تمهيد([1])
عقيب عصر النهضة وخصوصاً بعد ظهور الفلسفات الحديثة، صارت الفلسفة التحليلية وفلسفة اللغة مدينتين للأبحاث التي جرت في مجال النصوص المقدّسة، لقد استحكمت جذور المذهب المثالي وبصورةٍ تدريجيةٍ في الأفكار الفلسفية في القرون الأخيرة، بحيث امتد نشاطه حتى إلى دائرة فلسفة العلوم، ومن ثم أخذ بالظهور قبال النصوص المقدّسة، وفي نهاية المطاف خسرت آيات ومقولات الكتاب المقدّس موقعها كـ "مُظهرٍ للواقع" في القرن العشرين، وأصبحت في الانطباع العام مجرّد مجموعةٍ من المواعظ المفيدة، وذلك تماماً كالرؤى التي تعتقد بأن العلوم التجريبية هي مجموعةٌ من القواعد المفيدة التي يمكنها أن تمنح الإنسان الاستقرار والطمأنينة.
وفي هذه الأجواء يطرح التساؤل الأساسي التالي نفسه: ما هي المناهج الرئيسية لتفسير الكتاب المقدّس؟ ولماذا جرت الأمور في الغرب على هذه الشاكلة؟
مناهج تفسير القدماء
إن مناهج تفسير الكتاب المقدس في الديانتين اليهودية والنصرانية على أربعة أنواع هي:
1 ـ التفسير اللفظي (الاتجاه الظهوري)
وفي هذا المنهج يسلّط الضوء على معنى المفردات وعلى البنية القواعدية للنص، كما يعترف لكلّ واحدةٍ من المفردات الواردة في الكتاب المقدّس بمضمونٍ ومدلولٍ سماويٍّ مختزنٍ فيها، ويعدّ القديس "جُرم" ـ الذي عاش في القرنين الرابع والخامس الميلاديين وقام بنقل الكتاب المقدّس إلى اللغة الإنكليزية ووافقت على ترجمته هذه الكنيسة الكاثوليكية ـ من أبرز شخصيات هذا المنهج التفسيري حيث دافع عنه قبال إفراطات التفسير التمثيلي. وقد جاء بعد القديس جرم مجموعةٌ من الشخصيات البارزة التي ناصرت هذا المنهج أيضاً، من أمثال القديس توما الأكويني، ونيكولاس ليرا، وجون كولت، ومارتين لوثر، وجان ماكوين.
2 ـ التفسير الأخلاقي
لقد كان تركيز التفسير الأخلاقي للكتاب المقدّس قائماً على وضع أصولٍ تفسيريةٍ للدروس الأخلاقية التي جرى رسمها في مواضع عديدة ومتنوّعة من الكتاب المقدس، وكنموذجٍ على ذلك تفسير الأغذية المحرّمة الواردة في رسائل برنابا بالقذارات الروحية المتوهّم وجودها في بعض الحيوانات لا بلحم تلك الحيوانات نفسها.
3 ـ التفسير التمثيلي
يُنظر للكتاب المقدّس في المنهج التمثيلي المجازي للتفسير على أنّه ذا مستوى آخر من المعنى بحيث يستتر هذا البعد الآخر خلف الأشخاص والأحداث والأشياء، وكمثالٍ على هذا المنهج ما يطلق على سفينة نوح من أنها مظهر الكنيسة المسيحية والتي كانت منذ البداية محلاً للنظر والعناية الإلهيين.
ويمكن ذكر العالم اليهودي المعاصر للمسيح (ع) "فيلون" كواحدٍ من الشخصيات البارزة في هذا المنهج التفسيري، كما تابع منهج "فيلون" كلمنت الاسكندراني وبحث عن معاني تمثيلية كثيرة في الكتاب المقدّس، وقد نجح في الكشف عن حقائق فلسفية عميقة في هذا الكتاب، كما وقام أحد أتباعه من بعده وهو "أوريغن" بتنظيم هذه الأصول التفسيرية، وأعاد معرفة المستويات المتنوعة للمعاني الظاهرية والأخلاقية والروحانية بشكل منفردٍ، معتبراً أن المعاني التمثيلية الروحانية أعلى هذه المعاني.
وفي القرون الوسطى حصل تقسيمٌ فرعيٌّ آخر للمعاني الروحانية إلى تمثيلية وباطنية (عرفانية)، وأدّى ذلك إلى بروز تقسيمٍ رباعيٍ يضم ثلاثية أوريغن المتقدّمة مع التقسيم الفرعي المذكور.
4 ـ التفسير العرفاني (الباطني، الإشراقي)
يسعى هذا النوع من التفسير للكتاب المقدّس إلى ربط الأحداث الموجودة فيه بالحياة الآخرة، ويمكن العثور على هذا المنهج التفسيري في طريقة القبالة اليهودية التي تعبّر عن تفسيرٍ سرّيٍّ وعرفاني.
ويعد "زُهَر" أحد المفسّرين اليهود البارزين في القرون الوسطى الذين سلكوا هذا المنهج التفسيري، كما أنّ الكثير من المفسّرين المسيحيين الذين ركّزوا جهودهم على "المعرفة المريميّة" واجهوا هذا النوع من المنهج أيضاً.
لقد كان لهذه المناهج الأربعة ـ التي يمكن العثور عليها في أوساط علماء الدين والمفسرين المسيحيين واليهود ـ دور في اتساع العلوم البشرية الحديثة لا سيما في الغرب، الأمر الذي أدّى إلى حدوث تغيراتٍ مثيرةٍ فيها.
ومن النقاط البارزة على هذا الصعيد صيرورة الفرار من الواقع السمة البارزة والشاخصة في تفسير النصوص المقدّسة في المرحلة المعاصرة، وهي سمةٌ نفذت إلى البحث الديني إلى جانب المثالية الفلسفية، فالقضايا الدينية وآيات الكتاب المقدّس ليست كلماتٍ حاكيةٍ عن واقعٍ ما، بل إنها ـ على أبعد تقديرٍ ـ مجرّد توجيهات أخلاقية ومفيدة أو أنّها مجموعةٌ من الألعاب اللفظيّة.
وتعدّ المناهضة للمذهب الواقعي ثمرة وحصيلة الفكر الغربي في القرون الأخيرة، ويمكن القول بشكلٍ عامٍ بأنه قد جرى تصوير أربعة أنواع من العداء للواقعية في علم المعرفة المعاصر والتي هي عبارة عن لا محوريّة غيري أو المحورية الإفراطية للذات الأنا، المثالية، العينية والظاهراتية، رفض المذهب الواقعي بالحد الأعلى)[2]).
يدعي أي منتمٍ إلى الاتجاه الأوّل بأن كافة القضايا الدينية إنما ترقب تجارب شخصية، أي أنها تنظر إلى الإنسان نفسه، والتجارب الإنسانية الباطنية ليس لها أي طريقٍ للنفوذ إلى الآخرين وإلى العالم الخارجي، فنحن مساوون للانا المتعدّدة وكلّ فردٍ منّا وحيدٌ بذاته، أي أنه ليس هناك سوى أصالة الأنا فقط.
ومحورية الأنا هذه هي بدورها ذات أنواعٍ عديدةٍ أهمّها:
1 ـ إن الإنسان هو الموجد لتجاربه الفعلية.
2 ـ إنه الموجد لتجاربه الفعلية والماضية.
3 ـ إنه الموجد لتجاربه الفعلية والماضية والآتية.
إنّ مدّعى المثالية ـ والتي هي الاتجاه الثاني المتقدّم ـ هو تبلور كافة القضايا القابلة للفهم في التجارب الشخصية للانا أو للآخرين، والأنواع الأربعة المتقدّمة لأصالة محورية الذات تجري هنا أيضاً.
أمّا أصحاب الاتجاه الثالث فإنهم يعتقدون بأنّ كافّة القضايا القابلة للفهم ناظرةٌ للتجارب الفعلية الشخصية للانا أو الآخرين، أو لتلك التجارب التي يمكنني أو يمكن للآخرين التوفّر عليها ضمن شروطٍ مختلفةٍ.
ومن هنا فهم يتحدّثون عن التجربة الفعلية أو الممكنة، بيد أنّ فكرهم يقع مؤطّراً بالتجربة الفعلية، لقد ظهر هذا الاتجاه المعرفي ـ كما هو الحال في القسمين المتقدّمين ـ في أنواعٍ وأقسامٍ أربعةٍ أيضاً.
