وفقهائها إعادة قراءة بعضهم بعضاً بعيداً عن السياق الجدلي السجالي، كما يفترض بهم إعادة قراءة ذواتهم أيضاً، بعيداً عن الخوف أو القلق من الإصلاح الداخلي المفضي للإطاحة بكل ما لا يثبته الفقه بمدارسه المختلفة، غاية الأمر أنّه قد علق في الوعي الجمعي والذاكرة الجماعية عبر العصور.
ليس من شك في أنّ بعض الأفراد والجماعات تتحمّس بطبيعتها لبعض الأفكار التي تؤمن بها، فيدفعها حماسها للإسراع والعجلة من جهة، والاندفاع اللاعقلاني واللامدروس من جهة أخرى، وهذا ما حصل ــ بعض الشيء ــ مع جماعة التقريب([12]).
إنّ عمليات ترميم الصورة وإصلاحها قد يؤدي ــ إذا لم يسر بطريقة مراحلية ومدروسة ــ إلى غضب التيارات التقليدية، إنّ محاولة تشذيب بعض التصوّرات وحذف بعض المقولات المعيقة لحركة التقريب، قد يكون مفرطاً أحياناً، فيفضي إلى ارتدادت عكسية على مسيرة التقريب.
من هنا، يفترض في المنظّرين الوحدويين مراعاة الشارع الداخلي لمذاهبهم وطوائفهم، وأن لا يطرحوا أفكاراً تقريبية أو إصلاحية قد تعمل على تهييج هذه الطوائف، فيرتدّ ذلك سلباً على مشروعهم نفسه، وهذا ما لاحظناه في مواقع إسلامية متفرّقة، إذ تحوّل هذا الفريق من المفكّرين والعلماء والمنظّرين المصلحين إلى فريق مشكوك فيه، ومرتاب في أمره، بل حُسِب لدى كل جماعة غير أصِيل في تفكيره، بل مهادن للبدعة والضلال والانحراف و..
إنّ الشك في مصداقية هذا الفريق داخل دائرته المذهبية الخاصة، يؤدي إلى فشل مشروع التقريب، ذلك أنّ إقصاءه في هذه الدائرة وتهميش دوره يضع الأمور في يد التيار المتشدّد داخل كل فريق، كما يضع أمامه مبرّرات لكي ينقضّ على مشروع التقريب قضماً وتمزيقاً، بحجّة أن الدخول في هذا المشروع والانسياق له يعرّض العقائد الإسلامية الصحيحة للخطر، ويذرها عرضةً للتلاعب.
والمؤسف في هذا المجال، انفتاح جبهة داخل كل طائفة ومذهب يتناسب الصراع فيها ــ طرداً وعكساً ــ مع مشروع التقريب، فبعض الوحدويين، ولكي يحقق نصراً على خصومه الداخليين، يندفع ــ هرباً منهم ــ إلى الأمام، فيتبنّى مقولات تقترب من الآخر، لكي يغيظ بها خصمه الداخلي، أو يصفّي حسابه معه، وهكذا الحال في الطرف الآخر الرافض، إذ يضاعف من نشاطه الطائفي، ردّاً على الفئات الوحدوية في مجتمعه الخاص، فيعرّض بذلك مشروع التقريب للخطر، لكي يحقق بفشل هذا المشروع نصراً كاسحاً على الفريق الإصلاحي داخل مجتمعه المذهبي، وبين هذا الفريق وذاك تتجاذب مشروع التقريب ظاهرة طبيعية، فتاريخ حافل بالصراع المذهبي بين طوائف المسلمين لا يمكن للذاكرة الجماعية أن تنساه بسهولة، بل يملك عمقه الاستراتيجي في الوعي الديني التقليدي الذي نراه مسيطراً ــ حتى الساعة ــ على أكثر من موقعٍ حساس في الأمّة كلّها، ومن ثم فلا نريد أن نعيش في وهم موافقة الأطراف كافة على مشروع خطير وحساس من هذا النوع، إذ ذلك ما تكذّبه تجربة التقريب في القاهرة على سبيل المثال، كما يذكره الإمام محمود شلتوت ) ([13])، لكن ما نعنيه أن لا يعجّل التقريبيون أنفسهم بطرح أفكار وحدوية لم تنضج نظرياً ولا عملياً في داخل الدوائر المذهبية.
إن التعامل مع المجتمع الديني تعامل حسّاس وحذر، كأنه تعامل مع حقل ألغام، يفترض فيه احترام المشاعر والعواطف إلى أقصى حدّ ممكن، حتى لو لم نقتنع بالكثير منها، ومن ثم فالعمل المراحلي التدريجي والخطاب الهادئ غير المثير، والتوقيت الذكي غير الساذج، من شأنه أن يساهم ــ قدر الإمكان ــ في إنجاح المشروع، فإذا ما كادت أيدي الكيد ضدّه لم يكن على أصحاب المشروع حينئذٍ أثم ولا حرج، فلم يكن التقصير من طرفهم، بل تعدّى طاقاتهم وقدراتهم.
ولعلّ المنطلق العقلاني المجرّد عن النص لا يقنع تياراً داخل كل مذهب بضرورات المشروع، لهذا وجدنا فريقاً من الوحدويين منشغلاً برصد المبرّرات النصية من الكتاب والسنة، لتأكيد المبدأ، ورسم معالمه الكبرى.
ولمّا لم يكن هذا مجال بحثنا، لأننا نجد الموضوع بحاجة إلى درس قرآني وفقهي موسّع، يستوعب تمام المقولات الموجودة عند الطرفين، والتي تمثل معيقات نصيّة أمام تكوين مشروع تقريبي قائم على شرع الله تعالى لا على استحساناتنا وأذواقنا فحسب، إلاّ أننا نحب أن نشير إلى أنّه عندما يفتي بعض علماء أهل السنّة بجواز قتل الشيعي، فإنّ هذه الفتوى تستند من وجهة نظرهم إلى مبررات من كتابٍ وسنَّة، وهكذا عندما يفتي بعضهم الآخر بحرمة ذبائح الشيعة فإنّ الأمر على هذه الشاكلة، والحالة نفسها نجدها في بعض الفتاوى الشيعية، كتلك التي ذهب إليها بعض فقهاء الشيعة من جواز غيبة السنّي، أو ذهاب قلّة قليلة من علماء الشيعة إلى النجاسة.. إنّ مثل هذه الفتاوى ــ مهما كان موقفنا منها ــ هي في نهاية المطاف رؤية لمصادر النص، وفهم للنص الديني، ولا يمكن بحالٍ من الأحوال حذفها ــ مع الاعتقاد بالنص من حيث المبدأ ــ سوى بممارسة اجتهاد داخل النص لتكوين فهم جديد، يمكنه إقصاء الفهم الآخر إقصاءً إيجابيّاً إذا ما توفّرت فيه الشروط الاجتهاديّة والعلمية المطلوبة.
