د. مهدي نصيري(*)
مقدّمة ــــــ
يحظى التعليم من بين كلّ الأمور الاجتماعية بمكانة خاصّة ومتميِّزة. ويرجع ذلك إلى كونه يمثل أساس تكامل الإنسانية، ومنطلق نجاحها المادي والمعنوي. والعلم محور دائرة التعلّم وصاحب الإجلال المعنوي فيها. فالعلم حياة، تحيا به النفس، ويستنير به العقل البشري، وكما يضيء الطريق أمام البصيرة يكسب البدن مناعة ضدّ كلّ الآفات. العلم أصل كل خير ومبدؤه، وخير ما يطلب منه البرهان ضدّ كل الشبهات، يعزّ الذليل، ويرشد الحيران من المؤمنين.
من هذا المنطلق أصبحت تعنى مراكز التعليم بأهمّية قصوى، وتحظى بعناية خاصّة بين كل المراكز الاجتماعية، حيث تعمل على إغناء القدرات العلمية ومهارات التعلم والتحصيل.
تعتمد مراكز التعليم في اكتساب قوّتها على المتعلمين. فالقوة البشرية بالنسبة لها تعني رأس المال الأولي، تشبه في ذلك ما تمثِّله المواد الخام بالنسبة إلى مراكز التصنيع والإنتاج الصناعي. وحيث إن الله سبحانه وتعالى قد أنعم على البشر بنعمة العقل والقلب، إلى جانب الحواس، فقد أدّى ذلك إلى تنوّع الملكات والرغبات، وكثرة صنفية ونوعية في الاستعدادات والقدرات. قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنْ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً﴾ (الإسراء: 70).
وتعتبر الحوزة العلمية بحقٍّ إحدى تلك المراكز العلمية، التي تعمل على بناء وتأهيل هذا الإنسان المقدَّس؛ ليرقى إلى مراتب الكمال والتكامل.
فالحوزة العلمية، والتي أُسِّست منذ البدء على بصيرة إلهية، هي وسيلة للرفع من قيمة الإنسان، وبناء مجتمع إنساني متقدّم راشد؛ لأن مجتمعاً بهذه الخصوصيات كفيلٌ بحفظ كرامة الإنسان. وكلّ هذا يعمل على هداية الإنسانية نحو سلوك طريق الحقّ.
والملفت في الأمر أنّه كلما كان البرنامج التعليمي في الحوزات العلمية دقيقاً وأساسياً كلّما أنتجت هذه الشجرة الطيبة ثماراً طيّبة وعذبة. لذلك أصبحت الضرورة ماسة لإيجاد محتوى علمي، سواء في ما يدوَّن من كتب أو ما يخطَّط من برنامج، يفي بمتطلبات المجتمع الإسلامي العالمي، وقادرٍ على سدّ الفراغات العلمية في ما يخصّ العلوم الدينية.
فالعديد من الأفكار والآراء لعلمائنا في الفلسفة، العرفان، الفقه، الأصول والحديث والتفسير، رغم دقّتها وقوّتها؛ بسبب كونها لم تُعرَض بأسلوب حديث يتوافق ومتطلبات العصر، لم تتعدَّ عقول أصحابها، وأهملت في رفوف المكتبات، لتتكدَّس عليها أكوامٌ من الغبار، وتنسج عليها العنكبوت بيوتها.
إنّ الحاجة العلمية اليوم، وما يفرضه العصر من السرعة، يفرض على الحوزات العلمية إنتاج كتب وفق مقتضيات تعليمية وتربوية حديثة. وللأسف فإن العديد من الكتب في الحوزات العلمية تعاني من الغموض والإبهام والانغلاق في عرض المطالب، عدم التبويب، تعدُّد المطالب الاستطرادية، عدم مراعاة التقدُّم والتأخُّر العلمي، عدم مراعاة التنسيق بين المطالب في طوليّتها، وغيرها من المآخذ، التي تعتبر عرقلة حقيقية أمام تقدُّم المتن الحوزوي، واستغراق فكر ومجهود الطالب في حلّ هذه المعضلات، التي تتكرَّر مع جميع الطلبة، وفي كل المراحل بشكلٍ مستمر.
وقد خرج جمعٌ من العلماء في منتصف القرن الأخير ينادون بالإصلاح وتجديد البنية العلمية في الحوزات العلمية، حيث قاموا بتأليف كتب على الطراز الحديث في شتّى العلوم الحوزوية، محاولين تخطّي تلك المشكلات، مع الحفاظ على غنى المطالب العلمية في الموروث العلمي، وعلى أصالتها وعمق أبحاثها. مع الإشارة إلى أن الإقدام على مثل هذه الخطوات لم يكن دائماً محلّ ترحيب في الحوزات العلمية. فالكتب المدرَّسة فيها؛ لجلالة شأن مؤلِّفيها وإتقانها العلمي، أحيطت عبر مراحل الدرس في هذه المراكز العلمية بالقداسة، وأصبح أيّ تجديد أو دعوة إلى تحديثها بمثابة المساس بتلك القدسيّة.
كما أنّ الكتب العلمية التي يمكنها أن تحلّ مكان كتب، مثل: الحاشية، المعالم، شرح اللمعة، الوسائل، المكاسب، والكفاية، و…، لا بدّ أن تكون من لحاظات متعدّدة ذات قوّة ومتانة؛ حتى يمكنها أن تعدّ كتباً مدرسية. وفي السنوات الأخيرة لم يُوفَّق للوصول إلى هذه المرتبة العلمية إلاّ ثلاث شخصيات علمائية، استطاعت من خلال قوّتها العلمية وعمق أبحاثها أن تفرض مؤلَّفاتها في الوسط الحوزوي، وأن تكون عوضاً عن بعض الكتب القديمة ذات العيار الثقيل.
