أ. حسين زين الدين
" في القرآن الكريم كثير من الصور والنماذج الحوارية البليغةوالمؤثرة، والتي جاءت مكثفة وواسعة في العديد من السور وآياته، الطويلةوالقصير، المكية والمدنية، بحيث يمكن القول إنالقرآن الكريم هو أول كتابحوار في الإسلام، وفي تأصيل فكرة الحوار وتقعيدها في الإسلام والفكرالإسلامي".
بهذه المقدمة، يأتي كتاب "الحوار في القرآن .. نماذجومبادئ"، لمؤلفه الباحث والمفكر الإسلامي زكي الميلاد الصادر عن مركز الملكعبد العزيز للحوار الوطني، ضمن سلسلة رسائل في الحوار.
والكتاب عبارةعن دراسة تأملية في مسألة الحوار في القرآن الكريم، تحددت في ثلاثة فصول،تطرق الفصل الأول إلى الكتابات الإسلامية المعاصرة التي تناولة فكرة الحوارفي القرآن، والكشف عن المداخل التي استندت عليها في هذا التناول، وتطرقالفصل الثاني إلى بعض الصور والنماذج الحوارية التي شرحها لنا القرآنالكريم. ثم تطرف في الفصل الثالث إلى بعض القواعد والمبادئ المستنبطة منالقرآن الكريم والناظمة لمنهج الحوار بين الناس على تعدد وتنوع دياناتهمومذاهبهم.
وخلص الكاتب من هذه الدراسة إلى أن فكرة الحوار فكرة راسخةمتأصلة في القرآن الكريم وفي حركة الأنبياء والرسل، كما أوضح أن كل تلكالحوارات ظل الإنسان مادتها وموضوعها.
الكتابات الإسلامية وفكرة الحوار في القرآن الكريم.
عندالنظر إلى الكتابات والدراساتالإسلامية التي تناولت فكرة الحوار فيالقرآن الكريم، أوضح الميلاد أن الاهتمام بفكرة الحوار التي تناولتهاالكتابات والدراسات الإسلامية بقي ضئيلا ومحدودا حتى بعد تجدد فكرة الحواروانبعاثها وبشكل واسع بين الثقافات والحضارات، وبين المجتمعات والديانات،وبين اللغات والقوميات، وبين الطوائف والمذاهب.
هذا الاهتمام وبحسب مايراه الميلاد كان من المفترض أن يحرك بصورة أكبر العناية والاهتمام بفكرةالحوار في القرآن الكريم بوصفه الكتاب الذي تتأكد حاجة الرجوع إليه فيمختلف القضايا والشؤون، وكل أبعاد الحياة هذا من جهة، ومن جهة أخرى ماتمثلهفكرة الحوار من مساحة كبيرة وعناية فائقة في هذا الكتاب الكريم.
ثم كشفالميلاد عن المداخل التي استندت عليها في هذا التناول؛ بقصد مواكبةالتراكم الفكري والثقافي المنجز في هذا الشأن وتكوين المعرفة له:
المدخل الدعوي: بوصفه كتابا للهداية والدعوة في سبيل الله.
المدخل التربوي: باعتباره أسلوبا حيويا وناجعا في أساليب التربية وتدعيم القيم التربوية.
المدخل المقارن:بتضمنه حوارات دينية وعقيدية موسعة ومهمة بين الديانات السماوية الثلاث اليهودية والنصرانية والإسلام.
المدخلالفكري النقدي: بمحاولته نقد بعض المقولات الملتبسة وتصحيحها، ومواجهة بعضالإشكالات الخاطئة التي أثارها وتوارثها خصوم الإسلام.
الحوار في القرآن .. صور ونماذج.
تطرقالكاتب الميلاد في الفصل الثاني إلى بعض الصور والنماذج الحوارية التيشرحها لنا القرآن الكريم، وتحدث في هذه الصور والنماذج في أربعة حوارات،الحوار الأول: حوار الله سبحانه وتعالى مع الملائكة، الحوار الثاني حوارالله مع إبليس ،والحوار الثالث حوار الله مع آدم بوصفه أول حوار بين اللهوالإنسان، الحوار الثالث حوار الأنبياء مع أقوامهم، وتحدد في ثلاثة نماذج،جوار نبي الله نوح مع قومه بوصفه أول حوار بين نبي وقومه، وحوار نبيإبراهيم مع قومه بوصف أبا الأنبياء ، وفي ذريته وضعت النبوة، وحوار نبيالله موسى مع قومه بوصف أوسع حوار أشار إليه القرآن.
وقد لاحظ الكاتبالميلاد من خلال استشهاده ببعض صور ونماذج تلك الحوارات التي أشار إليهاالقرآن الكريم، أن كل تلك الحوارات ظل الإنسان مادتها وموضوعها.
