بسم الله الرحمن الرحيم .الحمد لله رب العالمين. والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين محمد وعلى آله الطاهرين.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ * تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ}[الصف/10-11].
تساؤلات وإستفهامات
هناك إشكالية يطرحها الكثيرون على تشريع الجهاد تارة عن حسن نية وأخرى عن سوء نية:
ألم يكن بالإمكان جعل الإسلام دين سلام ومحبة بدلاً من دين الحرب والقتال؟
ألم يكن بالإمكان نشر تعاليم الدين الإسلامي وإقناع الناس بها دون اللجوء إلى السيف؟
وأمثال ذلك من الأسئلة التي تفترض معالجة موضوع الجهاد وفق الآيات القرآنية التي وردت في هذا الشأن.
مقدمات لا بد منها
وفي البداية، لا بد من الإشارة إلى الخدعة الكبرى التي يلجأ إليها الطواغيت، خاصة في العصر الحاضر، فإن أكبر دعاة الحرب وأكثرهم عدوانية وظلماً في العالم المعاصر يلبسون إعلامياً لبوس السلام، ويزعمون أن حروبهم العدوانية والتوسعية إنما هي من أجل السلام وفي خدمته، بينما نجدهم ينعتون المدافعين عن حقوقهم المشروعة والمقاومين لمشاريعهم العدوانية والتوسعية بالإرهاب والعدوان.
وقبل الدخول في عرض الآيات القرآنية لابد من تلخيص جملة مقدمات في نقاط:
أولاً: الأديان السماوية والأعراف البشرية في مختلف الأزمنة والأمكنة تعترف بحق الأفراد والجماعات والأقوام والأمم بالدفاع عن الأنفس والأموال إذا تعرضت للاعتداء والظلم، بل الدفاع عن الحقوق المعنوية كالحرية الفكرية والاستقلال والشرف والكرامة، وهم يبذلون في سبيل حمايتها الكثير من الغالي والنفيس.
والحرب الدفاعية الهادفة إلى دفع الظلم والعدوان واسترجاع الحقوق، وحفظ الاستقلال وحماية الأموال والأنفس، وصيانة الشرف، هي حرب مقدسة في نظر الدين والإنسان بشكل عام.
{أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ} الحج /39.
ثانياً: العدوان مستقبح والظلم مرفوض، وقد جاءت الأديان الإلهية ومنها الإسلام لترفض ذلك وتحرر الإنسان من الظلم ولترسي دعائم العدالة الاجتماعية، وهذا أيضاً من المسلّمات.
{وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} البقرة /190.
ثالثاً: امتلاك القوة والسلاح والاستعداد لمواجهة الظلم المفترض والمحتمل من شأنه أن يحدث منعة وحصانة يحول في كثير من الأحيان دون تحقيق الظالم لأطماعه، بل ربما ردعته عن التفكير بالإقدام على العدوان، وعليه، فإن الإعداد والاستعداد إذا لم يدفع إلى العدوانية أمر مستحسن وضروري جداً.
{وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ}الأنفال/60.
رابعاً: عندما بُعث رسول الله (ص) في مكة المكرمة قضى ثلاثة عشر عاماً يدعو الناس إلى الإسلام وإلى عبادة الله ونبذ عبادة الحجر والبشر، وتعرض هو والذين آمنوا معه لأشد أنواع الاضطهاد والأذى حتى اضطر إلى الهجرة عن مكة دون أن يؤذن له بالقتال.
خامساً: إن أول آية شرعت الجهاد وقتال المشركين جاءت صريحة بأنها حرب دفاعية لمواجهة الظلم.
{أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ * الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَن يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ… } [الحج/39-40].
{وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبِّ الْمُعْتَدِينَ * وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُم مِّنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ..}. [البقرة/ 190-191].
في الآية الأولى علّل الإذن بدفع الظلم، وجاء بعد أن أُخرِجوا من ديارهم واعتدي على أهم حق من حقوقهم وهو عبادة ربهم.