ولكي نشير ــ بصورة عابرة ــ إلى المدخل النصّي لمعالجة هذا الموضوع نؤكّد على أنّ النصوص القرآنية يمكنها أن تكون هنا معياراً، وذلك:
أوّلاً: إنّ هذه النصوص تمثل عند الأغلبية الساحقة، إن لم يكن الجميع، الميزان الذي توزن به النصوص الحديثية، ومن ثم فالخروج بقواعد حاكمة وقوانين كلية عامة قرآنياً، من شأنه إعادة إنتاج فهم جديد للنص الحديثي حول الموضوع الذي ندرسه فعلاً.
ثانياً: إنّ المصطلح القرآني كالمسلم والمؤمن والأخ والمصدّق و.. مصطلحات صدرت في عصرٍ لم يحدث فيه تحوّل كبير في المصطلح، فكلمة المؤمن ــ كما يفهمها بعض علماء الشيعة ــ تعني الشيعي الإثني عشري في أدبيات القرن الثاني الهجري، أي ابتداءً تقريباً من زمن الإمام الباقر %، وهذا معناه أنّه يصعب في مثل نصوص حقوق المؤمن على المؤمن، استخراج مفاهيم ترتبط بالأخوة الإسلامية العامّة أو بمشروع الوحدة أو التقريب، لأن المصطلح نفسه قد عرف تحوّلاً في الدلالة، طبقاً لهذا الاعتقاد، أما المصطلح القرآني فإن فرص التحوّل فيه أقلّ بكثير، ذلك أنّ وعي الجماعات المذهبية لم يكن متبلوراً بصورته المعروفة عصر نـزول القرآن، مما يجعل المدلول اللغوي العام هو المرجع في هذا المجال من حيث المبدأ.
ثالثاً: إن القواعد المقرّرة في القرآن الكريم، وفقاً لكثير من الآراء، تقلّ فيها فرص التاريخانية التي تنال النصوص الحديثية، التي يعتقد بعضهم أنّها نصوص تدبيرية مرحلية تاريخية جاءت لحلّ أو مواجهة ظروف زمكانية خاصّة، فيما يتعالى النص القرآني عن هذا التأطّر الزمكاني، انطلاقاً من خلوده، أو من عناصر أخرى فيه أيضاً.
ومعنى ذلك، أن الدلالة المكتنـزة في النص القرآني لا تبدو قابلة للهدر نتيجة الطوق التاريخي المضروب عليها، على الخلاف من الدلالة في الحديث الشريف، وهذا ما يعطي النص القرآني قدرة التعميم دون النص الحديثي أحياناً.
ولست أقصد الانتصار ــ فعلاً ــ لهذه الرؤى، بقدر ما أريد ترجيح كفّة النص القرآني، لتأكيد معياريته في الفكر الديني، تلك المعيارية التي تقتضي وزن كل شيء بميزان القرآن الكريم.
ولعلّ الرجوع إلى النص القرآني يقرّر لدينا مبادئ عليا هنا، نستعرضها سريعاً، لأنّ مجال دراستنا ليس مجال الاجتهاد في النص فعلاً.
المبدأ الأوّل: مبدأ الأخوّة الإسلامية والإيمانية، وهو ما يلاحظ التركيز عليه في نصوص قرآنية عديدة.
أ ــ قال تعالى: >إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ< (الحجرات: 10)، والمقصود بالمؤمنين، الذين آمنوا بالنبي 2 وصدّقوه، كما تدلّ عليه الآيات القرآنية الأخرى، وهذه الآية تقرر مبدأ الصلح في دائرة الأخوة الإسلامية، وترفض أشكال الفرقة والتنافر.
ب ــ وقال تعالى: >يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَومٌ مِّن قَوْمٍ عَسَى أَن يَكُونُوا خَيْرًا مِّنْهُمْ وَلا نِسَاء مِّن نِّسَاء عَسَى أَن يَكُنَّ خَيْرًا مِّنْهُنَّ وَلا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ وَلا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الاِسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ..<(الحجرات: 11).
وهي تقرّر منهج التعامل بين المؤمنين، من التخلّي عن السخرية واللمز والنبز وأضراب هذه المسائل، مما نجده كثيراً ــ مع الأسف ــ في علاقة المسلمين اليوم بعضهم ببعض.
ج ــ قال تعالى: >مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ الله وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ< (الفتح: 29).
فالآية تقرّر مبدأ الرحمة بين المؤمنين، وفي هذا ما فيه من دلالات.
إذن، فعلاقة الأخوة التي قرّرها القرآن غدت ذات مضمون حقيقي «لا مجرّد تشريف أو تحبيب، فالقرآن عندما تحدّث عنها رتّب عليها أحكاماً اجتماعية ــ كما ورد ذلك في سورة الحجرات ــ .. وليست القضية فقط قضية تشريف وترغيب وتشويق للناس في أن تكون علاقة بعضهم مع بعض علاقة الإخاء، بل ينتهي بها أهل البيت ( في حديثهم عنها إلى أنّها لا تختلف في عمقها وجذرها عن العلاقة الأخوية التكوينية، غاية الأمر أنّه لا يترتب عليها بعض الآثار الشرعية، مثل التوارث، أو حرمة الزواج وما أشبه ذلك..»([14]).