وأمّا الاتجاه الرابع فهو قائمٌ على الاعتقاد القائل بتحقّق ووجود بعض القضايا القابلة للفهم، بحيث تكون ناظرةً إلى الحقائق المغايرة للتجارب الفعلية أو التجارب الشخصية الممكنة للانا أو للآخرين، وهذه القضايا يمكن أن تكون صحيحةً بيد أننا لا نتعقّل ولا ندرك هذه الصحة.
ولا يقبل هذا الاتجاه ـ كالاتجاهات الثلاثة المتقدّمة ـ إمكانيّة صدق الحقائق ما فوق المشهودة؛ أي تلك الحقائق التي لها شاهدٌ بيد أنه في غير مستوى التناول أو أنّه فوق الطبيعي، ومن هنا فهي لا تقبل صدق هذه الحقائق التي ليس لها شاهد أو التي لها شاهدٌ في غير مدى التناول أو ما فوق الطبيعي، إلا أنّها ـ وعلى خلاف الأقسام الثلاثة الأخرى ـ تعترف بوجود حقائق مادية مثلاً بالرغم من أنّها ليست من سنخ التجربة، كما لا يمكن تأويلها وتحويلها إلى حقائق تجريبية.
وعلى أية حال فإن ما يلقي بظلاله ويبسط تأثيره الشامل على الفكر الغربي المعاصر ـ ومن جملته علم تأويل الكتاب المقدّس ـ هو إيجاد الفاصلة بين محتوى هذا الكتاب وبين الواقع، فالمثالية مذهبٌ مقبول من جانب أغلب المدارس والاتجاهات، ولذلك يرى المفكّرون أن العهدين (الإنجيل والتوراة) ليس لهما حكايةٌ عن الواقع، وأن تأثيرهما ـ على أبعد حدٍّ ـ إنما هو في رفع المستوى الأخلاقي للمجتمع عن طريق التوجيهات الأخلاقية والتأكيدات المواعظيّة.
مناهج التفسير الحديثة
علاوةً على مناهج التفسير الكلاسيكية والقديمة، طُرحت مجموعةٌ من الرؤى الجديدة في مجال تفسير الكتاب المقدّس، ويمكن تقسيم هذه الرؤى ـ وبشكلٍ عامٍ ـ إلى أربعة)[3]) هي:
1 ـ نظريّة إبراز الأحاسيس
يجري في هذا المنهج فهم التعاليم الدينية على أنها مجموعة أحاسيس يظهرها المتدينون ولا ارتباط لها بالواقع، فمثلاً من يقول بأن الله تعالى هو خالق السماوات والأرض إنّما يبين شكلاً من أشكال الخوف والحيرة والرهبة الناجمة عن هيبة الطبيعة.
2 ـ نظرية التفسير الرمزي
وفي هذا المنهج تتحوّل المفردات إلى مجرّد جسرٍ يمنحنا تجاوز المعاني اللفظية، وكنموذجٍ على ذلك تمثل مسألة "التجسّد والموت الفدائي لعيسى وقيامة المسيح" وسيلةً لبيان المطلب التالي ألا وهو "إنّ التضحية من أجل الآخرين ذات قيمةٍ أخلاقيّةٍ عاليةٍ".
3 ـ التفسير الديني
وفي هذا المنهج لا يجوز لنا مقايسة القضايا الدينية مع العالم الخارجي لنكتشف مدى صدقها أو كذبها، ذلك لأن هذه القضايا لم تأت لتخبرنا عن العالم الخارجي، إنها منبعثةٌ عن الفضاء العبادي وهي بالتالي قابلةٌ للفهم في ذاك الجو فقط، ومن هنا لا يجري استعمال المفردات بغية توضيح شيءٍ ما وإنّما بهدف القيام بعملٍ ما مغاير لذلك تماماً.
4 ـ التفسير الأسطوري
هناك بياناتٌ متعدّدةٌ ومتنوّعةٌ لدى المعتقدين بهذا المنهج التفسيري فيما يرتبط بشرح منهجهم هذا، فالبعض منهم كآرنست كاسيرر يرى أنّ الكلام الديني نموذجٌ حصريٌّ من اللغة الرمزية ألا وهو "الأسطوري"، أما البعض الآخر من أمثال استيس فإنهم يعتقدون بأن القضايا الدينية هي تجارب عرفانية، وكنموذجٍ على ذلك جملة "الله حق"، فإن هذه الجملة إنما تبيّن إحساس الكشف والإلهام، وكذلك جملة "الله عشق" تبعث في النفس خصلة الجذب والهيجان.
ويرى عالم آخر وهو "باول تيليش" أنّ هذا النوع من القضايا يكشف عن "الواقع الغائي" الذي لا يمكن الحديث عنه إلا من ناحية الميتافيزيقا النهائية حيث يبرز على شكلٍ رمزيٍّ وشعاريٍّ.
عوامل ظهور القراءة الجديدة
هناك العديد من العوامل التي هيئت الأرضية لإثارة مباحث اللغة الدينية والمناهج الجديدة لتأويل الكتاب المقدّس وكذلك المذهب التجريبي الديني، ولعلنا بهذا التقسيم الكلّي نقدر على تصنيفها على الشكل التالي:
1 ـ ظهور المذهب الرومانطيقي
وصل الفكر الفلسفي في القرنين الثامن والتاسع عشر الميلاديين إلى طريقٍ مسدودٍ، فقد جرى توهين الاستدلالات العقلية الجافّة غير ذات الروح وفقدت بذلك أساسها وقاعدتها، وفي هذه الظروف والأجواء برزت النهضة الرومانطيقية([4]).
لقد وضعت هذه النهضة الإطلاقيةَ العقليةَ على طاولة النقد والانتقاد، مؤكّدةً على عنصر الأحاسيس والعواطف والأمور الذوقية، فعلى الرغم من تأكيدات "كانت" على عدم معلوميّة "الوجودات" أبرز الرومانطيقيون اعتقادهم بإمكانية الوصول إلى الأمور غير القابلة للشرح أو المعرفة عن طريق الأحاسيس والعواطف.
وقد جرى الاهتمام في هذا العصر بشكلٍ كبيرٍ بالأمور الإحساسية كالشعر والرسم والموسيقى، كما كان ظهور المذهب الشعوري الرومانطيقي واحداً من الأرضيات المناسبة والمساعدة لتبلور وبروز منهج التفسير الإحساسي والشعوري في الكتاب المقدّس.
2 ـ النزعة النقديّة للكتاب المقدّس
لقد تعرّض الكتاب المقدّس للمسيحيين لانتقاداتٍ شديدةٍ في القرن الأخير([5])، وقد دفعت هذه الانتقادات المتنوعة والمتزايدة بصورةٍ يوميةٍ، دفعت البعض من أمثال شلايرماخر إلى القول بأن مركز ثقل الإيمان يتمّ نقله من الكتاب المقدّس إلى باطن قلب المؤمن حتى يتمكّن ـ بحسب اعتقاده ـ من تحرير جوهر الدين من الآفات، والرسالة الأساسية للكتاب المقدّس تكمن في إحياء التجربة الدينية للإنسان لا إلقاء مجموعةٍ من القضايا والأخبار غير القابلة للخطأ عن طريق الأنبياء.
3 ـ فلسفة كانت
لقد أخرج "كانت" الدين عن دائرة العقل النظري في فلسفته النقدية، وذلك انطلاقاً من معارضته للإلهيات الطبيعية وللمقولة القاضية بإمكانية إثبات المسائل الدينية عن طريق الاستدلالات العقلية والفلسفية، ومن ثَم أدخله ـ أي الدين ـ في نطاق العقل العملي([6]).
وقد جعل "كانت" التعاليم الدينية تابعةً للقوانين الأخلاقية، ووفقاً لذلك سيصبح الدين المنبثق من الأخلاق ديناً أخلاقياً، وبالتالي سيكون الدين الأخلاقي هذا ديناً عاطفياً وتجربياً وشهودياً، أي أنه سيجري تحويل الدين ـ وفق هذا التصوّر ـ إلى أخلاق، وبعبارةٍ أخرى لا ترى نظرية التطوّر الديني في فلسفة كانت أي أصالةٍ للدين، ومن هنا فإنّ اللغة الدينية هي لغة الأحاسيس والتوجيهات فيما اللغة العلمية لغة الوجود والواقع.