أما الثانية، فقد حصرت الأمر بالذين يقاتلونهم، الأمر الذي يجعل الحرب دفاعية بالكامل، وقد منعت من الاعتداء الذي هو قتال من لم يقاتل، وجاءت الآية التالية لتشير إلى أن القتال إنما هو لدفع الظلم واستعادة الحقوق.
سادساً: هذه القاعدة أو هذا الأصل لم يتغير بعد ذلك في كافة الآيات النازلة في القتال والحرب. وهذا ما سنستعرضه من خلال البحث الآتي:
آيات القتال
1- {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ}. [التوبة/73].
2- {فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالآخِرَةِ}. [النساء/74].
3- {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ قَاتِلُواْ الَّذِينَ يَلُونَكُم مِّنَ الْكُفَّارِ وَلِيَجِدُواْ فِيكُمْ غِلْظَةً}. [التوبة/123].
الطائفة الثانية: الآيات المقيَّدة، وهي موزعة على قيود:
– {فَإِن قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاء الْكَافِرِينَ}. [البقرة/191].
– {وَقَاتِلُواْ الْمُشْرِكِينَ كَآفَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَآفَّةً}. [التوبة/36].
– {وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبِّ الْمُعْتَدِينَ}.[البقرة/190].
– (إِنَّمَا جَزَاء الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا أَن يُقَتَّلُواْ أَوْ يُصَلَّبُواْ..}.[المائدة/33].
– {وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِن قَوْمٍ خِيَانَةً فَانبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاء إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ الخَائِنِينَ}.[الأنفال/58].
– {وَإِن نَّكَثُواْ أَيْمَانَهُم مِّن بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُواْ فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُواْ أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لاَ أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنتَهُونَ}. [التوبة/12].
– {وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ…}. [الحجرات/9].
– {َاتِلُواْ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلاَ يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُواْ الْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ}. [التوبة/ 29].
الجمع بين الآيات
مقتضى الجمع بين الآيات هو تقييد الآيات في الطائفة الأولى بالمجموعة الأولى والثانية من الطائفة الثانية، حيث يكون الإذن بالقتال لردع المعتدين ومواجهة الظلم والخيانة ونقض العهود، وعليه تحمل الآيات التي تحرض على القتال والتي تتحدث عن فضل المجاهدين وتحث على الجهاد، فإن المتتبع لسيرة الرسول (ص) الجهادية يجده في كل حلقات جهاده قد حارب دفاعاً كما سنعرضه في القسم الثاني من هذا البحث.
أما القتال لدفع البغي وردع الباغي، فلا يفرّق فيه بين بغي الكفار وبغي المسلمين إذا لم يندفع إلا بالقتال كما هو صريح الآية المتقدمة.
يبقى لدينا آية واحدة وهي الآية الأخيرة الواردة في قتال أهل الكتاب، والتي تبدو للوهلة الأولى أنها توجب قتال أهل الكتاب حتى يؤمنوا أو يؤدوا الجزية أو يقتلوا، وهي وإن كانت مغياة بذلك، إلا أن الكلام في استفادة الوجوب المطلق من ناحية القيود الواردة في الآيات السابقة، أي متى يجب قتالهم؟
خاصة أن من الآيات القرآنية ما هو صريح في اعتماد أساليب الإقناع في الدعوة كما في قوله تعالى:
{ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}.[النحل/125].
{لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ}. [البقرة/256]،
وقد ذهب البعض إلى أن آية قتال أهل الكتاب باعتبارها متأخرة نزولاً (نزلت مع سورة براءة بعد فتح مكة في سنة تسع للهجرة) فهي ناسخة لما سبقها.
إلا أنه يمكن القول بأنها غير ناسخة وإنما جاءت في شروط خارجية معروفة بعد أن تآمرت قبائل اليهود مع المشركين ونكثوا العهود والمواثيق، وكذلك فعل غيرهم ممن لم يعجبه انتشار الإسلام وتعاظم دوره في الجزيرة حتى أن الخارجين عن حدود الجزيرة بدأوا تحركاً لمهاجمة الدولة الفتية، مما دفع الرسول (ص) للخروج إلى تبوك.