المبدأ الثاني: مبدأ الإيمان وحقوقه، وفي هذا المبدأ آيات عديدة، نعرض عجالةً لبعضها:
أ ــ قال تعالى: >وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ…< (التوبة: 71)، فهذه الآية تقرّر مبدأ الولاء بمعنى الحبّ أو النصرة أو العون أو.. بين المؤمنين، وهو ما يجعل رباطهم قائماً على الدين ومرتكزاً عليه، فأيّ ولاء نعرفه اليوم بين الطوائف؟ فأين هو الحبّ؟ وأين هي النصرة؟ وأين هو العون؟..
هذا الولاء هو الذي أسّسه رسول الله 2 في أوّل خطوةٍ خطاها بعد وصوله إلى يثرب، لقد آخى بين المهاجرين والأنصار فأعان بعضهم بعضاً، ونصر بعضهم بعضاً، وأحب بعضهم بعضاً، بل آخى ووالى بين أبناء المدينة نفسها من الأوس والخزرج، كما هو معروف في التاريخ ومشهور.
ب ــ أين نجد تطبيقات قوله تعالى اليوم حينما يقول عزّ من قائل: >وَالَّذِينَ جَاؤُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاً لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ< (الحشر: 10).
فهذه الآية تشير إلى ضرورة زوال الغلّ والحقد والضغينة بين المسلمين، وتجعل هذه المفاهيم بمثابة المبادئ العليا التي يُرجع إليها.
ج ــ ولعلّ من الآيات ذات الدلالة الشديدة قوله تعالى: >وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ الله فَإِن فَاءتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ الله يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ< (الحجرات: 9).
فالآية تذكر بغي طائفةٍ من المؤمنين على أخرى، مع إقرارها بالإيمان، واعتبارها مؤمنة، وتقدّم الصلح والتفاهم على الردع بالقوّة، ثم إذا تمّ الردع بالقوّة، وكفّت الباغية يدها عن الأخرى فإن الحكم يكون بالعدل والقسط، لا بتصفية الحسابات بلا عدل ولا إنصاف.
د ــ قال تعالى: >وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى< (المائدة: 8)، فإذا كان بغض قوم ــ وربما كانوا كافرين ــ ليس مدعاةً لعدم العدل، فإن بغض بعض المسلمين لو كان لمبرّر شرعي لا يعني عدم التعامل معهم بقسط وعدل، سواء في القول أو في العمل.
إلى غير ذلك من الآيات فضلاً عن الروايات الكثيرة في حقّ المسلم على المسلم، والتي ينبغي أخذها على الدوام في إنتاج مفاهيمنا، ومقايسة ما بأيدينا من معطيات معرفية.
ولما لم يكن قصدنا في الموضوع النصي سوى الإشارة نكتفي بهذا القدر، وندعو الفقهاء والعلماء إلى تأسيس فقه الوحدة الإسلامية، أو فقه العلاقات الإسلامية، ما شئت فعبّر، لدراسة الموضوعات الإشكالية دراسة فقهيّة أمينة بلا تحيّز لطرف أو تطرّف لفكرة، حتى فكرة التقريب نفسها.
إصلاح مناهج التعليم ورفع مستوى المعاهد الدينية
لعلّ هذا أهمّ الحاجات اليوم في موضوع التقريب بين المسلمين، حاجة إصلاح البناءات المعرفية والركائز العلمية وعمليات تكوين العقل وتصنيعه، ويمكن في هذا المضمار إثارة مجموعة أفكار:
أ ــ علم الكلام الإسلامي: لا شك أنّ لعلم الكلام دوراً في تقريب أجزاء الأمّة أو بثّ الفرقة والخصام بين أبنائها، كما لا شك في أنّ نسق التصنيف في هذا العلم، لا سيما علم الملل والنحل منه، كان ذا دور فاعل في قراءة المسلمين بعضهم بعضاً، من هنا تبدو ضرورة إجراء تعديلات وإصلاحات في بنية علم الكلام ونظامه الدراسي معاً، كما في وعيه وفهم مقولاته إذ:
أوّلاً: لم تعد مصادر علم الكلام، ومراجع الملل والنحل التقليدية حاكيةً عن واقع الانقسام الطائفي والمذهبي والكلامي عند المسلمين، ذلك أنّ جهود علماء الملل والنحل كانت ــ ويجب أن تكون ــ محل نقد وتمحيص، فكثيراً ما جُعل بعضُ أصحاب المقالات رؤساءَ مذاهب، كما ضخّمت صورة فرقةٍ لم يكن لها في التاريخ سوى أنصار محدودون في الزمان والمكان، وأدّى هذا التصوّر إلى تشكيل صورة خاطئة عن انقسامات بعض المذاهب وانشعاباتها، وظلّت هذه الصورة ممثّلةً لنمطية القراءة الكلامية لدى الكثير من المسلمين، دون أن يجري نقد حقيقي ــ لا طائفي ــ لها، وهذا يعني أنّ الصورة التي تقدّمها مراجع الملل والنحل لا ينبغي اعتبارها نهاية الكلام وفصل الخطاب، بل يبقى المجال مفتوحاً لإعادة النظر وتقويم المشهد.
ثانياً: إضافةً إلى ذلك، وبغضّ النظر عن صواب الصورة التي تصنعها كتب الملل والنحل الموروثة، من غير المعلوم أن تظلّ هذه الصورة على حالها، فالقياس الحنفي لم يبقَ في صورته النظرية على حاله بل تطوّر تطوّراً مذهلاً، فمن العجيب ما نجده لدى بعض المعارضين للقياس من نقدهم لصورته القديمة البالية، دون التفات إلى حدوث تطوّرات فيه، ينبغي درسها ثم تأييدها أو نقدها في مرحلةٍ أخرى، بل حتّى مفهوم الإمامة في الفكر الشيعي لم يبق على حاله الأولى، بل عرف تطوّرات كبيرة جداً ومختلفة الأبعاد، فنحن لا نريد أن نوفّق ونقارب بين أهل السنّة الذين يعيشون في القرن الخامس الهجري وإخوانهم الشيعة في القرن نفسه، لنحلّ صراعاتهم آنذاك في مدينة بغداد، حتى نذهب إلى مصادرهم في ذلك القرن، ولا ننظر لما حدث بعد ذلك من قرون، بل نريد التوفيق بين شيعة القرن الخامس عشر وسنّة القرن نفسه، ومن ثم فنحن مطالبون بدرس العقائد الحالية للمذاهب، علاوة على درس تطوّرها التاريخي، وهذا ما يعني أنّ مصادر الملل والنحل التقليدية والآراء الكلامية المدرجة في كتب الكلام لم تعد هي المرجع الوحيد لتحديد مواقف مذهبٍ أو آخر، إذ لعلّ الكثير ــ بل هذا هو الواقع ــ مما هو مسطور من آراء في مصادر الكلام والنحل إما انقرض إلى غير رجعة، أو حدثت فيه تحوّلات جذرية أو طفيفة، ومن ثم لا يحكم على أساسه حكم نهائي، وهذه قضيّة حساسة وخطيرة في الوقت نفسه.