4 ـ تعارض العلم والدين
مع ظهور العلوم الحديثة والتطوّرات المتزايدة اتضحت للبشر المجهولات والمبهمات الواحدة تلو الأخرى، وإلى ذلك الوقت كانت الساحة العلمية والأجواء الدينية هادئةً، إذ لم تكن هناك أيّة مؤشّراتٍ على تفوّق الغرب في المجال العلمي، بيد أنه وبمجرد اتضاح بعضٍ من رموز العالم الطبيعي طفى عدم التناغم إلى السطح، فمن علم الفلك إلى علم الأرض ساحاتٌ للمواجهة بين التحقيقات العلمية والمعتقدات الدينية للبشر، والجدير بالذكر هنا أنّ هؤلاء الباحثين كانوا من المسيحيين المؤمنين، ومن هنا كانوا يسعون للخلاص من هذا الحمل الثقيل عليهم، وهو ما يمكن تمثله في مقولة غاليلو المثيرة للكلام وهي: "إنّ الطبيعة منبعُ المعرفة العلمية فقط بحيث يمكنها أن تكون طريقاً لمعرفة الله، لقد كان من اللازم تفسير متشابهات الكتاب المقدّس بمحكمات العلم الحديث"([7]).
ويُمكن ملاحظة الخطوات الأولى في التفكيك ما بين المعرفة والواقع في تلك الحقبة، ففي تلك المرحلة وقع التعاكس ما بين نظرية مركزية الشمس والعقائد الرسمية الكنسية، وقد تركت المحاكمات التاريخية للعلماء ذكريات مرّة لعصرٍ مظلمٍ من التصارع بين العلم والدين في الغرب، لقد قدّم الكاردينال بلارمينو اقتراحه القائل: "بأن نموذج الشمس المركزية يمكنه أن يكون وسيلةً مناسبةً لتوظيف بعض التنبؤات المسبقة شريطة عدم الدفاع عنها على أنها التصوير الصحيح للواقع"([8]).
ومن هنا نرى أنه في الوقت الذي مارس العلم تقدّمه بسرعةٍ مذهلةٍ لم يتمكّن المتدينون من فعل شيءٍ أو إحراز أيّ تقدّم، ومن هذه النقطة بالذات اندفعوا للتوصّل إلى حلٍّ يمكنه أن يزيل هذه المعارضة، وحيث إنّ العلم لا يتقبل أي تفسير غير علمي فقد شرعوا بتفسير الدين والنصوص الدينية، وهو ما أدّى إلى بروز تفسيراتٍ متعدّدةٍ ومتنوعّةٍ لتأويل هذه النصوص.
النتائج
إنّ ظهور المناهج الجديدة في تأويل وتفسير الكتاب المقدّس لا يمكن اختصاره بتأويل العهدين فقط، وإنّما ينبئ ذلك عن تحوّلاتٍ وتغيراتٍ في نمط الرؤية للدين والوحي، فقد فجّرت هذه الرؤية الجديدة مجموعةً من النتائج واللوازم([9]) التي يمكن الإشارة إلى بعضها هنا على الشكل التالي:
1 ـ إن الإيمان اعتقادٌ وتعبّدٌ، إنه تسليمٌ وإطاعةٌ وخضوعٌ للحقيقة ونوعٌ من المواجهة الشخصية، فليس الإيمان ـ وفق هذا التصوّر ـ أمراً معرفياً، ولا معرفة القضايا والأخبار الواردة في الكتاب المقدّس، كما أنّه ليس الاعتقاد بوجود الله تعالى، وإنّما هو الاعتقاد بإلهٍ لم يحجب نفسه.
وهذا التوجّه الذي يُعرف بالمذهب الإيماني أو النزعة الإيمانيّة Fideism لا محل فيه للمعرفة، وبالتالي يمكنه أن يجامع الشك، كما ويقدّم هذا التصور استنتاجاتٍ مختلفةٍ عن الإلهيات، ففي هذا الفكر يجري نفي الإلهيات الطبيعية ـ والتي هي عبارةٌ عن مجموعةٍ من الجهود البشرية لمتعلّق الإيمان ـ والإلهيات النقلية أيضاً والتي هي الأخرى عبارةٌ عن مجموعةٍ من الأحكام والقضايا الكلامية.
إن هذين النوعين من الإلهيات يتنافيان والحضور الإلهي في التاريخ البشري، ذلك أن الإيمان ـ وفق هذا التصور ـ إنما يعني صيرورة وتبدّل الإنسان، ودخوله في نوعٍ من المواجهة والتجربة الشخصية الذاتية، فإذا تمكّن شخصٌ ما من مشاهدة الحضور الإلهي في الحوادث التاريخية ولم تمنعه من ذلك العوامل الأخرى فإنه يمتلك الإيمان ـ حينئذٍ ـ بصورةٍ حقيقيّةٍ.
2 ـ النتيجة الأخرى لنظرية عدم لُغَويّة الوحي والدين عبارة عن انه حيث كان الوحي نوعاً من التجربة الدينية الباطنية ـ والتجربة من وجهة نظر بعض العلماء الغربيين متلازمةٌ دائماً والتعبير ـ فإنه لا يمكن وجود وحي عارٍ عن التعبير والبيان.
إنّ من الخصائص المهمّة لهذا النوع من التفكير هو عدم اعتبار الوحي تجربةً عارية ومجرّدة، وحتى الأحداث التاريخية الخطيرة الماضية لا يمكنها الإنفكاك عن التعبير البشري السابق والحاضر، وهنا أيضاً لا يمكن تجاهل دور العالم والفاعل المعرفي، وبناءً عليه فان ارتباطاته وتوقّعاته تصبح مؤثرةً جدّاً في تفسير الوحي، فالوحي الذي يمثل انكشاف ذات الله تعالى ـ كواقعٍ تاريخيٍّ ـ تجري ممارسة عملية تفسير له بما للكلمة من معنى.
3 ـ النتيجة الأخرى للتفسير التجربي للوحي ظهرت في الكتاب المقدّس، فالكتاب المقدس لم يعد كتاباً تلقينياً معصوماً وبعيداً عن الخطأ، بل انه من أوّله إلى آخره إنّما هو تدوينٌ بشريٌّ حاكٍ عن تلك الوقائع الوحيانية، وفي هذه الصورة ستكون عقائد الكتّاب ذات جانب واحد ومحدودة أيضاً، أي أنّ هناك مواجهةً قد تمّت بواسطة المدد الإلهي، وبتوسّط البشر الجائزي الخطأ جرى تعبيرها وتوصيفها، فإذا كان النصّ المقدّس جزءاً من التاريخ البشري فإنه يمكن بحثه وفق المناهج والطرق التحقيقية والبحثية التاريخية والأدبية.
4 ـ نتيجةٌ أخرى لهذا الاستنتاج للوحي هي انه إذا كان الوحي بمثابة انكشافٍ تاريخيٍّ للذات الإلهية، فإنه لن يكون أحديّاً دائماً ولا مثيل له أبداً، ولم يعد يمكننا الحديث عنه كواقـعٍ لا نظيـر لـه، فعندما يكون الوحي نوعاً من الظهور والانكشاف لله تعالى وظاهرةً مرتبطاً بالتجربة البشرية فلا يمكنه أن يكون مرشداً أوحديّاً ذا نموذجٍ حصري، هذا بالإضافة إلى أنه عندما يعمد المتكلم إلى تفسير الحوادث فإنه يكون مضطراً للاستعانة بمعارفه وأفكاره المسبقة، ومن هنا يصل دائماً إلى الكلية والشمول ويخرج عن دائرة الفرد ونطاقه الخاصّين، وفي نهاية المطاف يمكننا أن نضيف هذه النقطة ألا وهي انه حيث كان الوحي تعبيراً عن تجربةٍ باطنيةٍ كانت لغته لغةً عاطفيةً وأحاسيسيةً، أما اللغة العلمية فإنها ناظرةٌ إلى عالم العين وراجعة إلى أمرٍ واقعي، وبناءً عليه فإنّ اللغة العلمية واللغة الدينية تمتازان عن بعضهما في نقطةٍ محددةٍ، ومن هنا لا ترابط بينهما حتى يعارض أحدهما الآخر.