ومهما يكن، فإذا كان الجهاد الابتدائي الذي يقصد منه الدعوة إلى الإسلام – كما يقال- مشروطاً بحضور الإمام المعصوم على رأي المشهور، فإنه هو الذي يبين الحكم الشرعي عندئذٍ، فينحصر البحث في زمان غيبته بالجهاد الدفاعي، إلا إذا اعتبرنا أن الفقيه الجامع لشرائط الولاية والنيابة العامة يقوم مقام الإمام المعصوم في الجهاد الابتدائي أيضاً.
والذي يهوّن علينا البحث أن أعداء الدين الإسلامي لم يؤلوا جهداً في محاربة الإسلام واضطهاد المسلمين والسعي الدؤوب لفتنتهم عن دينهم والإيقاع بينهم والاستيلاء على ثرواتهم وسلبهم حرياتهم وغير ذلك من صنوف الظلم والعدوان.
ومن هنا، جاء الحث على الجهاد والتشجيع على الإعداد والاستعداد، فإن في الدفاع ما يكفي لهذا الكم الهائل من الآيات التي تأمر بالجهاد وتدعو إليه وتبين أهميته وتظهر الوعد الإلهي للمجاهدين بالنصر والتسديد والإمداد.
دائرة الدفاع لدفع الظلم
ومن الجدير بالذكر هنا أن الدفاع لدفع الظلم له دائرة واسعة تتناول ما يلي:
أولاً: الدفاع عن الثروات المستهدفة والتي يطمع بها الأعداء.
ثانياً: الدفاع عن السيادة والاستقلال والأمن الإجتماعي.
رابعاً: الدفاع عن الحريات، حرية الأفراد، وحرية الأمة وعلى رأسها حرية التفكير وإبداء الأفكار وعرضها.
هذه الحقوق الإنسانية ليس من حق أحد أن يتنازل عنها، ولا أن يفرط بها ولا يمكن لأمة أن تعيش كأمة دون قوة رادعة تحمي هذه الحقوق.
{وَلَوْلاَ دَفْعُ اللّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الأَرْضُ}. [البقرة/25].
{وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ}. [الحج/40].
هذه الآية الأخيرة جاءت بعد آية الإذن بالقتال مباشرة والتي علّلت الإذن بالعدوان الواقع:
{ذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ * الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَن يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ..}. [الحج/39-40].
فالقتال لإزالة العوائق عن طريق الدعوة إلى الله عندما يصر الظالمون على سد الطريق بها ومنع صوت الدعوة من الوصول إلى كافة الناس، مثل هذا القتال يأخذ طابع الدفاع عن الحقوق الإنسانية، لأن من حق كل إنسان أن يسمع نداء الحق.
ويمكن لنا من خلال استعراض السيرة الجهادية لرسول الله (ص) أن نتلمس تفسيراً عملياً لآيات الجهاد.
السياسة الجهادية للرسول (ص)
من الواضح لكل من قرأ سيرة الرسول (ص) أنه ومنذ الأيام الأولى لبعثته المباركة واللحظات الأولى للانطلاق في الإنذار والتبليغ، واجه مصاعب جمة ومشكلات عصيبة، وقابله قومه بالجمود والرفض، وشنّوا ضده حرباً إعلامية نفسية مفتوحة لم توفر سلاح الدعاية والتشويه والتشنيع والاتهامات والدعاوى الكاذبة في سبيل إسقاطه بين الناس والطعن في شخصيته ومكانته كما هي طريقة أهل الجحود والعناد في كل عصر.
وقد تطورت حربهم ومواجهتهم مع الأيام، وكلما اكتشفوا تأثيره على الناس، إلى الاعتداء على شخصه الشريف وتعذيب أصحابه الضعفاء حتى استشهد منهم من استشهد تحت وطأة التعذيب.