الشيخ محمد رضا المظفر (1383هـ)، السيد محمد حسين الطباطبائي (1408هـ)، السيد محمد باقر الصدر (1401هـ)، علماءٌ دخلوا الحوزة العلمية كرقمٍ صعب، وحقَّقوا بفضل مؤلَّفاتهم عوضاً حديثاً عن العديد من الكتب المدرسية القديمة. فقد جاء (أصول الفقه)، و(عقائد الإمامية)، للأستاذ المظفَّر، ليخلف حاشية الملاّ عبد الله، القوانين، والباب الحادي عشر. وأتى كلٌّ من كتابي (بداية الحكمة) و(نهاية الحكمة)، للعلامة الطباطبائي، ليحلّ محلّ منظومة السبزواري. وكان (دروس في علم الأصول)، للشهيد محمد باقر الصدر، دورة كاملة في أصول الفقه في مرحلة السطوح العالية.
وقد عدّ الشهيد محمد باقر الصدر بحقٍّ واحداً من العلماء الذين قلَّما يسطع نجم أمثالهم في مجال العلوم الدينية المختلفة، وكان فعلاً مصلحاً استطاع أن يزيل الكثير من نقاط الضعف والنقص في الحوزة العلمية الشيعية، وخصوصاً في مجال النظام التعليمي فيها؛ وذلك من خلال ابتكاراته وإبداعاته على مستوى الكتب المدرسية، التي حظيت بمكانة خاصّة ومقام محترم في أوساط الحوزة العلمية الشيعية.
وإنّما ينحصر سعيُنا في هذا البحث بالتعريف بمقدارٍ صغير بما جاد به هذا العالم الفذّ، من خلال نظرياته وآرائه، وإجراءاته التي اعتمدها في إصلاح البنية التعليمية في الحوزة العلمية، ووسائله الحديثة في هذا الميدان.
التاريخ الفكري لتطوُّر المناهج التعليمية ــــــ
إنّ سرعة وتيرة تقدُّم المجتمعات، وبروز تغييرات اجتماعيّة من ناحية، وقلّة حدّة التوترات والضغوطات الاجتماعية من ناحية أخرى، كان باعثاً على إيقاظ الفِكْر وإيجاد الرغبة في التغيير والتجديد في الأوساط الحوزوية. وظهر هذا بشكلٍ خاص في الفترة الأخيرة، حيث توسَّعت العلوم والمعارف، وظهرت أخرى جديدة.
إن التغييرات التي عرفتها المجتمعات البشرية عملت على بروز احتياجات جديدة، وبالتالي ظهور وسائل حديثة في كلّ نواحي الحياة. ولم يكن المجتمع الإسلامي بعيداً عن كل هذه التحولات والإمكانات الجديدة. ووجدت الحوزة العلمية نفسها أمام ضرورة مواكبة هذه التحديثات، وأدركت أن هذا الأمر أول ما يتطلب إحداث تغيير في بنيتها خاصة، وإعادة هيكلة طروحاتها في الدرس والتعليم.
وقد عمل بعض المثقَّفون الجدد ممَّنْ أدركوا احتياجات وضرورات العصر، واستوعبوا حجم المسؤولية الملقاة على عاتق مَنْ يعملون في ميدان العلوم والمعارف الدينية، من علماء ومدرِّسين و…، في سبيل إحداث تحوُّلات في النظام التعليمي داخل الحوزة العلمية، على تقديم مبادرات إصلاحية لا يمكن تجاهلها، رغم يسرها وجزئيتها.
لقد طرحوا فكرة التخصُّص في العلوم الحوزوية، وفتح المجال أمام اللغات وبعض العلوم الأخرى لتكون ضمن المقرَّرات التعليمية. وبهذا لم تعُدْ رسالة الحوزة مقتصرة على المنابر والمحافل التقليدية، بل ستتوسَّع دائرة تعاطيها مع فئات المجتمع، وامتدّت خارج الحدود الجغرافية، وبذلك ستنفتح على محيط فكري وعلمي متنوع ومتعدد. لكنّ عراقيل وموانع عديدة وقفت في وجه كلّ هذه التطلعات، وعملت ولا زالت تعمل على سيطرة التفكير التقليدي، ضاربةً بعرض الحائط كلّ متطلبات العصر، وكأن العالم جامدٌ في عينيها لا يتحرَّك ولا يتمدَّد. وقد كتب الشهيد مطهري في نفس الموضوع قائلاً: «عمد الشيخ عبد الكريم الحائري مؤسِّس الحوزة العلمية في قم لإعداد عدد من طلبة العلوم الدينية، بحيث يتعلَّمون بعض اللغات الأجنبية وبعض العلوم المقدِّماتية، حتّى يستطيعوا تبليغ الإسلام إلى المجتمعات الأخرى، ويعرِّفوا بهذا الدين. وما إن شاع الخبر حتّى أتت مجموعة أناس أقلّ ما يوصفون به أنّهم شبه عوام من طهران إلى قم، وأعطوا إنذاراً بأن الأموال التي يعطونها هي من سهم الإمام، وليست لكي يتعلَّم طلبة العلوم الدينية لغات الكفّار وعلومهم، واذا ما استمر هذا الوضع فإن ردّة فعلهم ستكون كيت وكيت. ولما رأى الشيخ عبد الكريم الحائري أنّ هذا الأمر سيؤدّي إلى إيجاد خللٍ في الحوزة، وقد يكون سبباً في خرابها، تراجع مؤقَّتاً عن طرحه، وصرف النظر عنه»([1]).
أدرك عالمٌ آخر نوعيّة وحجم المعضلة التي تعيشها الحوزة، فأراد الإصلاح، وبالتالي العمل على الدفع بالحوزة إلى التقدُّم؛ كي ترقى إلى مستوى مركز إشعاع علميّ حضاريّ يواكب المستجدّات، ويكون دائماً في الطليعة. الشهيد محمد باقر الصدر هو الآخر، إلى جانب الإمام الخميني، تبيَّن له أن إصلاح المجتمع الشيعي، والإسلامي بشكل عامّ، رهين بإصلاح الحوزات والجامعات؛ لأن النّاس في المجتمع الشيعي دائمي العلاقة بالحوزة العلمية، يلجؤون إليها في حلّ مشكلاتهم الدينية والاجتماعية، ويعتمدون عليها في رفع مقدرة فهمهم واستيعابهم لحقيقة الأمور.