ومن تلك الحوارات خلص الكاتب إلى النتائج التالية:
أولا: إن فكرة الحوار هي فكرة أصلية وراسخة في القرآن الكريم، في حركة الأنبياءوالرسل، مما يقتضي على العاملين في سبيل الله أن يكونوا أكثر تمسكا بمبدأالحوار، وأقربهم لنهج الأنبياء. فهي ليست مجرد فكرة عابرة وطارئة علىالإنسان والمجتمع الإنساني
.
ثانيا: إن الحوار هو الأصل في التعاملوالسلوك، حتى إذا اقتضى الأمر مع أولئك الذين ينتهجون سبل الشيطان، فيدلالة واضحة بأن العصيان لا يمنع من الحوار حتى لو كان الطرف الآخر هوإبليس الشيطان الرجيم،وهذا يعنى أن الحوار ممكن إذا اقتضت الضرورة مع أيإنسان في هذا العالم مهما كانت صفته ووضعيته، من قاعدة قياس الأولوية.
ثالثا: إن الحوار وسيلة للتربية والتهذيب والتعليم، وهو يمثل أصلا ثابتا في الاستناد عليه في العلاقة مع الآخرين.
رابعا: إن العلم هو المقوم الحقيقي للحوار، والمحرك له، والباعث عليه؛ لأن العلميعطي الحوار حاجة وقيمة، ويعطي الحوار محتوى ومضمونا، وينتهي به ثمرةومكسبا.
خامسا:
الحوار في القرآن .. قواعد ومبادئ.
أشار الكاتب فيهذا الفصل إلى جملة من القواعد والمبادئ، الناظمة لمنهج الحوار بينالمختلفين من الناس، سواء بين أتباع الدين الواحد، أم بين أتباع الدياناتالأخرى، أم الاختلاف بين البشر عموما.
أولا: معيارية الحق:
الحوار فيمنطق القرآن ينبغي أن يرتكز على معيارية الحق، لا يفارق هذه المعيارية، ولا يتخلى عنها، أو ينقلب عليها بأي شكل من الأشكال، وفي أي ظرف من الظروف،وتحت أي ضغط من الضغوط. بمعنى أن الحوار ليس مطلوبا لذاته، ولا يمثل غايةبذاته، وليس للتظاهر والتفنن بطرق الحوار ومهاراته، وليس للتفوق والتغلبعلى الخصم أو الطرف الآخر، وإنما الحوار في منطق القرآن الوصول إلى الحقوإتباعه.
ثانيا: تجنب الأحكام المسبقة:
الحوار لا يمكن أن يحصل بينطرفين كل طرف يدعي أنه على هدى، والطرف الأخر في ضلال مبين، فمن الصعب أنيتحقق الحوار في ظل هذا المنطق القائم على أساس الأحكام المسبقة في ذهنيةالأطراف المختلفة. ولكي يتحقق الحوار ينبغي أن يكون في إطار موضوعي بعيداعن الأحكام المسبقة، ويتضمن حافزا قويا يشجع على الحوار بين المختلفين.
ثالثا:التحرر من وصاية السابقين:
الحوارلا يتحقق، ولا يكون فعالا ومثمرا إلا بإعمال العقل، وإطلاق طاقة الفكر؛لأن الحوار هو مخاطبة للعقل، وتحاور مع الفكر، فإذا كان العقل نابعا،والفكر مقلدا لا يكون معنى للحوار، فصاحب العقل التابع لا يكون مستعداللحوار، ولا يتحفز له، ولا يقبل به وبنتائجه.
رابعا: الحوار ومنطق البرهان:
إنالحوار الجاد والفعال هو الحوار الذي يستند على البرهان ومنطق البرهان،والذي يتخذ من الحجج العقلية سبيلا في معرفة الحق، وإثبات الصدق، واكتشافالصواب؛ لأن الحكمة في ذلك الحوار في منطق القرآن ينبغي أن يستند علىالأدلة والبراهين والحجج والحقائق، وهذا هو الحوار المثمر والمنتج. أماالحوار القائم على الظنون والشكوك والتخيلات والتوهمات، فهذا الحوار لنيكون إلا فاشلا وعقيما وبلا جدوى.
خامسا: الحوار بالتي هي أحسن:
إذاكان القرآن الكريم قد دعا إلى الجدل بالتي هي أحسن، فمن باب أولى أن يكونالحوار بالتي هي أحسن؛ لأن الحوار هو الأصل، والجدل هو الاستثناء. بمعنى أنالحوار هو السلوك الطبيعي المفترض بين الناس، في حين الجدل هو سلوك لحالاتخاصة.