أضف إلى ذلك، إن المذهب الواحد ربما لا يلتقي في تمام النظريات الكلامية، فلا يجدر بالشيعي تصوّر أن أهل السنّة برمّتهم قائلون بالقياس، أو حاكمون على الحسين % باستحقاق القتل لخروجه عن سلطان زمانه، لأجل أن فريقاً من أهل السنّة ذكر ذلك، كما لا يصحّ تصوّر أنّ الشيعة يقولون بتحريف القرآن، أو الولاية التكوينية لأهل البيت (، لأن فريقاً منهم قال بذلك، فالبعض ما زال إلى اليوم ــ مع الأسف ــ ينسب آراء الإسماعيلية إلى الإمامية، إذاً فيجب فهم الانشعابات الداخلية للمذاهب والفرق في العصر الحاضر، حتى لا نقع في تعميمات زائفة، أو نصدر أحكاماً مجانبةً للصواب.
على صعيدٍ آخر، غرق علم الكلام في الجدل الداخلي، فنافحت المذاهب فيه عن عقائدها واستخدمته لتثبيت أركانها، أكثر مما نافح فيه المسلمون عن عقائدهم لرد شبهات المسيحية واليهودية وغيرها.
من هنا، ربما يكون تفسير هذه الظاهرة تفسيراً سياسياً وتاريخياً هو التفسير الأنسب، ولذلك أعتقد بأنّ أولويات علم الكلام اليوم يفترض أن يعاد تحديدها، لتتحوّل بعض الخلافات المذهبية إلى موضوعات هامشية في سلّم قضاياه، وتقفز إلى الواجهة موضوعات كلامية أكثر حاجةً اليوم للمسلم في ظل تحديات العولمة، والغزو الثقافي، والإبادة الفكرية التي يقوم بها الغرب، وهذا ما يساعد ــ أولاً ــ على عصرنة علم الكلام، وثانياً، على حيويته ونضارته، وثالثاً على توفّر الاستجابة الطبيعية فيه لمهمّات القضايا الفكرية ومشكلاتها في حياة المسلم المعاصر، وتنحية الخلاف المذهبي ليأخذ موقعه الجديد في ظل إعادة بلورة علم الكلام من شأنها أن تخفّف من حدّة هذا الخلاف، وتعيد إنتاج رؤى جديدة عن الآخر المذهبي في ظلّ أوضاع العصر وتطوّرات الحياة.
ينبغي أن لا يضع متطرّفو المذاهب الإسلامية مصيرها بأيديهم، بل يفترض أن ينهض المستنيرون لخلق معادلة جديدة من العمق الديني نفسه، لا عبر تفكير ليبرالي سلبي متخارج والدين، وعبر هذا السبيل يمكن توفير فرص تقارب بين المذاهب الإسلامية كافّة.
ولسنا نقصد من ذلك، تحييد أي جهة داخل أي مذهب، فإنّ هذا ما نراه خطأ حقيقياً، سيما المرجعيات الدينية التقليدية في المذاهب، إننا نوافق تماماً على ما طرحه بعض العلماء([15]) من ضرورة إشراك المرجعيات الرسمية في المذاهب في حركة التقريب، إذ بدونهم لا يتسنّى فعل الكثير، لكنّنا نقصد أن لا نسمح للتيار المتطرّف في المذاهب كافّة باحتكار تمثيلها، بحجّة أنّه الأكثر أصالةً، والأكثر تديناً، والأكثر سلفية.
ب ــ علم التاريخ الإسلامي: ومن العلوم الأساسية التي لابدّ من إعادة ترتيب أوراقها، علم التاريخ الإسلامي، لقد كتب هذا التاريخ تحت رعاية السلاطين من الأطراف كافّة، وكان يراد بذلك ــ في كثير من الأحيان ــ إرضاءهم إما بالكذب والتـزوير، أو بالإخفاء والتعتيم، وكانت السلطة السياسية من أكثر السلطات حاجةً في تاريخ المسلمين للصراع المذهبي، فكانت تـزكّي نيرانه، وتلهبها، كي تستفيد من ذلك استفادةً عظيمة، ولهذا شاهدنا التاريخ الإسلامي في الشكل الذي عُرِض لنا، مظهراً من مظاهر الصراع الطائفي البغيض، حتى قال الشهرستاني (548هـ): «ما سلّ سيف في الإسلام على قاعدة دينيّة مثل ما سلّ على الإمامة في كلّ زمان» ([16]).
إننا بحاجة إلى رسم صورة أكثر منطقية عن هذا التاريخ، وإعادة إظهار جوانب التعايش الكامنة فيه، لا نريد تـزوير التاريخ لصالح مشروع التقريب والعياذ بالله، ولا نريد فعل أيّ شيء ينافي الحقيقة، إنما نقصد إعادة إظهار ما سترته الظروف المريرة، وهذا ما نراه ضرورياً جداً، لا تقلّ ضرورته بالنسبة للسنّي عن ضرورته بالنسبة للشيعي، فلدى الطرفين موروثات من صور تاريخية ما تـزال حاضرة في الذاكرة الجماعية يصعب فعل أيّ شيء مع وجودها أو عدم إصلاحها.
إن معاهدنا الدينية وجامعاتنا الإسلامية وحوزاتنا العلمية و.. مطالبة بإجراء هذه التعديلات الجدّية في علمي الكلام والتاريخ، لإعادة إنتاج وعي جديد للذات وللآخر، يمكن على ضوئه الشروع بحياة أفضل.