تفسير النصوص المقدّسة عند المسلمين
قبل الشروع في هذا البحث لا بد لنا ـ بدايةً ـ من التذكير بمسألةٍ ألا وهي أن المسلمين يملكون ـ بالإضافة إلى القرآن ـ نصوصاً مقدّسةً أخرى أيضاً، وهذه النصوص ذات حجمٍ أكبر بكثيرٍ من النص القرآني نفسه، فالروايات أو الأحاديث التي يُنقل معظمها عن النبي (ص) أو بقية المعصومين (ع) تصنّف كنصوصٍ مقدسةٍ، وهي في أغلب الأحيان بحاجةٍ إلى توضيح وشرح، وذلك بالرغم من أن كلمة "تفسير" يختصّ تداولها في نطاق النص القرآني فيما يستفاد في مورد الروايات من كلمات من قبيل "الشرح" و"البيان".
إن حجم النصوص هو الآخر متفاوتٌ فيما بين الفرق الإسلامية؛ فالشيعة الإمامية ـ ونظراً لاعتقادها بأربعة عشر معصوماً ـ تمتلك حجماً أكبر بكثيرٍ من الأحاديث فيما تملكه من الموروث الثقافي.
هذا ولكننا هنا سوف نركز نظرنا على ما يرتبط بتفسير آيات الكتاب الإلهي، وإنما نعرُض للروايات لمناسبةٍ من المناسبات.
لم يفارق العلماء المسلمون ـ على امتداد التاريخ المليء بالنجاحات والإخفاقات على المستوى الثقافي الإسلامي فيما يتعلق بالقرآن ـ معطيين قبليين أبداً كما لم يتردّدوا فيهما ألا وهما:
1 ـ يعتقد أغلب المسلمين بأن هذا الكتاب من أوله إلى آخره إنما هو من الكلام الإلهي المباشر بلا أي نقيصةٍ، كما أنّه لم يتعرّض للتحريف بمعنى أنه لم ينقص في أيّة مفردةٍ أو حرفٍ كما لم تجر عليه أيّة زيادات، إنّ تلك المفردات هي ذاك الوحي الإلهي الذي أنزله الرسول جبريل الأمين على النبي (ص) وقرأه النبي على الناس، وهذه الخصوصية غير موجودة على هذا النحو في الرؤية المسيحية للإنجيل.
لقد ضاعف هذا الاعتقاد مئات المرّات من حجم أهمية هذا النص الديني وكثف من الإقبال الشديد على التعمّق به كما رسّخ من أسس الارتباط به أيضاً.
2 ـ يتحدّث القرآن دائماً عن الواقع الكوني والعالمي، كما يعرّف نفسه بمصطلحاتٍ تحكي كلها عن هذه الخصوصية من قبيل حق، بيان، نور، تذكرة ومبين… وبالرغم من تصافّ القرآن في أعلى مراتب الجمال والفن الأدبي إلا انه يطرق الأسماع دائماً مؤكداً على أنه ليس شعراً، ذلك أن ميزة الشعر تكمن في انه كلما كان أكثر إغراقاً في الخيال وأكثر اتساماً بعدم الواقعية كلما كان أكثر عذوبة وتأثيراً في القلوب، فهذا الكتاب ليس فقط مغايراً للشعر بل الشعر نفسه لا يليق به، وعلى حدّ التعبير القرآني نفسه "وما علّمناه الشعر وما ينبغي له" (يس:49).
ومآل ذلك كلّه إلى أن كتاب الله تعالى إنما يسوق كلماته على أساس شرح حقائق الواقع، وهو ـ بآياته ـ إنما يقوم بتقديم رؤيةٍ كونيةٍ وليس فقط مجرّد قصص مفيدة لإثارة الأحاسيس والعواطف أو الالتزام بنهجٍ معيّنٍ للحياة من دون النظر إلى الواقع والواقعيات، وهذه الطرق إنما كانت محاولاتٍ للتخلّص لاذ بها الغربيون دون يمارسوا ـ في النهاية ـ نوعاً من التقييم الذكي للفعالية الدينية.
لقد تسبّب وجود هذين المعطيين المتقدّمين في الوسط الإسلامي بالقيام بجهود مقدّسة لتفسير وكشف أسرار الكون في كلمات الله تعالى وجعل ذلك الهدف الأساسي، ومن الطبيعي أننا لا نهدف هنا إلى القول بأنّه لم تكن توجد اتجاهات إفراطٍ وتفريطٍ في هذا المجال، بل إنّ الأمر على العكس من ذلك تماماً؛ فقد كان هناك من حمل الآيات الكريمة على النظريات الفلكية التي كانت دارجةً في زمانه، إلا أن تغيّر هذه الرؤى العلمية لم يؤدّ ـ إطلاقاً ـ إلى أيّ نوعٍ من أنواع القلق؛ ذلك أنّ الكلام الإلهي في عين سهولته ووضوحه قابلٌ لتفاسير متعددة، وقد تنبّه المفسرون إلى أنّه لا يجوز تفسير الآيات على أساس النظريات السائدة بسرعةٍ ودون تأنّي.
ومن هنا لم تقم في الإسلام محاكم للتفتيش على الإطلاق، وذلك بالرغم من أن قرب العلماء المسلمين من الحكومات ـ لا أقل في بعض الفرق الإسلامية ـ لم يكن أقل من نفوذ رجال الكنيسة في قصور الملوك والسلاطين، وأساساً لم تأخذ النظريات العلمية ـ بمعنى العلوم التجريبية القابلة للاختبار ـ أي بعد قداسي ديني حتى تصنف الإبداعات على أنها كفرٌ أو ارتداد.
والملفت للنظر هنا هو أن المسلمين ـ وعلى مرور عدّة قرونٍ ـ كانوا السبّاقين في المجالات العلمية بما في ذلك العلوم الطبيعية والتجريبية، وفي تلك الأزمنة لم يظهر أي عالمٍ مسلمٍ على الإطلاق ينكر البعد الحكائي القرآني عن الواقع، فالموعظة المهمة والحكيمة للمحصّلين من العلماء المسلمين والتي كانت تنهى عن التسرّع في تطبيق النظريات العلمية على الآيات الكريمة كانت نابعةً من هذه النقطة؛ ذلك أنه لابد من استحضار هذين الأمرين دائماً لدى مواجهة النص القرآني ألا وهما: إن هدف المولى في القرآن الكريم لم يكن تبيين العالم عن طريق مناهج العلوم التجريبية، إلا أن ذلك لا يعني أن تلك الآيات لم تكن ناظرةً إلى الواقع أصلاً وليس لها أي مصداقٍ خارجيٍّ، فان بين هذين الأمرين فاصلاً واضحاً وكبيراً.
والآن لنرى كيف يفسّر المسلمون ـ بما يحملون من هذه المعطيات المسبقة ـ الكلام الإلهي؟ هل يكتفون بالمعنى اللفظي والمنهج النصّي الحرفي أم أنّهم يرون أن هذه المفردات ترشد إلى معاني أبعد؟
والحقيقة هي أنّ العلماء المسلمين لم يكن لديهم منهجٌ واحدٌ ومتساو في هذا المضمار، فالبعض منهم كان يتجنّب السعي وراء المعاني السامية للقرآن الكريم إلى حدّ القول بنفي حجية ظواهره معتبراً أن الحصول على مقصود المولى تعالى إنما يتمّ عبر الأشخاص الذين يعرفون ذلك فقط ممن لهم طريق إلى خزانة الأسرار الإلهية، وبالتالي فالمخاطبون الحقيقيون بالقرآن إنما هم أولئك الأشخاص، أمّا البعض الآخر فقد بلغ به التشدّد في الجمود على ظاهر الكلمات بحيث كان يرى الله تعالى جالساً على عرشه وأنه ـ لا أقل يوم القيامة ـ قابلٌ للرؤية بالأعين المجرّدة، إن هذا الفهم المنحرف والخاطىء للقرآن إنّما كان يحصل من جانب الأقلية دائماً ولم يكن له أنصارٌ كثيرون، إلا انه ـ وعلى أية حال ـ لم يتجاهل أحدٌ المعطيين القبليين المتقدّمين.