ولم يكن يمنعهم آنذاك من التفكير بقتله إلا الخوف من أبي طالب رحمه الله، هذا بالإضافة إلى أنهم لم يكونوا حتى ذلك الوقت يدركون حجم الخطر الواقعي الذي يشكله عليهم رسول الله (ص) ودينه الجديد.
واشتدت المحنة على الذين دخلوا في الإسلام وعلى الرسول (ص) وبني هاشم عامة، فكان الحصار الذي فرض على بني هاشم والذي استمر ثلاثة أعوام منعوا خلالها من الاتصال بالناس ومن التعامل معهم ومبايعتهم بشكل تام.
وكانت أيضاً بسبب ذلك هجرة المسلمين إلى الحبشة بعد الضغط وممارسات التعسف والاضطهاد والفتنة، وقد حاولت قريش اللحاق بهم إلى الحبشة عبر مبعوثيها لتأليب الأجواء عليهم هناك والسعي لاستعادتهم ليكونوا تحت الرقابة المباشرة والحصار.
في مثل هذه الإجواء مرت المرحلة المكّية من حياة الرسول(ص) والتي استمرت ثلاث عشرة سنة من الصبر والمعاناة وتحمل الشدائد في سبيل نشر معالم الدين وإيصال صوت الإسلام إلى الناس، ولم يكن الرسول(ص) طيلة تلك المدة يأذن لأحد من المسلمين باللجوء إلى السيف رغم الاستفزازات المستمرة والصعوبات البالغة، ولقد كاد الكثير من المسلمين أن يفقد صبره وتحمله، إلا أن الرسول(ص) كان يحرص على عدم الدخول مع قومه والرافضين لرسالته بأي عمل عسكري أو مواجهة مسلحة، وكثيراً ما كان يلجأ إلى شراء العبد الذي يدخل الإسلام وإعتاقه لإنقاذه من الفتنة والبلاء الذي ينصب عليه من قبل مولاه إذا أسلم.
وكان يأمر الضعفاء بكتمان إيمانهم، يأذن لهم بالتقية وإظهار كلمة الكفر، ولا يلتقي بهم إلا سراً بعيداً عن عيون المراقبين.
بعد الهجرة
ثم كانت الهجرة المباركة إلى المدينة، التي شكّلت مفصلاً مهماً في تاريخ الإسلام ومرحلة جديدة أتاحت الفرصة لإنتشار الإسلام وإنطلاقه بكل الاتجاهات، وكسر الحواجز والمعوقات التي كانت تحول دون ذلك في المرحلة المكية.
ومن يلقي نظرة على هذه المرحلة، ويتتبع أحداث الفترة من هجرته(ص) إلى وفاته، يجد الرسول(ص) قد خاض معارك عدة ولجأ إلى السيف أحياناً كثيرة في قتال مع المشركين انتهى بفتح مكة، ومع اليهود لم ينته إلا بإخراجهم من المدينة والسيطرة على معظم حصونهم ومعاقلهم خارجها.
والسؤال الذي يطرح نفسه: لماذا اعتمد الرسول(ص) منطق القوة وما هي العوامل التي دفعته لإتباع سياسة الحرب، وهل كان(ص) يفرض الحرب على الآخرين أم أن الحرب كانت تفرض عليه فرضاً ويختارها الأعداء ؟
وبعبارة أخرى: هل كان الرسول(ص) يعتمد على أسلوب القوة والسيف ليفرض الإسلام على الناس فرضاً، وهل كانت تنقصه الحجة والدليل في إثبات صدقه وصحة دينه ونبوته؟
والذي يدعونا لإثارة هذه التساؤلات والبحث عن الإجابة عليها أن عدداً من المستشرقين الذين لم يتفهموا واقع الرسالة الإسلامية، ولم يدرسوا بدقة وإنصاف سيرة الرسول(ص) وإنما قرأوها بخلفية الباحث عن الثغرات فقط فخرجوا بتصور بعيد جداً عن الصواب مفاده أن الإسلام إنما انتشر بالسيف والقوة في محاولة للطعن في قدرة الإسلام على الحوار العقلي وتقديم الدليل المقنع.