لقد كان الشهيد الصدر يرى أنّ تغيير الشكل مع الحفاظ على باطن الأمور لا يعدّ تغييراً، ولا يستحق الوصف. وكان يؤمن أنّ مناهج التدريس والتعليم وطرق عرض الدين تحتاج بشكل جدّي إلى التغيير في العديد من مسائلها. ولهذا سارع بكلّ حزم ومسؤولية إلى التأليف في هذا الموضوع. لقد كان أسلوبه في خطبه، وفي ما يكتب ويؤلِّف، أن يسلِّط الضوء على النقاط المبهمة والمغلقة، وأن يعيد رسمها بشكلٍ جديد من زوايا متعدِّدة. وكثيراً ما كان يؤسِّس لمواضيع عديدة، ويضع لها حجر الأساس. وهذه المبادرة العملية منه لها قيمتها الفعلية، فقد فتح الشهيد الصدر الطريق أمام القادمين، وبيَّن لهم المسلك الصحيح؛ حتّى يكملوا البناء، ويتمّوا العمل.
لقد كان الشهيد الصدر من العلماء القلائل الذين لا يجعلون سنّة القدماء حجاباً أمام تطوير النظريات والطروحات العلميّة. ولذلك كانت له الشجاعة في التعبير عن آرائه وأفكاره والكشف عنها. وهذه الشجاعة لم يكن لها أن تنبثق من جهالة أفكار القدماء، بل من نظرة جديدة ثاقبة.
وللتعرُّف على الشهيد الصدر أكثر نعمد إلى البحث في النظريات المختلفة في مجال تطوُّر التعليم والتربية في الحوزة العلمية؛ وذلك لأن قيمة ومكانة الأشخاص دائماً تتَّضح من خلال مقارنة ومقابلة أفكارهم وآرائهم مع الأفكار والنظريات الأخرى، حيث يتم الكشف عن أيّهما الأفضل والأرقى.
نظريات مختلفة في شأن تطور النظام التعليمي ــــــ
توجد بشأن الكتب التعليمية التقليدية في الحوزات العلمية آراء ونظريات مهمّة. كما يوجد لكلّ رأي أتباع ومؤيّدون.
الرأي الأول ــــــ
رغم أنّ عدد مَنْ يتبنّى هذا الرأي قليل، إلاّ أنه يمثِّل الرأي المحور الذي تدور في فَلَكِه أغلبية الأفكار في الحوزة العلمية. ويؤمن أصحاب هذا الرأي بأنّ المتن التعليمي التقليدي في الحوزة العلمية من الصلابة والقوة العلمية والدقّة بحيث لا يمكن أن يعوَّض أو يبدَّل بأحسن منه. لذا فهو أفضل متن تعليمي، وبالتالي يبقى المنهج القديم التقليدي أرقى منهج وأفضله.
الرأي الثاني ــــــ
ترى مجموعة أخرى أنّ المتون التعليمية الموجودة في الحوزات العلمية غير كاملة، وتحتاج إلى التجديد والتحديث. ولكنّهم يرَوْن في المقابل أن بعض التغييرات المقترحة في الموضوع في بعدها العلمي والإجرائي لا تستطيع أن تحلّ محلّ المتون القديمة؛ بلحاظ كونها ليست في قوّته وإتقانه. وهذه التجربة تكشف عن أن مسألة تغيير المتون القديمة، رغم إدراك أهمّيتها وضروريتها، عمليّة غير ممكنة، ولو في المستقبل البعيد، فلا أحد يستطيع الإتيان بمتون في نفس مرتبتها من حيث القوة والإتقان.
الرأي الثالث ــــــ
يتمثَّل هذا الرأي في مجموعة من المثقَّفين الجُدُد، أو مَنْ يسمَّوْن بـ (التنويريين). ويُعَدُّ الشهيد محمد باقر الصدر من روّاد هذا الاتجاه. هم يعتقدون بتغيير وتحوّل أساسي في النظام التعليمي في الحوزات. ويرَوْن أنه في هذا التغيير لا بدّ من ملاحظة أهداف الحوزات على المستوى الاستراتيجي، ووظائفها التي لا بدّ وأن تتلازم وخصوصيات تلك الأهداف، بالإضافة إلى احتياجات المجتمع وما ينتظره من الحوزات، ومن ثم تحقيق وتحليل المتون التعليمية القديمة الجاري بها العمل.
يعتقدأصحاب هذا الاتّجاه أن الكتب المرسومة في الحوزات العلمية ليست غير مؤاتية، وينبغي كتابة وتأليف كتب تتوافق والمنهج الحديث واحتياجات العصر.
نظريات الشهيد الصدر وآفاقه العلمية ــــــ
برز الشهيد الصدر في مجالات علمية ومعرفية مختلفة، وتفرَّد في العديد منها. كما كانت له مكانةٌ عالية في العديد الآخر منها.
لم تتجاوَزْ سنوات دراسته للعلوم في الحوزة أكثر من 16 ـ 18 سنة، لكنه كان يعشق تلك العلوم، وكان مغرماً بها وبالتعلُّم والدراسة. وكان يقضي 16 ساعة من كلّ يوم في تحصيل العلم بشكلٍ مستمرّ. وكانت ثمار هذا الحبّ والعشق أنّه بدأ تدريس أول دورة له في البحث الخارج في سنة 1378هـ، أي في سنّ الخامسة والعشرين من عمره، وأتمها في سنة 1391هـ. وفي سنة 1381هـ بدأ تدريس الفقه الخارج، ومكَّنه نبوغه العلمي، وجدّيته في التعاطي مع الدرس، من بسط المطالب، وطرح مواضيع ونقاط جديدة.