وإذا تخطينا هذه التوجّهات القليلة الأنصار نرى أن أكثر الباحثين في مجال الكلام الإلهي يعتقدون بأن الآيات القرآنية ـ بالإضافة إلى المعاني الظاهرية للمفردات ذات الظهور العرفي الحجّة ـ تحتوي على صفحاتٍ أعمق أيضاً.
إن الجهود القيّمة للمفسرين في مجال كشف وتحليل هذه الصفحات المخفية أدّت إلى ظهور علمٍ واسع النطاق من ضمن مجموعة العلوم الدينية باسم علم التفسير، وطبعاً فان البحث عن المناهج التفسيرية الموجودة وطرق عمل المفسرين خارجٌ عن الهدف من هذه المقالة ويتطلّب مجالاً خاصاً به.
لكن المقصود لنا هنا إنما هو معرفة الرابطة بين النظريات التفسيرية وتأويل القرآن والكلمات الرمزية للوحي من جهة والواقع العيني من جهةٍ أخرى، فهل يرى فلاسفتنا وعرفاؤنا ـ مع كل هذه النظريات التي تبدو غريبة وعجيبة ظاهرياً ـ هل يرون الكلام الإلهي غير مرتبطٍ بالواقع؟ ويتجاوزون بالتالي هذا النفق بكلّ راحة بال؟
في الحقيقة ما هو هذا المهرب السهل الذي انتخبه الغربيون؟! بحيث جمعوا بين قداسة الإيمان بالكلام الإلهي في أعماق القلب فيما كانوا ينظرون إلى الواقع الخارجي والعالم العيني بالعين مبتلين بنوعٍ من التناقض! في هذه الأرضية سيصبح الإيمان مرتبطاً بما صار أكثر إيغالاً في عدم المفهومية! إنني أؤمن حيث لا أفهم! و… ويمكن القول على نحو اليقين هنا بأنه لا يمكن العثور على مثل هذا الكلام في أبحاث أيّ من علمائنا.
مفهوم تأويل الآيات
لأجل اتضاح موضوع التأويل وعلاقته بالواقع الخارجي سنعالج كلام واحدٍ من كبار المفسرين العلماء ممن لـه مقامٌ رفيعٌ في مجال التفسير ويدٌ مقتدرةٌ في ميدان الفلسفة، ألا وهو العلامة الطباطبائي (ره) كاتب التفسير القيم "الميزان"، فقد بحث في الجزء الثالث من هذا الكتاب مسألة التأويل وتشابه الآيات مما سنستمد منه هنا في هذا البحث، فبعد توضيحه التقسيم المعروف للآيات القرآنية إلى محكمة ومتشابهة وانه يمكن تفسير الآيات المتشابهة بإرجاعها إلى الآيات المحكمة وبالتالي رفع إجمالها وإبهامها يشير (قده) إلى وجهة نظرٍ ترى بأن التأويل منحصرٌ بالآيات المتشابهة ولا يشمل الآيات المحكمة، ثم يناقشها ويرفضها، ويصرّح بشمول التأويل للآيات المحكمة والمتشابهة معاً، ويعقب ذلك ببيان رأيه في الموضوع فيقول: "الحق في تفسير التأويل أنه الحقيقة الواقعية التي تستند إليها البيانات القرآنية من حكمٍ أو موعظةٍ أو حكمةٍ، وأنه موجود لجميع الآيات القرآنية محكمها ومتشابهها، وانه ليس من قبيل المفاهيم المدلول عليها بالألفاظ بل هي من الأمور العينية المتعالية من أن يحيط بها شبكات الألفاظ، وإنما قيدها الله سبحانه بقيد الألفاظ لتقريبها من أذهاننا بعض التقريب، فهي كالأمثال تضرب ليقرّب بها المقاصد وتوضح بحسب ما يناسب فهم السامع، كما قال تعالى: "والكتاب المبين إنّا جعلناه قرآناً عربياً لعلكم تعقلون وانه في أمّ الكتاب لدينا لعلي حكيم" (الزخرف: 4.) وفي القرآن تصريحات وتلويحـات بهـذا المعنى"([10]).
وبناءً عليه فان كافّة الآيات الكريمة تمتلك خاصّية التأويل، وليس التأويل مقيداً ومختصّاً بدائرة المفردات إنما هو حقيقة عينية وواقعية، ومن هنا ينفصل طريق العلماء المسلمين في نظرتهم للمفاهيم والمقولات الدينية عن الغربيين، وبالتالي يصبح الكتاب السماوي عند المسلمين حاكياً عن الواقعيات المتحقّقة في العالم الخارجي، لا أنّه فقط مجرّد مجموعةٍ من النصائح والمواعظ والتوصيات المفيدة أو سلسلةٍ من الحكاياتٍ المثيرةٍ.
أحياناً توجد لجملةٍ ما ـ إضافةً إلى معناها المطابقي والمفرداتي ـ واقعيةٌ أخرى أيضاً بحيث يكون استعمال هذه الجملة حاكياً عن تلك الواقعية، فتلك الحقيقة الخارجية ليست بنفسها مدلولاً إفرادياً للجملة، وإنما أثر ونتيجة تلك العبارة هو الإشارة إليها، ولأجل المثال، عندما يقول شخص لآخر "اروني"، إنّ هذه الجملة تستمد منبعها من طبيعة وذات الإنسان تلك الطبيعة والطينة التي تنزع نحو البقاء، وهو يعرف انه ولأجل تحقيق هذا الهدف محتاجٌ للطعام والشراب وهو لذلك يطلب الماء، وذلك كله يحصل مع عدم كون الطبيعة الإنسانية ولا طلبها للبقاء مدلولين لجملة "اروني"، إلا أن هذه الجملة حاكيةٌ عن كلّ هذه الواقعيات.
إنّ طريقة الأمثال الشعبية تقترب كثيراً من موضوعة التأويل، فعندما نستخدم مثلاً من الأمثلة العامة والشعبية فإننا لا نطبّق معناه اللفظي على المورد الذي نعينه ونستعمله فيه وإنما نهدف إلى الإشارة إلى واقعٍ آخرٍ يرشد ويحكي عنه هذا المثل بشكلٍ مغايرٍ للمنهج الحكائي اللفظي، ولأجل ذكر نموذجٍ نستعين بالمثل العربي القائل "في الصيف ضيّعت اللبن"، إنّ هذا المثل يجري استخدامه بحق الشخص الذي يريد إنجاز عملٍ ما إلا انه يقوم سلفاً بإعدام كافّة مقدماته، وهنا إذا قيل هذا المثل لشخصٍ لم ينجح في الامتحانات مثلاً، أي لماذا لم تسع لتحصيل المقدمات اللازمة للمشاركة في هذه الامتحانات والنجاح فيها، فإن هذا لا يعني إفساد اللبن أصلاً، وبالتالي عدم إمكانية شربه، وإنما المقصود هو أنّك قد جهّزت نفسك إلى حدٍّ ما غير كافٍ، فعليك تحمّل نتائج المقدمات التي قمت بها والتي لا مفرّ منها، فهذا المثل يشير بنفسه إلى واقعٍ ما هو عين الحقيقة الخارجية، وذلك من دون أن يكون المدلولُ الحرفي للعبارة مفيداً لمثل ذلك أو أنه يراد تطبيقه على مورده.
لقد استفيد في القرآن الكريم من الأمثال أيضاً، فعندما يتكلّم عن المرأة التي نقضت غزلها من بعد قوةٍ أنكاثاً، أو عندما يتحدّث عن الماء والزبد مشيراً إلى ذهاب الزبد جفاءً ومكوث ما ينفع الناس في الأرض إنّما يُلفت بذلك إلى علوّ مرتبة القرآن الكريم عند الله تعالى وأنّه أمرٌ سامي ومحكم وعليّ وحكيم، بحيث إن العقول لا يمكنها الوصول ـ بدون وسيلة ـ إلى عمقه وباطنه، فالله تعالى انطلاقاً من المحبة والعظمة جعله كتاباً مفصلاً وأنزله ببيانٍ عربيٍّ حتى يتفكّر فيه الناس، وهذا هو عين أمّ الكتاب الذي لا يمكن لغير المطهّرين الوصول إليه، وهنا يبين العلامة الطباطبائي لبّ وأساس نظريته على الشكل التالي: "فالمحصل من الآيات الكريمة أن وراء ما نقرأه ونعقله من القرآن أمراً هو من القرآن بمنزلة الروح من الجسد والمتمثل من المثال، وهو الذي يسميه تعالى بالكتاب الحكيم، وهو الذي تعتمد وتتكي عليه معارف القرآن المنزل ومضامينه، وليس من سنخ الألفاظ المفرّقة المقطّعة ولا المعاني المدلول عليها بها. وهذا بعينه هو التأويل المذكور في الآيات المشتملة عليه لانطباق أوصافه ونعوته عليه، وبذلك يظهر حقيقة معنى التأويل، ويظهر امتناع التأويل عن أن تمسّه الأفهام العادية والنفوس غير المطهّرة"([11]).