إذن، الموضوع له أهمية كبيرة، وعلينا نحن المسلمين إدراك حقيقة الأمر والتعرف على السياسة الجهادية لرسول الله (ص).
حروب الرسول(ص) وسراياه
نقل المؤرخون أن هناك عدة سرايا أرسلها الرسول(ص) قبل بدر هي:
– سرية بقيادة حمزة، قوامها ثلاثون راكباً، خرجت إلى سيف البحر والتقت بأبي جهل في ثلاثمائة راكب. ولم يحدث بين الطرفين قتال، وكانت هذه السرية في الشهر السابع من الهجرة.
– سرية عبيدة بن الحارث، الذي خرج في ستين من المهاجرين في شوال على رأس ثمانية أشهر من الهجرة، فلقيت جمعاً عظيماً من قريش في وادي رابغ ولم يجر قتال بين الفريقين، وكان على قريش أبو سفيان بن حرب، وذكروا أن سعد بن أبي وقاص رمى المشركين ولم يحصل قتال بالسيوف حتى انصرفوا.
– غزوة الأبواء بقيادة الرسول(ص) على رأس أحد عشر شهراً لاعتراض قريش فلم يلق كيداً، وقد وادع في الغزوة بني ضمرة على ألا يعينوا عليه أحداً وكتب بينهم كتاباً، وقيل بني مرة بن بكر.
– غزوة بواط لاعتراض قريش، فيها أمية بن خلف في مئة رجل من قريش وألفين وخمسمائة بعير، وكانت على رأس ثلاثة عشر شهراً ولم يقع فيها قتال، وقيل لاعتراض عير بني بن ضمرة.
– غزوة سفوان أو بدر الصغرى، على رأس ثلاثة عشر شهراً أيضاً في طلب كُرُز ابن جابر الفهري الذي كان قد أغار على أطراف المدينة على بعض رعاتها وأخذ أنعامهم، فطلبه الرسول(ص) حتى بلغ وادي سفوان في بدر ولم يدركه فرجع، وقيل كانت هذه الغزوة بعد غزوة العشيرة.
– غزوة ذي العشيرة، على رأس ستة عشر شهراً من الهجرة لاعتراض عير قريش التي جاء الخبر بأنها خرجت من مكة تريد الشام، وقد جمعت قريش أموالها في تلك العير، ولم يلق فيها عبيداً، لكن وادع فيها بني مدلج وحلفائهم من بني ضمرة ثم رجع إلى المدينة.
– سرية عبد الله بن جحش إلى بطن نخلة لرصد تحركات قريش، وقد خرجت السرية في كتمان تام لوجهتها، حيث كتب الرسول(ص) كتاباً وأمره أن لا يفظه إلا بعد أن يسير يومين، فلما سار يومين نظر في الكتاب فوجد فيه أن سر على بركة الله بمن تبعك من أصحابك حتى تنزل بطن نخلة فترصد بها عير قريش أو قريشاً حتى تأتينا منها بخبر، ومرت بهم قريش هناك وانكشف أمر السرية فخافوا أن يصل خبرهم إلى مكة فتدركهم قريش فصمموا على قتال العير، فرموا رجلاً فقتلوه وأسروا رجلين منهم وفرّ الرابع واستاقوا العير. وقد أنكر عليهم رسول الله(ص) ذلك وامتنع عن أخذ الغنيمة، قالوا حتى نزل في ذلك الوحي فأخذه.
الغاية من هذه السرايا والغزوات:
الملاحظ أن هذه السرايا والغزوات لم يحصل فيها أية مواجهة دموية إلا السرية الأخيرة التي لم تكن مأمورة بالقتال، بل كانت مهمتها استطلاعية، والذي يبدو واضحاً أن الرسول(ص) أراد في بداية تشكيله للكيان الإسلامي والانطلاق نحو تبليغ رسالته أن يحقق عدة أمور كان لا بد منها:
الأول: الحفاظ على هيبة المدينة وحرمها، وإبعاد الأعداء الذين حالوا بينه وبين نشر الإسلام لسنوات طويلة، وبالتالي منعهم من الاقتراب من المدينة والمرور عليها، وهذا الأمر يعطي الدولة الجديدة هيبة خاصة ويقوي نفوس الذين يرغبون في الدخول في الدين الإسلامي.
