)وَاتَّقُواْ اللهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللهُ وَاللهُ بِكُلّ ِ شَىْء عَلِيمٌ﴾
البقرة ٢٨٢
التقوى من الوقاية وتعني بوقاية النفس وملكاتها والجسد وأعضائه،
هذه التقوى تتطلب إدراكا للأثر يعيشه وجدان الإنسان بالتجربة العملية حينما يتخذ القرار بممارستها.
الادراك للأثر تارة يكون أدراكا حضوريا، وتارة يكون إدراكا كسبيا.
فحينما تعيش ألم الضمير مثلا بسبب ارتكابك معصية أو ذنب، فإنك هنا تدرك أثر الذنب إدراكا حضوريا في النفس تعيشه تماما .
وقد تكون تعلمت أن هذا الذنب أثره كذا وكذا، لكنك رغم علمك بهذا الأثر إلا أنك ارتكبت الذنب، وبعد وقوع الذنب عشت الأثر حاضرا في نفسك .
الادراك الكسبي يأتي في الغالب بعد الادراك الحضوري ، وقد يكون إدراكا كسبيا بالتعلم، أي أنك تعلمت أثر الذنب فتجنبته ولم ترتكبه لإدراكك أن أثره مُضِر .
الادراك بنوعيه يدفع الانسان لاتقاء الذنوب واتقاء الاضرار والمفاسد، حتى لا يعيش الانسان الألم، ولا يبتعد عن الطمأنينة والاستقرار النفسي وراحة الضمير .. وكونه دوما ساعيا إلى الكمال فهو يسعى كي يوسع قابليات النفس لتلقي فيوضات الله تعالى عليه .
وهناك نوعان للتقوى :
تقوى دفعية ( من دفع الشيء)
تقوى رفعية ( من رفع الشيء)
واضرب مثال : حينما يقول لك الطبيب لا تذهب للمنطقة الكذائية لأن فيها عدوى مرضية قد تكون قاتلة.
فأنت إما أن تلتزم ولا تذهب خوفا من الوقوع في المرض وهذه تقوى دفعية، أي أنك دفعت كل ما يمكن أن يؤدي بك إلى المرض.
أو أنك لا تكترث وتذهب ومن ثم تصاب بالعدوى، وتبدأ مسيرة العلاج وهنا تقوى رفعية أي أنك تلوثت بالعدوى لكنك تسعى لرفع أسبابها بالعلاج للشفاء.
ولذلك في الآية الكريمة عطف علم الله على تقواه وسبقت التقوى العلم.
فالتقوى الدفعية تعمل عملية تخلية للنفس من كل الموبقات، لتتجلى النفس بقابلية عالية لتلقي فيض الله تعالى وانجذاب النفس وإدراكها بعمق للعلوم.
لذلك كان بعض مراجعنا وعلمائنا الأفاضل يمارسون برامجا عبادية نفسية وجسدية، حرصا على تخلية النفس من الذنوب والشوائب حتى تصبح النفس أرق في فهم الكون ولغة الله وتكون بذلك أجدر في تحمل المسؤولية والنهوض بالواقع .
أما التقوى الدفعية فهي محمودة، لتخليص أنفسنا من الذنوب وتخليتها لتكون قابلة للعلم والمعرفة وإدراك حجم المسؤولية الخلافية.
لذلك نجد تفاوتا بين الناس في علومها وإدراكها وسعيها وتحملها وإنتاجها، وهذا الاختلاف نابع من اختلاف مقامات التقوى في النفس وبالتالي اختلاف القابليات وبالتالي الادراك والسعي .
وقد تجلى ذلك في زينب عليها السلام ، تلك المرأة التي مارست التقوى الدفعية لأنها أدركت بعمق حضوري آثار الذنب والبعد عن الله فلم تفكر حتى بذات الذنب، حتى باتت تعرف بأنها عالمة غير معلمة وفاهمة غير مفهمة، أي أن علومها وفهمها ليس كسبي ، بل هي علوم فاضت على نفسها التقية الورعة ، ففهمت وأدركت وبالتالي نهضت بمسؤولياتها التي عجز عن حملها رجال كثر عاصروا رسول الله ص .
وهنا تكمن أهمية التقوى وأخلاقيات المعرفة في تلقي العلوم والفيض الالهي وإدراكها والنهوض بالمسؤوليات.
ولذلك حينما نرى واقعنا سيئا مريضا فلنعلم أن نفوسنا سيئة مريضة، لأن الواقع نتاج الانسان وتغييره متوقف على تغيير نفس الانسان.
“إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم”
إننا إذا تأخرنا عن الركب فإن ذلك لنقص في سعينا لجهاد انفسنا ونقص في تقواها.
وقد قال الحسين ع ” ومن لحقني فقد أدرك الفتح “..
فاللحوق لحوق نفسي وجسدي وفكري وعقلي، يتطلب درجة عالية من التقوى لإدراك فتح الحسين في المعرفة والعلم، وتحمل المسؤولية في رفع الظلم ومواجهته والذب عن دين الله وحرمه .
فاقتران التذكية بالعلم اقتران لا ينفك ، كون التذكية تهيأة للقابليات لتلقي فيوضات المعرفة الكسبية والالهية لتتسع تلك القابليات للمرتبة الأعلى علميا ووجوديا .
وكلما اتسعت القابليات لتلقي المعرفة يفترض أن يزاوجها درجة أعلى من التزكية والتقوى ، كون المعرفة حجة وباب بصيرة يرى به صاحبه ما لا يراه غيره، ويصبح حجة عليه يجب أن يدفعه لمزيد من التقوى والخضوع الداخلي لله تعالى ، والاندفاع نحو التقوى والتزكية، ليكون هناك نهوض شامل مستمر ومتراكم لجهاد النفس وارتقاء العقل بالعلم والمعرفة.