كان يرى ضرورة تغيير الكتب التي تدرس في الحوزة العلمية، بدءاً بالمعالم وانتهاء بالكفاية. وفي خصوص نظريّاته يقول السيد كاظم الحائري: انظروا إلى سائر العلوم، مثل: الرياضيات، هل نستطيع مقارنة رياضيات اليوم برياضيات الشيخ البهائي؟ أصلاً هي غير قابلة للمقارنة. ولن نجني أيّ فائدة إذا قمنا بتدريس رياضيات الشيخ البهائي اليوم، وبعد كم سنة نقوم بردّ نظرياته، ثم بعد ذلك، وحين نصل إلى المراحل العليا من الدرس نقوم بالردّ على الردّ الأول، ثم نطرح النظريات الجديدة بعد ذلك. هذا منهج لا يعمل به مطلقاً، في أيّ واحد من تلك العلوم. لكنْ في الحوزة العلمية ابتداءً ندرس المعالم، وبعد سنوات نعرض نظريّاته للنقد، ونطرح في مقابلها نظريات صاحب الكفاية، ومجدَّداً في دورة خارج الفقه والأصول نضع نظريّات الكفاية في معرض النقد والردّ، ونطرح نظريّات الفقهاء المتأخِّرين، وهكذا. فأيُّ منهج هذا؟!»([2]).
ولهذا وجدنا الشهيد الصدر يقول بضرورة تدوين آخر النظريّات ضمن الكتاب المدرسيّ، وأن يتمّ عرضها على الطلبة في مختلف السطوح، بدءاً من سطوح المقدمات ثم المتوسطة ثم العليا. وبعد سنوات حين تتغيَّر تلك النظريات نقوم بتدوين وكتابة كتب جديدة تعرض الجديد من النظريات. وهذا منهجٌ يجعلنا نبتعد عن استغراق عمر الطالب وتضييعه في دراسة القديم، والذي لا يمتّ بصلةٍ إلى ما يعيشه من نظريات، بل سيجد نفسه وبعد كلّ ذلك العمر مجبوراً على البدء من جديد في دراسة الصحيح من النظريات، ويكون عمره الذي مضى كمَنْ يحرث في الهواء.
ولم يكن يرى أنّ الأصول والفقه مستثنيان من تلك القاعدة، بل لا بدّ من تطبيق نفس المنهج عليهما، بدون استثناء([3]).
كانت مباحث وتحقيقات الشهيد الصدر تمتاز في جوانب أساسية عن سائر المباحث العلمية من عدّة وجوه، نذكر منها على الخصوص:
1ـ الدقة وعمق النظر بمستوى قلَّ له النظير والمثل.
2ـ كانت تتضمَّن مختلف أبعاد الفكر الإسلامي ومسائله، من فلسفة، واقتصاد، ومنطق، وأخلاق، وتفسير، وتاريخ، و….
3ـ كانت طروحاته في مختلف العلوم سهلة في مطالبها، وقابلة للفهم، غير مستصعبة، لكنّها في نفس الوقت دقيقة وكاملة.
لقد استعمل الشهيد الصدر نبوغه العلمي في خدمة كلّ العلوم الرائجة في الحوزة العلمية، وكان له في كلّ علم تأليف وأثر علميّ، بحيث إن كلّ واحد من كتبه يعدّ بالفعل مؤسِّساً لتطوُّر ذلك العلم، وقاعدة أساسية في انطلاقته.
ورغم قصر عمره خلَّف آثاراً علمية غنيّة بالمعارف والفوائد. هذه التأليفات التي كتبها وفق المناهج التدريسية الحديثة، ووفق أساليب جديدة، لها امتيازات وخصوصيات عديدة، بحيث إن محاولة دراسة واحدٍ منها تحتاج في الحقيقة إلى بحث مستقلّ موسَّع. لكنّ إلقاء نظرة ولو سريعة على مؤلَّفاته ونتاجاته الفكرية والعلمية الواسعة تكشف عن عرض مساحة اطّلاعاته وشموليته، وعن مدى قوّة نبوغه. وهو الأمر الذي يزيد القلب حرقةً وألماً على فراقه. فشهادتُه كانت ضربةً قاسمةً لظهر الحوزة العلميّة وللأمّة الإسلاميّة؛ لأنها بفقده قد فقدت معلماً ومنارة علميّة قلَّ أن يجود الزمان بمثلها.
تجديد وتغيير الشهيد الصدر في علم الأصول ــــــ
بالنسبة إلى مباحث الشهيد الصدر في علم الأصول نستطيع القول بأنها كانت إعلاناً عن بداية عصر جديد في تاريخ هذا العلم. فالشهيد الصدر، ووفقاً لعقيدته بضرورة تغيير الكتب الحوزوية في الأصول، قام بكتابة مجموعة من الكتب الأصولية تطابق مبادئ وملاكات الكتب التعليمية في هذا العلم. وكانت هذه المجموعة في ثلاث حلقات.
إنّ إطلاعه وإحاطته الكاملة والدقيقة بعلم الأصول جعلته يدرك أن المتون التي تدرَّس في هذا العلم تحتاج إلى تغيير كبير وجدّي. وقد عبَّر عن هذه الحاجة في مقدّمة كتبه «سلسلة دروس في علم الأصول» بشكلٍ مفصَّل، بيَّن فيها ضرورة هذا التغيير. فبعد أن بيَّن قيمة تلك الكتب بلحاظ بُعدها العلمي، حيث كانت في زمانها تعدّ كتباً تجديدية ساهمت ـ حسب قوله ـ إلى درجةٍ كبيرة في تطوير الفكر العلميّ الأصولي، إلى جانب كونها تفصح عن قيمة مؤلِّفيها الأبرار العلميّة، الذين يُشكَرون بعمقٍ على ما قدَّموه للحوزة العلمية بالخصوص من فضلٍ عظيم على الحوزة ومسيرتها العلمية… غير أنّ هذا لا يمنع من العمل على تطوير الكتب الدراسية؛ حتّى تكون أكثر قدرة على أداء دورها العلمي بشكلٍ يتناسب ومتطلبات المرحلة. وفي بيانه لأسباب دعوته إلى تغيير تلك الكتب الدراسية كتب قائلاً: «إنّ الكتب الأربعة (المعالم، القوانين، الرسائل، والكفاية)، ورغم أنّها استعملت ككتب دراسية منذ أكثر من خمسين عاماً، لم تؤلَّف من قبل أصحابها لهذا الهدف، وإنما أُلِّفت لكي تعبِّر عن آراء المؤلِّف وأفكاره في المسائل الأصولية المختلفة. وفرقٌ كبير بين كتابٍ يضعه مؤلِّفه لكي يكون كتاباً دراسياً وكتابٍ يؤلِّفه ليعبِّر فيه عن أعمق وأرسخ ما وصل إليه من أفكار وتحقيقات»([4]).