الثاني: الحد من نفوذ قريش، وإسقاط هيبتها بين العرب، فقد كانت عقبة كبيرة في طريق الكثير من القبائل التي لولاها لدخلت في الإسلام، وكانت قوافل تجارة قريش تمر على أطراف المدينة في طريقها إلى الشام ذهاباً وإياباً، وكانت بالنسبة لقريش موقعاً اقتصادياً مهماً لا يستغنى عنه، فأراد الرسول(ص) من خلال اعتراض تلك القوافل أن يحقق هذين الهدفين ويجبر قريش على التخلي عن إصرارها على محاربة الرسول(ص) ومعارضة الإسلام ووضع العقبات في طريق انتشاره، ولقد كان يدخل ذلك في دائرة التعامل بالمثل، والحصار في مقابل الحصار.
وبالفعل فإن قريشاً أدركت هذا المعنى فكانت ترى أن تجارتها باتت في خطر، وأنها إن سكتت على الأمر انتشر ذلك في العرب وسقط عزها وعنفوانها، وما لها من مكانة.
وقد يفهم البعض من تلك السرايا أنها كانت تهدف إلى وضع اليد على الأموال واكتساب الغنائم، لكن هذا الفهم خاطئ مبني على النظرة السطحية، ولم يأخذ في الحسابات الأهداف الحقيقية للرسالة الإسلامية، ولم يقارن هذه النتيجة بالمنهج الذي اعتمده الرسول طيلة حياته الرسالية.
فالغنيمة لم تكن في يوم من الأيام هي الباعث على الحرب في الإسلام، نعم قد يشكل ذلك باعثاً عند البعض من المسلمين أو عند بعض الحكام، إلا أن الإسلام لم يحارب ولم يأمر بالحرب من موقع طلب الغنيمة.
2– بدر الكبرى
بدر كانت المعركة الأولى والمواجهة المسلحة الأولى بين قريش وحلفائها من جهة والرسول(ص) والذين آمنوا معه من جهة أخرى.
ولقد جاءت بدر على أثر مقدمات ووقائع عدة هيأت للحرب من تلك المقدمات:
أولاً: مكاتبة قريش لمشركي المدينة التي يقولون فيها: "إنكم أوتيتم صاحبنا وإنكم أكثر أهل المدينة عدداً، وإنا نقسم بالله لتقتلنَّه أو لتخرجنه أو لنستعن عليكم العرب أو لنسيرن إليكم بأجمعنا حتى نقتل مقاتلتكم ونستبيح نساءكم".
هذا الأمر شكّل بداية لعدة مراسلات، عمل من خلالها المشركون في مكة على تحقيق تحالف مع مشركي المدينة للقضاء على الإسلام، وبالفعل فقد ظهرت بوادر ذلك التحالف في بعض التصرفات.
ثانياً: خطة الرسول (ص) القاضية بالتضييق على قريش في مصالحها الحيوية وإعاقة حركة قوافلها التجارية عبر أطراف المدينة وحريمها، كما تقدم.
وقد كان الرسول (ص) في غزوة ذي العشيرة المتقدم ذكرها قد خرج لاعتراض عير قريش بقيادة أبي سفيان، وقد فاتته ولم يدركها، وكانت متجهة نحو الشام وفيها أموال قريش، يقال أنه لم يبق أحد في مكة من ذوي المال إلا وقد شارك فيها، فلما علم الرسول (ص) بعودتها انتدب المسلمين لاعتراضها، فبلغ أبا سفيان ذلك، فأرسل إلى مكة يستغيث قريشاً التي ثارت ثائرتها، وتجهزت بسرعة لاستنقاذ القافلة، لكن أبا سفيان غيّر طريقه ونجت القافلة من اعتراض المسلمين، ورغم ذلك فقد أصرت قريش على المضي إلى المدينة لمحاربة الرسول (ص)، وقد أصر أبو جهل على مهاجمة المدينة رغم الأصوات التي نادت بالرجوع والاكتفاء بسلامة القافلة والأموال، ورغم رجوع البعض منهم كبني زهرة على ما نقل.