ولصدر المتألهين في هذا المجال رؤيةٌ مشابهةٌ ذكر ما يتعلّق بها في تفسيره لآية الكرسي مما يشتمل على نكاتٍ مفيدةٍ وقيّمةٍ([12]).
وهنا ننقل جملةً من الشواهد النقليّة أيضاً تأكيداً لكون القرآن الكريم كتاباً حاكياً عن الواقع الخارجي دائماً، لكن ـ وقبل ذلك ـ نشير إلى طائفتين من الروايات ترى القرآن كتاباً واقعيّاً معتمداً على العالم العيني، وليس فقط مجرّد مواعظ وقصص مفيدة.
الطائفة الأولى: الروايات التي تسمّي القرآن نوراً ومرشداً وهادياً ومحرّراً، ونحن ننتخب من بين هذه الطائفة من الروايات روايتين اثنتين معتبرتين هما:
1 – عن أبي عبد الله (ع): "… فإذا التبست عليكم الفتن كقطع الليل المظلم فعليكم بالقرآن فانه شافع مشفع وماحلٌ مصدق ومن جعله أمامه قاده إلى الجنة، ومن جعله خلفه ساقه إلى النار، وهو الدليل يدل على خير سبيل، وهو كتابٌ فيه تفصيلٌ وبيانٌ وتحصيلٌ… يُنج من عطبٍ ويتخلص من نشب، فإن التفكّر حياة قلب البصير، كما يمشي المستنير في الظلمات بالنور…"([13]).
2 – الرواية الأخرى المعتبرة سنداً والتي جاءت بهذا الصدد أيضاً تقول: "أن العزيز الجبّار أنزل عليكم كتاباً وهو الصادق البار فيه خبركم وخبر من قبلكم وخبر من بعدكم وخبر السماء وخبر الأرض…"([14]).
في هاتين الروايتين المعتبرتين سنداً قدّم القرآن على انه كتاب تبيينٍ للواقع ونورٍ للظلمات ومشتملٍ على أخبار السماوات والأرض ومحرّرٍ للقلوب والأرواح، وهنا نسأل هل أن هذه الخصائص منسجمة مع ما استنتجناه من نظريات الهرمنيوطيقيا الجديدة؟
المسألة الأخرى في هذه الروايات هي أن اعتبار القرآن الكريم مشتملاً على الأخبار الحقيقية عن العالم، وأن الواقع يمكن استخراجه من متن هذا الكتاب الكريم، وانه لا شك في كونه كتاباً يعرض العالم الخارجي في طياته… إن كلّ ذلك بحسب ما ترشد إليه هاتان الروايتان ليس من مبتكرات المفسّرين المسلمين والتي قد تكون نابعةً من عمق علاقتهم ومحبتهم لهذا الكتاب الإلهي، بل إن الذين أتوا بهذا الكتاب لنا والقادّة الأساسيّون لهذا الدين والذين يعد كلامهم رديفاً للكلام الإلهي وللوحي يؤكّدون على هذه الحقيقة أيضاً، وأوّلهم الرسول (ص) الذي يعتبر القرآن كتاب حكايةٍ عن الواقع ومبين ومبيّن أيضاً، وبالتالي فان ذلك كلّه ليس نتيجة الانبهار والمحبة اللذين ربطا المفسّرين بهذا الكتاب على مرّ تاريخ الإسلام.
الطائفة الثانية: الروايات التي ذمّت التفسير بالرأي، وهذه الروايات معروفةٌ في أوساط الشيعة والسنة إلى حدٍّ لا تحتاج معه إلى دراسةٍ سنديّةٍ، فبالرغم من تعدّد العبارات الواردة هنا في هذا المجال إلا أنه يمكن استنتاج هذا المضمون الجامع بينها وهو انه من غير الممكن تفسير القرآن من زاوية الآراء الشخصية الضيّقة.
والسؤال هنا هو لماذا كان الأمر كذلك؟ فإذا لم يكن للقرآن الذي يمثل كلام خالق العالم والكون نظرةً ساميةً وعميقةً للواقعيات العينية، وإنما جاء لأمرٍ آخر إذن فلماذا كل هذا التهديد والوعيد والتحذير من هذه المسألة؟ إنّ ذلك لأجل عدم سلامة تطبيق الآيات الكريمة على المصاديق والموارد الخارجية من دون اطلاعٍ ومعرفةٍ بالعالم الخارجي، ومن هنا فعلى الذين يريدون التعرّف على المراد الإلهي من أسرار الوجود أن يكونوا عالمين بالتأويل، وللعلامة الطباطبائي هنا كلامٌ رائعٌ يتمحور حول إبراز النكتة الدقيقة لمسألة النهي عن التفسير بالرأي حيث يقول: "النهي في الروايات إنما هو متوجّهٌ إلى الطريق وهو أن يسلك في تفسير كلامه تعالى الطريق المسلوك في تفسير كلام غيره من المخلوقين، وليس اختلاف كلامه تعالى مع كلام غيره في نحو استعمال الألفاظ وسرد الجمل وإعمال الصناعات اللفظية فإنما هو كلام عربي روعي فيه جميع ما يراعى في كلام عربي… وإنما الاختلاف من جهة المراد والمصداق الذي ينطبق عليه مفهوم الكلام"([15]).
وعلى أيّة حالٍ فالهدف من الكلام حول التأويل هو تقديم توضيح جيّد للجذر الأساسي والمنبع الرئيس للتمايز بين رؤية المسيحيين في الغرب وعلماء الدين المسلمين، فبنظرنا تمثّل هذه النقطة العنصر البنيوي في هاتين النظريتين المعرفيتين الدينيتين، أي أن هذه النقطة هي التي فصلت الدين عن الواقع العيني في الغرب فأوكلوا العالم إلى العلم نفسه أما الدين فمنحوه مهمة تقديم المواعظ والقصص المفيدة البانية للأخلاق.
أمّا في الشرق الإسلامي فلم يكن ليحصل تصوّرٌ أو ظنٌّ من هذا القبيل لدى أيٍّ من المتدينين والباحثين أيضاً، فباستثناء البعض من المطّلعين على الجهود والنظريات الغربية لم يكن ليستسيغ أحدٌ هذا النوع من النظرة إطلاقاً، وليس من البعيد افتراض أنّ المسيحيين التقليديين ما زالوا على رؤاهم، بحيث انهم لم يوافقوا على ما طرحه في أوساطهم بعضُ العلماء في القرون الأخيرة، مما استتبع ـ وما يزال يومياً ـ تلك النزعة التي تحاول الفرار من الواقع.
إنّ ظهور مباحث من قبيل نظريات نسبية المعرفة البشرية ـ لا سيما في المجال الديني ـ وكذلك التعدّدية على صعيد القبول بالمعتقدات الدينية كلّها تنبع من هذا الأساس، فبالرغم من الاعتقاد بجزمية وقطعية العلوم التجريبية والعمل على وفقها ينظّر في المجال الديني والأخلاقي لمثل هذه النظريات، وطبعاً هناك أيضاً كلماتٌ كثيرةٌ جدّاً تتمحور حول عدم جزمية وقطعية ـ وكذلك عدم تعيّن ـ نتائج العلوم التجريبية، إلا أن ذلك بقي محصوراً في إطار جمعٍ قليلٍ من الباحثين الفلسفيين ومن علماء الفيزياء النظرية بحيث إن بقية العلماء والباحثين في هذه العلوم نفسها كانوا يعتمدون على العلوم التجريبية ويعتقدون بها.