يقول السيد محمد باقر الحكيم، أحد تلامذة الشهيد الصدر، حول مؤلَّفات الشهيد الصدر: إن الشهيد الصدر بتحقيقه في الفقه والأصول، وهما الدرس المعتمد والرئيس في الحوزة العلمية، استطاع إحداث تغيير جذريّ في هذا الدرس. وبعنوان مثال فإنّه في تحقيقه في الأصول استنبط أكثر من 60 قانوناً جديداً»([5]).
وقد كانت «الحلقة الثانية»، التي استطاع الشهيد الصدر أن يجعلها عوضاً عن الرسائل للشيخ الأنصاري، للشهيد الصدر خطوةً كبيرة في إصلاح النظام التعليمي في الحوزة بامتياز.
وفي مقدّمة «الحلقة الأولى» ذكر أربعة أسبابٍ لهذا التغيير الذي أحدثه في الكتب الدراسية في الأصول، وهي:
1ـ عدم وجود أيّ نوع من التناسب والتنسيق بين الكتب الأربعة الرائجة في الأصول (معالم الأصول، قوانين الأصول، فرائد الأصول، وكفاية الأصول) .
2ـ إنّ مؤلِّفي هذه الكتب لم يكن غرضهم من تأليفها أن تكون كتباً دراسية، ولهذا كانت تحذف فيها بعض الحلقات في الأثناء أو في البداية؛ لوضوحها لدى العالم. وهذا كان سبباً في غموضها لدى الطالب.
3ـ عدم مناسبتها للطلبة؛ لأنها أُلِّفت للعلماء ومَنْ هم في سطحٍ مكتمل علمياً، لا للمبتدئين والسائرين. وكما يقال ضمن قواعد الأصول: القدرةُ شرطُ التكليف.
4ـ عدم وجود هيكلة منسجمة في طرح الموضوعات. فكم من القضايا المهمة والجديدة في الأصول لم تبرز في تلك الكتب إلاّ بوصفها مقدّمات أو استطرادات في مباحث تلك المسائل الموروثة تاريخياً في علم الأصول.
وكما أوضح الشهيد الصدر في كتابه «المعالم الجديدة للأصول» فقد مرَّت عصورٌ على علم الأصول قطع فيها مراحل تكوَّن فيها كعلمٍ مستقلّ، واستطاع من خلال علماء أكفاء، وما تطلبه كلّ مرحلة، من طيّ مراحل عديدة. وصل بعد كلّ ذلك إلى مستوى من التطوّر يصلح لأن يكون حدّاً فاصلاً بين عصرَيْن من عصور العلم، بين العصر العلمي التمهيدي والعصر العلميّ الكامل. وبهذا فعلم الأصول تاريخياً يقسَّم إلى ثلاث مراحل:
1ـ العصر التمهيدي: وهو مرحلة تشييد القاعدة الأولى لعلم الأصول كعلمٍ مستقلّ، وتوجّه ذهنية الفقهاء إليه. وكان من روّاد هذه المرحلة نوابغ من فقهائنا، من قبيل: الحسن بن عليّ بن أبي عقيل، ومحمد بن أحمد بن الجنيد الإسكافي، وانتهى بالشيخ الطوسي.
2ـ عصر النضج الفكري: فقد نضجت فيه البذرة الأولى لعلم الأصول وترعرعت، حيث استطاع تثبيت قدمه بين علوم زمانه، من خلال طرحه لمباحث فقهيّة أرفع من التفريع والتوسُّع.
وكان رائد هذه المرحلة الأول الفقيه المجدِّد الشيخ الطوسي، ومن جملة رجالات هذه الحقبة من تاريخ علم الأصول، والذين ظلَّ نجمهم ساطعاً في هذا العلم نذكر كلاًّ من: ابن إدريس، المحقِّق الحلّي؛ والشهيدين الأول والثاني، و….
3ـ عصر التكامل العلمي: فقد ظهرت مدرسة جديدة قوَّمت الحركة الأخبارية، وانتصرت لعلم الأصول، فنما فيها علم الأصول، وبلغ إلى مستوى أعلى. كانت بداية هذا العصر الجديد في أواخر القرن الثاني عشر. ورائد هذه المدرسة المجدِّد الكبير الوحيد البهبهاني، «حتى أنّ بالإمكان القول بأن ظهور هذه المدرسة وجهودها المتضافرة التي بذلها البهبهاني وتلامذة مدرسته المحقِّقون الكبار قد كان حدّاً فاصلاً بين عصرين من تاريخ الفكر العلمي في الفقه والأصول»([6]).
إن امتزاج تاريخ علم الأصول بالتطوُّرات التي عرفها هذا العلم أوصلت كتب الشهيد الصدر إلى مرحلة جديدة في تاريخ هذا العلم. فقد انتهج الشهيد الصدر منهجاً جديداً أضفى تحوّلاً نوعياً على علم الأصول، وخصوصاً في ما يرتبط بالكتاب الدرسي الحوزوي، حيث استطاع أن يعوِّض بامتياز نقاط ضعف ونقائص الكتب القديمة في هذا المجال.