ولقد كان إصرار أبي جهل يهدف إلى استعادة هيبة قريش عند العرب، وقد هدّد من لا يخرج معهم بهدم داره، وبالفعل فقد تابع الجيش سيره باتجاه المدينة، ولما بلغ خبر مسيرهم الرسول (ص) صمم على الخروج لمواجهتهم وذلك بعد أن امتحن أصحابه، واختبر مقدار استعدادهم، وسار بهم حتى بدر.
وكان المشركون في ما يقرب من ألف مقاتل مدرعين و مسلحين، معهم 700 بعير، ومن الخيل أربعمئة، وقيل مئتان وقيل مئة.
وكان المسلمون 313 رجلاً، ليس معهم إلا سبعون بعيراً وفرس واحد أو فرسان، ومن السلاح ستة أدرع وثمانية سيوف.
ونزل المشركون الذين سبقوا في الوصول إلى ماء بدر، نزلوا في العدوة القصوى وهي ربوة عالية إستراتيجية والماء معهم.
بينما نزل المسلمون في العدوة الدنيا أسفل منهم على غير ماء، وقد بعث الله سبحانه المطر فأوحل الأرض في العدوة الوسطى ولبّدها في العدوة الدنيا، وعوض المسلمين ما فاتهم من الماء فأقاموا الحياض وجمعوا فيها ماء المطر فشربوا واغتسلوا.
وأرسل رسول الله (ص) إلى المشركين يقول لهم: "معاشر قريش إني أكره أن أبدأكم بقتال فخلوني والعرب وارجعوا فإن أكُ صادقاً فأنتم أعلى بي عيناً، وإن أكُ كاذباً كفتكم ذؤبان العرب أمري".
ولقد أثَّر هذا الكلام بعتبة بن ربيعة الذي رجح قبول ذلك، إلا أن أبا جهل اتهمه بالجبن، وهذه تهمة عظيمة عندهم آنذاك، مما دفع عتبة إلى لبس درعه مع أخيه شيبة وابنه الوليد وتقدموا يطلبون البراز.
وأرسل الرسول (ص) لمبارزتهم عبيدة وحمزة وعلي وقال لهم: «اطلبوا بحقكم الذي جعله الله لكم..» وقد انتهت المعركة بالنصر الحاسم للمسلمين وقتل من المشركين سبعون وأسر مثلهم.
وإذا لاحظنا الفرق الكبير بين الفريقين على مستوى العدة والعدد، والفرق الكبير على مستوى الأهداف والإيمان، ندرك عظمة النتائج وأهمية المعركة والدور الإعجازي والغيبي فيها.
منها: أنها أسقطت هيبة قريش ومرغت أنفها بالتراب وقضت على غطرستها.
ومنها: أنها بعثت في المسلمين روح الثقة بالنفس ورفعت معنوياتهم، الأمر الذي انعكس على واقع الدعوة.
ومنها: أنها أعطت المسلمين مكانة في نفوس العرب وأصبحوا قوة يحسب لها حساب.
كما أن بدراً من الناحية السياسية أدخلت الجزيرة في مرحلة جديدة من خلط الأوراق والتحالفات والمواجهات، وكانت بداية لمواجهات عديدة أشد عنفاً انتهت بالسيطرة العسكرية للمسلمين على مكة.
3– ما بعد بدر الكبرى
بعد بدر، أحست قريش أن طريق تجارتها قد قطع، وحاولوا سلوك طريق العراق، فبلغ رسول الله (ص) ذلك، وبعث سرية قطعت طريقها، وكان قد آلى المشركون في مكة على أنفسهم أن لا ينفقوا من المال الذي سلم من قافلة أبي سفيان إلا في حرب المسلمين.