الجائز وغير الجائز في التأويل
يجدر بنا هنا تحويل الكلام إلى النطاق الديني الداخلي، وطرح واحدةٍ من أهم مسائل البحث القرآني، فبعد اتضاح مفهوم التأويل لابد من تمييز الحدود ما بين الجائز وغير الجائز منه، وبالتالي معرفة هل يمكن وضع معيارٍ معيّنٍ لنقد التأويل؟ ما هو ميزان الحسن والقبح والجودة والرداءة في عمليّة التأويل؟ وتبرز أهمّية هذه المسألة من حيث إمكانية تقييم عددٍ كبيرٍ جداً من التأويلات العرفانية والتفسيرية والحديثية على أساسها.
وهنا بالضبط تنفرد المذاهب الإسلامية المختلفة عن بعضها البعض؛ ففئةٌ تُقصي العقل عن هذا المجال بالكلية مانحةً أموراً أخرى الصدارة والأولوية، وفئةٌ أخرى متشبّثةٌ بالنقل إلى درجة عدم قبولها حجية ظواهر الآيات الكريمة أيضاً.
وبشكلٍ عامٍ يلاحظ وجود معيارين وملاكين كلّيين في كلمات العلماء المسلمين في هذا المجال يمكن بيانهما وهما:
1- النقل والتأويل
لا شك ولا ترديد في انه لو ورد كلامٌ عن أحد المعصومين (ع) فيما يتعلّق بالتأويل فإن الجميع يذعنون له، وإذا كان ثمّة كلامٌ بين الفرق الإسلامية في ذلك فإنما هو:
أولاً: في أن أئمة الشيعة هل لهم مثل هذا المقام والمنزلة أم لا؟ (وهو بحثٌ كلاميٌّ في حقيقته، ورؤية المتكلّمين الشيعة في هذا المجال مبرهنٌ عليها وواضحةٌ أيضاً).
وثانياً: هل أنّ الحديث الذي وصل إلينا معتبرٌ سنداً ومتناً، وبالتالي فهو حائزٌ على الحجيّة الكافية؟
يرى المتكلم الشيعي الذي يساوي بين أحاديث النبي الأكرم (ص) والأئمة المعصومين (ع) بأن وظيفته السعي والبحث في حجية الروايات، وبالتالي فإذا عثر على نصٍّ معتبرٍ يتعلّق بتأويل آيةٍ أو آياتٍ أمكنه الاستناد إليه في ذلك.
إنّ هناك الكثير من الآثار القيّمة للمفسّرين الشيعة فيما يخصّ العلاقة مع الأحاديث والروايات الواردة في باب التأويل والتي تكشف ـ أي تلك الدراسات ـ عن أهميّتها، والحقيقة هي أن هذا النوع من الروايات يجعلنا نقف أمام مطالب مثيرة للتعجب والاستغراب بحيث تبدو للوهلة الأولى غريبة وعجيبة، بل إن بعض مضامين هذه الروايات لا ينسجم وظواهرَ الآيات القرآنية أبداً، بيد انه حيث كانت هذه المعاني السامية واردةً ـ وبدليلٍ قاطعٍ ـ عن مقام العصمة الرفيع فلابد أن تكون مقبولةً، الأمر الذي يستدعي المزيد من التفقّه في هذا الإرث الثمين عنهم (ع) والذي هو بحقٍّ الفقهُ الأكبر.
إن كون كلمات المعصوم (ع) معيار تأويل الآيات القرآنية ليس مجرّد أمر مقبول لدى المفسرين فحسب، بل انه قد جرى بيانه أيضاً من طرف الأئمة (ع) أنفسهم، وبالإضافة إلى ذلك نرى في تعاليم أصحابهم معاني عميقة للقرآن الكريم، كما أن كلماتهم المباشرة تشهد على أن الكلام الإلهي ليس سهل التناول، وهو ما يرشد إلى مدى الحاجة للارتباط بمخازن العلم الإلهي الخفي.
ولا بأس هنا بالإشارة إلى بعض الأحاديث المناسبة والمعتبرة في هذا المجال؛ فواحدةٌ من الروايات المرتبطة بباب الحج ـ وهي بحسب الظاهر بعيدةٌ عن ظهور الآية الكريمة ـ هي هذا الحديث المعتبر "روي عن عبد الله بن سنان قال: أتيت أبا عبد الله (ع) فقلت له: جعلت فداك ما معنى قول الله عز وجل: "ثم ليقضوا تفثهم"، قال: أخذ الشارب وقصّ الأظافير وما أشبه ذلك، قال قلت: جعلت فداك فإن ذريحاً المحاربي حدثني عنك انك قلت: ليقضوا تفثهم لقاء الإمام وليوفوا نذورهم تلك المناسك، قال: صدق ذريح وصدقت، إن للقرآن ظاهراً وباطناً، ومن يحتمل ما يحتمل ذريح؟"([16]).
إننا نلاحظ في هذه الروايات تفسيرَ التنظيف من الأوساخ بلقاء الإمام المعصوم (ع)، وهو معنى ليس فقط غير قريب بل هو بعيد عن المعنى الظاهري للآية، وبالرغم من أن هناك جنبة اشتراك بين تفسير وتأويل الآية الكريمة في كلمات الفيض الكاشاني([17])، إلا أن مقتضى الإنصاف هو العكس، فإذا لم تكن هذه الرواية موجودة فان هذا المفهوم من الآية ـ أي اللقاء بالإمام (ع) ـ لم يكن لينسجم والآية بل لم يكن ليطرأ على الذهن أصلاً.
ونورد هنا روايةً معتبرةً أخرى حول نفس الموضوع لا يتناسب التأويل الوارد فيها مع المعنى الظاهري وهي: "الشيخ المفيد في الاختصاص… عن زيد الشحّام عن أبي جعفر (ع) في قوله تعالى "فلينظر الإنسان إلى طعامه" قال: علمه الذي يأخذه عمّن يأخذه"([18]).
وهنا يمكننا ـ وبنظرةٍ شاملةٍ لهذه الأحاديث وللكثير جداً من الروايات الأخرى ـ الاستنتاج بأن مسألة التأويل عبارةٌ عن قضيةٍ معقّدةٍ، فصحيحٌ أن كلام المعصوم (ع) في أصل هذه الموارد حجةٌ في قبول هذه المعاني، إلا انه مع ذلك كله هناك مجال للتوقف أيضاً، لاسيما وأن طريقة الإبلاغ القرآنية يمكن اقتناصها من بين هذه الموارد، وذلك كلّه يحتاج إلى تدبّرٍ كبيرٍ حتّى لا يتم حرف التأويل عن مساره السليم أو تجاهل التأويلات الأخرى للمفسرين، وهو أمر أدقّ من الشعرة.
2 – العقل والتأويل
هل للعقل طريق إلى تأويل الآيات القرآنية؟ إلى أي مدى يمكن للعقل التقدم في خطواته على طريق اكتشاف الرموز والأسرار الموجودة في كلمات الحقّ تعالى؟
في الواقع ـ وفي مقام الإجابة عن هذا التساؤل ـ ليس هناك اتفاقٌ بين علماء المسلمين في ذلك، وبالرغم من كل هذه الاختلافات امتاز علماء الشيعة ـ ومنذ القدم ـ بكونهم الأكثر شهرةً في القبول والاعتراف بالعقل كما كانوا السبّاقين إلى منحه القيمة والاعتبار، فقد كانت آراء الشيعة عقليةً دائماً، وكانوا يوظّفون العقل ويعتمدون عليه مع تركيزهم على صعوبة طريقه ووعورتها.
والذي يبدو هو انه لا ينبغي الترديد في أصل القبول بالرؤية التكاملية للآيات الكريمة، فإذا كانت أهم الأسس الاعتقادية الدينية قد قُبلت على أساس العقل، وإذا كان أصل حجية ظواهر القرآن الكريم أو عدم تحريفه قد جرت الموافقة عليه من خلال الاستدلال العقلي، وإذا كانت عشرات الاستدلالات العقلية مختزنةً في مطاوي الآيات القرآنية، فان كل ذلك يمثل تأييداً واضحاً وتصديقاً بيناً لحجية العقل حتى في إطار تأويل الآيات القرآنية.
بالرغم من عدم تصنيف الشيخ الأنصاري كعارفٍ أو فيلسوفٍ أو مفسّرٍ ألاّ أنه يرى لدى تحديده موقعية العقل في الاستنباطات الدينية بأنّ "الذي يقتضيه النظر وفاقاً لأكثر أهل النظر أنّه كلّما حصل القطع من دليلٍ عقليٍّ فلا يجوز أن يعارضه دليل نقلي وإنّ وُجد ما ظاهره المعارضة فلا بد من تأويله إن لم يمكن طرحه…"([19]).