وفي الحقيقة فإنّ نظرة الشهيد الصدر لعلم الأصول وإشرافه عليه تسمح لنا بالقول: إنه جعله يقفز قفزة نوعية، نقلته إلى مرحلة جديدة، نشير إليها بالمرحلة الرابعة في تاريخ هذا العلم. فقد انسجم فيها علم الأصول بلحاظ مباحثه مع العلوم الجديدة. واستطاع الشهيد الصدر بذلك أن يجعل منه علماً يكون بالفعل ابن زمانه ومكانه. وليس خفيّاً على أحد من الأصوليين أنّ قدرة العلوم الدينية في الإجابة عن الاحتياجات الفعليّة للبشريّة مرهونةٌ بمواقفهم ونظرياتهم في علم الأصول. وهذا وحده الموجب الفعلي لتطوُّر العلوم الحوزوية، والدافع بها إلى التغيير والإجابة عن المستجدات.
إبداعات الشهيد الصدر في الفقه ــــــ
ليست إبداعات الشهيد الصدر في الفقه بأقلّ حجماً وقيمةً من إبداعاته في علم الأصول. ويُعَدّ مؤلَّفه «بحوث في شرح العروة الوثقى»، الذي جاء في أربعة أجزاء، من أهمّ مباحثه الفقهية. وكانت تحقيقاته الرفيعة في هذا المؤلَّف قد أظهرت قوّة الشهيد الصدر، وجعلته بصراحةٍ يتربَّع على عرش الحوزة العلمية بلا منازع.
وأهمّ ما يميِّز شخصيّته الفقهيّة أنّه كان دائماً يسعى لأن تحوز المباحث الفقهية الكمال من جهات متعدِّدة، وأن تكون شيئاً آخر غير ما اعتادته الحوزة في هذا العلم. ونشير هنا إلى بعض هذه الجهات:
1ـ تعمّقه في مباحثه الفقهية بشكلٍ لم يسبق إليه أحد. وكان في ما درسه أو خطه بقلمه موفَّقاً بشكل كبير.
2ـ نقل بعض النظريات من مجال فرديّ وموضعيّ إلى أن يصبح فضاؤها مجتمعياً وعالمياً، وذلك في مباحث لها قابلية هذا التحوُّل ذاتاً.
3ـ توسعة مساحة المباحث الفقهية بحيث تتعرَّض لكلّ مراحل الحياة، وأن تواكب القضايا والإشكالات اليومية.
4ـ تطوير أسلوب عرض القضايا الفقهيّة وتنظيمها على نفس الشكل الذي وجدناه في مقدّمة «الفتاوى الواضحة».
لقد كان الشهيد الصدر يرى ضرورة اعتماد نوع خاصّ في ما يخصّ تبويب المباحث والقضايا الفقهية. وقد رأيناه يعتمد هذا التبويب والتقسيم في «الفتاوى الواضحة»، التي تُعَدّ رسالته العملية. فإيمانه بضرورة تغيير وتطوير القضايا الفقهيّة لم يستثنِ حتّى مسألة التبويب والترتيب، وطرح شكل الفتاوى الواضحة كنموذج عمليّ لهذا الغرض.
يرى الشهيد الصدر أنّ الوقت الحاضر يفرض على الفقه نوعَيْن من التحوُّل:
1ـ أفقيّ: ويتوسَّع الفقه فيه ويكبر باتّساع الحياة البشرية وكبر احتياجاتها.
2ـ عمودي وعمقي. ويقول في توضيحه للتطوُّر العمودي وفي العمق: والبحث الفقهي اليوم مدعوٌّ إلى أن يستنفد طاقة هذا الاتجاه الموضوعي أفقياً وعمودياً… لا بدّ من أن يتوغَّل هذا الاتجاه الموضوعي في الفقه، لا بدّ وأن يتوغَّل عمودياً، لا بدّ وأن يصل إلى النظريات الأساسية، لابدّ أن لا يكتفي بالبناءات العلوية، بالتشريعات التفصيلية، لا بدّ وأن ينفذ من خلال هذه التشريعات التفصيلية، من خلال البناءات العلوية، إلى النظريّات الأساسية التي تمثِّل وجهة نظر الإسلام؛ لأنّنا نعلم أنّ كل مجموعة من التشريعات في كلّ باب من أبواب الحياة ترتبط بنظريات أساسية، ترتبط بتصورات رئيسية. أحكام الإسلام، تشريعات الإسلام، في مجال الحياة الاقتصادية ترتبط بنظرية الإسلام، بالمذهب الاقتصادي في الإسلام. أحكام الإسلام في مجال النكاح والطلاق والزواج وعلاقات المرأة بالرجل ترتبط بنظرياته الأساسية عن المرأة والرجل، ودور المرأة والرجل. هذه النظريات الأساسية، التي تشكِّل القواعد النظرية لهذه الأبنية العلوية، لا بدّ أيضاً من التوغُّل إليها. لا ينبغي أن ينظر إلى ذلك بوصفه عملاً منفصلاً عن الفقه، بوصفه ترفاً، بوصفه نوع تفنُّن، بوصفه نوع أدب. ليس كذلك. بل هذا ضرورةٌ من ضرورات الفقه. لا بدّ من النفاذ، لا بدّ من التوغُّل عمودياً أيضاً إلى تلك النظريات، ومحاولة اكتشافها بقدر الطاقة البشرية»([7]).
وقد اعتمد هذه النظرية في استخلاصه لنظام اقتصادي إسلامي. يقول في هذا الصدد: «على أساس ما تقدَّم يصبح من الضروري أن ندرج عدداً من أحكام الإسلام وتشريعاته، التي تعتبر بناءً فوقياً للمذهب، في نطاق عملية اكتشاف المذهب، وإن تكُنْ داخلةً كلّها في صميم المذهب ذاته.
ولأجل هذا سوف يتَّسع البحث في هذا الكتاب لكثيرٍ من أحكام الإسلام في المعاملات والحقوق التي تنظِّم العلاقات المالية بين الأفراد، كما يتَّسع لبعض أحكام الشريعة في تنظيم العلاقات المالية بين الدولة والأمة، وتحديد موارد الدولة، وسياستها العامة في إنفاق تلك الإيرادات؛ لأن هذا الكتاب ليس كتاب عرض للمذهب الاقتصادي فحسب، وإنما هو كتاب يحاول أن يمارس عملية اكتشاف لهذا المذهب، ويحدِّد لهذه العملية أسلوبها وسيرها ومضمونها ونتائجها»([8]).