ج ــ الاجتهاد وآليّاته وعلومه: ولا تقتصر ضرورات الإصلاح المعرفي والمناهجي على علمي الكلام والتاريخ، بل تطال ــ وربما قبلها أيضاً ــ العلوم الدخيلة بالاجتهاد الفقهي، لقد عرف الكثير من الفقهاء القدامى مجتهدين على المذاهب كافّة، لا على مذهبٍ دون مذهب، إلاّ أنّ انحساراً مشهوداً في هذا الاطلاع على فقه المذاهب الأخرى سيطر في القرون الثلاثة الأخيرة، ولربما بإمكاني القول دون تحيّز: إنّ ذلك في النطاق السنّي كان أكبر منه ــ تاريخياً ــ في النطاق الشيعي، لأسباب لسنا في معرض الحديث عنها فعلاً.
إنّ تحدّيات العصر التي تثقل كاهل الفقه الإسلامي صارت تتطلّب اجتهاداً إسلامياً، لا مذهبياً فحسب، ونعني بذلك أنّه لم يعد الاجتهاد في الحنفية أو الشافعية أو المالكية أو الحنبلية أو الجعفرية لوحده اجتهاداً صحيحاً بما للكلمة من معنى، بل صارت الضرورات العلمية وغيرها تتطلّب من الفقيه أن يكون ملمّاً بجميع المدارس الفقهية الإسلامية، ليتسنّى له تكوين صورة أوضح وأنضج في الوقت عينه.
ينبغي ترويج الدعوة التي أطلقها العلامة المفغور له الشيخ محمد مهدي شمس الدين([17]) لاجتهاد إسلامي يستوعب مدارس الفقه ومذاهبه، دون أن تحجزه أو تحدّه الخلافات العقدية، فهذه الخلافات لا تلغي تماماً قيمة النتاج الفقهي والقانوني عند الطوائف الأخرى.
فكما يدرس الشيعي أدلّة الشيخ الطوسي (460هـ) والعلامة الحلّي (726هـ) والشيخ مرتضى الأنصاري (1281هـ)، عليه أن يستعرض في سياق بحثه أدلّة الإمام الشافعي (204هـ)، وأبي حامد الغزالي (505هـ) والشيخ ابن تيمية الحراني (827هـ) وغير ذلك من علماء الأطراف الأخرى، ليخرج بنتيجة فقهية مستوعبة.
إنّ هذا الدمج في البحث الفقهي يلغي ــ إلى حدّ ما ــ الفقه الطائفي المتحيّز، ولا نريد به أن يتنازل الحنفي عن فقه أبي حنيفة، أو يذر الشيعي فقه الإمامية.. بل أن يختار ما يشاء شريطة أن تكون عناصر بحثه مستوفية للمدارس الفقهيّة، فيما نراه مقدّمة ضروية لفقه إسلامي يتخطّى المذهبية التي تقصي الآخر ولا تعترف له بشيء، ويقلّص غربة المدارس الفقهية الأخرى، التي لا يعرف هذا الطرف شيئاً عنها ولا ذاك، مع الأسف الشديد، وسوف نعود للحديث عن هذه النقطة بالذات لاحقاً إن شاء الله تعالى.
وليس الفقه الإسلامي وعلم الشريعة هو الوحيد الذي يمكنه أن يساهم في هذا المجال، بل علم الرجال والحديث أيضاً، فقد استبعدت المصادر الرجالية السنيّة في علم الرجال الشيعي، كما أقصيت مصادر الرجال الشيعي في علم الرجال السنّي، ولعلّ انعدام الثقة والحسّ المذهبي هو الذي ساعد على هذا الإقصاء المتبادل.
إنّ تكوين الموسوعات الرجالية ومصادر الجرح والتعديل وفق معطيات المذاهب الإسلامية المختلفة يمكنه أن يثري الوثائق التاريخية والمستندات القديمة، للتعرّف على أحوال الرجال والرواة في مصادر الحديث المختلفة، وهكذا الحال في مصادر التراجم، فنحن بحاجة إلى «أعيان المسلمين» كافّة وليس فقط إلى «أعيان الشيعة»، وإلى «طبقات المسلمين» كافة، لا «طبقات الشافعيّة» فقط، دون أن تعني دعوتنا هذه تخلّي أي طرف عن آرائه، وإنما استطلاعه التراث بصورة إسلامية متعالية، ليكوّن بعد ذلك لنفسه من الآراء والمواقف ما شاء.
وهكذا الحال في مصادر الحديث الشريف وموسوعاته، فسوف نتحدّث لاحقاً عن اقتراح نقدّمه بموسوعةٍ حديثية تستوعب مصادر الحديث الإسلامي برمّته، ليتسنّى للباحثين مراجعة تمام النصوص المأثورة في أي موضوع عند المذاهب كافة، لا لتقصى نصوص فريق لصالح آخر، أو تحذف ويحكم عليها بالضعف، فقط لأنّها مرويات مذهبٍ آخر، فما هذا بالدليل على بطلان الحديث دائماً، فينبغي أن تصنّف موسوعة حديثية وموسوعة رجالية وموسوعة تراجم تكون مرجعاً للعلماء والفقهاء والباحثين من الأطراف كافة، وهذا ما يساعد ــ في تقديري ــ على تقارب التصوّرات، وتقلّص المسافات، وتبدّد الغربة الفكرية الحاكمة على المذاهب.
أما إذا اكتفينا بتضعيف بعضنا لروايات البعض الآخر، «وجرينا على طريقة التنابذ، وتـزييف ما عند أهل السنّة من مرويات وما عند الشيعة من مرويات، خرجنا في النهاية، وليس معنا أهل سنّة ولا شيعة، وتعذّر علينا أن نتفق على صحّة شيء، سوى القرآن الكريم»([18])، بل حتّى القرآن الكريم لن يسلم، ما دام الشيعة يتهمون السنّة بالقول بتحريف القرآن، والسنّة يتهمون الشيعة بذلك، وأنّ عندهم قرآناً غير هذا، فالمستفيد الوحيد هو المستشرق وغير المسلم، إذ ستنهار ــ بالاتهامات المتبادلة ــ مصادر الحديث والرواية، بل والكتاب والتاريخ، وسيعمّ سلطان الفوضى كل شيء عقب ذلك.