وقد تركت بدر في أعماقهم جرحاً بليغاً، فقرروا العودة إلى الانتقام والثأر، فأرسلوا في القبائل من يؤلبها ويستنفرها للحرب وتجهزوا لها وقدموا المدينة فكانت "وقعة أحد" الحرب الثانية التي جرت على أطراف المدينة، وذلك في شوال على رأس 32 شهراً من الهجرة.
ثم كانت غزوة الأحزاب (الخندق) التي اجتمع فيها أحلاف المشركين وحاصروا المدينة حتى نصر الله دينه بضربة علي (ع) المعروفة والعناية الإلهية التي أعادتهم خائبين.
هذه جملة الحروب التي جرت بين الرسول (ص) وقريش في مكة، وبعد فتح مكة كانت وقعة حنين التي تظاهر فيها عدد غير قليل من قبائل العرب على قتال رسول الله (ص).
1- القرآن الكريم يقول: {ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ}، وهذا أصل بالنسبة لأسلوب الدعوة إلى الله ونشر الإسلام لا يخرج عنه إلا عندما يكون هناك دواعٍ أخرى وظروف خاصة تفرض ذلك.
2- الجهاد واستعمال السيف والحفاظ على القوة أمر ضروري جداً في كل زمان ومكان ليحفظ للإنسان وللمجتمع وللدين عزته ومنعته، وإلا راح ضحية، ومنع من تحقيق هدفه، وحيل بينه وبين أن يقول كلمته ويؤدي رسالته.
فالسيف ضرورري جداً لا من أجل إقناع الآخرين بل من أجل حفظ الاستقلال والهيبة والاحترام، ومن المعروف على مر التاريخ أن الناس لا يحترمون الضعفاء، بل في عصر الحرية الذي نعيش، الناس لا يستمعون إلا للقوي، ولا زالوا يحتقرون الضعيف.
3- أمام الأخطار التي تتهدد مجتمعاتنا والظلم الذي نتعرض له والقوى التي تحول دون استعمال المنطق والعقل، وتسلب الأمة حريتها، وتريد أن تفرض هيمنتها بالقوة، ليس من خيار أمام كل ذلك إلا اللجوء إلى القوة أيضاً.
4- الرسول (ص) في سياسته الجهادية كان يعمل على محورين:
الأول: تعبئة المسلمين وتنمية روح المقاومة والاستعداد والجهوزية، وحفظ حريم المدينة والقبائل التي دخلت الإسلام وعدم الرضا بالذل والانهزام.
الثاني: الدفاع والجهاد في الحالات التي كان يتعرض فيها الإسلام والمسلمون للتهديد، ومحاربة من ينقض العهود والمعاهدات.
5- سياسة الرسول (ص) مع أهل الكتاب كانت تبدأ بالمعاهدة على عدم المظاهرة على المسلمين وعدم الاعتداء وحفظ الحقوق، ولم يعمد رسول الله (ص) لمحاربتهم إلا نتيجة لنقض العهود والخيانة كما حصل مع بني قينقاع وبني النضير وبني قريظة من يهود المدينة الذين خانوا الرسول (ص) ولم يلتزموا بالمعاهدات المشرفة، وظاهروا المشركين عليه، فأذلهم الله وقاتلهم الرسول (ص) وقتلهم.
6- حكم الرسول (ص) على بني قينقاع بعد حصارهم بالخروج وتسليم الأموال والأسلحة، وأجلاهم إلى أذرعات، وحكم على بني النضير الذين تآمروا على اغتيال الرسول (ص) ولم يتم لهم ذلك بالخروج بما حملت الإبل من المتاع، وحكم على بني قريظة بالقتل وسبي النساء والذراري والحكم الأخير كان نتيجة لنزولهم على حكم سعد بن معاذ الأنصاري، وكان هذا حكمهم في توراتهم فألزمهم بما ألزموا به أنفسهم.