كان الشهيد الصدر يعتقد أنّ فقه العقود أو فقه المعاملات في حاجة إلى بحث فقهيّ مقارن مع المباحث القانونية المتواجِدة اليوم في الغرب؛ وذلك حتّى تتبيَّن امتيازات الفقه الإسلامي على القوانين الغربية من جهة، ومن جهة أخرى حتّى يقوم الفقه الإسلامي بالإجابة عن احتياجات تلك القوانين، وبالتالي يكون بديلاً للغرب عن قوانينه الجامدة. وقد عمل بالفعل على تأليف كتاب في فقه المعاملات على تلك المواصفات، حيث جاء مشتملاً على أبحاث تطبيقية بين الفقه الإسلامي والقوانين الجديدة، كشف فيه قدرة الفقه الإسلامية على إدارة المجتمع البشري([9]).
من النقاط الأخرى التي طرحها الشهيد محمد باقر الصدر ضرورة تناول المباحث الحوزوية بمختلف تخصُّصاتها احتياجات المجتمع، وأن تعمل على الإجابة عن المستحدثات، وأن تدرس بالموازاة مع ذلك قواعد وعلوم أخرى في الحوزة، نظير: الاقتصاد، الأخلاق، والتفسير، التي لم تكن ضمن برنامج الحوزة التعليمي، حيث كانت تقتصر الحوزة في معظم برنامجها على الفقه والأصول([10]).
وقد كتب السيد محمد باقر الحكيم عن طروحات أستاذه في تطوير الدرس في الحوزة ليشمل ميادين وعلوم أخرى، قائلاً: إن امتيازات الشهيد في مجال تحليل وتحقيق القضايا الفقهية كونه كان دائماً يقرأ أحاديث الأئمة^ وأقوال العلماء المتقدِّمين، واضعاً نصب عينيه اعتبار ذاك الزمان، بمعنى أنّه كان يقرأ تلك النصوص بلغة زمانها، حيث كانت الفتاوى ناظرة إلى تلك الأحاديث والفهم العرفي السائد آنذاك، وكان يستعمل المقارنة بين سائر النصوص؛ ليتوصل إلى فهم عميق لمفاهيمها ومضامينها([11]).
إنّ أهمّ ما يُطلَب من الفقيه بشكلٍ خاصّ أن يفهم النصوص الدينية، وأن يعمل على تطبيقها على الحياة المعاصرة، بشرط أن يحفظ خصوصيات الزمان والمكان في عملية الاستنباط.
يرى الشهيد الصدر أنّ من أضرار النظرة الأحادية الجانب في الاجتهاد وفقه المصطلح هي عدم القدرة على توجيه وتبرير الوقائع الخارجية. ويقول في هذا الخصوص: فهم لا يفسِّرون النصوص الدينية عن طريق إجراء مطابقة بينها وبين الواقعة الخارجية؛ حتّى يستطيعوا استخراج قواعد من كلّ ذلك. ولهذا وجدنا الكثيرين يجيزون لأنفسهم تجزيء النصّ الواحد على العديد من المواضيع، ومن ثم إصدار أحكام مختلفة([12]).
وقد ذهب بعض الفقهاء إلى أنّ تفسير النصوص الدينية بتطبيقها على الوقائع الخارجية عملٌ مرفوض. وفي المقابل وجدنا الشهيد الصدر يحذِّر من مساوئ هذه النظرة، وقال: إنّ من بين أخطاء «الواقعيون» أنّهم يقومون بتأويل النصوص الدينية لكي تستوعب الواقعة الخارجية، رغم فسادها ومخالفتها لحقيقة المعتقد الديني. نظير: ما قام به بعض المفكِّرين الإسلاميين الذين استسلموا للواقع الاجتماعي، فسعَوْا إلى أن يجعلوا المفاهيم الدينية ملائمة لهذا الواقع، وبأن يصبح الدين تابعاً للواقع الاجتماعي. وكان الأجدر بهم أن يتعلَّموا كيف يغيِّروا الواقع الخارجي بحيث يصبح ملائماً للنصوص الدينية ومناسباً لها. فوفق آرائهم أوَّلوا دليل حرمة الربا والربح الناتج عنها، فقالوا: إنما حرَّم الإسلام الربح المضاعف، وبذلك تجاوزوا حدود المعقول، وإلاّ فإنّ الربح المتعارف لا إشكال فيه([13]).
إبداعات الشهيد الصدر في مجال الفلسفة ــــــ
لقد قدَّم الشهيد الصدر في مجال الفلسفة كتابه «فلسفتنا»، الذي أجاب فيه بأسلوبٍ جديد وببراهين قوية وواضحة على النزاع الحاصل من انتشار الفكر الإلحادي، من خلال انتشار الأفكار الإلحادية في المنهج الاشتراكي أو المادية التاريخية. وأَوْلى عنايةً خاصّة لفلسفة ماركس، حيث قام بتفتيتها، وفضح عيوبها، ومن ثمّ الردّ عليها.
كان ينظر إلى الفلسفة في قسمها الطبيعي، فراح يتابعها في الأفكار والمعتقدات المعاصرة، ومن ثمّ كان يناقش بالدليل الفلسفي كلّ ما طرح على الساحة الإسلامية والعالمية من أفكار وفلسفات جديدة، ويبيِّن الفرق بينها وبين ما هو إسلامي خالص.
لقد كان تفوُّقه ونجاحه في ما طرح من مباحث فلسفية ناتجاً عن تعلُّقه بتلك المباحث، واطّلاعه الواسع على الفلسفات الأخرى. لذلك جاءت أجوبته وبراهينه شاملة. وقد ذكر أصحابه في الحوزة العلمية أنّهم لم يتعرَّفوا على الفلسفة المادية والماركسية إلاّ من خلاله، حيث لم يسبق لهم أن سمعوا اسم ماركس أو الماركسية، الديالكتيك والمادية التاريخية وغيرها، إلاّ على لسانه. فقد كان يقوم بشرحها وتفسيرها، ومن ثمّ تبيين مكامن الخطأ فيها، والردّ عليها.