إنّ هذه الإصلاحات في مصادر البحث الديني ومناهجه، تحتاج إلى خطوات عملية أخرى أيضاً، تساعد عل تبديد حواجز الثقة، فحتّى الآن، هناك الكثير من علماء الدين من مذاهب أهل السنّة ما زالوا يتصوّرون أن ليس عند الشيعة علماء ولا حديث ولا فكر ولا فلسفة.. ليس إلاّ خرافات وهرطقات، كما وما زال هناك العديد من علماء الشيعة وطلاب الشريعة في الحوزات
العلمية يستخفّون بالنتاج الفكري السنّي، ويرونه لا يحوي على شيء، سوى استحسانات مزاجية أو أوهام غير علمية، بل يتعدّى الحال ــ أحياناً ــ عند الطرفين حدّاً، لا يتصوّر فيه بعضٌ من هذا الفريق أنّ هناك مؤمنين أتقياء في الفريق الآخر، إنما مجرّد مخادعين كذابين لا يخشون الله تعالى، وهذا ظلم عظيم جداً بحقّ بعضهم بعضاً، وحكم جائر لا يقوم على واقع ولا ينبني على أساس.
وليس لهذه الأحكام من سبب إلاّ الغربة عن بعضنا بعضاً، وعدم الاحتكاك الاجتماعي والتواصل المعرفي، وإنّك لتجد في كل فريقٍ منا جماعة تعرف ما في المسيحية وما عند الغرب أكثر مما تعرف عن الفرقاء المسلمين الآخرين، وربما يحتاج رفع هذه المشاكل إلى برامج، من نوع إقامة زيارات متبادلة لطلاب العلوم الدينية إلى المعاهد الدينية للمذاهب الأخرى، للتعرّف عليها عن كثب، ليس لنخبة قليلة فقط، بل لأكبر قدرٍ ممكن من العلماء والطلاب، كما يحتاج ذلك إلى القيام بمشاريع تبادل ثقافي بين المعاهد الدينية من تبادل الكتب والمجلات والنشريات وغيرها، وعدم الحجر على ذلك، بل الترحيب به، وإفساح المجال لبعضنا بعضاً أن نتعارف ونفهم ذواتنا أكثر فأكثر.
ولا مانع من قيام مشاريع مشتركة، من تدوين موسوعات أو مصنفات، وتوفير حركة السياحة المتبادلة، ووضع برامج تلفزيونية وسينمائية تعرّف الأطراف ببعضها بعضاً، وتقرّب بين وجهات النظر، إلى غير ذلك من عشرات المشاريع التي يمكن فعلها، دون الاكتفاء ببعض المؤتمرات القيّمة، التي نخشى أن يطغى على بعضها أحياناً طابع المجاملات والتكرارية.
وفي هذا السياق، تبدو أهمية ترجمة النتاج الفكري للمذاهب والقوميات الإسلامية المختلفة، لكي يكون كل طرف على دراية بما يحدث عند الآخر، ويكون المشهد الديني والثقافي واضحاً لدى الجميع، نخصّ هنا، نقل المشهد الثقافي الإيراني إلى العالم العربي، والمشهد الثقافي العربي إلى إيران، وهو ما من شأنه توضيح الصورة، ودفع كل أشكال الالتباس أو الخطأ فيها.
كما نؤيد الاقتراح الذي كان تقدّم به قديماً الشيخ محمد أبو زهرة([19])، والذي ينصّ على ضرورة تعلّم المسلمين اللغة العربية، زيادةً على لغتهم الأم، بل نـزيد عليه، ما اقترحه الشيخ محمد تقي القمي مؤسّس حركة التقريب في القرن العشرين([20])، من ضرورة أن يتعلّم كل واحد من المسلمين لغةً يحملها شعب مسلم غير لغته الأم، فيتعلَّم التركي اللغة الفارسية، والإيراني لغة الأوردو، والعربي اللغة التركية وهكذا.. حتى تتضاءل الهوّة ويصبح بالإمكان التعرّف على بعضنا ونتاجنا الفكري أكثر، ويشتدّ هذا الوجوب ويتأكّد في حقّ طلاب الشريعة والعلوم الدينية من الأطراف كافّة.
ويبقى أن نقترح أن تخصّص أطروحات الدكتوراه ورسائل الماجستير في الكثير من المعاهد الدينية لدراسة شخصيات متبادلة، فيدرس الشيعة شخصيات أهل السنَّة، ويدرس الزيدي شخصيّةً إمامية إثنا عشريّة، ويدرس السنّي شخصية شيعية، ليكون ذلك كلّه مدعاةً إلى التقارب واكتشاف بعضنا بعضاً، في جوّ سليم بعيدٍ عن المشاحنات والسجالات البغيضة المقيتة.
وعلى علماء الطوائف توفير كل ما من شأنه أن يساعد في فهم علماء الطائفة الأخرى تراثهم، فيحاولوا تقديم تراثهم لهم بلغات واضحة جلية تقترب فيها المصطلحات، لتتقارب فيها الأفكار، إن شاء الله تعالى.
مكّة المكرّمة ملتقى المسلمين في العالم، والحج حشدهم الأخوي، ومظهر ارتباطهم وتآلفهم، تتعالى عنده الفروق المذهبية والعرقية والقومية والوطنية و.. انسياب في داخل انصهار يُعدم الموائز ويبدّد ــ حتى الإمكان ــ أوجه الاختلاف، ليجمع المتفرّقات على قواسمها المشتركة.
لكن خطوة التقريب التي تشهدها مكة المكرمة ويغذّيها موسم الحج، تلتقي هي الأخرى بمنظومة معرفية واجتماعية وسياسية.. أكبر، إذ تفعل مكة دورها في تكوين تلك المنظومة من جهة، كما تنفعل لقاءات مكة بالمنظومة عينها، الآتية من أطراف الأرض، وكأن مكّة وموسم حجّها مفصل، يقوم بتصفية المنظومات التصوّرية المنتجة في مظاهر الاختلاف المذهبي والإثني والقومي و.. من العلائق المفضية إلى التباعد والتشرذم.