والحقيقة هي انه ـ وعلى مدى قرونٍ ـ كانت هناك إفراطاتٌ وتفريطاتٌ على صعيد ما هو الجائز وغير الجائز في تأويل الآيات القرآنية، كما أن التأويلات غير المنظّمة ـ والتي تحاول فرض وتحميل الرؤى الخاصة بشكل غير صائب على النص القرآني ـ قد زادت من هذا الإفراط أيضاً، والتوقّف لدراسة الأسباب والعوامل التي أدّت إلى بروز مثل هذه الاتجاهات يمكنه أن يدلّنا على المنهج السليم اللازم اتباعه هنا، فأخذ العبر من التجارب العلمية القديمة في مجال البحث القرآني يدفع الباحثين إلى المزيد من الاحتياط والدقّة في خطواتهم في هذا الإطار.
إنّ رعاية الأمرين الذين سنذكرهما قريباً وجعلهما نصب العينين دائماً يمكنه أن يمنحنا نظرةً عقلانية للآيات القرآنية، وأن ينظّم عملية التأويل بالتوافق مع العقل والتناغم معه، وهذان الأمران هما:
الأوّل: لأجل ممارسة التأويل عن طريق العقل لابد من الرسوخ والثبات على المستوى العلمي والفكري حتى لا يكون الأمر ـ وبالاستناد إلى هذه الآية "وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم…"([20]) ـ مجرّد كلامٍ جزافيٍّ أو باعثاً على التورّط في انحرافٍ ما، فإذا استطاع فيلسوف كصدر المتألهين بجهوده المضنية كشف سرٍّ من أسرار الوجود واستخراج حقيقةٍ من حقائق القرآن الكريم بنظره الثاقب فإنه يمكن النظر إلى هذا الجهد بعين الرضا، وكمثالٍ على ذلك ما يقوله فيما يتعلّق بتجرّد النفس: "أما الآيات المشيرة إلى تجرّد النفس، فمنها قولـه تعـالى في حق آدم (ع) وأولاده: "ونفخت فيه من روحي"، وفي حق عيسى (ع): "وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه"، وهذه الإضافة تنادي على شرف الروح وكونها عريّةً عن عالم الأجسام، وفي حقّ شيخ الأنبياء إبراهيم الخليل: "وكذلك نُري إبراهيم ملكوت السماوات والأرض وليكون من الموقنين"، وقوله حكايةً عنه: "وجّهت وجهي للذي فطر السموات والأرض حنيفاً"، ومعلومٌ أنّ الجسم وقواه ليس شيءٌ منها بهذه الصفات السنيّة من رؤية عالم الملكوت والإيقان والتوجّه بوجه الذات لفاطر السماوات والحنيفيّة أي الطهارة والقدس، ومنها قوله تعالى: "ثمّ أنشأناه خلقاً آخر فتبارك الله أحسن الخالقين"، ومنها قوله تعالى: "سبحان الذي خلق الأزواج كلّها مما تنبت الأرض ومن أنفسهم وممّا لا يعلمون"، وقـولـه: "إليه يصعد الكلم الطيب"، وقوله: "لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم"، وقوله: "يا أيّتها النفس المطمئنة ارجعي إلى ربك راضيةً مرضيّةً"، وفي الحقيقة جميع هذه الآيات المشيرة إلى المعاد وأحوال العباد في النشأة الثانية دالةٌ على تجرّد النفس، لاستحالة إعادة المعدوم وانتقال العرض وما في حكمه من القوى المنطبعة"([21]).
الثاني: على الباحثين السعي لقوننة وضبط استعمال العقل في علم التفسير لاسيما في نطاق التأويل، والنوع المناسب والنموذج البارز في هذا المجال هو علم الفقه، أليس الوصول إلى ملاكات الأحكام عملاً صعباً بل في الكثير جداً من الموارد غير ممكن؟ ألم يتم الاعتراف ـ على المستوى الفقهي ـ بالعقل كحجّةٍ باطنيةٍ من قبل الله تعالى؟ هل أن القلق من تورّط العقل في هفواتٍ على الصعيد الفقهي أقلّ من علم التفسير؟ لقد بحث الفقهاء في مباحثهم النيّرة ـ لاسيما في علم أصول الفقه ـ كيفية وأنواع الأحكام العقلية وقيمة كلّ واحدٍ منها في مختلف أقسام العبادات والمعاملات، ودرسوا مجموعةً من المسائل المفيدة في تاريخ هذا العلم ثم قاموا بتوظيفها عملياً، ومع ذلك كله فان ظهور اتجاهاتٍ كالاتجاه الأخباري قد عرّض هذا المسار للضرر، إلا أن فقهاء من أمثال الوحيد البهبهاني والشيخ مرتضى الأنصاري ـ وبسعيهم القيم ـ أقصوا هذا التوجّه عن الحضور الفاعل في مجال الأبحاث الدينية في الفقه والحديث، وحافظوا بالتالي على موقعيّة العقل في البحث الديني.
واليوم لا نرى أي ميلٍ جادٍّ للمنهج الأخباري، والتدقيقات العميقة جداً في علم أصول الفقه وكذلك الأصوليون الفلاسفة كلهم جميعاً يمثلون شهادةً عاليةً على مكانة العقل عند الفقهاء، وهو أمرٌ مرتهنٌ بالمزيد من استقلال للبحوث الفقهية والفقاهة المستقلّة.
الهوامش
– [1] سيتم في هذه المقالة ـ وضمن الإشارة إلى المناهج البارزة في مجال تفسير النصوص المقدسة عند المسيحيين واليهود ـ دراسة مسار تشكّل النظريات الجديدة فيما يرتبط بمعرفة الدين، والنتائج الجديدة في مجال البحث الديني المعاصر، وتجدر الإشارة إلى اتخاذ المسيحيّة محور هذا البحث نظراً لأقليّة المصادر المتوفّرة للكاتب حول النظريات الدينية اليهودية.
[2] – فعالي، محمد تقي، درآمدى بر معرفت شناسى دينـى ومعاصر، صص 247 ـ 249،
Dancy, y, An Introduction to contemporary Epistemology (NewYork, Basck Blackwell (1986) PP136 ,138.
[3] – The Encyclopedia of Philosophy, edortichle, Religious Language, V.1,P.1710
[4] – غارد يوستاين، دنياي سوفى، ترجمة كورش صفوى، صص 419 ـ 440، هوردن، وليام، راهنماى الهيات بروتستان، ترجمة طاطهوس ميكائليان، ص34.
– [5] راهنماى الهيات بروتستان، صص 36 ـ 41.
– [6] راجع يوستوس، هارتناك، نظريه معرفت در فلسفه كانت، ترجمة غلام علي حداد عادل، صص 166 ـ 181، اسكروتن، راجر، كانت، ترجمة علي بايا، صص 161 ـ 164، كابلستون، فريدريك، تاريخ فلسفه، ترجمة اسماعيل سعادت ومنوجهر بزركمهر، صص 317 ـ 319، كورنر اشتفان، ترجمة عزت الله فولادوند، صص 245 ـ 272.
[7] – علم ودين، ص 36.
– [8] م، ن، ص 36.
– [9] در آمدى بر معرفت شناسى دينى ومعاصر، صص 358 ـ 361.
– [10] الميزان، ج 3، ص 49.
– [11] الميزان، ج 3، ص 54.
– [12] تفسير آية الكرسي، صدر المتألّهين، ج 4، ص 154 ـ 175، لدى تفسيره الكرسي.
– [13] أصول الكافي، ج 2، ص 598.
– [14] أصول الكافي، ج2، ص 599.
– [15] الميزان، ج 3، ص 78.
– [16] من لا يحضره الفقيه، ج 2، ص 390.
– [17] الكافي، ج 4، ص 549، وهامش نفس الصفحة.
– [18] الاختصاص، ص 5، وتفسير البرهان، ج 4، ص 429.
– [19] فرائد الأصول، ص 10.
– [20] آل عمران: 7، هذا في حال كون الواو عاطفة.
– [21] الأسفار الأربعة، ج 8، صص 303 ـ 305.