لم يكن الشهيد الصدر؛ باعتباره واحداً من علماء الحوزة العلمية العظام، يرى أن احتياجات العصر تنحصر في الفقه والأصول. ولذلك شمَّر عن ساعده وقام بتأليف «فلسفتنا»؛ ليبيِّن أنّ الفلسفة والاقتصاد وغيرها من الأمور التي اعتنى بالتأليف فيها جزءٌ من هموم الأمّة، وجزء من علوم الحوزة، ومن اختصاصات المجتهد.
يذكر أحد تلامذة الشهيد الصدر أنّه في كلمة وجَّهها الشهيد الصدر إلى جمع من الطلبة النخبة قال: إن المنهج الذي تعتمده الحوزة العلمية في الاكتفاء بالفقه والأصول أمر غير صائب. وأنا أنصحكم بالانفتاح على مختلف القضايا الإسلامية. وكان قد طلب منّا الشروع بإجراء تحقيقات في مباحث «فلسفتنا». وكان ذلك يجري في بيت السيد. وكان قد حضر في أوّل جلسة التحقيقات. وممّا قاله: إنه يستطيع القول بأن مجلسهم ذاك مجلس علم وفضيلة؛ لأنه محفل تتناول فيه المعارف الإسلامية بالتحقيق والبحث، وليس هناك مجلس أشرف وأعظم من هذا المجلس بهذه الأبعاد، لذلك فهو يحبّ المشاركة في هذا المجلس، وأن يناله الشرف والفضيلة منه([14]).
ولقد عمل الشهيد الصدر في أواخر عمره الشريف على تأليف كتاب آخر دقيق وعميق في الفلسفة، إلا أنّ الشهادة كانت أكثر شوقاً إلى السيد الصدر، فقد عانقته وحملته على جناحَيْها، حيث أهل العُلى، قبل أن يتمّ كتابته.
لم يقِفْ قلمُ الشهيد الصدر في ما ذكرنا، بل امتدَّ حبره واتَّسع ليشمل العديد من العلوم والمعارف، ومن جملتها: المنطق، الأخلاق، التفسير، الاقتصاد، والتاريخ، وترك فيها آثاره، من خلال مؤلَّفات يعجز قلمنا عن استيعاب الحديث عنها في هذا المقال، حيث تحتاج إلى مجالٍ خاصّ بكلّ واحدة منها.
موانع تطوير الحوزة وفق رؤى الشهيد الصدر ــــــ
ممّا يؤسَف له أنّ الحوزة تسير وفق منهجٍ يفتح الطريق أمام بعض الكتب الدراسية، ليس من منطلق كفايتها وقوّتها، بل لموقعية ومقام مؤلِّفيها. فعلى سبيل المثال: الآخوند الخراساني والشيخ الأنصاري كانت لهما مكانة متميِّزة في الحوزة؛ لعمق أبحاثهم. لذلك ظلَّت كتبهم ـ وحتّى اليوم ـ تحتفظ بمكانتها كأدقّ وأعمق الكتب الدراسية بلا منازع. وهذا هو الأسلوب الذي وقف في وجه منهج الشهيد الصدر في تطوير المنهج الدراسي، والخروج بالحوزة من التقليد إلى أن تصبح مركزاً علمياً يواكب متطلّبات الزمان والمكان.
وكونُ كتب الشهيد الصدر لم تحتلّ المكانة اللائقة بها بين الكتب الدراسية في الحوزة ناتجٌ عن كون الشهيد الصدر قد أقدم على تأليفها في فترة لم تكن حوزة قم والنجف الأشرف قد أدركت شأنيّته، ولم تستوعب بعد مقامه العلمي وعمق أبحاثه.
كما أن الشهيد الصدر قد أقدم على تأليف كتاباته في وقت لا زال فضاء الحوزات غير مهيّأ لتلك الإصلاحات، حيث لا زال يحتاج إلى مزيد من النضج حتّى يستوعب طروحات الشهيد الصدر. وكأن الشهيد الصدر قد سبق زمانه بكثير. ولذلك وجدنا مَنْ ينعت نظريات الشهيد الصدر بالبِدْعة، وهي نفس العراقيل والموانع التي وقفت في وجه مَنْ سبقه ممَّنْ رفع لواء الإصلاح والتغيير، فلم يتمّ لهم بلوغ الغاية في تطوير الحوزة، وظلَّت الحوزة على منهجها التقليدي، وكأنّه قدرها الذي لا مفرّ لها منه.
الهوامش
(*) باحثٌ إسلامي، وأستاذٌ في الحوزة والجامعة.
([1]) نقلاً عن مجلة اطلاعات، 10/11/71، عبّاس مخلصي.
([2]) نقل عن مجلة جمهوري إسلامي: 12، 20/8/70، مقابلة مع السيد كاظم الحائري.
([4]) السيد محمد باقر الصدر، دروس في علم الأصول، الحلقة الأولى: 12 ـ 13.
([5]) أبو الفضل الشكوري، سيرة الصالحين: 483.
([6]) دروس في علم الأصول، الحلقة الأولى: 10 ـ 19.
([7]) المدرسة القرآنية: 31 ـ 32، دار التعارف، بيروت.
([8]) اقتصادنا: 394، دار التعارف، بيروت.
([9]) السيد كاظم الحائري، مباحث الأصول، الجزء الأول من القسم الثاني: 62.
([10]) مجلة جمهوري إسلامي: 12، 20/8/70، مقابلة مع السيد كاظم الحائري.
([11]) أبو الفضل الشكوري، سيرة الصالحين: 483.
([12]) همراه با تحوّل اجتهاد: 15 ـ 16، ترجمة: علي أكبر ثبوت، دائرة المعارف الشيعية.