ولا يكاد الباحث يصدّق بأنّ مكة المكرمة وموسم الحج فرصة ذهبية تاريخية حقاً، لإنجاح مشروع تعاون المسلمين وتعاضدهم، إنّ الاختلافات القومية واللونية والعرقية والمالية والمذهبية و.. تذوب تماماً هناك، ويسبح المؤمنون في بحر أبيض واحد، يقدرون من خلاله على الاقتراب الروحي والاجتماعي من بعضهم بعضاً أكثر فأكثر.
ربما نحتاج إلى صرف مليارات الدولارات لجمع هذا العدد ــ بتنوّعاته ــ من المسلمين في مكان واحدٍ، يشاهدون بعضهم بعضاً وهم يؤدّون أعمالاً موحدة ليس من اختلافات فيها تذكر، إنّ هذا المناخ النفسي الذي تخلقه مكّة وموسم الحج لا ينبغي النظر إليه بلغة احتفائية أو أسطورية، وإنما بلغة علمية حقيقية، تؤكّد أن مثل هذه الفرص يندر وجودها في العالم.
لسنا بحاجة كثيراً إلى زرع مفاهيم التقريب والوحدة والتعاضد والألفة و..، بوصفها مقولات في ذهن هذا المسلم أو ذاك، بقدر ما نحتاج إلى إحساس أو ممارسة أو وعي باطني متدفّق يمكن أن تولّده الاحتكاكات الاجتماعية الصادقة دون حاجة إلى فلسفته بلغة الفكر والثقافة، فنظرية الوحدة أو التقريب ليست هدفاً بوصفها نظرية، وإنما وسيلة لزرع ثقافة الذات المسلمة الكبرى في نفوس المسلمين، ولو عبر رؤية بعضهم بعضاً ومحادثة بعضهم بعضاً، ومسامرة بعضهم بعضاً، لا أقل في تلك الأيام الإلهية، في موسم الحج، ومعنى ذلك أنّه لابدّ من وضع برامج لتلاقي المسلمين في الحج لا للمناظرة والجدال أو عرض الأفكار فحسب، بل الأهم لكي يحسّ كل مسلم بأخيه المسلم إحساساً يخلق في وعيه صورةً حميمة عنه تفوق حجم الصورة التي تصطنعها المفاهيم والمقولات المقروءة أو المسموعة.
إن العالم يسعى ــ ليفهم الفرقاء بعضهم بعضاً ــ إلى إقامة مخيمات تعارف بين الشباب من اتجاهات فكرية مختلفة، أمّا نحن المسلمون فلدينا ــ إن صحّ التعبير ــ مخيم سنوي مليوني يكفي فيه الحثّ على التحادث والتسامر لخلق علاقات ودية بين الأطراف من شأنها تخفيف حدّة التوتر، وخلق كيان أكبر.
«إنّ الناس قبل أن يتجاوزوا الميقات إلى الحرم، مجموعة من الأفراد، يتمايزون فيما بينهم، ويتـزايدون، ويتفاخرون، ويتجادلون، ويضرّ بعضهم بعضاً، ويعتدي بعضهم على بعض، وتجمعهم المجامع من المدن والضواحي والقرى، فتتجمّع في هذه المجامع النـزعات المتضاربة، والأهواء المتخالفة، والرغبات المتضادة، فتكون الجامعة البشرية ساحةً للصراع والخلاف، أمّا عندما يتجاوزون الميقات إلى الحرم، ويصبّون ــ من خلال قنوات المواقيت التي وقتها رسول الله 2 ــ إلى الحرم، فإنّهم يتحوّلون إلى أمّة واحدة، ويتحركون باتجاه واحد، ويلبّون دعوةً واحدة، ويلبسون زياً واحداً، ويطوفون حول كعبةٍ واحدة، ويسعون في مسار واحد، ويؤدّون مناسك واحدة، لا يختلفون، ولا يتجادلون، ولا يتفاخرون، ولا يتضاربون، ولا يؤذي بعضهم بعضاً، وكأن الحرم يصهرهم في بوتقة واحدة، ويجعل منهم كياناً جديداً يختلف عما كانوا عليه»([21]).
«إنّ الغايات الأساسية التي يتوخّاها مؤتمر الحج، حيث يجتمع المسلمون من شتّى البقاع والأصقاع، هي أن يتعارفوا فيما بينهم، وأن يتفقّدوا أحوالهم، وأن يتباحثوا في قضاياهم السياسية وأوضاعهم الاجتماعية والاقتصادية، وأن يناقشوا المشاكل التي تعرض لهم، وأن يسعوا جادّين لإيجاد الحلول الحاسمة لتلك المشاكل وفقاً للمصلحة الإسلامية، وأن يتبادلوا الخبرات والمنافع، والسلع والتجارب، والآراء ووجهات النظر، التي تعينهم على استيضاح الأمور والأحداث، ومعرفتها على وجهها، واستظهار حقيقتها، واستجلاء غموضها، وعلى ضوء هذا اللقاء المفيد، يتحدّد موقفهم كوحدة متماسكة، وقوّة مستقلّة، لها كيانها وخصائصها، من غيرهم من القوى والتجمعات في هذا العالم، كل هذا يندرج تحت قوله تعالى: >لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ< (الحج: 28)، وفي مؤتمر الحج تتجلّى الوحدة بأصدق معانيها، وأبرز سماتها، في تلك المواكب البشرية التي تلتطم مع بعضها كأمواج البحر الزخّار، وتتشابك تشابك الغصون بالأشجار، تعزف لحناً واحداً، وتنشد هدفاً واحداً، وتسعى إلى مصير واحد»([22]).
وليس الحج هو الموسم الذي يخلق الإحساس العميق بالوحدة الإسلامية الكبرى، بل القبلة أيضاً لها هذا الدور، «فإذا تصوّر المسلم عند أداء الصلاة أنّه واحد من ألوف الألوف يتجهون إلى مثل اتجاهه، ويولون وجوههم شطر بيت الله الحرام، علم أين تكون مثابته، وأين تكون جماعته، إنّه عندئذٍ يدرك أنه لبنة في بناء مجتمع كبير يضمّ أقطاراً من الشرق والغرب، ويقوم على الفضيلة والاتجاه إلى الله تعالى..»([23]).
نعم، لقد «كان المسلمون الأوّلون يتخذون منه (الحج) سبيلاً للتعارف، والدراسات الدينية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية، وكان هذا اقتداءً
بالنبي 2 وأصحابه والأئمة الراشدين، فالنبي 2 ألقى خطبة الوداع التي استعرض فيها خلاصة دقيقة للأحكام الإسلامية في عرفة، والأئمة الراشدون كانوا يتولّون بأنفسهم رياسة موسم الحج.. وعلماء الحديث كانوا ينتهزون فرصة الحج ليتبادلوا الرواية، والتقاء التلاميذ بشيوخهم، وأخذ الأقران بعضهم عن بعض، والفقهاء يتلاقون في موسم الحج، ويتذاكرون مسائل الفقه.. وهكذا كان الحج في الماضي سبيل التعارف الإسلامي، وإنّه يجب علينا أن نعود به إلى ما كان عليه السلف الصالح، فنجمع فيه بين العبادة والنسك،
وبين المصلحة العامّة للمسلمين، وليتحقق قوله تعالى: >لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ الله فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُم مِّن بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ< (الحج: 28)..»([24]).
إنّ مبدأ >لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ< مبدأ عام، لا يضيق لخصوص الأمور المادية، بل يتعدّاها لكل أمرٍ معنوي فردي شخصي، أو صالحٍ عام اجتماعي، فإن الوحدة والتقارب من أعظم المنافع، كما لا يخفى على أيّ عاقل حصيف.
إن مظاهر الوحدة في الحجّ يجب الحفاظ عليها، وحتّى الصلاة الجامعة في المسجد الحرام مظهر عظيم لائتلاف المسلمين أيضاً، من هنا ينظر بتقدير إلى قول الإمام الخميني: «عندما تقام صلاة الجماعة في المسجد الحرام أو مسجد النبي فلا يخرج المؤمنون منها، ولا يتخلّفوا عن هذه الجماعة، بل يقيموها مع سائر المسلمين»([25])، نعم، إن هذه المظاهر تخلق في روح المشاركين فيها إحساساً بالاندماج في الجماعة الكبيرة الجامعة.
والرائع بمكّة أنّ فيها قبلة المسلمين جميعاً، ويعجبني هنا نقل كلام للشيخ الدكتور يوسف القرضاوي الذي يقول فيه: «السلف عبّروا عن وحدة هذه الأمّة بعبارة موجزة معبّرة، إذ سمّوا المسلمين: أهل القبلة، ما داموا يصلّون إلى قبلة واحدة، فهذا هو الجامع المشترك»([26]).
([1]) نشرت هذه الدراسة للكاتب الشيخ حيدر حب الله في العدد 40 من مجلة المنهاج، شتاء عام 2006م.
([2]) انظر كأنموذج: مصطفى الشكعة، إسلام بلا مذاهب: 524.
([3]) محمد حسين فضل الله، حقائق هامّة في الحوار الإسلامي ــ الإسلامي، مجلّة رسالة التقريب، العدد 19 ـ 20: 281 ـ 282.
([4]) محمد أبو زهرة، الوحدة الإسلامية: 87 ــ 88.
([5]) روح الله الخميني، كتاب الطهارة 3: 441.
([6]) محمد باقر الصدر، بحوث في شرح العروة الوثقى 3: 315.
([7]) محمد واعظ زاده الخراساني، الوحدة الإسلامية عناصرها وموانعها، مجلة رسالة التقريب 15: 11.
([8]) عبدالحسين شرف الدين، الفصول المهمّة في تأليف الأمّة: 18.
([10]) حول موقف السلف من التكفير، راجع: المصدر نفسه: 26 ــ 38.
([11]) محمد حسين فضل الله، الحركة الإسلامية، هموم وقضايا: 312.
([12]) حينما نطلق هنا كلمة «جماعة التقريب» وأمثالها، فلا نريد خصوص دار التقريب التي أسست في القاهرة نهايات النصف الأول من القرن العشرين، كما لا نقصد أيّ حركة أخرى خاصة، وإنما حركة التقريب بأطيافها.
([13]) الشيخ محمود شلتوت، مقدّمة كتاب: الوحدة الإسلامية أو التقريب بين المذاهب السبعة: 29؛ وانظر لمحمد تقي القمي في الكتاب نفسه، مقالة: رجال صدقوا: 36.
([14]) محمد باقر الحكيم، الأخوّة الإيمانية من منظور الثقلين: 15 ــ 16.
([15]) محمد الكرمي، رسالة إلى مجلّة رسالة الإسلام، مجلّة رسالة التقريب، العدد 18: 118.
([16]) أبو بكر الشهرستاني، الملل والنحل 1: 30.
([17]) محمد مهدي شمس الدين، الاجتهاد والتجديد في الفقه الإسلامي: 156.
([18]) محمود فياض، التقريب واجب إسلامي، ضمن كتاب: مسألة التقريب بين المذاهب الإسلامية: 39.
([19]) انظر له كتاب الوحدة الإسلامية: 272 ـ 278.
([20]) محمد تقي القمي، أمة واحدة وثقافة واحدة، من كتاب الوحدة الإسلامية ما لها وما عليها: 57.
([21]) محمد مهدي الآصفي، دور الحج في ترسيخ السلام في العلاقات الاجتماعية، مجلّة ميقات الحج، العدد 1: 295.
([22]) عاطف سلام، الوحدة العقائدية عند السنّة والشيعة: 21.
([23]) محمد أبو زهرة، الوحدة الإسلامية، من كتاب الوحدة الإسلامية أو التقريب بين المذاهب السبعة: 116.
([25]) الإمام الخميني، وحدت از ديدكاه إمام خميني: 107.
([26]) يوسف القرضاوي، حوار، مجلّة رسالة التقريب، العدد 19 ــ 20: 218.